١

كانت المرة الأخيرة التي جلس فيها أخي كوزيمو بيوفاسكو دي راندو معنا هي يوم الخامس عشر من يونيو من عام ١٧٦٧م. أتذكر هذا وكأنه حدث اليوم. كنا في حجرة الطعام في فيلتنا في أومبروزا، والنوافذ تؤطر الفروع الكثيفة لشجرة البلوط الضخمة الواقعة في حديقتنا، وقد انتصف النهار. اعتادت عائلتنا أن تجتمع على مائدة الطعام في تلك الساعة للمحافظة على تقاليد العائلة القديمة، على الرغم من شيوع الموضة القادمة من البلاط الفرنسي — حديثة العهد بين النبلاء — بتناول طعام الغداء في منتصف بعد الظهيرة. وأتذكر أن الرياح كانت تهب من جهة البحر، وتحرك الأوراق. قال كوزيمو: لقد قلت إنني لا أريده، يعني أنني لا أريده! وأزاح من أمامه طبق الحلزون. ولم يحدث قط أن شهدنا تمردًا أشد من هذا.

يجلس البارون أرمينيو بيوفاسكو دي روندو، والدنا، على رأس المائدة مرتديًا باروكته الطويلة، والتي تغطي أذنيه على طراز لويس الرابع عشر، مثل أشياء أخرى كثيرة تخصه، ويجلس بيننا أنا وأخي الأب فوشيلافلور، القائم على توزيع صدقات عائلتنا، ومعلمنا نحن الصبية. وفي المواجهة تجلس الجنرالة كورادنيا دي روندو، والدتنا، وبجوارها أختنا باتيستا، راهبة المنزل. وعلى رأس المائدة من الطرف الآخر يجلس مرتديًا بذلته التركية في مواجهة أبي، الفارس المحامي إينيا سيلفيو كاريجا، مدير ومسئول الري في أراضينا، وهو أيضًا عمنا، حيث إنه أخ والدنا غير الشرعي.

منذ بضعة أشهر، سمحوا لنا؛ نظرًا إلى أن كوزيمو قد أكمل أعوامه الاثني عشر، وأكملت أنا ثمانية أعوام، بالجلوس على المائدة نفسها مع والدينا؛ أو يمكن القول إنني أفدت قبل الأوان من ترقية أخي، لأنهم لم يرغبوا في تركي أتناول غدائي وحدي. وأقول أفدت، وهي مجرد كلمة؛ ففي الواقع انتهت بهذا الوضع متعة الحياة بالنسبة لي وبالنسبة لكوزيمو، وكنا نتحسر على أيام الغداء في حجرتنا الصغيرة، نحن الاثنان فقط، ومعنا الأب فوشيلافلور.

كان الأب فوشيلافلور مسنًّا ونحيلًا تغطيه التجاعيد، مشهورًا بأنه من أتباع هرطقة جنتسن. وكان بالفعل قد هرب من ديلفيناتو، بلدته الأصلية، ليفر من إحدى محاكمات محاكم التفتيش، ولكن طبعه الصارم، موضع مدح الجميع، وصرامته الداخلية التي يفرضها على نفسه وعلى الآخرين يئولان باستمرار إلى دعوة أساسية لديه باللامبالاة وعدم الاهتمام، وكأن تأملاته الطويلة بعينيه المحدقتين في الفراغ تصيبه بملل شديد، وعدم الرغبة في أي شيء، وأمام أية صعوبة، وإن كانت تافهة، تتراءى له علامات القدر التي لا طائل من مواجهتها.

تبدأ واجباتنا مع الأب عادة بعد صلوات طويلة، بتحريك الملاعق، تحريكًا معتدلًا، في صمت وهدوء، وتبًّا لمن يرفع منا عينيه عن الطبق، أو يتجرأ ويصدر أي صوت عند تناول الحساء، ولكن مع انتهاء الحساء يشعر الأب بالتعب والملل، فيحملق في الفراغ، ويقرقع بلسانه مع كل رشفة نبيذ، وكأن أكثر الأحاسيس سطحية وفناءً هي فقط التي تتمكن من التأثير فيه. عندئذٍ نستطيع أن نأكل وجبتنا الرئيسية بيدينا، وعند انتهاء الوجبة نتقاذف بقايا الكمثرى، في حين لا يفعل الأب شيئًا سوى إصدار إحدى إيماءاته الكسولة … أوه وماذا بعد! … أوه … حسنًا!

