١٥

وفي ذلك الوقت، ونظرًا إلى أنه كان يتردد إلى الفارس المحامي، أدرك كوزيمو أنه يوجد شيء غريب في تصرفاته، أو من الأفضل أن نقول شيء مختلف عن المعتاد، أكثر أو أقل غرابة من المعتاد. وكأن استغراقه لم يعد بسبب شروده، ولكن بسبب فكرة تسيطر عليه. وتكررت اللحظات التي يبدو فيها ثرثارًا بكثرة. وإذا لم يكن في وقت ما، ونظرًا إلى كونه غير اجتماعي، لا يضع قدميه قط في المدينة، فإنه أصبح الآن موجودًا تقريبًا طوال الوقت في الميناء، وفي التجمعات، أو جالسًا فوق الأسوار مع أصحاب السفن أو البحارة المسنين، معلقًا على وصول المراكب أو رحيلها، وشرور القراصنة.

وعلى المدى البعيد لسواحلنا، ما زالت مراكب قراصنة بلاد المغرب تندفع وتتعرض لتجارنا. وكانت قرصنة الوقت الحالي قليلة الإمكانات، لم تعد مثل ذلك الوقت الذي فيه إذا قابل أحدهم قرصانًا يصبح على الفور عبدًا في تونس أو الجزائر، أو يفقد أنفه وأذنيه. فعندما ينجح العرب، حاليًّا، في الوصول إلى أحد مراكب أومبروزا فإنهم يأخذون حمولتها: براميل البكالا، أنواع مختلفة من الكاشو الهولندي، حزم القطن … وهكذا. وأحيانًا يكون تجارنا أسرع، فيفلتون منهم، ويطلقون طلقة مدفع ضد أشرعة الفلوكة، وكان المغاربة يجيبونهم بصقًا، وبإيماءات سيئة وصراخات.

على كل حال، كان هذا نوعًا من القرصنة البسيطة، والتي استمرت بسبب بعض القروض التي اعتقد الباشا زعيم تلك البلاد أنه يجب أن يطالب بها تجارنا وصانعي السفن، نظرًا إلى أنهم — حسب ما يدعون — لم يحصلوا على خدمة جيدة في بعض الحمولات، بل تم خداعهم أيضًا. فهم بهذا يحاولون أن يصفوا هذا الحساب تدريجيًّا بالسرقات، ولكن في الوقت نفسه استمرت التبادلات التجارية، واستمرت المجادلات والمفاوضات.

لم يكن إذن في مصلحة أي من الطرفين أن يتمسك بفظاظته، ولذلك كان الإبحار زاخرًا بالمفاجئات والمخاطر، إلا أنه لم يتحول قط إلى مآسٍ.

والقصة التي سأنقلها لكم الآن حكاها كوزيمو بطرائق مختلفة، وسأتوقف عند تلك الغنية بالتفاصيل الكثيرة، وأكثرها منطقية. ومع أنني متأكد من أن أخي وهو يحكي مغامراته يضيف إليها الكثير من خياله، أحاول، نظرًا إلى أنه لا توجد لدي مصادر أخرى، أن أتمسك حرفيًّا بما قاله.

في إحدى المرات، رأى كوزيمو، والذي اعتاد بسبب نوبات الحراسة ضد الحرائق أن يسهر ليلًا، ضوءًا يهبط في الوادي. أخذ يتبع هذا الضوء في صمت بين فروع الأشجار بخطواته التي تشبه خطوات القط، ورأى إينيا سيلفيو كاريجا وهو يسير في عجالة بطربوشه وعباءته ممسكًا في يده بمصباح.

ماذا يفعل الفارس المحامي في الخارج في تلك الساعة، وهو الذي اعتاد أن يأوي إلى فراشه مبكرًا كالدجاج؟! عندئذٍ تبعه كوزيمو، وأخذ حذره من أن يصدر أي ضجيج مع أنه يعلم أن العم عندما يسير بهذه الطريقة المتحمسة يصبح أصم، ولا يرى سوى على بعد خطوة واحدة.

