٢
كان كوزيمو فوق شجرة البلوط، بينما الأغصان تتحرك كأنها جسور عالية فوق الأرض، وتهب رياح خفيفة، والشمس ساطعة، ويعبر ضوء الشمس بين الأوراق. ولكي نرى كوزيمو كان علينا أن نظلل على أعيننا بأيدينا. وكوزيمو يراقب العالم من فوق الشجرة. كل شيء يراه من فوق يبدو مختلفًا، وكان ذلك في ذاته شيئًا مسليًا؛ فالطريق الممهد منظره مختلف تمامًا، وكذلك المروج الصغيرة، وأزهار الكوبية، وأزهار الكاميليا، والمائدة الصغيرة الحديدية التي نتناول عليها القهوة في الحديقة. وكلما ارتفع إلى أعلى قلت أوراق الأشجار تدريجيًّا، تنحدر الخميلة وتنقسم إلى حقول مدرجة تدعمها حوائط من الأحجار، ظهرها قاتم اللون بسبب أشجار الزيتون؛ وفي الخلف مساكن أومبروزا، تظهر منها أسقفها المصنوعة من الطوب الشاحب اللون وحجر الأرديزيا، وتظهر أيضًا سواري السفن البعيدة حيث يوجد الميناء، وفي النهاية البحر الممتد إلى ما وراء الأفق، حيث يبحر فيه ببطء زورق شراعي.
وها هما البارون والجنرالة يخرجان إلى الحديقة بعد تناول القهوة. ينظران إلى شجرة ورد في محاولة للامتناع عن الاهتمام بكوزيمو. كل منهما يتأبط ذراع الآخر، ثم سرعان ما انفصلا ليتناقشا ويتشاورا. أما أنا فلقد ذهبت إلى أسفل البلوطة، وكأنني ألعب وحدي، ولكنني في الحقيقة أحاول أن ألفت انتباه كوزيمو؛ ولكنه كان لا يزال غاضبًا مني، وبقي فوقًا ينظر إلى بعيد. توقفت عن اللعب، واختبأت خلف أحد المقاعد لأتمكن من الاستمرار في مراقبته من دون أن يراني أحد.
يقف أخي كالديدبان، ينظر إلى كل شيء، وكل شيء كان كلاشيء. بين أشجار الليمون تمر سيدة تحمل سلة. ثم بغَّال يصعد المهبط وهو ممسك بذيل البغل. لم يرَ أحدهما الآخر. استدارت المرأة عندما سمعت أصوات حدوات البغل، وخرجت تجاه الشارع، ولكن الوقت لم يسعفها. عندئذٍ بدأت في الصياح، ولكن البغَّال عبَر المنعطف، فاسترق السمع، وأعمل السوط، وصاح في البغل: آه …! وانتهى الأمر. وكوزيمو يرى هذا وذاك.
وفي الطريق مر الأب فوشيلافلور ومعه كتاب الصلوات مفتوحًا. أخذ كوزيمو شيئًا من الفرع وتركه يسقط على رأسه. لم أفهم ماذا كان، ربما عنكبوت، أو ربما شظية من لحاء الشجرة؛ لكنها لم تُصبه. أخذ كوزيمو ينقب بسيفه في فتحة في الجذع، فخرج منه دبور غاضب، فأخذ هو يطرده بعيدًا بقبعته ذات القرون الثلاثة، وأخذ يتتبع طيرانه بنظره حتى وصل إلى نبات القرع، وهناك اختفى. وكعادته، خرج الفارس المحامي من المنزل بسرعة، عابرًا من خلال سلالم الحديقة، واختفى بين صفوف الكرم. وليرى كوزيمو إلى أين يتجه؛ تسلق على فرع آخر. ومن بين الأوراق، سمع صوت رفرفة أجنحة، وارتفع طائر الشحرور إلى السماء. استاء كوزيمو كثيرًا لأنه يقف كل هذا الوقت ولم ينتبه لوجوده. وأخذ ينظر — بالرغم من أشعة الشمس — هل توجد طيور أخرى أو لا، ولكن لم يجد شيئًا.