أما الآن، فبجلوسنا إلى مائدة الأسرة أخذت تتجسد أمامنا كل الأحقاد العائلية، وبدأ فصل تعيس في طفولتنا. فأمامنا دائمًا والدنا وأمنا، ويجب استخدام أدوات المائدة عند تناول الدجاج؛ وسلسلة من الأوامر: اجلس معتدلًا، وأبعد مرفقيك عن المائدة! وبالإضافة إلى ذلك أختنا السخيفة باتيستا، فلقد بدأت سلسلة من العقاب، والنكاية، الزجر والركل بالأرجل، حتى ذلك اليوم الذي رفض فيه كوزيمو طبق الحلزون، وقرر أن يفصل قدره عن قدرنا.

أدركت كل هذه التراكمات من الحقد العائلي فقط فيما بعد، حيث كان عمري آنذاك ثمانية أعوام فقط، ويبدو كل شيء لي كلعبة، تلك الحرب بيننا نحن الصبية الصغار ضد الكبار، فهي لعبة كل الصبية، ولم أكن أفهم أن عناد أخي وإصراره يضمر شيئًا أعمق بكثير.

بالتأكيد كان البارون والدنا رجلًا مثيرًا للملل ولكنه لم يكن شريرًا؛ مثيرًا للملل لأن حياته تسيطر عليها أفكار غير متناغمة كما يحدث في العصور الانتقالية، فتغير الأزمنة يفرض على الكثيرين الحاجة إلى التغيير أيضًا، ولكن هذا بعكس والدنا تمامًا، فهو بعيد عن هذا الاتجاه؛ فعلى الرغم من كل ما يحدث حوله في تلك الأثناء، لا يزال هو يفتخر بزعم حصوله على لقب دوق أومبروزا، ولا يفكر في شيء آخر سوى في أصول العائلة وفروعها وفي الخصومات والتحالفات مع القادرين، سواء القريبين أم البعيدين.

ولذلك في منزلنا نعيش دائمًا مثل من هم في التدريبات العامة على دعوة في بلاط، لا أعلم إذا كان بلاط إمبراطورة النمسا، أم بلاط الملك لويس، أو ربما بلاط رجال الجبال. فعندما يُقدم ديك رومي على الغداء، يراقبنا والدنا ليرى هل سنقطعه ونستل لحمه طِبقًا لكل القواعد الملكية أولا، والراهب يكاد لا يقترب منه حتى لا يفطن إليه أحد متلبسًا، وهو الذي عليه أن يساند والدنا في توبيخه لنا. أما عن الفارس المحامي كاريجا فقد اكتشفنا ضميره الزائف؛ فهو يخفي أفخاذ الديك كاملة تحت ثنايا قنباره التركي، ليأكلها قضمًا كما يحلو له وهو مختبئ في الكروم. ولقد أقسمنا (مع أننا لم ننجح قط في ضبطه متلبسًا، نظرًا إلى خفة حركته) أنه يأتي إلى المائدة وجيبه مليء ببقايا عظام خالية من اللحم، ليتركها في طبقه بدلًا من أرباع الديك التي يخفيها كاملة.

