١٢

أحيانًا يستيقظ كوزيمو ليلًا على صرخات: النجدة! اللصوص! الحقوا بهم!

عندئذٍ كوزيمو يتحرك بسرعة بين الأشجار متجهًا إلى حيث مصدر الصراخ، ربما كان بيتًا ريفيًّا لملاك صغار، وتقف في الخارج ربة عائلة شبه عارية وهي تضع يديها فوق رأسها.

– يا لشقائنا، يا لشقائنا، أتى جان البروجي وسرق كل ثمن المحصول! ويجتمع الناس.

– جان البروجي؟ هل كان هو؟ هل رأيته؟

– كان هو! هو! يرتدي قناعًا على وجهه، ويمسك بمسدس طويل هكذا، ويسير خلفه اثنان مقنعان مثله، وهو يقودهما! هو بالتأكيد جان البروجي!

– وأين هو؟ أين ذهب؟!

– آه، يا لك من ماهر، فلتقبضوا على جان البروجي! من يدري أين ذهب الآن؟!

أو ربما ارتفعت صرخات مسافر تُرك في وسط الطريق بعد أن جُرد من كل شيء؛ حصانه، وحقيبته، ومعطفه، وكل متاعه.

– النجدة! سرقوني! إنه جان البروجي!

– كيف حدث هذا؟ قل لنا!

– قفز من هناك، أسود اللون، ملتح، وسدد نحوي بندقيته. لقد نجوت بأعجوبة!

– هيا بسرعة لنتبعه! من أية جهة هرب!

– من هنا! لا، ربما من هناك! كان يجري كالريح!

وصمم كوزيمو على رؤية جان البروجي، وأخذ يجوب الغابة طولًا وعرضًا خلف الأرانب والطيور وهو يحث الدشهند: ابحث، ابحث يا ماسيمو أُتيمو!

ولكنه أراد العثور على قاطع الطريق شخصيًّا، لا ليصنع به شيئًا، أو حتى ليقول له شيئًا؛ وإنما فقط ليرى شخصًا مشهورًا بهذه الطريقة وجهًا لوجه. ولكنه لم ينجح في لقائه قط، حتى بعد أن قضى ليلة كاملة بحثًا عنه. وكان كوزيمو يقول لنفسه: «هذا معناه أنه اليوم لم يخرج.» ولكن في الصباح، هنا وهناك في الوادي، تنتشر أحاديث الناس فوق سطح أحد البيوت، أو في أحد منعطفات الطريق يعلقون على السرقة الجديدة. فيهرع كوزيمو نحوهم ويفتح أذنيه ليستمع إلى تلك الحكايات.

وفي إحدى المرات قال له أحدهم: ولكن أنت يا من تمكث دائمًا فوق أشجار الغابة، ألم ترَ قط جان داي بروجي؟

شعر كوزيمو بالخجل الشديد وقال: حسنًا … لا على ما يبدو. ويتدخل شخص آخر: وكيف تريده أن يراه؟ إن جان البروجي لديه مخابئ لا يمكن أحدًا أن يجدها، ويسير في طرقات لا أحد يعرفها قط!

– من يقبض عليه سيعيش ملكًا حياته كلها بالمكافأة المرصودة للقبض عليه!

– فعلًا! ولكن أولئك الذين يعرفون أين هو، لديهم أيضًا الكثير ليصفوه مع العدالة تقريبًا مثله، وإذا فعلوا ذلك سينتهي أمرهم على حبل المشنقة أيضًا!

– جان البروجي! جان البروجي! ولكن هل يمكن أن يكون هو مرتكب كل تلك الجرائم!

– بالطبع، إنه متهم بالكثير من الجرائم، حتى إنه إذا استطاع تبرئة نفسه من عشر سرقات، سيشنقونه بسبب السرقة الحادية عشرة.

– لقد قام بقطع الطريق في كل غابات الساحل!

– وقتل أيضًا أحد رؤساء عصابته في شبابه!

– ولقد طارده أيضًا قطاع الطرق.

– ولذلك جاء ليختبئ في منطقتنا!

– آه ذلك لأننا أناس شجعان!