وعبر الدروب الجبلية والطرق المختصرة وصل الفارس المحامي إلى شاطئ البحر، في منطقة من الشاطئ مليئة بالحصى، وأخذ يحرك مصباحه. ولم تكن ليلة مقمرة، ويصعب رؤية أي شيء في البحر، فيما عدا حركة زبد الأمواج القريبة. وقف كوزيمو فوق شجرة صنوبر، بالقرب من الشاطئ، إذ الأشجار لا تصل إلى هناك، فليس أمرًا سهلًا الوصول إلى كل مكان من فوق الأشجار. إلا أنه يرى هذا المسن جيدًا وهو يرتدي طربوشه العالي على الشاطئ الخالي محركًا المصباح تجاه ظلام البحر. وفجأة، ومن وسط ذلك الظلام، أجابه ضوء مصباح آخر قريب، وكأنه أُشعل للتو، وطفا بسرعة مركب صغير ذو شراع مربع قاتم اللون ومجاديف، مركب مختلف عن مراكب المنطقة، ووصل إلى الشاطئ.

ورأى كوزيمو، على الأضواء المتموجة للمصابيح، رجالًا يرتدون العمائم على رءوسهم؛ بعضهم مكث في القارب واضعين إياه في محاذاة الشاطئ بضربات ضئيلة من المجاديف؛ وبعضهم الآخر هبط، وكانوا يرتدون سراويل فضفاضة حمراء اللون، ويضعون سيوفًا عريضة على خصورهم. شحذ كوزيمو عينيه وأذنيه. وأخذ العم والبرابرة يثرثرون فيما بينهم، بلغة لم تكن مفهومة، إلا أنها بدت مفهومة في معظم الوقت. من المؤكد أنها كانت اللغة التجارية المشهورة.

ومن حين إلى آخر يفهم كوزيمو كلمة بلغتنا يصر عليها إينيا سيلفيو وهو يضعها في سياق كلمات أخرى غير مفهومة، وكانت تلك الكلمات هي أسماء مراكب، وأسماء مشهورة لمراكب أحادية الصاري أو ثنائية يمتلكها صانعو السفن في أومبروزا، والتي كانت تقوم بجولات مكوكية بين مينائنا وموانئ أخرى.

استطاع أن يدرك على الفور ما يقوله الفارس! فهو يخبر أولئك القراصنة عن أيام رُسوِّ سفن أومبروزا وإبحارها، وبالحمولة التي تحملها، وخط سيرها، وبالأسلحة التي على متنها.

وابتعد عنهم بسرعة، في حين صعد القراصنة على القارب من جديد، واختفوا في البحر المظلم. ومن الواضح من الطريقة السريعة التي أجريت بها المحادثة أنها شيء معتاد. من يدري منذ متى بدأت الهجمات البربرية تحدث في أعقاب إخباريات عمنا.

مكث كوزيمو فوق شجرة الصنوبر، وهو لا يقدر أن يتحرك من مكانه، من ذلك الميناء الخالي. كانت الرياح عاصفة، والأمواج تصطدم بالصخور، وأخذت الشجرة تئن من كل فروعها، وأسنان أخي يصطك بعضها ببعض، ليس بسبب البرد الخارجي؛ ولكن بسبب الصقيع الذي أصابه من ذلك الاكتشاف المحزن. فذلك المسن الخجول والغامض، الذي اعتدنا ونحن صغار أن نحكم عليه بأنه غير محل للثقة، والذي اعتقد كوزيمو أنه تعلم بالتدريج كيف يقدره ويتعاطف معه، يكشف عن حقيقته كخائن لا يمكن التسامح معه، وشخص جاحد لا يتورع عن إيذاء البلد الذي احتضنه كبائس بعد حياة حافلة بالأخطاء.