لم تكن لأمي الجنرالة أهمية كبيرة؛ لأنها طالما استخدمت الأساليب الحربية الفظة حتى أثناء الطعام: وماذا بعد! هذا قليل! حسنًا! ولم يكن أحد يمكنه أن يخالفها القول، ولكنها معنا تحرص أكثر على النظام من قواعد اللياقة، وتعضد البارون بأوامرها المتأثرة بميدان المعركة: اجلس بهدوء! ونظف فمك! الوحيدة التي تتصرف كما يحلو لها كانت باتيستا، راهبة المنزل، والتي عادة ما تفصص الدجاج بنهم دقيق، نسيرة تلو الأخرى، بنوع من السكاكين المدببة ليس لدى أحد سواها مثلها، سكاكين تشبه مشارط الجراح. ولم يكن البارون، الذي يرغب في جعلها مثلًا لنا، يجرؤ على النظر إليها؛ لأنها تخيفه هو أيضًا بعينيها المحدقتين البارزتين أسفل جناحي غطاء رأسها المنشَّى، وأسنانها المتلاصقة في وجهها الأصفر الذي يشبه وجه الفأر. ويمكن إذن أن ندرك كيف أن المائدة هي المكان الذي تتضح فيه كل المتناقضات، وعدم التناغم أو الانسجام بيننا، وأيضًا يتضح فيه جنوننا ونفاقنا، وكيف أنه في هذا المكان، وعلى هذه المائدة، قرر كوزيمو أن يبدأ ثورته. ولهذا السبب فإنني أطيل في شرحي، فعلى كل حال لن يصبح لهذه الموائد العامرة وجود في حياة أخي، هذا مؤكد.

والمائدة أيضًا كانت المكان الوحيد الذي نلتقي فيه مع الكبار. في بقية النهار تنسحب أمنا وتبقى في غرفتها وتنهمك في شغل الإبرة والتطريز، حيث لم تعرف الجنرالة سوى تلك الأعمال النسوية التقليدية، وفيها فقط تجد متنفسًا لعواطفها الحربية. فأشغال الإبرة والتطريز غالبًا ما تمثل خرائط جغرافية، وعندما تبسطها على الوسائد أو ستائر من السجْف وتحدد أمنا النقاط فيها بالدبابيس والأعلام الصغيرة، مشيرة بذلك إلى خطط معارك حروب الخلافة، والتي تحفظها عن ظهر قلب، أو تطرز أشكال مدافع ومسار القذائف النارية من فوهتها، وتطرز معها مساند المدفع وزوايا الإطلاق، لأنها متمكنة جدًّا في كل ما يتعلق بالقذائف، بل كانت لديها مكتبة أبيها الجنرال كلها، بما فيها من أبحاث عن الفنون العسكرية، وأشكال القصف، ومجموعات الخرائط. فأمنا سليلة عائلة فون كورتفيتس، واسمها كونراندين، ابنة الجنرال كونراد فون كورتفيتس، الذي احتل أرضنا قبل عشرين سنة وهو يقود جيوش ماريا تيريزا إمبراطورة النمسا. كانت يتيمة الأم فعادة ما صحبها الجنرال معه في ميدان المعركة، ولم يكن هذا أمرًا شاعريًّا. فاعتادا السفر بكامل عتادهما، والسكن في أفضل القصور، ومعهما فريق من الخادمات، حيث تقضي أيامها في شغل الإبرة، أما في الذهاب إلى المعركة هي أيضًا على ظهر الحصان، فإن هذه مجرد أساطير، فهي دائمًا امرأة ذات بشرة وردية، ومتغطرسة كما نتذكرها، ولكن بقي لها فقط ذلك الشغف الأبوي بالحرب، ربما اعتراضًا على زوجها.

وكان أبونا من بين النبلاء القلائل الذي انضموا إلى أنصار الإمبراطورية في الحرب في منطقتنا، قد استقبل بذراعين مفتوحتين الجنرال فون كورتفيتس في مقاطعته، ووضع رجاله تحت إمرته. وليظهر — بصورة أفضل — إخلاصه لقضية الإمبراطورية تزوج كونراندين، وكل هذا أملًا في الحصول على لقب دوق وفي هذه المرة أيضًا خابت آماله كالمعتاد، فسرعان ما رحل رجال الإمبراطورية وأغرقه أهل جنوة بالضرائب، إلا أنه ربح زوجة ماهرة، الجنرالة، والتي أطلق عليها هذا اللقب بعد وفاة والدها في حملة بروفانس، وأرسلت إليها ماريا تيريزا عقدًا ذهبيًّا على وسادة حريرية فاخرة. وهي زوجة لم يختلف معها قط، حتى وإن كان بسبب نشأتها وسط معسكرات الحرب. لم تكن تحلم إلا بالجيوش والمعارك، وتلومه دائمًا على أنه ليس إلا شخصًا متسلقًا تعيسًا.