فيذهب كوزيمو ليتحدث عن أي خبر جديد مع عمال الفحم. ومن بين الذين يخيمون في الغابة، كانت توجد في تلك الأزمنة فئة من المشتبه فيهم الجائلين: عمال فحم، منجِّدي كراسي، بائعي خرق بالية، أشخاص يدورون على المنازل، وفي الصباح يدرسون السرقة التي سينفذونها في المساء. ولديهم في الغابة بالإضافة إلى معمل التجريب، الملجأ السري، ومخزن المسروقات.

– هل تعرفون أن هذا المساء هاجم جان البروجي عربة تجرها أحصنة؟!

– آه، حقًّا؟ ربما، كل شيء جائز!

– أوقف الأحصنة وهي تركض ممسكًا إياها من فكها!

– حسنًا، وربما لم يكن هو، وبدلًا من الأحصنة لم تكن سوى صراصير!

– ماذا تقول؟ ألا تصدق أنه كان جان البروجي؟!

– آه حقًّا، حقًّا، ولكن ما هذه الأفكار التي تضعها في رأسك؟ بالتأكيد جان داي بروجي!

– وهل هناك شيء لا يستطيع أن يفعله جان البروجي.

– آه آه آه!

وعندما سمعهم يتحدثون بهذه الطريقة عن جان البروجي لم يعد كوزيمو يفهم شيئًا، تجول في الغابة، وذهب ليسمع مخيمًا آخر للمتجولين.

– قولوا لي، في رأيكم هل ما حدث للعربة التي تجرها أحصنة هذه الليلة ضربة من ضربات جان البروجي؟

– إن كل السرقات يقوم بها جان البروجي، خاصة عندما تنجح، ألا تعرف ذلك؟

– لماذا عندما تنجح؟!

– لأنها عندما لا تنجح فإن هذا يعني أنها بالفعل أفعال جان البروجي!

– آه آه! ذلك الفاشل!

لم يعد كوزيمو يفهم أي شيء: جان البروجي فاشل؟

عندئذٍ يسرع الآخرون في تغيير نبرة الحديث: ولكن لا، لا، إنه لص يخيف الجميع!

– هل رأيتموه بأنفسكم؟

– نحن؟ ومن ذلك الذي رآه؟!

– وهل أنتم متأكدون من وجوده؟!

– آه، دعابة جميلة! من المؤكد أنه موجود! حتى وإن لم يكن موجودًا!

– إن لم يكن موجودًا؟!

– سيكون هذا أو ذاك … ها ها ها!

– من المؤكد أنه يجب أن نقول هكذا: إنه جان البروجي الذي يسرق ويذبح في كل مكان، ذلك اللص الفظيع! هل تريد أن نقول إن هناك أحدًا يشك فيه؟!

– أنت أيها الصبي، هل تجد في نفسك الشجاعة لتشك في ذلك؟!

وهكذا أدرك كوزيمو أن الخوف من جان البروجي المنتشر في الوادي يتحول إلى سلوك مليء بالشك، ومثير للسخرية كلما صعدنا نحو الغابة.

وهكذا لم يعد يشعر بالرغبة الفضولية في مقابلته؛ لأنه أدرك أن جان البروجي لدى أكثر الناس خبرة لا أهمية له. وعندئذٍ التقى به.

كان كوزيمو فوق شجرة جوز في ظهيرة أحد الأيام يقرأ. حيث تملكه منذ فترة قليلة الحنين إلى بعض الكتب؛ فالبقاء طوال اليوم في انتظار فريسة لاقتناصها شيء ممل جدًّا. ولذلك جلس يقرأ رواية «جيل بلاس» لآلان رينيه ليساج ممسكًا بالكتاب في يد والبندقية في اليد الأخرى. وماسيمو أُتيمو الذي يتضايق من أن يقرأ سيده يدور حوله محاولًا إيجاد أسباب لتشتيته؛ فكان مثلًا ينبح وراء فراشة ليرى هل سينجح في جعله يسدد بندقيته نحو الهدف.