تقع شجرة البلوط بالقرب من شجرة دردار، وقمَّتا الشجرتين متلامستان. حيث فرع الدردارة يعبُر فوق أحد فروع الشجرة الأخرى بنحو نصف متر، ومن السهل على أخي أن يعبر ليحتل أيضًا قمة الدردارة، التي لم نقم قط باكتشافها، نظرًا إلى أنها تقع فوق درج مرتفع، ولا يمكن تسلقها من الأرض. ومن فوق شجرة الدردار، وفي محاولته المستمرة للبحث عن فرع قريب من فروع شجرة أخرى، وصل فوق شجرة خروب، ثم إلى شجرة توت. وهكذا رأيت كوزيمو وهو يتقدم من فرع إلى آخر، وهو يسير معلقًا فوق الحديقة.
بعض فروع شجرة التوت الضخمة تصل وتعبر فوق السور المحيط بفيلتنا، حيث تقع حديقة عائلة أونداريفا. ومع أنها على حدود منزلنا، فإننا لا نعرف شيئًا عن مركيزات عائلة أونداريفا، ونبلاء أومبروزا؛ فقد كانوا، منذ أجيال عديدة، يتمتعون ببعض الحقوق الإقطاعية، التي يطالب بها أبي، ففصَل نوع من الحقد المتبادل بين العائلتين، كما يفصل السور المرتفع الذي يبدو مثل برج حصن بين فيلتينا، ولا أعرف هل بناه المركيز أم والدنا. وبالإضافة إلى ذلك الحرص الشديد الذي تحيط به عائلة أونداريفا بحديقتها، والتي — حسبما يقال — زاخرة بأنواع من النباتات لم ترها عين. في الواقع، استحث جد المركيز الحاليين، تلميذ لينيو، عائلته كثيرة العدد وأقاربه الذين كانوا يعيشون في بلاطَي فرنسا وإنجلترا، ليرسلوا إليه بأثمن النباتات الموجودة في المستعمرات وأندرها، ولسنوات عديدة تُنزل السفن ما على متنها من أجولة حبوب، وحِزم من الشتلات، وشجيرات في أصص، بل تنزل أشجارًا كاملة تحيطها طبقة من الطمي حول جذورها إلى أومبروزا حتى أصبحت تلك الحديقة — كما يقولون — خليطًا من غابات الهند والأمريكيتين، بل من غابات هولندا الجديدة أيضًا. وكل ما نستطيع رؤيته هو ظهور بعض الأوراق قاتمة اللون على حافة السور، من أوراق شجرة تم استيرادها حديثًا من المستعمرات الأمريكية، وهي شجرة المجنوليا، ومن فروعها السوداء تبرز أزهار سميكة بيضاء اللون. ومن فوق شجرة التوت وصل كوزيمو إلى حافة السور، وسار بضع خطوات محافظًا فيها على توازنه، ثم قفز إلى الناحية الأخرى حيث توجد أوراق المجنوليا وأزهارها. ومن هنا اختفى عن ناظري، وما سأقوله الآن، مثل كثير من الأشياء التي سأقصها عن حياته، رواه لي هو فيما بعد، أو استطعت أنا الوصول إليه من خلال شواهد متناثرة، ومن خلال استنتاجاتي الخاصة.
وقف كوزيمو على شجرة المجنوليا. وبالرغم من كثافة فروع تلك الشجرة، إلا أنها بمثابة طريق ميسور بالنسبة إلى صبي خبير بكل أنواع الأشجار مثل أخي؛ تتحمل الفروع ثقله، مع أنها ليست كبيرة، وكان خشبها رقيقًا إلى درجة أن طرف حذاء كوزيمو يقشرها، ويفتح جروحًا بيضاء في جذعها الأسود؛ وأحاطت بالصبي رائحة الأوراق العطرة الطازجة، كلما حركتها الرياح، وغيرت من درجات لونها الأخضر من اللون القاتم تارة إلى اللون اللامع تارة أخرى.