ولكن الحقيقة أنهما بقيا متعلقين بزمن حروب الخلافة، هي بكل المعدات الحربية في رأسها، وهو بكل أشجار العائلات؛ هي تحلم لنا برتبة في الجيش، أي جيش، وهو يحلم برؤيتنا متزوجين من دوقتين عظيمتين من دوقات الإمبراطورية … ومع هذا كله، فأبوانا من أفضل الآباء، ولكنهما كانا شاردين إلى حد أننا نشأنا وحدنا. هل كان ذلك شيئًا سيئًا أم حسنًا؟ ومن يستطيع الحكم على هذا؟ فبينما عاش كوزيمو حياة غير عادية بالمرة، عشت أنا حياة عادية ومتواضعة، إلا أننا قضينا صبانا معًا، غير مبالين بتلك الأفكار المزعجة الخاصة بالكبار، باحثين عن طرق مختلفة عن تلك الطرق التي يسلكها الناس.

كنا نتسلق الأشجار (تبدو تلك الألعاب البريئة الأولى الآن في ذاكرتي وكأنها البدايات، والخبرات الأولى؛ ولكن في ذلك الوقت من كان يفكر في هذا؟!)، نقطع جدول المياه ونحن نقفز من صخرة إلى أخرى، نستكشف الكهوف في شواطئ البحر، ونتزحلق على درابزين الفيلا الرخامي. وبسبب ذلك التزحلق نشأ أكبر صدام بينه وبين الدنيا، لأنه عوقب، بلا مبرر — كما يؤكد — ومنذ تلك اللحظة نشأ بين جوانحه حقدٌ دفين تجاه العائلة (أو المجتمع؟ أو العالم على وجه العموم؟)، والذي عبَّر عنه فيما بعد في القرار الذي اتخذه في الخامس عشر من شهر يونيو.

وعن التزحلق على درابزين السلم الرخامي كنا نخشاه بالفعل، ليس خوفًا من أن ينكسر ساقنا أو ذراعنا، وهو الأمر الذي لم يُقلق والدينا البتة، ولذلك — على ما أعتقد — لم نكسر شيئًا منها قط؛ ولكن بسبب أننا كبرنا وازداد وزننا، ومن ثم فإنه ربما تسببنا في كسر تماثيل أجدادنا التي وضعها والدنا على العامودين الأخيرين للدرابزين عند كل مطلع للسلالم! وفي الواقع، أسقط كوزيمو بالفعل تمثالًا للجد الثالث، وكان أسقفًا، وعلى رأسه التاج وكل شيء، وعوقب لذلك، ومنذ تلك اللحظة تعلم أن يتوقف قبل أن يصل إلى نهاية الدرج بلحظة، وأن يقفز في اللحظة التي يكاد يصطدم فيها بالتمثال. وأنا أيضًا تعلمت — لأنني اعتدت تقليده في كل شيء — إلا أنني، نظرًا إلى طبيعتي الأكثر تواضعًا وحرصًا، أقفز في منتصف المسافة، أو أقوم بالتزحلق المتقطع، من خلال الوقفات المستمرة. وفي أحد الأيام، في حين يهبط الدرابزين وكأنه السهم، ومن ذا الذي يصعد السلالم وقتها؟ إنه الراهب فوشيلافلور، الذي يهيم على وجهه وكتاب القداس مفتوح بين يديه، ولكن نظراته مركزة في الفراغ مثل الدجاجة. ويا ليته كان شبه نائم كالعادة! لا، وإنما في إحدى لحظات اليقظة والانتباه التي تجيئه أحيانًا. رأى كوزيمو وتذكر: درابزين، تمثال، والآن سيصطدم، وسينهرونني أنا أيضًا (لأنه مع كل تصرف خبيث نقوم به، ينهرانه والدانا هو أيضًا لإخفاقه في مراقبتنا) وألقى بنفسه على الدرابزين ليمسك بأخي. اصطدم كوزيمو بالراهب، ودفعه إلى أسفل الدرابزين (كان مسنًّا ونحيفًا جدًّا)، ولم يستطع التوقف، واندفع كالقذيفة ليصطدم بجدنا كاتشاجويرا بيوفاسكو المحارب الصليبي في أرض المقدس، وسقطوا جميعًا أسفل الدرج؛ تفتت المحارب الصليبي (حيث صُنع من الجبس)، والراهب وهو. وانهالت صرخات التوبيخ بلا نهاية وضربات السياط، ولك أن تتخيل الحبس الانفرادي، وتناول الخبز والحساء البارد. ولكن كوزيمو، الذي يشعر بأنه بريء لأن الخطأ خطأ الراهب وليس خطأه، تفوه في ثورة الغضب: أنا لا أعبأ بكل أسلافك أيها السيد الوالد! وهو ما نم بالفعل عن مَيله للتمرد.