وإذا برجل ملتحٍ في حالة سيئة وغير مسلح يجري لاهثًا من اتجاه الجبل في الممر وخلفه يجري شرطيان ممسكين بخناجر، ويلوِّحان بها صارخين: أوقفوه! إنه جان داي بروجي. لقد أخرجناه أخيرًا من مخبئه. واستطاع اللص الابتعاد قليلًا عن الشرطيين، ولكنه إذا استمر في التحرك باضطراب، كمن يشعر بالخوف من أن يضل الطريق أو السقوط في شرَك ما، سيصلان إليه على الفور. ولا تقدم شجرة الجوز التي يجلس عليها كوزيمو أية وسيلة تشبث لمن يريد تسلقها، ولكن كوزيمو لديه على الفرع حبل من الحبال التي يحملها دائمًا معه ليتخطى بها المسافات الصعبة، فألقى بأحد طرفيه أرضًا، وعقد الآخر في الفرع. رأى اللص ذلك الحبل يسقط أمامه مباشرة، فأبعده بيديه لوهلة بعدم ثقة، ثم أمسك بالحبل وتسلقه بسرعة، كاشفًا عن أنه واحد من أولئك المندفعين المترددين، أو المترددين المندفعين الذي يبدون وكأنهم لا يعرفون دائمًا كيفية استغلال اللحظة المواتية، إلا أنهم يصيبون الهدف في كل مرة.

ووصل الشرطيان بعد أن رُفع الحبل بسرعة، واختبأ جان البروجي بجوار كوزيمو بين أغصان شجرة الجوز. وكان هناك طريق متقاطع، فأخذ كل من الشرطيين طريقًا، ثم التقيا ولم يعودا يعرفان إلى أين يتجهان، وإذ بهما يجدان أمامهما ماسيمو أُتيمو الذي يهز ذيله في الجوار. قال أحد الشرطيين للآخر: أليس هذا كلب ابن البارون، ذلك الساكن بين الأشجار؟ إذا كان الصبي قريبًا ربما يستطيع إخبارنا بشيء.

صرخ كوزيمو: أنا هنا فوق. ولكنه لم يكن في تلك اللحظة فوق شجرة الجوز حيث كان في البداية وحيث يختبئ اللص؛ فقد انتقل بسرعة ليصبح فوق شجرة الكستناء المقابلة، وهكذا رفع الشرطيان رأسيهما على الفور في ذلك الاتجاه من دون النظر فوق الأشجار المحيطة، وقالا: صباح الخير يا سيدي، ألم ترَ سيادتك مصادفةً اللص جان البروجي وهو يجري؟

أجاب كوزيمو: لا أعرف من الذي رأيته، ولكن إذا كنتما تبحثان عن رجل قصير يجري، فلقد رأيته يتجه إلى الوادي.

– رجل قصير؟ إنه رجل فارع الطول ومخيف!

– ربما! ولكن من هنا فوق تبدون جميعًا صغار الحجم.

– شكرًا يا سيدي! وأطلقا ساقيهما تجاه الوادي.

عاد كوزيمو فوق شجرة الجوز وعاد ليقرأ «جيل بلاس» وكان جان البروجي ما زال ممسكًا بالفرع، وهو شاحب الوجه وشعر رأسه ولحيته الخشن ذي اللون الأحمر، تمامًا مثل نبات الخلنج، معلقة به أوراق الشجر الجافة، وثمار الكستناء الصغيرة وإبر الصنوبر. أخذ يحدق في كوزيمو بعينين خضراوين مستديرتين وشاردتين، وكان دميمًا، قبيح الوجه.

وقرر أن يسأل: هل رحلا؟

قال كوزيمو بلطف: أجل، أجل. هل سيادتك اللص جان البروجي؟

– كيف عرفتني؟

– آه، هكذا، من شهرتك.

– وأنت إذن الذي لا ينزل أبدًا من فوق الأشجار؟

– نعم. وكيف عرفت هذا؟

– أنا أيضًا … من شهرتك.

أخذ كل منهما ينظر إلى الآخر بفضول، وكأنهما شخصان يلتقيان مصادفة، وشعر كل منهما بالسعادة لأن كل واحد منهما يعرف شيئًا عن الآخر.

ولم يعرف كوزيمو ماذا يقول أكثر من هذا، فعاد يقرأ.

– ماذا تقرأ؟!

– أقرأ «جيل بلاس» لليساج.

– كتاب جيد؟

– آه جدًّا.

– هل ما زال أمامك الكثير لتنتهي من قراءته؟

– لماذا؟ تقريبًا نحو عشرين صفحة.