ولكن الحديقة كانت كلها معبأة بالروائح، ومع أن كوزيمو لم ينجح بعد في أن يتجول فيها بناظريه — نظرًا لكثافتها غير العادية — إلا أنه أخذ يكتشفها بحاسة الشم، وحاول أن يميز بين الروائح المختلفة، مع أنها معروفة له لأن الرياح عادة ما تحملها حتى تصل إلى حديقتنا، وكانت تبدو لنا شيئًا لا ينفصل عن سر تلك الفيلا. ثم أخذ ينظر إلى الأغصان ويرى أوراقًا جديدة، الأوراق الضخمة اللامعة، وكأنها تجري فوق سطح مائي، حيث بدت دقيقة الحجم ومدببة، والجذوع جميعًا ملساء أو مغطاة بالنتوءات.
في حين يلف الصمت كل شيء، سمع صوت رقيق يغني: آه لا لا … آه يا لها من أرجوحة … نظر كوزيمو إلى أسفل، وهناك، وفوق فرع شجرة قريبة كبيرة تجلس طفلة عمرها نحو عشر سنوات على أرجوحة معلقة.
طفلة شقراء، بتسريحة شعر مرتفعة، غربية بعض الشيء بالنسبة إلى طفلة، وترتدي فستانًا سماوي اللون، وهذا أيضًا جعلها تبدو أكبر من سنها، وتنورة مليئة بالدانتيلا. تنظر الطفلة بعينين شبه مغلقتين وأنف مرتفع في الهواء، وكأنها تريد أن تظهر بمظهر المرأة النبيلة، وتقضم تفاحة بفمها وهي تحني — في كل مرة — رأسها تجاه يدها التي تمسك بحبل الأرجوحة والتفاحة في الوقت نفسه، وتدفع نفسها إلى أعلى بأن تضغط بطرف حذائها على الأرض في كل مرة تصل الأرجوحة إلى أقرب نقطة من حركتها إلى الأرض، وتتفل من فمها بقايا قشرة التفاحة التي قضمتها وتغني: آه لا لا لا … آه من الأرجوحة … وكأنها فتاة لا يهمها شيء، لا الأرجوحة، ولا الأغنية، ولا حتى التفاحة، وأن لديها أفكارًا أخرى في رأسها.
نزل كوزيمو من قمة المجنوليا إلى أكثر المناطق قربًا إلى الأرض ووقف بقدميه، واحدة هنا وواحدة هناك، على فرعين، ويسند مرفقيه إلى فرع قبالته وكأنه يقف أمام شباك. وتدفع حركة الأرجوحة بالطفلة بالقرب من وجهه.
لم تكن هي منتبهة، ولم تدرك وجوده. وفجأة رأته يقف مرتديًا قبعته ثلاثية القرون وغطاء الكاحل وقالت: آه!
وسقطت التفاحة من يدها، وتدحرجت أسفل الأرجوحة، فاستل كوزيمو سيفه الصغير، وانحنى إلى أسفل من الفرع الأخير، ووصل إلى التفاحة بطرف سيفه وغرسه فيها وأمسك بها وقدمها للطفلة التي كانت في ذلك الوقت قد دارت دورة كاملة بالأرجوحة وعادت بالقرب منه من جديد: خُذيها. لم تتسخ، انسحقت قليلًا من أحد جوانبها.
ندمت الطفلة الشقراء بالفعل لأنها أظهرت كل هذه الدهشة أمام ذلك الصبي المجهول الذي ظهر فوق المجنوليا، واستعادت على الفور شعورها بالاعتزاز ورفعت أنفها إلى أعلى وقالت: هل أنت لص؟!
– لص؟! شعر كوزيمو بالإهانة، ثم فكر قليلًا في الأمر، فأعجبته الفكرة. وقال وهو يُسقط قبعته ثلاثية القرون على جبهته: نعم أنا كذلك. هل هناك اعتراض؟!
– وماذا تريد أن تسرق؟!
نظر كوزيمو إلى التفاحة التي غرسها بسيفه الصغير، وخطر بباله أنه يشعر بالجوع، وأن يديه لم تمتدَّا إلى الطعام على المائدة فقال: هذه التفاحة. وبدأ يقشرها بنصل السيف الصغير الحاد الذي يمسكه بغض النظر عن الممنوعات العائلية.
قالت الفتاة: أنت إذن لص فاكهة.