لماذا؟! ألهذا الحد يدفعه حنينه إلى تلك الأوطان وأولئك الناس الذين لا بد وقد شعر بالسعادة في فترة من فترات حياته، أم أنه يختزن شعورًا بالحقد القاسي تجاه ذلك البلد الذي يحصل فيه على كل لقمة عيش بالهوان. وانقسم كوزيمو بين دافع أن يجري ليعلن خطط الجاسوس، وينقذ بضائع تجارنا، وبين تفكيره في الألم الذي سيشعر به والدنا بسبب تلك العاطفة التي تربطه — بلا مبرر واضح — بأخيه من أبيه. وبالفعل بدأ كوزيمو في تخيل المشهد؛ الفارس والقيود في يديه يسير وسط الضباط، بين صفين من أهل أومبروزا يكيلون له السباب، ويقودونه إلى الميدان، ويضعون له حبل المشنقة في رقبته، ثم يشنقوه …

وكان كوزيمو قد أقسم بعد أن شهد موت جان البروجي بأنه لن يحضر مرة أخرى تنفيذ حكم بالشنق، وإذ به يجد نفسه يحكم بالإعدام على أحد أقاربه!

وأخذت هذه الفكرة تعذبه الليلة كلها، واستمر الحال في اليوم التالي، وهو يعبر بغضب من فرع إلى آخر، ويركل بقدمه، أو يرفع نفسه بذراعيه، أو يتزحلق بين الجذوع مثلما يفعل دائمًا عندما يقع فريسة لفكرة ما. وأخيرًا اتخذ قراره، واختار حلًّا وسطًا؛ وذلك بأن يخيف القراصنة وعمه، ومن ثم يقطعون تلك العلاقة الآثمة من دون الحاجة إلى تدخل العدالة. سيختبئ على شجرة الصنوبر تلك في الليل، ومعه ثلاث أو أربع بنادق معبأة؛ وعندما يلتقي الفارس القراصنة سيبدأ هو في إطلاق نيران بنادقه، الواحدة تلو الأخرى، جاعلًا الطلقات تمر من فوق رءوسهم. وبمجرد سماعهم لتلك الطلقات سيفر القراصنة والعم كل منهم في طريقه.

أما الفارس، الذي لم يكن بالتأكيد رجلًا شجاعًا، فإنه بعد أن ينتابه الشك أن شخصًا ما قد كشف أمره، ومن ثم يتأكد أن هناك من راقب تلك المقابلات على الشاطئ، سيتوخى الحذر ولن يعود مرة أخرى إلى علاقته مع طاقم القراصنة العرب.

وبالفعل، انتظر كوزيمو ومعه بنادقه المعدة للإطلاق فوق شجرة الصنوبر ليلتين متتاليتين. ولم يحدث أي شيء، وها هو المسن، في الليلة الثالثة، مرتديًا طربوشه يهرول متعثرًا في حصى الشاطئ، ويبدأ في إعطاء الإشارات بالمصباح، وها هو المركب يرسو وبه البحارة ذوو العمائم.

استعد كوزيمو واضعًا إصبعه على الزناد، إلا أنه لم يطلق النيران؛ لأن في هذه المرة بدا كل شيء مختلفًا. وبعد قليل من المداولات قام اثنان من القراصنة من جهة الشاطئ بالإشارة تجاه المركب، وبدأ الآخرون في تفريغ أشياء: براميل وصناديق، حزمًا وأجولة، إجانات ونقالات مليئة بالجبن. ولم يكن مركبًا واحدًا، بل كانت مراكب كثيرة، وجميعها محملة بالبضائع، وانطلق صف من مرتدي العمائم من الشاطئ يسبقهم عمنا، والذي كان يقودهم بخطواته غير الواثقة حتى وصلوا إلى مغارة وسط الصخور. وهناك وضع العرب كل بضائعهم، ومن المؤكد أنها ثمار سرقاتهم الأخيرة.

لماذا إذن يحضرونها إلى الشاطئ؟! فيما بعد سهل إعادة صياغة الأحداث: نظرًا إلى أن فلوكة المغاربة كان عليها أن ترسو في واحد من موانينا (بسبب إحدى الاتفاقيات القانونية والتي تمت بينهم وبيننا عادة في وسط عمليات السرقة)، ونظرًا إلى أنهم لا بد وأن يخضعوا للتفتيش الجمركي، احتاجوا أن يخفوا البضائع المسروقة في مكان أمين، ليأخذوها بعد ذلك في طريق العودة. وهكذا تثبت السفينة براءتها فيما يتعلق بالسرقات الأخيرة، ومن ثم يوطدون العلاقات التجارية مرة أخرى مع بلدنا.