– لأنني أريد أن أطلب منك أن تعيرني إياه بعد أن تنتهي من قراءته.

وابتسم مضطربًا بعض الشيء وأكمل: أتعرف؟ أقضي الأيام مختبئًا، ولا أجد شيئًا أفعله. أقصد أنه لو كان لدي كتاب من حين إلى آخر … في إحدى المرات سرقت حافلة بها أشياء قليلة، وكان بها كتاب وأخذته، وحملته معي إلى مخبئي وأخفيته أسفل سترتي، أعطيتهم كل الغنيمة، في سبيل الاحتفاظ بالكتاب. وفي المساء، أشعلت مصباحي، وحاولت القراءة، ولكنه كان باللاتينية! لم أفهم كلمة واحدة! — وهز رأسه — فأنا لا أعرف اللاتينية.

قال كوزيمو: بالطبع، فاللاتينية لغة صعبة حقًّا، وشعر أنه رغمًا عنه بدأ يشعر بأنه يحتاج أن يحمي نفسه، وقال: هذا الكتاب بالفرنسية …

قال جان داي بروجي: فرنسي، توسكاني، بروفنسي، قشتالي، كلها لغات أفهمها، بل وبعض الكاتالاني أيضًا، وبدأ يردد عبارات بلغات مختلفة.

وفي نصف ساعة انتهى كوزيمو من القراءة، وأعار الكتاب لجان البروجي.

وهكذا بدأت العلاقة بين أخي واللص. فبمجرد أن ينتهي جان البروجي من قراءة كتاب، يجري ليعيده إلى كوزيمو ليستعير منه كتابًا آخر، ويهرب ليختبئ في مخبأه السري ويغرق في القراءة.

وكنت أنا أزود كوزيمو بالكتب من مكتبة المنزل، وعندما ينتهي من قراءتها يعيدها إلي. وفي تلك الفترة أصبح يحتفظ بها لفترات أطول؛ لأنه بعد الانتهاء من قراءتها يعيرها لجان البروجي، وكثيرًا ما تعود مفكوكة، وبها بقع عفن، وآثار خطوط حلزون. من يدري أين يضعها اللص.

في أيام محددة يلتقي كوزيمو وجان البروجي على شجرة مُتفق عليها ليتبادلا الكتب، ثم يهرب جان البروجي بسرعة؛ لأن الغابة مكتظة دائمًا برجال الشرطة. وتلك العملية البسيطة خطيرة جدًّا لكل منهما، حتى بالنسبة إلى أخي الذي لا يعرف كيف سيبرر صداقته بأحد المجرمين!

ولكن أصيب جان البروجي بنوع من حمَّى القراءة جعلته يلتهم الروايات. رواية تلو الأخرى، ونظرًا إلى أنه يمكث اليوم كله مختبئًا يقرأ، فهو ينتهي في يوم واحد من قراءة بعض الكتب التي يمكن لأخي أن يقرأها في أسبوع، وبالطبع لم يكن يستطيع الانتظار، فيطلب كتابًا آخر، وإذا لم يحدث ذلك في اليوم المتفق عليه، يبدأ في البحث عن كوزيمو بين الحقول مخيفًا بذلك عائلات تسكن في الأكواخ، ومحركًا إثره بهذه الطريقة كل القوى الرسمية في أومبروزا.

وأصبحَت — بهذه الطريقة، ونظرًا إلى أنه مضغوط دائمًا بطلبات اللص — الكتب التي أنجح أنا في تزويده بها غير كافية، وعليه أن يبحث عن آخرين ليزوده بالكتب. وتعرَّف إلى تاجر كتب يهودي، شخص يُدعى أوربيكي، يزوده أعمالًا أدبية تتكون من أكثر من جزء. يذهب كوزيمو ليطرق على نافذته من بين أغصان شجرة خروب، ويعطيه أرانب، وطيور سمان، وحجلًا في مقابل تلك الكتب.

ولكن كان لجان البروجي ذوقه الخاص في القراءة، وصعب إعطاؤه أي كتاب، وإلا عاد في اليوم التالي إلى كوزيمو كي يغيره له.