فكر أخي في شرذمة الصبية الفقراء في أومبروزا، الذين يتسلقون الأسوار والسياج ويسرقون حدائق الفاكهة، وهم نوع من الصبية تعلَّم أن يحتقرهم وأن يبتعد عنهم، ولأول مرة فكر كيف يمكن أن تكون حياتهم حياة حرة يُحسَدون عليها. إذن: يمكنه هو أيضًا أن يصبح مثلهم ويعيش بهذه الطريقة من الآن فصاعدًا، قال: نعم. وقد شطر التفاحة إلى أقسام وبدأ يلتهمها.
انفجرت الفتاة الشقراء في ضحكٍ استمر دورة الأرجوحة الكاملة من أعلى إلى أسفل.
– لتلعبْ بعيدًا! فأنا أعرف الصبية الذين يسرقون الفاكهة معرفة جيدة فهم جميعًا أصدقائي! وهم يسيرون حفاة، بقمصان بلا أكمام، شعثًا، ولا يرتدون مثلك غطاء للكاحل وشعرًا مستعارًا!
تحول وجه أخي إلى اللون الأحمر مثل قشرة التفاحة، فقد سخرت منه ليس فقط بسبب الباروكة، والتي لم يكن يتمسك بها البتة؛ ولكن أيضًا بسبب غطاء الكاحل الذي يعتز به جدًّا، وأيضًا لأنه تم الحكم عليه بأن مظهره أقل من لص فاكهة، أي أنه لا ينتمي إلى تلك الزمرة التي احتقرها قبل دقيقة واحدة، وبالأخص لأنه اكتشف أن هذه الآنسة الصغيرة التي تتظاهر بأنها سيدة الحديقة، والتي تنتمي إلى عائلة أونداريفا، صديقة لأولئك اللصوص وليست صديقته، كل هذه الأشياء مجتمعة ملأته بالضيق والخجل والغيرة.
وأخذت الصغيرة تغني من فوق الأرجوحة: أه لا لا لا … بالكاحل والباروكة.
أما هو فقد انتابته رغبة في استعادة كبريائه فصرخ: أنا لست لصًّا مثل أولئك الذين تعرفينهم! بل أنا لست لصًّا البتة! قلت هذا فقط حتى لا أخيفك! لأنك لو عرفت من أنا بالفعل لمتِّ من الفزع، فأنا قاطع طريق! قاطع طريق خطير!
استمرت الفتاة في الارتفاع بالأرجوحة قريبًا من وجهه، بل يمكن القول إنها أرادت أن تلمسه بطرفَي قدميها.
– فلتذهب بعيدًا! وأين إذن بندقيتك! كل قُطاع الطرق لديهم بنادق! أو مجانيق! لقد رأيتهم! فلقد أوقفوا عربتنا خمس مرات في رحلاتنا من القصر إلى هنا!
– لكن زعيمهم لا! لأني زعيمهم! زعيم قطاع الطرق ليس لديه بندقية! لديه فقط السيف. وشهر سيفه.
هزت الفتاة كتفيها وشرحت: إن زعيم عصابة قطاع الطرق يُدعى جان داي بروجي، وهو يأتي دائمًا ليقدم لنا الهدايا في عيد الميلاد وعيد الفصح.
– آه! صرخ متعجبًا كوزيمو دي روندو، وقد انتابته موجة تعالٍ عائلية: إذن أبي على حق عندما يقول إن مركيز أونداريفا هو الذي يحمي قُطاع الطرق واللصوص في المنطقة!
اقتربت الصغيرة من الأرض، وبدلًا من أن تدفع نفسها بقدميها أوقفت الأرجوحة بلمسة سريعة وقفزت من فوقها. وأخذت الأرجوحة تطير وهي تهتز في الهواء، قالت له وهي تشير بإصبعها إلى الصبي في غضب شديد: انزل من فورك إلى هنا! كيف سمحت لنفسك بدخول أرضنا؟
قال كوزيمو بحمية الغضب نفسها: أنا لم أدخل، ولن أنزل. لم أضع قط قدمًا على أرضكم، ولا أنوي فعل ذلك ولو في مقابل ذهب العالم كله!
