٢٣

ما حكيته الآن يبرهن كيف أن أهل أومبروزا، مع أنهم كانوا يهتمون بالثرثرة حول حياة أخي الصاخبة السابقة، إلا أنهم الآن، وأمام ذلك الحب الذي يتفجر، إذا أمكن القول، فوق رءوسهم، يلتزمون بنوع من التحفظ المحترم، وكأنهم أمام شيء أكبر منهم جميعًا. ولا يعني هذا أن سلوك المركيزة لم يكن موضع توبيخ؛ ولكن التوبيخ يوجه عادة إلى تصرفاتها الخارجية، فعلى سبيل المثال عندما تركض ممسكة برقبة الحصان (من يدري أين هي ذاهبة في عجالة بهذه الطريقة؟ كانوا يقولون هذا فيما بينهم، مع أنهم يعرفون جيدًا أنها ذاهبة للقاء كوزيمو) أو ذلك الأثاث الذي تضعه فوق الأشجار. كان هناك بالفعل اتجاه إلى اعتبار كل شيء موضة جديدة للنبلاء، شيئًا من بين الأشياء الغريبة الكثيرة التي يقومون بها (الجميع فوق الأشجار الآن: نساء ورجال. تُرى ماذا سيكون لديهم بعد ذلك ليبدعوه؟) على كل حال، ربما حدث هذا لاقترابنا من فترات أكثر تسامحًا، أو ربما يجدر أن نقول أكثر نفاقًا.

وعلى شجر البلوط في الميدان بدأ البارون يظهر لفترات طويلة، وبدت هذه علامة على رحيلها. لأن فيولا أحيانًا تتغيب لشهور، وذلك لمتابعة أملاكها المبعثرة في أنحاء أوروبا، ولكن رحيلها هذا غالبًا ما يكون مرتبطًا بفترات تتعرض فيها العلاقة بينهما لأزمة، حيث تشعر المركيزة بالإهانة من كوزيمو لأنه لم يفهم ما أرادت أن تشرحه له عن الحب. ولا يعني هذا أن فيولا قد رحلت غاضبة منه؛ فهما ينجحان دائمًا في التصالح قبل رحيلها، ولكن يبقى بداخله دائمًا شك أنها قررت القيام بتلك الرحلة لأنها تعبت منه، أو لأنه لا يمكنه الاحتفاظ بها، وربما تحاول الانفصال عنه، وربما تدفعها فرصة السفر أو التوقف للتفكير إلى اتخاذ قرار عدم العودة.

وهكذا عاش أخي في قلق دائم. فمن جهة يحاول استعادة حياته المعتادة قبل أن يقابلها، والعودة مرة أخرى إلى رحلات الصيد أو صيد الأسماك، أو أن يتابع أعمال الزراعة، أو دراساته، أو يستأنف قصصه الخيالية في الميدان، وكأنه لم يفعل شيئًا آخر في حياته (فهو ما زال بداخله ذلك الشاب العنيد والمليء بالكبرياء والذي لا يريد الاعتراف بأنه يمكن للآخرين أن يؤثروا فيه)، ويسعد بكل ما منحه له هذا الحب من حيوية وفخر، ولكن في الوقت نفسه يدرك — من ناحية أخرى — أن كثيرًا من الأشياء لم يعد لها الأهمية نفسها، وأنه بدون فيولا لا يستطيع أن يشعر بمذاق الحياة، وأن جميع أفكاره تهرع دائمًا نحوها. وكلما حاول، بعيدًا عن زوبعة وجود فيولا، استعادة السيطرة على الانفعالات والمتع في تدبير حكيم للنفس، ازداد شعوره بالفراغ الذي تركته، أو بحمى ترقب عودتها. أصبح حبه لها تمامًا كما أرادته فيولا، وليس كما يدعي هو، فالمرأة دائمًا هي الغالبة، حتى وإن ابتعدت، وكوزيمو — رغمًا عنه — يستمتع بذلك.

وفجأة تعود المركيزة، ويبدأ موسم الحب من جديد فوق الأشجار، ولكن يبدأ معه موسم الغيرة أيضًا. أين كانت فيولا؟ ماذا فعلت؟ يشعر كوزيمو باللهفة إلى معرفة هذا كله، ولكنه في الوقت نفسه يخاف من الطريقة التي تجيب بها عن تساؤلاته، فهي تجيب عن كل شيء بالتلميحات، وفي كل تلميحة تجد الطريقة لتدفع كوزيمو إلى الشك، وهو يفهم أنها تفعل ذلك لتعذبه، أو أن كل شيء يمكن أن يكون حقيقيًّا بالفعل، وفي هذه الحالة من الشك يخفي أحيانًا غيرته، وأحيانًا أخرى يترك شكوكه تنفجر بعنف، وفيولا تجيب دائمًا على ردود أفعاله بطرائق مختلفة وغير متوقعة: أحيانًا تبدو وكأنها مرتبطة به أكثر من ذي قبل، وأحيانًا أخرى لا ينجح في إشعال حبها من جديد.