وكان أخي في السن التي فيها يبدأ المرء التمتع بالقراءات الأكثر عمقًا، ولكنه يشعر بضرورة قراءتها ببطء، منذ أن أعاد إليه جان البروجي «مغامرات تليماك» وهو يقول له إنه إذا أعطاه مرة أخرى كتابًا مملًّا هكذا فسيقطع الشجرة التي يجلس عليها.

عندئذٍ أراد كوزيمو أن يفصل بين الكتب التي يرغب في قراءتها وحده، وبهدوء عن تلك التي يأخذها فقط ليعيرها للص. ولكن هيهات، فعليه أن يلقي نظرة سريعة على تلك الكتب أيضًا؛ لأن جان البروجي يزداد إلحاحًا وارتيابًا، وقبل أن يأخذ كتابًا يطلب أن يحكي له أخي الموضوع قبل أن يقرأه، ويا لشقائه إذا خدعه. فقد حاول أخي أن يمرر إليه روايات حب، إلا أن اللص عاد إليه وقد استشاط غضبًا وسأله عما إذا كان يراه آنسة صغيرة. ولم يستطع كوزيمو أن يعرف ما يعجبه بالفعل.

وهكذا، ونظرًا إلى وجود جان البروجي ملاصقًا له، تحولت القراءة بالنسبة إلى كوزيمو من مجرد تسلية لبعض الوقت إلى شغله الشاغل، وهدف يومه. وبسبب حماسته لإحضار المجلدات، وفحصها ومقارنتها، وضرورة أن يعرف دائمًا أكثر وكل ما هو حديث، وبين القراءات التي يقوم بها لجان البروجي، والحاجة المتزايدة لديه لقراءاته الخاصة، أصبح كوزيمو مولعًا بالآداب وبكل فروع المعرفة الإنسانية، ولم تعد تكفيه الساعات من الفجر إلى الغروب لينتهي مما يرغب في قراءته، وأصبح يستكمل القراءة أيضًا في الظلام على ضوء المصباح.

وأخيرًا اكتشف روايات صامويل ريتشاردسون، والتي أعجبت جان البروجي، وبمجرد أن ينتهي من واحدة يرغب في أخرى. استطاع أوربيكي أن يزوده بكمية من المجلدات، وأصبح لدى اللص ما يقرؤه لمدة شهر، وهكذا عثر كوزيمو على بعض الهدوء. وانغمس في قراءة حيوات بلوتارخ.

أما جان البروجي فكان يجلس مستلقيًا على مرقده، وشعره المجعد الأحمر المليء بالأوراق الجافة يتدلى على جبهته المتجعدة، يقرأ بعينيه الخضراوين واللتين احمرَّتا بسبب إجهادهما في القراءة. يقرأ وهو يحرك مقلتيه في الْتهامٍ سريع للكلمات، مثبتًا إحدى أصابعه المبتلة بلعابه في وضع استعداد دائم ليقلب الصفحة. ومن خلال قراءته لريتشاردسون اجتاحه شعور كامن في نفسه، تلك الرغبة في الحياة المعتادة والعائلية، في الشعور بالعائلة والمشاعر الأسرية، والفضائل، وعداوة الشرور والرذائل، وفقد كل ما حوله أهميته بالنسبة إليه، بل أصبح يملؤه بالنفور.

ولم يعد يخرج قط من كهفه إلا ليهرع نحو كوزيمو ليتبادل معه الكتب، وخاصة إذا كانت رواية من أكثر من مجلد، وما زال في منتصف القصة. أصبح يعيش هكذا، منعزلًا، من دون أن يدرك شيئًا عن عاصفة الحقد التي تتصاعد حوله أيضًا من سكان الغابة، الذين كانوا يومًا أعوانه المخلصين، ولكنهم الآن شعروا بالتعب من الاحتفاظ بينهم بلص غير عامل، وخاصة لو كان يجذب خلفه كل قوى الشرطة.