وأختنا، في واقع الأمر، هي أيضًا متمردة. بالرغم من العزلة التي تعيش فيها، والتي فرضها عليها والدنا بعد قصة المركيز الصغير لعائلة لاميلا، فقد كانت ذات روح متمردة ومحبة للعزلة. ولكن لم يعرف أحد معرفة جيدة حقيقة ما حدث مع هذا المركيز، فهو ابن عائلة تُناصبنا العداء. كيف استطاع التسلل إلى منزلنا؟ ولماذا؟ قيل في المشاحنات الطويلة التي تلت الواقعة بين العائلتين إنه قد فعل ذلك ليغوي، بل ليعتدي على أختنا. ولكننا في الحقيقة، لم ننجح قط في تخيل ذلك المغفل، المنمش، كشخص قادر على الغواية، وخاصةً مع أختنا، وهي من المؤكد أقوى منه بكثير، والمشهورة بقبضتها الحديدية حتى مع عمال الإسطبل. ثم لماذا سمعناه هو الذي يستغيث؟ وكيف عثر عليه أبي مع الخدم الذين هرولوا مسرعين بسرواله ممزقًا، وكأنه نشبت به مخالب نمر؟ ولم تشأ عائلة لاميلا قط الاعتراف بأن ابنهم حاول الاعتداء على شرف باتيستا، والموافقة على الزواج. ولهذا انتهى الأمر بأن دفنت أختنا في المنزل، وهي ترتدي ملابس الراهبة، مع أنها لم تعلن عن أية نذور، ولا حتى نذور المرتبة الثالثة، نظرًا إلى دعوتها المشكوك فيها.