ولكن كيف تعيش المركيزة بالفعل أثناء رحلاتها؟ لم نتمكن ونحن هنا في أومبروزا من معرفة ذلك نظرًا إلى أننا بعيدون عن المدن الكبيرة وعن ثرثرتها. ولكن في تلك الفترة قمت أنا برحلتي الثانية إلى باريس لإنجاز بعض العقود (لتصدير الليمون، حيث بدأ كثير من النبلاء ممارسة التجارة، وكنت أنا من أوائل من اتجهوا إلى ذلك).

وفي إحدى الأمسيات، وفي أحد الصالونات الباريسية الفاخرة قابلت السيدة فيولا. تتحلى بتسريحة شعر غاية في التأنق، وترتدي ثوبًا غاية في الجمال، وتعرفت إليها على الفور، بل عرفتها بمجرد أن رأيتها، لأنها امرأة لا يمكن أن يخطأ أحد في معرفتها. صافحتني بلا اهتمام، ولكنها سرعان ما وجدت فرصة للاختلاء بي ولأن تسألني، ولكن من دون أن تنتظر الإجابة بين سؤال وآخر: هل لديك أخبار عن أخيك؟ هل ستعود سريعًا إلى أومبروزا؟ خذ، أعطه هذا كذكرى مني … ثم أخرجت من صدرها منديلًا من الحرير وضعته بسرعة في يدي. ثم انصرفت على الفور لتلحق بركاب المعجبين الذي يتبعها.

سألني صديق من باريس بصوت منخفض: هل تعرف المركيزة؟

أجبته: معرفة سطحية.

وكانت هذه هي الحقيقة، ففي أثناء إقامتها في أومبروزا، لم تهتم السيدة فيولا، وكأنها أصابتها العدوى من الحياة الهمجية لكوزيمو، كثيرًا بالتردد إلى مجتمع النبلاء المجاور لها.

قال صديقي: نادرًا ما يجتمع مثل هذا الجمال مع مثل هذا التوتر، يقولون إنها في باريس تنتقل من حبيب إلى آخر، في منافسات مستمرة، الأمر الذي لا يسمح لأي منهم بأن يقول إنها ملكه، أو إنه هو المفضل. ولكنها كل فترة تختفي لأشهر عديدة، ويقولون إنها تخلو بنفسها في أحد الأديرة لتغرق نفسها في الندم.

منعت نفسي بصعوبة من الضحك عندما اكتشفت كيف يعتقد الباريسيون في إقامة المركيزة فوق أشجار أومبروزا فترات توبة، ولكن في الوقت نفسه سبب لي هذه هذا الكلام اضطرابًا؛ حيث جعلني أتوقع فترات حزن ستمر على أخي.

ولأقيه شر المفاجآت السيئة أردت أن أحذره. وبمجرد أن عدت إلى أومبروزا ذهبت للبحث عنه. سألني طويلًا عن رحلتي، وعن الأخبار الجديدة في فرنسا، ولكنني لم أنجح أن أنقل له أي خبر جديد عن السياسية أو الأدب؛ لأنه يعرف كل الأخبار بالفعل.

وفي النهاية، أخرجت من جيبي منديل السيدة فيولا.

– في أحد الصالونات في باريس قابلت سيدة تعرفك، وأعطتني هذا لك، مع تحياتها.

أنزل على الفور السلة المعلقة بالحبل، ورفع المنديل الحريري، ووضعه بقرب وجهه ليستنشق رائحته.

– آه، هل رأيتها؟ كيف حالها؟ قل لي: كيف كانت؟!

– كانت غاية في الجمال والضياء — أجبته ببطء — ولكنهم يقولون إن هذه الرائحة تستنشقها أنوف كثيرة …

خبأ المنديل في صدره وكأنه يخشى أن ينتزعه أحد منه. ثم توجه إلي ووجهه مضرج بالحمرة: ولم يكن لديك سيف لتطرد تلك الكذبات من حنجرة من يقولها؟

كان علي أن أعترف أن هذا لم يخطر ببالي أبدًا. سكت لوهلة ثم هز كتفيه: كلها كذبات. أنا فقط أعرف أنها لي أنا وحدي.