ففي الأزمات الماضية التف حوله من في الجوار مطاردًا من قبل العدالة، ربما بسبب أشياء صغيرة، سرقات عادية، مثل أولئك المتشردين الذين يطلون الأواني، أو جرائم حقيقية وفعلية مثل رفاقه اللصوص المطاردين. وفي كل سرقة أو خطف يتمتع أولئك اللصوص بسلطته وخبرته، بل يحتمون باسمه المتداول بين الناس، ويتركهم هم في الظل. حتى من لم يشارك منهم في الجرائم يفيد بطريقة ما مما حصلوا عليه؛ لأن الغابة امتلأت بمسروقات وأشياء متنوعة يتبادلها اللصوص فيما بينهم، والتي يجب إخفاؤها أو إعادة بيعها، وبالتالي يعثر أولئك المتسكعون على ما يهربونه ويربحون منه. أما من يرتكب سرقات لحسابه، بدون علم جان البروجي، فيتسلح بهذا الاسم البشع ليخيف الضحايا، ويأخذ منهم كل ما لديهم، ولهذا يعيش الناس في رعب، ويرون في كل واحد من هؤلاء الأشقياء جان البروجي أو أحد أفراد عصابته، فيسرعون بحل أكياس نقودهم.

واستمرت تلك الأزمنة الجميلة طويلًا، ورأى جان البروجي أنه يستطيع أن يعيش بما لديه. ورويدًا رويدًا أصبح هزأة. اعتقد هو أن كل شيء مستمر كالسابق، ولكن النفوس تغيرت، ولم يعد اسمه يُقابَل بالاحترام كالسابق.

مَن المستفيد إذن من جان البروجي؟ فلقد كان مختبئًا ودموعه في عينيه يقرأ الروايات، لم يعد يسطو على أحد، ولم يعد يحضر أي غنائم. وفي الغابة لم يعد أحد يتمكن من أداء أعماله، فرجال الشرطة يحضرون كل يوم بحثًا عنه، وبمجرد العثور على بائس يشبهه قليلًا يأخذونه معهم إلى المخفر. وإذا أضيف إلى ذلك إغراء المكافأة المرصودة للقبض عليه يتضح أن أيام جان البروجي معدودة بالفعل.

ولكن أراد اثنان من اللصوص وهما شابان سبق وانتشلهما، ولم يعرفا كيف يستسلمان لفكرة فقْد رئيس العصابة المفضل لديهما، أن يمنحاه الفرصة ليعيد تأهيل نفسه. يدعى الشابان أوجاسو وبيل لوري. كانا ضمن عصابة صبية سارقي الفاكهة. والآن، وبعد أن أصبحا شابَّين، تحولا إلى لصَّي طريق.

لذلك ذهبا لزيارة جان البروجي في كهفه، فوجداه مستلقيًا فوق القش، قال دون أن يرفع عينيه عما يقرؤه: نعم، من هناك!

– جئنا لنقترح عليك شيئًا يا جان البروجي.

– حسنًا … ماذا؟

واستمر يقرأ.

– هل تعرف أين يقع منزل كوستانزو محصل الضرائب.

– نعم، نعم … ماذا؟ مَن محصل الضرائب هذا؟

تبادل بيل لوري وأوجاسو نظرة ذات معنًى، إذا لم يبعد هذا الكتاب اللعين عن عينيه لن يفهم منهما كلمة واحدة.

– اطوِ الكتاب لحظةً يا جان البروجي واستمع إلينا.

أمسك جان داي بروجي الكتاب بكلتا يديه وقام على ركبتيه، وهو على وشك ضمه إلى صدره مفتوحًا حيث توقف، ثم اجتاحته الرغبة الشديدة في استكمال القراءة، فرفعه، وهو يمسكه بقوة، حتى وضع أنفه بداخله.

واتت بيل لوري فكرة عندما رأى عش عنكبوت وبه عنكبوت كبير. رفع بيل لوري بخفه العش بالعنكبوت فوقه وألقاه فوق جان داي بروجي بين الكتاب وأنفه. نظرًا لأن البائس البروجي قد أصبح مرتخي الأعصاب إلى حد أنه خاف من العنكبوت. شعر فوق أنفه بعقد أقدام العنكبوت، وبتلك الخيوط المتلاصقة، وقبل أن يدرك حقيقة الأمر صرخ فزعًا، وترك الكتاب يسقط من بين يديه وأخذ يلوح بهما أمام وجهه وعيناه تحدقان وهو يبصق من فمه.

ألقى أوجاسو بنفسه أرضًا، ونجح في أن يمسك بالكتاب قبل أن يضع جان البروجي قدمه فوقه.