تظهر روحها البائسة بصفةٍ خاصة في المطبخ؛ فهي بارعة جدًّا في الطهو، لأنه لم يكن ينقصها لا الدقة ولا الخيال، الموهبتان الأساسيتان لأي طاهٍ، ولكنها حيثما تضع يديها لم يكن لأحد أن يتوقع المفاجآت التي ستصل إلينا على مائدة الطعام؛ فلقد أعدت في إحدى المرات نوعًا من الفطائر المقرمشة، وكانت رقيقة جدًّا في الحقيقة، من كبد الفئران، ولم تقل لنا هذا إلا بعد أن أكلناها وأعجبنا مذاقها؛ فضلًا عن سيقان الجراد الخلفية الجامدة والمسننة، التي وضعتها على طريقة الفسيفساء فوق التورتة؛ أو أذيال الخنازير المشوية وكأنها كعك، وتلك المرة التي طهت فيها حيوان الشيهم (ذا الأشواك) بتمامه، بكل أشواكه! من يدري لماذا؟! من المؤكد إنها أرادت فقط أن تذهلنا عند رفع غطاء الصينية، لأنها حتى هي، التي تأكل دائمًا كل ما تعده، لم ترغب في تذوقه، مع أنه كان حيوان شيهم صغيرًا، وردي اللون، ومن المؤكد أنه كان طريًّا. في الواقع كثير من ذلك الطهو المرعب مقصود فقط استعراضًا لمنظره، أكثر من الرغبة في أن نتذوق معها أطعمة مقززة. فالأطباق التي تقدمها باتيستا أعمال فنية يدوية دقيقة جدًّا من الحيوانات والخضراوات؛ فتقدم رءوس القرنبيط مع آذان الأرانب موضوعة فوق باقة من فراء الأرنب، أو رأس خنزير وكأنه يخرج لنا لسانه، وفوقه وضعت استاكوزا حمراء، والاستاكوزا تمسك بملقاطها لسان الخنزير وكأنها تنزعه منه؛ ثم الحلزون، فقد استطاعت أن تنزع رءوس عدد كبير منها، تلك الرءوس الرخوة جدًّا أدخلتها، على ما أعتقد، بواسطة عود خشبي رفيع، كل واحد منها بداخل فطيرة منتفخة، وعندما وضعتها فوق مائدة الطعام بدت كأنها قطيع من البجع الصغير جدًّا. طالما شعرنا بالدهشة عند رؤية تلك الأطباق الشهية وفكرنا في ذلك العمل الدقيق والدءوب الذي تبذله باتيستا في إعدادها، وتخيلنا يديها الرقيقتين وهما تفصلان أطراف تلك الأجسام الحيوانية الصغيرة.

ولكن الطريقة التي تثير حيوانات الحلزون بها خيال أختنا المرعب تدفعنا، أخي وأنا، إلى التمرد، والذي بالإضافة إلى كونه تضامنًا مع تلك الحيوانات المسكينة الممزقة فهو أيضًا بسبب الاشمئزاز من مذاق الحلزون المطهو، ونوعًا من الضجر من كل شيء ومن الجميع، ولذلك لا يجب أن نشعر بالدهشة أنه بدءًا من هنا نضجت لدى كوزيمو فكرة موقفه، بل مواقفه التالية.

أعددنا الخطة بفن. عادةً ما يحضر الفارس المحامي إلى المنزل سلة مليئة بالحلزون الصالح للأكل، توضع في المخزن في برميل، حتى تمتنع عن الطعام فتأكل فقط النخالة، وبذلك تنقى. وبمجرد تحريك غطاء البرميل يظهر شيء أشبه بالجحيم، فيه تتحرك الحلزونات عند أضلاع البرميل إلى أعلى ببطء، وهو ما ينم عن اجتيازها سكرة الموت، بين المتبقي من النخالة، وخيوط من الرغاوى الكثيفة المتخثرة وإفرازاتها الملونة ذكرى ذلك الزمن الجميل الذي فيه قضت الحلزونات وقتها في الهواء الطلق وبين الأعشاب. بعض منها خارج تمامًا من قوقعته ورءوسها مبسوطة إلى الأمام وقرونها المتفرعة مفرودة؛ وبعضها الآخر متقوقع على نفسه، مُظهِر فقط قرونه المتوجسة، وأخريات منها متجمعات وكأنهن رفيقات؛ ومنها من نامت وأغلقت على نفسها، ومنها من ماتت وقوقعتها مقلوبة. ولإنقاذها جميعًا من أن تلتقي بتلك الطاهية المتوحشة، ولننقذ أنفسنا مما تعده لنا، قمنا بعمل فتحة في قاع البرميل، ومنها خططنا بواسطة الحشائش الرفيعة والعسل طريقًا، وأخفيناه بقدر استطاعتنا خلف براميل ومعدات المخزن، لنجذب الحلزونات تجاه طريق الهروب، وصولًا إلى نافذة صغيرة تطل على جزء من الحديقة غير مزروع ومليء بالحشائش.