ثم هرب بين الفروع من دون أن يحييني. وكنت أعرف طريقته المعتادة في رفض أي شيء يدفعه إلى الخروج من عالمه.

ومنذ تلك اللحظة كنت أراه دائمًا حزينًا ونافد الصبر، وهو يقفز هنا وهناك من دون أن يفعل شيئًا. وأحيانًا أسمعه يصفر منافسة للشحارير، ولكن ازداد صفيره عصبية وكآبة.

ووصلت المركيزة. وكالعادة سببت غيرته سعادتها؛ أحيانًا تثيرها هي، أحيانًا تحولها إلى مجرد لعبة. وهكذا تعود أيام الحب الجميلة، وتعود إلى أخي سعادته.

ولكن في تلك الفترة، لم تفوت المركيزة فرصة لتتهم كوزيمو بأنه فكرته ضئيلة عن الحب.

– ماذا تريدين قوله؟ أنني غيور؟

– أحسنت لأنك غيور. ولكنك تحاول أن تخضع غيرتك للعقل.

– بالتأكيد، هكذا أحولها إلى شيء أكثر فاعلية.

– إنك تفكر أكثر مما يلزم. لماذا يوضع الحب محل تفكير؟!

– لأحبك أكثر. إن كل شيء، إذا أخضعناه للعقل، تزداد قوته.

– تعيش بين الأشجار ولديك عقلية كاتب مصاب بداء المفاصل.

– أكثر المشروعات شجاعة تنفذها أكثر النفوس تواضعًا.

واستمر في إلقاء العبارات حتى هربت منه؛ عندئذ، بدأ هو في اللحاق بها كالعادة، وفي الإصابة باليأس، وبتقطيع شعره.

في تلك الأيام، ألقت سفينة إنجليزية حربية مرساها في مينائنا. وأقام ربان السفينة حفلة لمشاهير أومبروزا ولضباط السفن الأخرى المارة في ذلك الوقت. وذهبت المركيزة إلى الحفلة؛ ومنذ تلك الليلة جرب كوزيمو من جديد آلام الغيرة. فلقد هام ضابطان من سفينتين مختلفتين حبًّا بفيولا، وكانا يظهران دائمًا على الشاطئ وهما يتوددان إلى السيدة النبيلة وفي محاولة أن يتفوق كل منهما على الآخر في جذب انتباهها. كان أحدهما ملازمًا بحريًّا في السفينة الحربية الإنجليزية، والآخر أيضًا ملازمًا بحريًّا، ولكن في أسطول من نابولي. استأجر كل منهما جوادًا أشقر، وأخذ الملازمان يقومان بجولات مكوكية أسفل تراس المركيزة، وعندما يتقابلان يحوم الملازم القادم من نابولي حول ذلك الإنجليزي بنظرة تكاد تحرقه، في حين تتطاير من بين رموش الإنجليزي نظرة كحد السيف.

وماذا عن النبيلة فيولا؟! لم تملَّ تلك المتبرجة من المكوث بالساعات داخل المنزل، ثم تظهر لهما في زي الصباح من الشرفة وكأنها أرملة مات زوجها توًّا، وخرجت من حدادها منذ برهة. أما كوزيمو، فنظرًا إلى أنها لم تعد معه بين النباتات، ونظرًا إلى أنه لم يكن يسمع اقتراب خطوات الحصان الأبيض فكاد يصيبه الجنون، وأصبح مكانه (هو الآخر) أمام ذلك التراس، ليراقبها هي وملازمي السفينة الحربية.

كان يدرس الطريقة التي بها يمكنه إطلاق بعض الطلقات تجاه منافسيه تجعلهما يعودان في أقرب وقت، كل منهما إلى سفينته، ولكنه عندما رأى أن فيولا تقابل بترحاب متساوٍ وتودد كلًّا منهما، استعاد الأمل في أنها ربما ترغب في العبث بالاثنين، ومنه هو أيضًا معهما، ولذلك لم يقلل من مراقبته لها، فمع أول إشارة تظهر بأنها تفضل أحدهما على الآخر، سيكون هو حاضرًا ليتدخل.

وإذا بالإنجليزي يمر في صباح أحد الأيام، وفيولا تقف في النافذة. ابتسم كل منهما للآخر. أسقطت المركيزة ورقة ما من يدها. أمسكها الضابط قبل أن تسقط أرضًا وقرأها ثم انحنى وقد احمر وجهه، وانطلق مبتعدًا. ميعاد! الإنجليزي إذن هو المحظوظ! أقسم كوزيمو ألا يتركه يقضي يومه بهدوء حتى المساء.