– أعطني هذا الكتاب. قال جان البروجي محاولًا بإحدى يديه أن يتحرر من العنكبوت والعش، ومحاولًا باليد الأخرى أن ينزع الكتاب من يد أوجاسو.

– لا، أولًا استمع إلينا. قال أوجاسو وهو يخفي الكتاب خلف ظهره.

– كنت أقرأ كلاريسا، أعطني الكتاب! كنت في لحظة حاسمة!

– استمع جيدًا. هذا المساء سننقل حمولة حطب إلى منزل الجابي، وفي الجوال، وبدلًا من أن نضع الحطب سنضعك أنت، وعندما يحل المساء، تخرج من الجوال …

– وأنا أريد أن أنتهي من قراءة كلاريسا! — كان قد نجح في تخليص يديه من بقايا عش العنكبوت وحاول أن يتصارع مع الشابين.

– اسمع … عندما تخرج ليلًا من الجوال، وأنت مسلح بمسدسين، تأخذ من الجابي كل حصيلة الجباية التي جمعها في الأسبوع، والذي يحتفظ بها في الخزانة فوق فراشه …

– على الأقل اتركاني أُكمل نهاية الفصل … كونا لطيفين …!

تذكر الشابان الوقت الذي كان فيه إذا تجرأ أحد واختلف مع جان داي بروجي؛ كان يصوب طلقتين إلى معدته، وشعرا بحنينٍ مر.

– ستأخذ أنت أكياس النقود. حسنًا؟! — أصرَّا بحزن — ستحضرها لنا، ونحن سنعطيك كتابك ويمكنك القراءة كما تشاء. اتفقنا؟ هل ستذهب؟

– لا، لم نتفق، ولن أذهب!

– إذن لن تذهب … آه لن تذهب إذن … انظر ما سنفعله!

وأخذ أوجاسو صفحة من آخر الكتاب، (لا! — صرخ جان البروجي) ونزعها (لا! توقف) كرمشها وألقى بها في النار.

– آه، أيها الكلب! لا يمكنك هذا! لن أعرف أبدًا كيف كانت النهاية، وجرى خلف أوجاسو ليأخذ منه الكتاب.

– إذن ستذهب إلى جابي الضرائب؟

– لا، لن أذهب!

– نزع أوجاسو صفحتين أخريين.

– توقف! لم أقرأ تلك الصفحات! لا يمكنك حرقها!

– كان أوجاسو قد ألقى بهما في النار بالفعل.

– أيها الكلب، كلاريسا، لا …!

– إذن، ستذهب؟

– أنا …

نزع أوجاسو صفحتين أخريين، وألقى بهما في النار. جلس جان البروجي واضعًا رأسه بين يديه، وقال: سأذهب، ولكن عِداني بأن تنتظراني ومعكما الكتاب أمام منزل الجابي.

اختبأ اللص في جوال، وفوق رأسه حزمة من الحطب، وحمل بيل لوري الجوال على كتفيه. وخلفه سار أوجاسو والكتاب في يده. وعندما كان جان داي بروجي — أحيانًا — يُظهر بركلة، أو بعواء من داخل الجوال أنه على وشك أن يندم، كان أوجاسو يسمعه صوت صفحة ممزقة، فكان جان البروجي يلتزم الصمت على الفور.

وبهذه الطريقة أوصلاه وهما متنكران في زي الحطابين إلى داخل منزل جابي الضرائب وتركاه داخله، وذهبا ليختبئا بالقرب منه، خلف شجرة زيتون، منتظرين الساعة التي يجب أن يلحق بهما فيها بعد انتهائه من السطو.

ولكن جان البروجي كان متعجلًا جدًّا، فخرج قبل أن يحل الظلام بينما لا يزال كثير من الناس في المنزل.

– ارفعوا أيديكم إلى فوق.

ولكنه لم يكن كسابق عهده، وبدا ذلك واضحًا عليه، وكان يشعر بأنه سخيف.

– قلت لكم ارفعوا أيديكم … على الجميع في هذه الحجرة أن ينظروا إلى الحائط.

ولكن هيهات، فلم يكن هو نفسه يصدق ما يفعله، فهو يفعل كل هذا لينتهي منه ليس إلا.

– هل أنتم جميعًا هنا؟

ولم ينتبه أن طفلة قد هربت.