وفي اليوم التالي، عندما نزلنا إلى المخزن لنراقب آثار خطتنا، وعلى ضوء شمعة أخذنا نفتش الحوائط والدهاليز، وجدنا واحدة هنا! وأخرى هناك!

– انظر إلى أين وصلت هذه.

وبالفعل وجدنا خطًّا من الحلزونات ليس بينها مسافات طويلة تعبر من البرميل إلى النافذة الصغيرة من خلال الأرضية والحوائط مقتفية الآثار التي تركناها. وعندما رأينا تلك الحيوانات الصغيرة تتحرك ببطء شديد، وهي تجنح عن طريقها في دوائر مفرغة على حوائط المخزن الخشنة، تجذبها الأشياء المخزونة والعفن والأشياء النيئة، لم نستطع أن نمسك أنفسنا من الصراخ فيها: هيا أيتها الحلزونات الصغيرة! أسرعي! اهربي، ولكن المخزن كان مظلمًا، مكدسًا، مزدحمًا، وتمنينا ألا يتمكن أحد من اكتشافها، وأن يسمح لها الوقت بالفرار.

ولكن روح أختنا باتيستا التعسة تقضي ليلتها وهي تتجول في المنزل بحثًا عن الفئران، ممسكة بشمعدان في يدها، وبندقية تحت ذراعها. وفي تلك الليلة دخلت المخزن، وأبان ضوء الشمعدان حلزونة انحرفت على السقف وخلفها رغوة فضية اللون. ودوَّت طلقة من بندقيتها. قفز كل من في البيت من فوق فراشه، ولكن سرعان ما غطى كل منا رأسه بالوسادة، فقد اعتدنا على الحملات الليلية لراهبة المنزل. ولكن باتيستا بعد أن دمرت الحلزونة، وتسببت في سقوط جزء من بياض السقف بتلك الطلقة الطائشة بدأت تصرخ بصوتها الحاد: النجدة! جميعها تهرب! النجدة. هرع نحوها الخدم شبه عراة، ووالدنا وهو مسلح بخنجر، والراهب بدون باروكة، أما الفارس المحامي فإنه قبل أن يدرك أي شيء وخوفًا من المتاعب، هرب سريعًا إلى الحقول، وذهب لينام في مخزن التبن.

وعلى ضوء المشاعل أخذ الجميع يطاردون الحلزونات في المخزن، مع أن أحدًا لا يهتم بها أساسًا، ولكنهم استيقظوا بالفعل، ولم يرغبوا، بسبب غرورهم المعتاد، الاعتراف بأنهم تعرضوا للإزعاج لسبب تافه. واكتشفوا ثقب البرميل، وأدركوا — على الفور — أنها فعلتنا. وجاء والدنا ليهاجمنا في فراشنا بسوط الحوذي. وانتهى بنا الأمر ونحن مغطيان بخطوط بنفسجية على ظهرينا وأردافنا وأقدامنا، وحبسنا في الغرفة الرثة الشبيهة بالسجن لنا. بقينا داخلها ثلاثة أيام، يقدمون لنا الخبز والماء والسلطة ودهن البقرة والحساء البارد (والذي لحسن الحظ يعجبنا). وفي أول وجبة مع العائلة بعد ذلك، وكأن شيئًا لم يكن، ذهبنا جميعًا في الميعاد تمامًا في منتصف نهار الخامس عشر من شهر يونيو. وماذا أعدت أختنا باتيستا، المشرفة على المطبخ؟ حساء الحلزون، وأطباقًا متنوعة من الحلزون. لم يرغب كوزيمو في أن يلمس أية قشرة منها.

– تناولا طعامكما، وإلا سنحبسكما مرة أخرى في الغرفة الصغيرة.

أنا استسلمت، وبدأت في ابتلاع تلك الرخويات (وهذا بالطبع جبن من جانبي، وتسبب في أن يشعر أخي بأنه وحيد أكثر من ذي قبل، ولذلك فتركه لنا تضمن نوعًا من الاعتراض ضدي أنا أيضًا؛ فلقد خذلته، ولكن عمري لم يكن سوى ثمانية أعوام، ثم بماذا تفيد مقارنة قوة إرادتي، بل تلك التي أتحلى بها وأنا طفل مع ذلك العناد الذي يفوق قدرة البشر، والذي ميز حياة أخي؟)

قال والدنا لكوزيمو: وماذا بعد؟

قال كوزيمو وهو يبعد الطبق: لا، ثم لا!