وفي أثناء ذلك مر الضابط القادم من نابولي. ألقت فيولا بورقة له هو أيضًا. قرأها الضابط، وقربها من شفتيه وقبلها. إذن فلا بد إنه هو المختار؟ إذن ماذا عن الآخر؟ ضد أي منهما يجب على كوزيمو الهجوم؟ من المؤكد أن فيولا قد أعطت ميعادًا لأحدهما، وربما داعبت الآخر فقط بمداعبتها المعتادة. أم أنها تريد العبث بهما معًا؟

أما عن مكان اللقاء فقد اتجهت شكوك كوزيمو نحو كوخ في نهاية المنتزه، فقبل ذلك بقليل أعادت المركيزة تنظيمه وتنسيقه، وكان كوزيمو يحترق من الغيرة لأنها لم تعد تلك الفترة التي فيها تملأ قمم الأشجار بالأرائك والستائر، والآن بدأت تهتم بمناطق لن يستطيع هو دخولها أبدًا. وقال كوزيمو لنفسه: «سأراقب هذا الجناح، إذا حددت ميعادًا مع واحد من الملازمين فلا بد أنه هناك.» وقبع في جزء كثيف من أغصان شجرة كستناء هندي.

وقبل الغروب بقليل سُمع ركض، فقد وصل ملازم سفينة نابولي، وفكر كوزيمو: «والآن سأثير غضبه!» وبواسطة مقلاع ألقى في عنقه بقذيفة من روث السناجب، ارتعد الضابط ونظر حوله. ابتعد كوزيمو عن ذلك الفرع وأثناء ذلك لمح من بعيد، من وراء السياج الملازم الإنجليزي يهبط من فوق السرج، ويربط الحصان إلى عامود. «إذن فهو المقصود. ربما كان الآخر يمر مصادفة.» وعلى الفور ألقى بقذيفة من روث السناجب على أنفه.

قال الإنجليزي: من هناك؟ وعبر السياج، ولكنه وجد نفسه وجهًا لوجه مع زميله النابولي، والذي عندما نزل هو الآخر من فوق جواده أخذ يصيح بدوره: من هناك؟

قال الإنجليزي: أستمحيك عذرًا يا سيدي، ولكنني يجب أن أطلب إلى سيادتك أن تترك هذا المكان على الفور!

أجابه النابولي قائلًا: وجودي هنا الآن من حقي، فأنا أدعو سيادتك إلى أن تترك المكان حالًا!

رد الإنجليزي: لا حق لديك أقوى من حقي، أنا آسف، لن أسمح لك بالمكوث.

قال الآخر: إنها مسألة شرف، وسأكون على مستوى لقبي: سيلفاتوري دي سان كاتالدو دي سانتا ماريا كابو فييتري، من القوات البحرية للصقليتين!

عندئذٍ قدم الإنجليزي نفسه: إن ثلث اسمي هو سير أوسبرت كاسلفايت، ويشرفني أن أفرض على سيادتك أن تترك الساحة.

– ليس قبل أن أطرد سيادتك بهذا السيف! ويستل سيفه من غمده.

– إذن فأنت تريد القتال.

قال هذا السير أوسبرت، وبدأ في الدفاع عن نفسه.

وتقاتلا.

– لطالما أردتك هنا أيها الزميل، وليس فقط اليوم.

ثم ضربه ضربة قوية.

وضربه سير أوسبرت ضربة مماثلة قائلًا: منذ فترة وأنا أتبع خطواتك أيها الملازم، وكنت أتوقع ذلك!

ونظرًا لأنهما متساويان في القوى، أخذ ملازما السفينتين يتبادلان الهجوم والتراجع. وفي حين هما في قمة مبارزتهما ظهرت النبيلة فيولا عند عتبة الجناح وصاحت: توقفا، بحق السماء!

وقالا هما الاثنان في صوت واحد، وبعد أن أنزلا السيفين وانحنى كل منهما للآخر: سيدتي المركيزة، إن هذا الرجل …

وفيولا: صديقَي العزيزين! ضعا جانبًا سيفيكما، أرجوكما! أهذه إذن هي الطريقة التي تخيفان بها سيدة؟ كنت أفضل هذا الجناح لأنه أكثر الأماكن صمتًا وسرية في حديقتي، وها أنا بمجرد أن استلقيت أيقظني صوت ضربات سيفيكما!