عندئذ، وبهدوء شديد، أخذت الفتاة مروحة موضوعة على مقعد من الخيرزان، ومع أن الجو لم يكن شديد الحرارة، إلا أنها أخذت تحركها وهي تسير ذهابًا وإيابًا.
وقالت بكل هدوء: والآن سأستدعي الخدم، وسآمرهم بأن يمسكوك وبضربك بالعصا. وهكذا ستتعلم ألا تدس أنفك في أرضنا مرة أخرى! وكانت هذه الفتاة تغير من نبرتها سريعًا، وفي كل مرة يتلعثم أخي أمامها.
صرخ كوزيمو: حيث أوجَد الآن ليس أرضكم، ولا أملاككم!
وراودَته نفسه أن يضيف: ثم إنني دوق أومبروزا، وسيد هذه الأرض كلها!
ولكنه تراجع؛ لأنه لم يكن يحب تكرار الأشياء التي يرددها أبوه دائمًا، خاصة وقد هرب لتوه من المائدة بعد مشاجرة معه، ولم يكن يعجبه، بل لم يبدُ له شيئًا صحيحًا، لأن المطالبة بالدوقية تلك بالنسبة إليه مجرد فكرة متسلطة؛ فكيف إذن يضع نفسه — كوزيمو — في موقف تفاخر من كونه دوقًا؟ ولكنه لم يرغب في أن يكذِّب نفسه، فاستمر في الحديث بما يخطر على باله، وكرر: هذا المكان ليس لكم، لأن ما تملكونه هو الأرض. وإذا وضعت عليها قدمي لكنت فعلًا مُندسًّا، ولكن هنا في أعلى فإن هذا غير وارد، فأنا أذهب حيث أريد.
– آه! إذن فهناك فوق ملك لك.
– بالتأكيد! إن هذه هي أرضي الخاصة، كل ما يوجد هنا بأعلى — وأشار إلى الفروع والأوراق المتلألئة بضوء الشمس والسماء — على فروع الأشجار، كل شيء ملك لي، قولي لهم أن يأتوا ليمسكوا بي إن استطاعوا ذلك!
والآن، وبعد كل هذا الحديث المتفاخر، انتظَر أن تسخر منه بطريقةٍ ما، ولكنها — على العكس — أظهرت اهتمامًا غير متوقع: آه حقًّا؟ وإلى أين تمتد أراضيك تلك؟
– كل ما يمكن الوصول إليه قفزًا فوق الأشجار، من هنا ومن هناك، ووراء الأسوار وفي مزارع الزيتون، وحتى فوق الهضبة، ومن الناحية الأخرى وفي الغابة، وفي أراضي الأسقف …
– وصولًا إلى فرنسا؟
– بل حتى بولندا وبلاد الساكسون — قال كوزيمو، والذي يعرف من الجغرافيا فقط الأسماء التي سمع أمنا ترددها وهي تتحدث عن حروب الخلافة — ولكني لست أنانيًّا مثلك، فيمكنني أن أدعوك إلى أرضي.
والآن بدأ كل منهما يكلم الآخر من دون استخدام صيغة الاحترام، وبدأت هي ذلك.
سألته وهي تجلس على الأرجوحة والمروحة مفتوحة في يدها: ولمن إذن تلك الأرجوحة؟
قال كوزيمو محددًا الموقف: الأرجوحة لك، ولكن نظرًا إلى أنها مربوطة بذلك الفرع فهي داخل نطاق مملكتي، إذن فإذا جلست عليها وقدماك تلمسان الأرض فأنت على أرضك، ولكن إذا رفعتِ نفسك في الهواء فأنت في أرضي.
عندئذٍ دفعت نفسها وطارت في الهواء، ويداها ممسكتان بالحبال، قفز كوزيمو من المجنوليا إلى الفرع الكبير المعلقة به الأرجوحة، ثم أمسك بالحبال، وبدأ هو في تحريكها، وأخذت الأرجوحة تتحرك أعلى من ذي قبل.
– هل أنت خائفة؟
– أنا لا. ما اسمك؟
– أنا كوزيمو … وأنت؟
– فيولانت … ولكنهم يدعونني فيولا.
– أما أنا فيدعونني مينو، أيضًا لأن كوزيمو اسم قديم.