– إذن ابتعد عن تلك المائدة.

ولكن كوزيمو أدار ظهره للجميع، وكان في طريقة إلى خارج الغرفة.

– أين ستذهب؟

ورأيناه من خلف الباب الزجاجي بينما يأخذ من الدهليز قبعته المثلثة القرون وسيفه الصغير.

– أنا أعرف إلى أين!

وانطلق إلى الحديقة.

وبعد قليل، رأيناه من النافذة يتسلق ليصعد على شجرة البلوط. كان مرتديًا كامل ملابسه، ومهندمًا بشدة، تمامًا كما يريد أبونا أن يراه على مائدة الطعام، بالرغم من سنواته الاثنتي عشرة. كان شعره مضمومًا بشريط في ضفيرته، ويرتدي قبعته المثلثة القرون، ورباط عنق من الدانتيل والفراك الأخضر ذا الذيل المشقوق، وبنطاله البنفسجي، وسيفه الصغير وغطاء الكاحل من الجلد الأبيض والذي يغطي نصف فخذه، وهو التنازل الوحيد لطريقة ارتداء الملابس الملاءمة لحياتنا الريفية. (أما أنا فنظرًا إلى أن عمري لم يتجاوز ثمانية أعوام؛ فقد أعفوني من تزيين الشعر، إلا في المناسبات الرسمية، ومن السيف الصغير، مع أني كنت سأحب حمله). وهكذا أخذ كوزيمو يتسلق الشجرة ذات الفروع المعقدة، محركًا ذراعيه وقدميه فوق فروعها بثقة وبسرعة اكتسبهما من الممارسة الطويلة لنا معًا. سبق أن قلت إننا طالما قضينا ساعات طوالًا فوق الأشجار، ليس لأسباب نفعية كما يفعل كثير من الصبية الذين يتسلقونها فقط بحثًا عن الفاكهة أو أعشاش العصافير؛ ولكن لمتعة تجاوز الأجزاء البارزة الصعبة في جذع الشجرة وفروعها، ولكي نصل دائمًا إلى أعلى نقطة نستطيعها، ونجد أماكن جميلة نتوقف فيها، لننظر إلى العالم تحتنا، ولنمرح وننادي بأصواتنا على من يعبر في أسفل. ولذلك وجدت من الطبيعي أن أول فكرة تخطر ببال كوزيمو أمام ذلك الغضب الظالم ضده؛ هي أن يتسلق شجرة البلوط، الشجرة المألوفة لنا، والتي تمتد فروعها في ارتفاع نوافذ القاعة، وبذلك فإنه يفرض سلوكه الساخط والمهين على مرأًى من العائلة.

صرخَت أمنا في قلقٍ بالغ: لتحذر! احترس! والآن سيسقط المسكين! وهي التي ربما شعرت بالسرور إذا رأتنا نشحن مدفع ونطلقه. ولكن ينتابها القلق من طريقتنا في اللعب.

صعد كوزيمو حتى وصل إلى حيث يتفرع فرع ضخم، حيث يمكنه الجلوس مستريحًا، وجلس فوقه وقدماه تتدليان، وذراعاه متقاطعتان ويداه أسفل إبطيه، ورأسه محشور بين كتفيه، وقبعته الثلاثية القرون تغطي جبهته.

أطل والدنا من النافذة، وصرخ فيه: عندما تتعب من جلوسك هناك ستغير رأيك.

قال أخي من فوق فرع الشجرة: لن أغير رأيي أبدًا.

– سأريك أنا ماذا سيحدث لك بمجرد نزولك.

– ولكنني لن أنزل أبدًا!

وتمسك كوزيمو بما قاله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