كل هذه الخلفية عُرفت بوضوح فيما بعد. ولكن في لحظة الحدث نفسها لم يتوقف كوزيمو ليطرح على نفسه أسئلة، فكنز القراصنة مخبأ في مغارة، وسيعود القراصنة إلى مراكبهم ويتركونه هناك، ولا بد من الاستيلاء عليه في أقرب فرصة. ولوهلة فكر أخي أن يذهب ليوقظ تجار أومبروزا، فلا بد وأنهم المُلَّاك الشرعيون للبضائع، إلا أنه سرعان ما تذكر أصدقاءه الفحامين الذين يعانون الجوع في الغابة مع عائلاتهم. ولم يتردد: جرى بين الفروع متجهًا إلى المناطق التي فيها ينام القادمون من بيرجامو في أكواخ خشنة، في الساحة الممهدة بتراب رمادي اللون.

– هيا بسرعة! تعالوا جميعًا! لقد اكتشفت كنز القراصنة!

وتحت الخيام وأسقف الأكواخ بدأ انطلاق أصوات الأنفاس، واندفاعات وسباب، وفي النهاية أصوات تعجب وأسئلة: ذهب؟ فضة؟

قال كوزيمو: لم أرَ جيدًا، ولكن من الرائحة أعتقد أنها كمية من الأسماك المجففة وجبن الماعز.

وعند سماع تلك الكلمات قام كل الرجال في الغابة، من لديه بنادق أخذها، وآخرون أخذوا فئوسًا وأسياخًا، معاول ومجارف، ولكنهم أخذوا معهم أيضًا آنية ليضعوا فيها الأشياء، بل أخذوا معهم أيضًا سلال الكربون المتسخة والأكياس السوداء.

وانطلق موكب كبير، وتعالت الصيحات: هورا، هوتا، حتى النساء أخذن يهبطن والسلال الفارغة فوق رءوسهن، والصبية وهم يضعون الأكياس فوق رءوسهم ممسكين بالمصابيح. تقدمهم كوزيمو من فوق شجرة صنوبر في الغابة، إلى شجرة زيتون، ومن شجرة زيتون إلى شجرة صنوبر بحرية.

وبينما هم على وشك الالتفاف حول منحنى الصخرة التي خلفها تفتح المغارة، ظهر على قمة شجرة تين معوجة ظل أبيض لقرصان، رفع حسامه، وصاح محذرًا الآخرين. وبقليل من القفزات أصبح كوزيمو على فرع فوقه تمامًا وسدد سيفه إلى رئته حتى ألقى الأخير بنفسه من الجرف.

وفي المغارة وجدوا اجتماعًا لرؤساء القراصنة (ولم يكن كوزيمو قد انتبه، في البداية في أثناء عملية الذهاب والإياب لتفريغ البضائع، أنهم مكثوا هناك). وعندما سمعوا صراخ الحارس خرجوا ووجدوا أنفسهم محاصرين من شرذمة الرجال والنساء المصبوغين برواسب الدخان على وجوههم، يرتدون أكياسًا على رءوسهم، ومسلحون بالمجارف. رفعوا سيوفهم، وألقوا بأنفسهم للأمام محاولين فتح ممر. وهكذا بدأت المعركة: هورا! هوتا! إن شاء الله!

كان عدد الفحامين أكثر، ولكن القراصنة مسلحين، إلا أنه لا يوجد شيء أفضل في مواجهة الحسام من المجارف. وتعالت أصوات الاصطدام: دنج! دنج! وبدأت أنصال المغاربة تتراجع وقد تعرجت. أما البنادق القديمة فقد سببت دويًّا ودخانًا ثم لاشيء. وبعض القراصنة أيضًا (من الواضح أنهم ضباط) كانت لديهم بنادق تبدو جميلة جدًّا بمجرد رؤيتها، فجميعها فاخرة، ولكن في المغارة أصابت الرطوبة أحجار الاشتعال وأصبحت بلا فائدة. وكان الأذكى بين الفحامين يحاولون أن يسببوا الدوار للضباط من القراصنة بضربات من المجارف على رءوسهم لينزعوا منهم بنادقهم. ولكن بسبب العمائم التي فوقها وصلت كل ضربة إلى هؤلاء المغاربة خفيفة وكأنها من على وسادة، وبدا من الأفضل ضربهم بواسطة الركب في معدتهم لأن بطونهم كانت عارية.