– لا يعجبني.
– كوزيمو؟
– لا، مينو.
– آه … يمكنك أن تدعوني كوزيمو.
– ولا حتى هذا! اسمع، يجب أن نعقد اتفاقات واضحة.
– ماذا تقولين؟ سألها كوزيمو، وهو لا يزال يشعر بالألم في كل مرة تتحدث فيها.
– أقول: إنني يمكنني أن أصعد إلى منطقتك، وأكون فيها ضيفة مقدسة، حسنًا؟ أدخل وأخرج كما أريد. أما أنت فإنك مقدس، ولا يمكن الاعتداء عليك ما دمت فوق أشجارك، في منطقتك، ولكن بمجرد أن تلمس أرض حديقتي تصبح عبدي، وسنقيدك بالأغلال.
– لا، لن أنزل إلى حديقتك، ولا حتى إلى حديقتي، فبالنسبة إليَّ فإن كلتيهما تُعد منطقة أعداء على حدٍّ سواء، تعالَي أنتِ إلى فوق معي، وليأتِ أيضًا أصدقاؤك لصوص الفاكهة، وربما يأتي أيضًا أخي بياجو، مع أنه جبان إلى حد ما، ولنصنع جيشًا يعيش فوق الأشجار ونعيد الأرض وساكنيها إلى صوابهم.
– لا، لا، لا شيء من هذا كله. دعني أشرح لك كيف تسير الأمور. لك أنت السلطة على الأشجار، حسنًا؟ ولكن إذا لمست — ولو مرة واحدة — الأرض بقدميك، تفقد كل مملكتك، وتصبح أحقر العبيد. هل فهمت؟ حتى وإن كُسر فرع شجرة تحت قدميك وسقطت ستفقد كل شيء!
– لم أسقط قط من فوق شجرة في حياتي!
– بالتأكيد، ولكن، إذا سقطت ستصبح رمادًا وستذروك الرياح.
– كل هذا هراء. أنا لن أذهب إلى الأرض لأنني لا أريد ذلك.
– آه! كم أنت مثير للملل.
– لا، لا، لنلعب. على سبيل المثال، هل يمكن أن أجلس على الأرجوحة؟
– إذا نجحت في الجلوس على الأرجوحة من دون أن تلمس الأرض فنعم.
وبجوار أرجوحة فيولا عُلقت أخرى على الغصن نفسه، ولكنها مرتفعة أكثر إلى أعلى بعقدة في حبالها حتى لا تصطدم إحداهما بالأخرى. ترك كوزيمو نفسه لينزل وهو ممسك بأحد الحبلين، وهو تدريبٌ كوزيمو ماهر جدًّا فيه؛ لأن أمنا تجعلنا نقوم بتدريبات رياضية كثيرة. وعندما وصل إلى العقدة فكها ووقف بقدميه على الأرجوحة. ولكي يدفع نفسه نقل ثقل جسمه وهو يثني ركبتيه وينطلق إلى الأمام.
وهكذا أخذ يدفع بنفسه إلى أعلى. وكانت الأرجوحتان تتحركان، إحداهما في اتجاه والأخرى في اتجاه مختلف، وتصلان إلى الارتفاع نفسه، وتلتقيان في منتصف الدورة.
أخذت فيولا توعِز إليه: ولكن إذا جرَّبتَ الجلوس أعطيت نفسك دفعة بقدميك سترتفع أكثر إلى أعلى.
نظر إليها كوزيمو مستهزئًا.
قالت له برقة وهي تبتسم: انزل إلى الأرض لتدفعني … لتكن لطيفًا.
– لا، لقد قلنا إنني لن أنزل بأي ثمن.
وبدأ كوزيمو يشعر بالارتباك.
– لتكن لطيفًا.
– لا.
– آه، آه، كنت على وشك السقوط في الفخ، فلو وضعت إحدى قدميك على الأرض لفقدتَ كل شيء! — ونزلت فيولا من فوق الأرجوحة، وبدأت تدفع أرجوحة كوزيمو دفعات خفيفة — أوه …! وأمسكَت فجأة بمقعد الأرجوحة التي يسند أخي إليها قدميه وقلبتها، ولكن لحسن الحظ كان أخي ممسكًا بالحبال جيدًا! وإلا سقط أرضًا كالسردينة.