على كلٍّ كانت عملية لا يجب أن يفقد فيها دقيقة واحدة، إلا أنهم ماطلوه طويلًا. تظاهر الجابي بالغباء، وبأنه لا يعثر على المفتاح، وأدرك جان البروجي أنهم لم يعودوا يخشونه، وفي أعماقه شعر بالسعادة بما حدث.

وأخيرًا خرج وهو يحمل على ذراعيه أكياسًا مليئة بالنقود، وجرى وهو لا يرى أمامه شيئًا تقريبًا تجاه شجرة الزيتون المتفَق عليها للتسليم.

– إليكم كل ما كان هناك! أعطوني كلاريسا.

وإذا به يجد أربع أذرُع، ثم سبعًا ثم عشرًا قد طوقته لتشل حركته من الكتف حتى القدمين، ورفعته فرقة الشرطة كالبضاعة وهو مربوط كاللحم المجفف.

– سترى كلاريسا في السجن.

وألقوا به في الزنزانة.

كان السجن عبارة عن برج صغير على شاطئ البحر، وتوجد بقعة من أشجار الصنوبر البحري بالقرب منه. ومن قمة شجرة إلى أخرى من تلك الأشجار وصل كوزيمو تقريبًا إلى ارتفاع زنزانة جان البروجي، ورأى وجهه من خلف القضبان.

لم يكن اللص يهتم بأي شيء لا التحقيق ولا المحاكمة، أينما ذهب سيشنقونه في النهاية، ولكن ما يقلقه هو تلك الأيام الخالية التي يقضيها في السجن من دون أن يتمكن من القراءة، وتلك الرواية التي تركها ولم يستطع إتمام قراءتها. نجح كوزيمو في أن يحضر له نسخة أخرى من كلاريسا، وأحضرها له فوق شجرة الصنوبر.

– أين توقفت؟!

– عندما هربت كلاريسا من بيت الدعارة!

أخذ كوزيمو يتصفح الكتاب ثم: آه، ها هي إذن. وبدأ يقرأ له بصوت مرتفع وهو ينظر إلى القضبان التي تتعلق بها يدا جان البروجي!

استمر التحقيق طويلًا، واللص يقاوم حكم الإعدام شنقًا، ولجعله يعترف بكل جرائمه التي لا حصر لها تطلَّب الأمر أيامًا عدة. وهكذا كان كل يوم، قبل التحقيقات وبعدها، يجلس ليستمع إلى كوزيمو وهو يقرأ له. وبمجرد أن انتهت كلاريسا، وعندما شعر به وقد انتابه الحزن، أدرك كوزيمو أن قراءة روايات ريتشاردسون له هكذا وهو في السجن شيء مثير للإحباط، وفضل أن يبدأ في قراءة رواية لفيلدينج؛ لكي يعوضه قليلًا بأحداثها الشيقة المليئة بالحركة عن حريته المفقودة. وفي أيام المحاكمة، لم يكن في ذهن جان البروجي سوى قضايا جوناثان وايلد.

وقبل الانتهاء من الرواية جاء يوم تنفيذ الحكم، وفوق العربة، وبصحبة أحد الرهبان قطع جان البروجي رحلته الأخيرة وهو ما زال حيًّا.

تتم عمليات الشنق في أومبروزا على شجرة بلوط عالية وسط الميدان، واجتمع حوله السكان جميعًا في دائرة.

وعندما وضعوا الحبل حول عنقه، سمع جان البروجي حفيفًا بين الفروع، رفع وجهه فرأى كوزيمو ومعه الكتاب مغلقًا.

فسأله: قل لي كيف انتهى أمره.

أجابه كوزيمو: يؤسفني أن أقول لك يا جان، لقد انتهى الأمر بجوناثان وهو معلق من رقبته.

– أشكرك. ستكون هذه نهايتي أنا أيضا! الوداع!

وركل هو بنفسه السلم وبقي معلقًا من رقبته.

وبمجرد أن سكن جسده انصرفت الجموع ولكن كوزيمو مكث بجواره ممتطيًا الفرع الذي يتدلى منه المشنوق حتى الظلام. وفي كل مرة تقترب الغربان لتقرض عين الميت أو أنفه، يُبعدها كوزيمو بقبعته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