قال الإنجليزي: لكني، سيدتي، ألم أكن أنا المدعو هنا من قبل سيادتك؟

قال النابولي: ولكن سيادتك كنت هنا في انتظاري، يا سيدتي …

ومن حنجرة السيدة فيولا ارتفع صوت ضحكة خفيفة وكأنها حفيف أجنحة: آه، بلى، بلى، دعوتك أنت، أم دعوتك أنت … آه إنني مرتبكة جدًّا … حسنًا، ماذا تنتظران؟ تفضلا، استريحا، أرجوكما …

– سيدتي، كنت أعتقد أن الأمر يتعلق بدعوة لي أنا وحدي، والآن وقد خاب أملي، أستأذن من سيادتك، اسمحي لي بالانصراف.

– الشيء نفسه أقوله أنا أيضًا يا سيدتي، اسمحي لي.

– ضحكت المركيزة: صديقَي العزيزين … صديقَي الطيبين … أشعر أنني متهورة، كنت أعتقد أنني دعوت سير أوسبرت في ساعة … ودون سيلفاتوري في ساعة أخرى … لا، لا، اعذراني؛ بل في الساعة نفسه، ولكن في مكانين مختلفين … آه؟ لا، كيف يمكن هذا؟ … حسنًا، نظرًا إلى أنكما هنا أنتما الاثنان، لماذا لا نجلس معًا ونتحدث بتحضر؟!

نظر الملازمان كل منهما إلى لآخر، ثم نظرا إليها: هل يجب أن نفهم بهذه الطريقة يا مركيزة أنك كنت تتظاهرين بأنك تقدرين اهتمامنا فقط لتعبثي بنا نحن الاثنين؟!

– لماذا يا صديقَي العزيزين، بالعكس، بالعكس … لم أستطع أن أعامل مثابرتكما بلا مبالاة … فلقد أصبحتما عزيزين جدًّا … وهذا هو سبب ألمي … فإذا اخترت رقة السير أوسبرت يجب أن أفقدك أنت يا دون سيلفاتوري يا غرامي … وإذا اخترت نار الملازم دي سان كاتالدو دي يجب أن أتخلى عنك أنت أيها السير! آه … لماذا إذن … لماذا؟

– لماذا إذن ماذا؟! سألاها في صوت واحد.

قالت دونا فيولا خافضة رأسها: لماذا إذن لا يمكن أن أكون معكما في الوقت نفسه …؟

ومن فوق شجرة الكستناء الهندي سمع صوت سقوط الأغصان. كان كوزيمو الذي لم يعد يحتمل البقاء ساكنًا.

ولكن الملازمين شعرا بالارتباك الشديد فلم يسمعا شيئًا. تراجع كل منهما خطوة إلى الوراء: لا يمكن هذا أبدًا يا سيدتي!

رفعت المركيزة وجهها الجميل بابتسامة متألقة: حسنًا، سأكون لأول من يقوم من بينكما، لإثبات حبه، وليرضيني في كل شيء، يعلن أنه على استعداد أيضًا ليتقاسمني مع خصمه!

– سيدتي …

– سيدتي …

انحنى كل من الملازمين تجاه فيولا في تحية جافة للاستئذان، ونظر كل منهما إلى الآخر ومد كل منهما يده إلى الآخر ثم شدَّا على قبضتيهما.

– كنت متأكدًا أنك رجل مهذب يا سنيور كاتالدو.

قال الإنجليزي.

– وأنا أيضًا لم أكن أشك في شرفك يا سير أوسبرتو.

قال ضابط نابولي، واستدارا ليتركا المركيزة، واتجها إلى جواديهما.

– صديقَي … لماذا شعرتما بالإهانة … أيها الغبيان.

تقول فيولا هذا، أثناء وضع كلٍّ من الضابطين قدمه في ركاب حصانه.

وحانت اللحظة التي ينتظرها كوزيمو منذ فترة، ليستمتع بالانتقام الذي أعده لهما؛ فالآن سيتعرض الاثنان لمفاجأة مؤلمة. إلا أنه عندما رأى موقفهما الرجولي تجاه المركيزة المتكبرة شعر فجأة برغبة في التصالح معهما. ولكن فات الأوان! فالآن لم يعد في الإمكان نزع قنبلة الانتقام من موضعها! ففي ثانية قرر كوزيمو في لحظة كرم أن يحذرهما؛ وصاح من فوق الشجرة: أنتما هناك! لا تجلسا على السرج!

رفع الاثنان رأسيهما بحيوية: ماذا تفعل فوق؟

– ماذا تفعل؟ كيف تسمح لنفسك؟ انزل!