نظرًا إلى أن الشيء الوحيد المتوافر بكثرة كان الحصى، أخذ الفحامون يلقون عليهم بالحجارة. عندئذ، بادلهم العرب الضربات. وأخيرًا، وبفضل الحصى، اتخذت المعركة شكلًا منظمًا، ولكن نظرًا إلى أن الفحامين كانوا يرغبون في دخول المغارة منجذبين إلى روائح السمك المجفف التي تنبعث منها، والمغاربة يحاولون أن يهربوا تجاه قاربهم الراسي على الشاطئ، لم يكن بين الجانبين دوافع عظيمة للتقاتل. وعند لحظة معينة حدث هجوم من أهل برجامو فتح لهم مدخل المغارة، ومن جهة العرب كانوا ما زالوا يقاومون أسفل تساقط الحصى، بمجرد أن رأوا أن الطريق إلى البحر أصبح خاليًا تساءلوا: ولماذا إذن يقاومون؟ من الأفضل أن يرفعوا شراعهم ويرحلوا.

وبمجرد أن وصلوا إلى المركب الصغيرة، فرد الشراع ثلاثة من القراصنة، جميعهم ضباط نبلاء. بقفزة من شجرة صنوبر قريبة من الشاطئ ألقى كوزيمو بنفسه على الشجرة، وتعلق بعارضة السارية، ومن فوق، ومستندًا إلى ركبتيه أشهر سيفه، ورفع القراصنة الثلاثة أحسمتهم، أما أخي فبضربات من اليمين ومن اليسار أوقف ثلاثتهم. أخذت السفينة الراسية تتأرجح يمينًا ويسارًا، وفي هذه اللحظة ظهر القمر فأضاء السيف الذي منحه البارون لابنه، وأضاء أيضًا أنصال سيوف العرب. تزحلق أخي إلى أسفل السارية وغرس سيفه في صدر أحد القراصنة الذي سقط في الماء، وبسرعة السحلية صعد مدافعًا عن نفسه بصد ضربتين من الآخرين، ثم هبط مرة أخرى وطعن الثاني، ثم صعد من جديد وتبادل المبارزة قليلًا مع الثالث، وبانزلاقة أخرى طعنه.

كان القراصنة الثلاثة ممددين على الشاطئ نصفهم في المياه والنصف الآخر خارجها، وذقونهم مليئة بالأعشاب البحرية. أما القراصنة الآخرون في مدخل المغارة فلقد غشي عليهم من ضربات الحصى والمعاول. أما كوزيمو فأثناء تعلقه بسارية المركب، وهو ينظر حوله بانتصار، رأى الفارس المحامي يقفز خارجًا من المغارة وكأنه قطة حُرق ذيلها، حيث مكث حتى هذه اللحظة مختبئًا بالداخل. أخذ يجري تجاه الشاطئ ورأسه منحنٍ، ودفع القارب مبتعدًا به عن الشاطئ، وقفز بداخله، وأمسك بمجدافيه وأخذ يجدف بهما بكل قوته مبحرًا تجاه عرض البحر.