صرخ: خائنة! وتسلق إلى أعلى، وهو ممسك بالحبلين، ولكن الصعود أصعب من النزول، وخاصة مع وجود تلك الفتاة الشقراء، والتي بدت في إحدى حالاتها الشريرة تجذب الحبال من أسفل في كل الاتجاهات.
وفي النهاية وصل إلى الفرع الضخم، وجلس عليه وأحاطه بساقيه. وبرباط عنقه أخذ يمسح عرقه من على وجهه.
– آه، آه! لم تنجحي في ذلك!
– كنت على وشك!
– ولكنني اعتقدت أنك صديقتي!
– اعتقدت! واستأنفت في التأرجح.
قاطعهما في تلك اللحظة صوت نسوي حاد: فيولانت! مع من تتحدثين؟!
وعلى الدرجات البيضاء التي تؤدي إلى الفيلا ظهرت سيدة طويلة القامة ونحيلة، بتنورة واسعة فضفاضة؛ تنظر بنظارتها وحيدة العدسة. تراجع كوزيمو بين الأوراق خجلًا.
– مع شاب يا خالتي — قالت الصبية — وُلد على قمة الشجرة، وبسبب قوى سحرية لا يمكنه وضع قدميه على الأرض.
تساءل كوزيمو، وقد أحمر وجهه، هل الصبية تتحدث بهذه الطريقة لتسخر منه أمام خالتها، أو لأنها تسخر من خالتها أمامه، أو فقط لتكمل اللعبة، أو لأنها لا يهمها شيء منه، أو من خالتها، أو من اللعبة، ورأى نظارة الخالة تتفحصه، وتقترب من الشجرة، وكأنها تتطلع إلى ببغاء غريب النوع.
– أوه، لكنني أعتقد أن هذا الشاب من البيوفاسك، تعالي يا فيولانت.
شعر كوزيمو بالإهانة الشديدة؛ فالتعرف عليه بهذه الطريقة العادية، حتى من دون السؤال لماذا يقف هناك، ونداؤها الطفلة على الفور بحدة، ولكن من دون قسوة، وتلبية فيولا بخنوع وعلى الفور لنداء خالتها من دون أن تلتفت إليه، كل هذا ينم عن أنه شخص بلا أية أهمية، بل لا وجود له. ولذلك فإنه في تلك اللحظة غرق في سحابة من الخجل.
ولكن الصبية تشير إلى الخالة التي تحني رأسها، فتهمس لها الطفلة بشيء في أذنها. وعندئذٍ توجه الخالة نظراتها إلى كوزيمو وتقول له: إذن أيها السيد الصغير، هل تتفضل وتتناول فنجانًا من الشيكولاتة؟ هكذا يمكننا أن نتعرف إليك نحن أيضًا — ونظرت بطرف عينيها لفيولا — نظرًا إلى أنك صرت صديقًا للعائلة.
مكث كوزيمو ينظر إلى الخالة وابنة أختها محملقًا عينيه، وقلبه يدق بشدة. ها قد تمت دعوته من قبل عائلة أونداريفا أومبروزا، أهم عائلة في المنطقة، وتحولت الإهانة التي شعر بها في اللحظة السابقة إلى رغبة في الانتقام وكأنه يثأر من أبيه، وذلك بأن يستضيفه أعداؤه الذين عادة ما ينظرون إليه باحتقار، وأن فيولا تدخلت لأجله، وأنه تم قبوله رسميًّا صديقًا لفيولا، وأنه يمكنه أن يلعب معها في تلك الحديقة المختلفة عن كل الحدائق. شعر كوزيمو بكل هذا، ولكن شعر مع هذا بشعور مضاد؛ وإن كان مضطربًا، شعور مكون من الخجل، والكبرياء، الوحدة والعناد. ومع هذا التضارب في المشاعر أمسك أخي بفرع الشجرة فوقه وتسلقه، وانتقل إلى الجزء الأكثر كثافة منها، ثم عبر إلى شجرةٍ أخرى واختفى.