ومن خلفهما كانت تُسمع ضحكة النبيلة فيولا، إحدى تلك الضحكات الرقيقة.

شعر الاثنان بالارتباك، حيث يوجد شخص ثالث ربما استمع إلى كل ما حدث، وازداد الموقف تعقيدًا.

وقال كل منهما للآخر: على كل حال سيتضامن كل منا مع الآخر!

– ونقسم على ذلك بشرفنا!

– لن يوافق أحد منا بأن يقتسم سيدتي مع أي شخص.

– أبدًا وإلى الأبد!

– ولكن إذا قرر أحد منا أن يوافق على ذلك!

– في هذه الحالة، ومتضامنين إلى الأبد، سنوافق على ذلك معًا!

– حسنًا! والآن، هيا بنا!

وأمام هذا الحوار الجديد قضم كوزيمو إصبعه من الغضب لأنه حاول أن يتجنب استكمال انتقامه «إذن فليتم الانتقام!» ثم ابتعد بين الأغصان. قفز الضابطان ليجلسا فوق سرجيهما. فكر كوزيمو «الآن سيصرخان!» وخطر له أن يسد أذنيه بيديه. عندئذٍ تعالت صرخة ثنائية. جلس الملازمان على قنفذين خبأهما كوزيمو أسفل غطاء السرج.

– خيانة! وطارا إلى الأرض في انفجار من القفزات والصرخات وهما يدوران كل منهما حول نفسه، وبدا أنهما أرادا أن يتهما المركيزة.

ولكن النبيلة فيولا، والتي شعرت بالغضب أكثر منهما، صرخت وهي تنظر إلى أعلى: أيها القرد القبيح الشرير والمتوحش!

وهرعت وهي تقفز من جزع شجرة الكستناء الهندي، بسرعة شديدة، واختفت عن أنظار الضابطين حتى اعتقدا أن الأرض قد ابتلعتها.

وبين الفروع وجدت فيولا نفسها في مواجهة كوزيمو. أخذ ينظر كل منهما إلى الآخر وعيونهما تطلق شرارًا، وكان ذلك الغضب يضفي عليهما نوعًا من النقاء، وكأنهما ملاكان. وبدا وكأن كل منهما يكاد يفتك بالآخر، عندما صاحت المرأة: آه يا عزيزي! هكذا! هكذا أريدك؛ غيورًا وشرسًا! وبالفعل ألقت بذراعيها حول رقبته، وتبادلا العناق ولم يعد كوزيمو يتذكر أي شيء.

أخذت تتموج بين ذراعيه، ثم أبعدت وجهها عن وجهه وكأنها تفكر ثم: ولكن، هما الاثنان أيضًا هل رأيت كم يحبانني؟! إنهما على استعداد أن يتقاسماني فيما بينهما …

وبدا على كوزيمو وكأنه سيلقي بنفسه فوقها، ثم ابتعد بين الفروع، وأخذ يقضم الأغصان، ويضرب رأسه في جذع الشجرة: إنهما ليسا سوى دودتين!

كانت فيولا قد ابتعدت وقد تجمد وجهها.

– ما زال أمامك الكثير لتتعلمه منهما. استدارت ونزلت بسرعة من فوق الشجرة.

أما الحبيبان فنسي كل منهما الخلافات الماضية، ولم يكن أمامها حل آخر سوى أن يبدأ كل منهم بكل صبر البحث عن الأشواك لزميله. قاطعتهما فيولا: بسرعة، تعالا فوق عربتي! واختفوا جميعًا خلف الجناح. ورحلت العربة. أما كوزيمو، فمن فوق شجرة الكستناء الهندي، خبأ وجهه بين يديه.

وبدأت فترة العذابات لكوزيمو، ولكن لخصميه أيضًا. ولكن هل يمكن أن يُقال إنه وقت سعادة بالنسبة إلى فيولا؟ أعتقد أن المركيزة تعذب الآخرين فقط لأنها تريد تعذيب نفسها. فالضابطان النبيلان يتواجدان دائمًا معًا، لا ينفصلان أبدًا أسفل نافذة فيولا أو مدعوين في صالونها، أو في لقاءات طويلة بينهما فقط في الحانة. وكانت هي تغريهما وتطلب منهما التنافس دائمًا على إظهار أدلة حب جديدة، والتي يعلنان في كل مرة استعدادهما لها، وبالفعل كانا على استعداد لأن يتقاسماها فيما بينهما، ليس هذا فقط، بل واقتسامها أيضًا مع آخرين، فالآن وقد تدحرجا في منحدر التنازلات، ولم يعد في الإمكان التوقف، مدفوعين بالرغبة في أن ينجحا في النهاية بهذه الطريقة لأن يحركا مشاعرها، وأن تلتزم بوعودها، وفي الوقت نفسه بالتزام كل منهما بوعد التضامن مع خصمه، بينما تفترسهما الغيرة، كل نحو الآخر، والأمل في أن يتخلص كل منهما من الآخر، بل تدفعهما أيضًا محاولة النجاة من الانحطاط المظلم الذي يشعر كل منهما أنه سيغرق فيه.