أخذ كوزيمو يصرخ وهو متعلق بالعارضة: أيها الفارس! ماذا تفعل! هل أصابك الجنون، عد إلى الشاطئ، إلى أين نحن ذاهبون؟! ولكن هيهات. بات واضحًا أن إينيا سيلفيو كاريجا يريد الوصول إلى سفينة القراصنة ليحتمي بها، فلقد اكتشفت خيانته التي لا تغتفر، وإذا مكث على الشاطئ سينتهي أمره فوق حبل المشنقة بالتأكيد. وهكذا أخذ يجدف ويجدف. أما كوزيمو، فمع أنه ما زال واقفًا وسيفه يقطر دمًا في يده ومع أن المسن أعزل وضعيف، إلا أنه لم يكن يعرف ماذا يجب أن يفعل. في نهاية الأمر يؤسفه أن يستخدم العنف ضد عمه، ثم إنه لكي يصل إليه لا بد أن يهبط من فوق السارية، ومسألة أن ينزل على مركب تساوي نزوله على الأرض، أو أن فكرة مخالفته بالفعل قوانينه الداخلية بأن يقفز من شجرة بجذور إلى سارية مركب كانت أمرًا مركبًا جدًّا ليطرحه أمام نفسه في تلك اللحظة. هكذا لم يفعل أي شيء بل جلس على سارية المركب واضعًا قدمًا في ناحية وأخرى في الناحية الأخرى، وترك نفسه ليذهب مع الأمواج ورياح خفيفة ترفع الشراع، ولم يتوقف الشيخ عن التجديف.

سمع نباحًا، وغمرته السعادة، كان كلبه ماسيمو أُتيمو، والذي اختفى أثناء المعركة مختبئًا في مؤخرة القارب، يهز ذيله وكأن لا شيء يحدث. وأخذ كوزيمو يفكر، ففي نهاية الأمر لم يكن هناك شيء مؤلم إلى هذا الحد؛ كان في وسط عائلته، مع عمه، وكلبه يبحر في قارب، وهو الأمر الذي يعد متعة مختلفة بعد الأعوام العديدة التي عاشها وسط الأشجار.

انعكس ضوء القمر على صفحة المياه، وقد أنهك الشيخَ التعب، فأخذ يجدف بصعوبة وهو يبكي، ثم أخذ يقول: آه يا زهيرة، آه، آه يا الله … زهيرة … آه زهيرة … إن شاء الله … وهكذا تكلم بالتركية، بلا تفسير، وهو يردد بين دموعه اسم هذه المرأة، وهو اسم لم يسمعه كوزيمو قط من قبل. سأله: ماذا تقول أيها الفارس؟ ماذا أصابك؟ أين نحن ذاهبون؟!

أخذ الشيخ يقول: زهيرة … آه … زهيرة … الله، الله …

– مَن زهيرة هذه أيها الفارس؟ هل تعتقد أننا ذاهبون إلى زهيرة من هنا؟

فأومأ إينيا سيلفيو كاريجا برأسه بالإيجاب، وأخذ يتحدث بالتركية بين دموعه ويصرخ للقمر بهذا الاسم.

وحول زهيرة تلك بدأ ذهن كوزيمو على الفور في تدوير الافتراضات. ربما أوشك أن يكتشف أعمق سر لذلك الرجل الزاهد والغامض. إذا كان الفارس بذهابه تجاه سفينة القراصنة ينوى اللحاق بزهيرة تلك، ربما تعلق الأمر إذن بامرأة في تلك البلاد العثمانية. ربما الحنين إلى تلك المرأة هو الذي سيطر على حياته كلها. ربما هي صورة السعادة المفقودة التي طالما بحث عنها في تربية النحل، أو في حفر قنوات المياه. ربما كانت حبيبة، عروس تركها هناك، في حدائق بلاد ما وراء البحار، أو ربما ابنته، ابنة لم يرها منذ طفولتها. ربما بغرض البحث عنها حاول لأعوام كثيرة أن يعقد علاقات مع أية سفينة تركية أو عربية تصل إلى موانينا، وربما نقلوا إليه أخبارها. وربما عرف أنها أصبحت عبدة، وأنه لكي يحررها عرضوا عليه أن يزودهم بمعلومات عن رحلات سفن أومبروزا. أو ربما كان هذا هو الثمن الذي دفعه هو ليضموه مرة أخرى بينهم، وليبحر معهم إلى بلد زهيرة.

