الآرية والبرهمية بعد غزو الهند
كان الآريون الغزاة كلما تقدَّموا في أرض البنجاب، فقدوا طابعهم البدائي، وتطورت حالتهم من السذاجة والبساطة، ومن حالة الأقوام المبعثرة، إلى التجمع والاتحاد في ممالك وما يشبه الجمهوريات لمواجهة خصومهم الوطنيين الأصليين، وأصبح صغار الزعماء الآريين قُوَّادًا للمحاربين، على حين أن الكشاتريين وهم العريقون في الجندية قد ازدادوا شوكة وسؤددًا، وسادوا العامة «الفيزيا». ومن العامة من كانوا جنودًا ومن وَسِعَهم أن يبلغوا رتبة الكشتارية، كما يبدو من مطالعة الجزء الأول من فهرس الفيدا ص٢٠٧ والفصل السابع ص١٠٤ من الريجفيدا، ثم إن الكشتاريين أصبحوا على مدى الأيام كثيري العدد يؤلفون طبقة الضباط والقُوَّاد للجيش ومنهم «الراجبوت».
هذا وقد عمد البراهمة إلى جعل منزلتهم ثابتة لا تقتحم منذ انفسح أمامهم ميدان السلطة باشتغال القواد في الحروب المستمرة.
والبراهمة هم جماعة الطبقة العليا الهندوسية الذين لهم وَحْدَهم أن يُفسِّروا الفيدا، وهو الكتاب المقدس للهندوس، والبراهمي هو هذا الذي يستطيع أن يشغل منصب الكاهن أو القسيس الهندوسي، أما البرهمية فهي الديانة التي يُنادي بها البراهمة، كهنة الهندوس من الطبقة العليا فيهم.
غير أنه قد كان من أثر قيام الكهنة أو القسس بالطقوس الدينية أن العناصر الحية في الحياة الوطنية قد أصابها العطب والارتباك؛ وكان من عاقبة هذا أن اتَّحد الكشاتريون مع مفكري البراهمة لتنظيم أداة الحكم وتسيير دفة الحكومة، على حين أن سلطة الملك قد لبثت قائمة على تأييد الشعب له في جمعية القبيلة «السابحا» — راجع الفصل الثالث من الآثار فافيدا. كما أنه قد ثبتت سلطة القسيس على أثر تثبيت مركز القس الملكي «اليوروهيتا» الذي كان يصحب الجند في المعارك لكي يصلي في سبيل ظفر الجند تاليًا ما يدعو إلى هزيمة الأعداء. ثم إن عامة الشعب «الفيزيا» أخذوا يقفون جهدهم على الزراعة والتجارة، وثمة طبقة راقية تدعى «سودار»، وهو الاسم الذي كان الآريون يطلقونه على طبقة (الداس) التي أسروها واتَّخذوها عبيدًا، وقد أمكن اندماج بعضهم وأصبح منهم أحرار يحترفون مِهَنًا حقيرة. وطبقًا لقانون مانو «الفصل الخامس من دهراما ساسترا»، يصبح آريا الولد الذي يجيء ثمرة اقتران الآري بامرأة غير آرية. هذا وقد كان الآريون طوال القامة وحسني الهيئة. أما الدرافيديون فقد كانت بشَرتُهم — كما قدمنا — سوداء، وبينما كان الكشاتريون والبراهمة يؤلفان الطبقتين التاليتين في المجتمع، والاختلاف بينهما غير قليل — كان البَوْنُ بين «الفيزيا» وبين السودار الدرافيدية كبيرًا جدًّا، إذ كانت الفارنا «اللون السنسكريتي» الفاصل بين الشعبين.
ومهما يكن من شيء فإن الآريين قد اندمجوا على مدى الأيام؛ في الوطنيين الأصليين، فليس ثَمَّ آريٌّ أصيلٌ في الهند إلا في ولاية «راجبوتانا» وبعض الأراضي المنعزلة.
وعند «شامستري» في ص٤٤ من كتاب «تطوُّر الطوائف» أنه تبعًا لألوان ملابس الطبقات الهندية: للبراهمة اللون الأبيض، وللكشاتريين الأحمر، وللفيزيين الأصفر، وللسودريين الأسود. ولعل حضارة الهند أقدم الحضارات الأسيوية عدا الحضارة الصينية.
وقد ذهب «داروين» من دراسة الأحياء إلى أن الكائنات الحية ليست مستقلة، بل أنها قد تسلسلت من أصول قديمة، ومن ثَمَّ فإنَّ بينها قرابة، على نقيض ما كان يذهب إليه العلماء. أما الأثريان «اليوت سميث وبيري» فيذهبان إلى أن دراسة الآثار قد برهنت على أن الحضارات القديمة في الهند والصين وإيران وبولينيزيا واليونان وغيرها ترجع إلى أصل واحد هو الحضارة المصرية القديمة.
هذا والبرهمية تقوم على جعل الأسرة وحدة دينية، والطائفة مؤسسة على الأسرة ومعها قسيسها البرهمي. وعند «ب لرازان» في ص٣٣٨ من كتابه «نظرية الحكومة في الهند القديمة» أن الفكرة الأساسية في «الطائفة» تقوم على أن الفرد لا يعيش لنفسه، وأن السلطة والمكانة والامتيازات وخيرات الدنيا ينبغي أن تكون موزَّعة طبقًا للأعمال.
بين البوذية والبرهمية
قامت في الهند حركة عقلية كان من أثرها الدعوة إلى إصلاح الدين وذلك بنبذ الفيدا وملحقاتها الآنفة الذكر، ووضع «البوذية». وقد لبث الخلاف بين الرجعيين والمصلحين قرنين، وقد أتيح بعدهما «للبوذية» الغلبة على البرهمية خاصة في عام ٣٢٧ق.م. حين غزا الإسكندر سهول البنجاب. غير أن البرهمية عادت إلى غلبتها في الهند، في حين أن البوذية تغلبت على غيرها من العقائد في الصين واليابان كما أوضحنا في «الفصل الرابع».