ومع كل وعد جديد تنزعه من الضابطين البحريين، تصعد فيولا على حصانها وتهرع لتخبر به كوزيمو، وكانت تصرخ فيه بمجرد أن تراه قابعًا بهدوء فوق إحدى الأشجار: هل عرفت أن الإنجليزي على استعداد ليفعل هذا وهذا … والنابولي أيضًا …

لم يكن كوزيمو يجيبها.

فتردد بإصرار: هذا هو الحب المطلق!

ويصرخ كوزيمو: إنكم جميعًا تفاهات مطلقة! ويختفي.

أصبحت هذه الطريقة الوحشية الطريقة الوحيدة لديهما ليحب كل منهما الآخر، ولم يعودا يعرفان طريق النجاة منها.

واستعدت السفينة الحربية للإبحار. قالت فيولاي لسير أوسبرت: ولكنك ستبقى، أليس كذلك؟ وهكذا لم يقدم سير أوسبرت نفسه على سطح السفينة؛ فتم اعتباره هاربًا من الخدمة العسكرية. وتضامنًا ومنافسةً، هرب دون سيلفاتوري من الخدمة هو أيضًا.

– لقد هربا من الخدمة العسكرية! أعلنت فيولا الخبر بانتصار لكوزيمو. فعلا ذلك من أجلي! وأنت …

– وأنا؟!

صرخ كوزيمو بنظرة غاية في الوحشية حتى إن فيولا لم تنبس ببنت شفة.

وكان سير أوسبرت وسيلفاتوري دي سان كاتالدو دي، الهاربان من الخدمة كل منهما من جيشه، يقضيان أيامهما في الحانة، يلعبان الطاولة، شاحبين وقلقين، محاولين أن يربح كل منهما في لعبة القمار من الآخر، بينما فيولا في قمة استيائها من نفسها، ومن كل ما يحيط بها.

امتطت حصانها وذهبت تجاه الغابة. كان كوزيمو فوق شجرة بلوط. توقفت تحتها في مرعى.

– أشعر بالتعب.

– منهما؟

– منكم جميعًا.

– آه.

– لقد منحاني أكبر أدلة الحب …

بصق كوزيمو.

– … ولكنهما لا يكفياني.

رفع كوزيمو عينيه نحوها.

وهي: إنك تعتقد أن الحب هو تكريس مطلق وإنكار للذات …

تقف فوق الحشائش، أكثر جمالًا من ذي قبل، ويكفي شيء يسير ليذيب البرودة التي تقسي ملامحها، وذلك التغيير في شخصيتها، وليستطيع استعادتها بين ذراعيه. يمكن لكوزيمو أن يقول أي شيء ليرضيها، يمكن أن يقول لها: قولي لي ماذا تريدين أن أفعل، وأنا مستعد … وستبدأ سعادته من جديد، سعادة معها بلا ظلال. إلا أنه قال: لا يمكن وجود حب إذا لم يتسق المرء مع ذاته بكل ما بداخله من قوى.

أتت فيولا بإيماءة معارضة والتي جاءت أيضًا حركة تعبر عن التعب. وعلى الرغم أنه بإمكانها أن تفهمه كما اعتادت تفهمه دائمًا، وتنطق بالكلمات التي على شفتيها: «إنك تمامًا كما أريدك …» ثم تصعد له على الفور … إلا أنها عضت شفتيها وقالت: إذن لتكن مُتسقًا مع ذاتك وحدك.

أراد كوزيمو أن يقول «ولكن لن أكون متسقًا مع ذاتي دونك، فإن ذلك بلا معنًى …» إلا أنه قال: إذا كنت تفضلين هاتين الدودتين …

– لا أسمح لك باحتقار أصدقائي! صرخت فيه وكانت تفكر «إنني لا يهمني سواك أنت، إنه لأجلك أنت أفعل كل ما أفعله!»

– أنا فقط من يمكن احتقاره.

– إنها طريقتك في التفكير!

– أنا وطريقتي في التفكير شيء واحد.