والآن، وبعد أن انكشفت مؤامرته، أصبح مجبرًا على الهرب من أومبروزا، وهؤلاء المغاربة لا يمكنهم الآن أن يرفضوا اصطحابه معهم ليصل إليها. وفي أحاديثه الدهشة والمتقطعة تتضارب نبرات الأمل مع التوسل والخوف أيضًا؛ الخوف من أنه ليس الوقت المناسب، وأن هناك كارثة أخرى في انتظاره لتبعده مرة أخرى عن المخلوقة التي يتمناها. ولم يعد في استطاعته أن يدفع المجدافين أكثر من ذلك، عندما اقترب ظل ما، قارب آخر بربري. ربما سمعوا من السفينة ضوضاء المعركة على الشاطئ فأرسلوا مستكشفين.

هبط كوزيمو إلى منتصف سارية السفينة، ليختبئ خلف الشراع. بدأ الشيخ يصرخ بلغته أن يأخذوه، وأن يصعدوه إلى السفينة، ومد إليهم ذراعيه. وفي الواقع لبوا طلبه؛ فبمجرد أن اقترب منهم، أمسكه اثنان من الإنكشاريين المعممين من كتفيه ورفعاه إلى فوق حيث إنه كان خفيف الوزن، وأدخلاه قاربهما. أما القارب الذي يقبع كوزيمو فوقه فقد ابتعد بسبب الاصطدام، وأبعدت الرياح الشراع بعيدًا، وهكذا نجا أخي من موت محقق.

وبابتعاده بفضل الرياح، أخذت تصل إلى كوزيمو من قارب القراصنة أصوات وكأنها الصدى. كلمة نطقها العرب والتي بدت مثل: نذل! وصوت الشيخ، والذي كان يسمعه يردد مثل الأبله: آه، زهيرة! ولم تدع الأصوات مجالًا للشك أنه جاء دور الفارس. من المؤكد أنهم اعتبروه مسئولًا عن غزو المغارة، وفقدان الغنيمة، وموت أتباعهم، ويتهمونه بالخيانة …

ثم سمع صرخة، أعقبها سقوط جسم في المياه، ثم الصمت. وتذكر كوزيمو صوت أبي، بوضوح وكأنه يستمع إليه، عندما يصرخ: إينيا سيلفيو، إينيا سيلفيو … وهو يتبع أخاه في الحقول، وأخفى وجهه في الشراع.

صعد مرة أخرى إلى قمة الصاري، ليرى إلى أين يتجه المركب، ولكن رأى شيئًا طافيًا في وسط المياه وكأن الرياح تحمله، شيء ما، شيء وكأنه علامة طافية، ولكن علامة لها ذيل … وهبط فوقها شعاع من ضوء القمر، ورأى أنها ليست شيئًا، بل رأس، رأس فوقها طربوش بخصلة، وتعرف تحته على الوجه المنعكس للفارس المحامي الذي كان ينظر نظرته الشاردة المعتادة، وفمه مفتوح، وكان باقي جسمه بداية من ذقنه غير ظاهر تحت المياه، وصرخ كوزيمو: أيها الفارس! أيها الفارس! ماذا تفعل؟ لماذا لا تصعد إلى القارب؟ اقترب من القارب! الآن سأجذبك! أيها الفارس!

ولكن العم لم يكن يجيبه؛ أخذ يطفو ويطفو ناظرًا إلى أعلى بتلك النظرة الشاردة وكأنه لا يرى شيئًا.

وقال كوزيمو: هيا … هيا يا ماسيمو أُتيمو! ألق بنفسك في المياه! أمسك الفارس من ياقته! أنقذه! أنقذه!

قفز الكلب المطيع، وحاول أن يمسك بأسنانه الياقة ولكنه لم يتمكن، فأمسكه من لحيته.

كرر كوزيمو بإصرار: من ياقته يا ماسيمو أُتيمو، قلت لك من ياقته، ولكن الكلب رفع الرأس ممسكًا باللحية ودفعها حتى متن القارب، ورأى كوزيمو أنه لا وجود لياقة، بل لم يعد هناك جسد، مجرد رأس، رأس إينيا سيلفيو كاريجا والتي قُطعت بضربة حسام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