– إذن وداعًا. سأرحل هذا المساء، ولن تراني أبدًا بعد اليوم.

جرت إلى الفيلا، أعدت حقائبها، ورحلت دون أن تقول أي شيء للملازمين. وكانت عند كلمتها، ولم تعد قط إلى أومبروزا، ذهبت إلى فرنسا، واتفقت الأحداث التاريخية في فرنسا على تنفيذ إرادتها في الوقت الذي تمنت هي فيه العودة. تفجرت الثورة، ثم الحرب، في البداية اهتمت المركيزة بمجرى الأحداث الجديد (فلقد كانت من مجموعة لافايات) ثم هاجرت بعد ذلك إلى بلجيكا ومنها سافرت إلى إنجلترا. وفي ضباب لندن، أثناء أعوام الحرب الطويلة ضد نابليون كانت تحلم بأشجار أومبروزا. ثم تزوجت مرة أخرى من لورد مهتم بالحملات في الهند، واستقرت في كالكوتا. ومن نافذتها تشاهد الغابات، كانت الأشجار أكثر غرابة من تلك الموجودة في حديقة المنزل الذي قضت فيه طفولتها، ويبدو لها في كل لحظة أنها ترى كوزيمو يسير بين الأوراق، ولكنه لم يكن سوى ظل قرد أو جاجوار.

وظل كل من سير أوسبرت كاسلفايت وسيلفاتوري دي سان كاتالدو متلازمين في الحياة وفي الموت، وكرسا حياتهما لحياة المغامرة وقد شوهدا في منازل القمار في فينيسيا، وفي كلية اللاهوت في غوتينغن، وفي بلاط كاترينا الثانية في بطرسبرج، ثم فُقدت آثارهما.

ظل كوزيمو طويلًا يهيم في الغابات وهو يبكي، مُحطمًا، رافضًا تناول الطعام. كان يبكي بصوت مرتفع وكأنه طفل رضيع، وأصبحت الطيور، التي كانت في يوم ما تهرب بمجرد ظهور ذلك الصياد الماهر، تقترب منه، وتلتف حوله على قمة الأشجار، أو تطير بالقرب من رأسه. وأخذت طيور الدوري تصرخ، وطيور الحسون تدندن، والقصرية تشوش والسمان تزرزر، والصفنج والمازجة تغرد، ومن المخابئ العالية خرجت السناجب والزغبة وفئران الحقل، وضمت صفيرها إلى جوقة العصافير، وهكذا بات أخي يتحرك وسط هذه السحابة من العويل.

ثم بدأت فترة العنف المدمر، حيث يبدأ كل شجرة من القمة، ينزع ورقة تلو الأخرى، ويحولها بسرعة البرق إلى مجرد جذع وكأنها في فصل الشتاء، حتى وإن كانت من النوع الذي لا تتساقط أوراقه. ثم يصعد من جديد إلى القمة، ثم يبدأ في تكسير كل الفروع الصغيرة حتى لا يترك فيها سوى الدعائم الضخمة، ثم يصعد مرة أخرى وبسكين صغيرة يبدأ في نزع اللحاء، وكنا نرى الأشجار المقشرة كاشفة عن اللون الأبيض وكأنها جروح تسبب القشعريرة.

وفي كل هذا الكرب المزعج لم يشعر بأي حقد تجاه فيولا، لم يكن يشعر سوى بالندم لأنه فقدها، لأنه لم يعرف كيف يستبقيها إلى جانبه، لأنه جرحها بكبريائه الظالمة والغبية. لأنه الآن قد أدرك أنها ظلت مخلصة له، وقد جذبت وراءها هذين الرجلين الآخرين، لتعني بذلك أنها تحب كوزيمو فقط وترى أنه الوحيد الذي يستحق أن يكون حبيبها الوحيد، وكل ما عبرت عنه من عدم رضًا ومضايقة لم يكن سوى ذلك العطش الجنوني لأن تجعل حبهما ينمو من دون أن تسمح له بأن يصل إلى أقصى حد له. أما هو، فهو لم يستطع أن يفهم أي شيء من هذا، بل أغضبها حتى فقدها.

ومكث لبضعة أسابيع في الغابة، وحيدًا كالمعتاد، ولم يكن معه ولا حتى ماسيمو أُتيمو؛ لأن فيولا أخذته معها. وعندما عاد أخي ليظهر من جديد في أومبروزا كان قد تغير تمامًا. حتى أنا لم أستطع أن أخدع نفسي: هذه المرة فقد كوزيمو صوابه بالفعل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