٥

سينفوروزا: رويدًا رويدًا، عرف كوزيمو من أحاديث اللصوص الصغار، كثيرًا عن هذه الشخصية. فهذا الاسم كانوا يطلقونه على فتاة من قاطني الفيلات، تتجول وهي تمتطي حصانًا صغيرًا أبيض اللون، وكانت قد عقدت صداقة مع هؤلاء المتشردين، ولفترة من الوقت كانت تحميهم، وبسبب قوة شخصيتها استطاعت أيضًا قيادتهم. اعتادت أن تجري على حصانها الأبيض في الطرق والدروب، وعندما ترى فاكهة ناضجة في حدائق لا يحرسها أحد تبلغهم، وتصحبهم في هجماتهم من فوق صهوة جوادها وكأنها ضابط. وكانت تحمل حول رقبتها بوق الصيد. وبينما ينهبون ثمار اللوز أو الكمثرى، تجري بحصانها هنا وهناك على حدود المنطقة، وبمجرد أن تشعر بأية حركة مريبة من أصحاب الأرض أو الفلاحين قد يكشفوا من خلالها اللصوص وينقضوا عليهم؛ تبدأ في النفخ في البوق. وعند سماعهم هذا الصوت يقفز المتشردون من فوق الأشجار ويفرون بعيدًا؛ وهكذا لم يستطع أحد مفاجأتهم قط، ما دامت تلك الفتاة معهم.

ما حدث بعد ذلك كان الأصعب على الفهم: تلك «الخيانة» التي ارتكبتها سينفوروزا ضدهم؛ إذ يبدو أنها اجتذبتهم إلى فيلتها ليأكلوا الفاكهة ثم جعلت الخدم يوسعونهم ضربًا؛ وربما لأنها على ما يبدو اختارت من بينهم صبيًّا يدعى بيل لوري، ولهذا السبب ما زالوا يسخرون منه، وفي الوقت نفسه توددت إلى صبي آخر يدعى أوجاسو، ثم دبرت للوقيعة بينهما، وأن الضرب الذي ذاقوه من خدمها لم يكن بسبب سرقة الفاكهة، ولكنها حملة قام بها الغيورون، وذلك بعد أن تحالفا ضدها. وكانوا يتحدثون أيضًا عن فطائر وعدتهم بها أكثر من مرة، ثم أحضرتها لهم، ولكنها تبلتها بزيت الخروع، ولذلك أخذوا يتلوون من آلام بطونهم لمدة أسبوع. وبعض هذه الأحداث، أو أحداث شبيهة، أو ربما هذه الأحداث مجتمعة، قد أدت إلى تلك القطيعة بين سينفوروزا والعصابة، وهم الآن يتحدثون عنها بغضب، ولكن — في الوقت نفسه — بنوع من الحسرة.

ينصت كوزيمو إلى كل هذه الأشياء مصدقًا، وكأن كل تفاصيل يقولونها تكوِّن صورة معروفة لديه، وفي النهاية قرر أن يسأل: ولكن في أي فيلا تسكن سينفوروزا هذه؟

– كيف هذا، هل تريد أن تقول إنك لا تعرفها؟ إنكما جاران! إن سينفوروزا تسكن في فيلا أونداريفا؟!

بالتأكيد لم يكن كوزيمو بحاجة إلى هذا التأكيد ليوقن أن صديقة المتشردين هي فيولا، فتاة الأرجوحة. وأعتقد أن سبب بحثه عن العصابة هو لأنها قالت له إنها تعرف كل لصوص الفاكهة الموجودين في الجوار. إلا أنه منذ تلك اللحظة أصبحت تلك هي الحمى التي تحركه، ومع أنها غير محددة، أصبحت أكثر حدة. فحينًا يرغب في أن يقود العصابة لتسرق الفاكهة من أشجار فيلا أونداريفا، وفي حين آخر يرغب في أن يضع نفسه في خدمتها ضدهم، بعد أن يحثهم في البداية على مضايقتها ليذهب بعد هذا للدفاع عنها، وفي حين آخر يقوم بأعمال بطولية لتصل أخبارها بصورة غير مباشرة إلى أسماعها. ووسط كل هذه الأهداف يتبع العصابة بالتصاق أكثر، وعندما ينزلون من الأشجار يمكث هو وحيدًا، وتغطي وجهه مسحة من الحزن، كالسحاب الذي يمر ويغطي وجه الشمس.

ثم ينهض فجأة وبسرعة وكأنه القط يتسلق الفروع، ويعبر على أشجار الفاكهة والحدائق، وهو يغمغم ويتغنى، بماذا؟ لا أدرى! كان غناؤه غناءً عصبيًّا، صامتًا تقريبًا، وعيناه مركزتان إلى الأمام وكأنهما لا تريان شيئًا بينما يحافظ على توازنه بالغريزة تمامًا كالقطط.

في هذه الحالة من الثورة رأيناه مرات عدة، يعبر على فروع أشجار حديقتنا فكنا ننفجر صارخين: إنه هناك، هناك! لأننا مع كل محاولاتنا لأن نفعل شيئًا ظل هو مركز تفكيرنا، وكنا نحصي الساعات والأيام التي مكث فيها فوق الأشجار، ويقول أبي: إنه مجنون! لا بد أن به روحًا شريرة! ثم يصب غضبه على الأب فوشيلافلور: لم يبقَ سوى إخراج الأرواح الشريرة! ماذا تنتظر أنت إذن، إنني أتحدث إليك أنت أيها الأب الكاهن، لماذا تقف مكتوف الأيدي؟! لقد لبس الشيطان جسد ابني، هل تفهم؟ ليكن اسم الله مقدسًا!

عندئذٍ ينتفض الأب الكاهن فجأة، فكلمة «الشيطان» توقظ في ذهنه، على ما يبدو، سلسلة معينة من الأفكار، وعندئذٍ يبدأ خطابًا لاهوتيًّا معقدًا جدًّا حول المفهوم السليم لوجود الشيطان، ولم يكن من الواضح إذا كان يريد معارضة أبي، أو أنه يتحدث فقط حديثًا عامًّا. وعلى كل حال، لم يُبدِ رأيًا حول إمكانية وجود علاقة بين الشيطان وأخي، أم أنه أمر مستبعد نهائيًّا.

كان البارون يفقد صبره، والأب الكاهن يفقد خيط أفكاره، وأشعر أنا بالملل. أما حالة القلق لدى أمنا فقد تحولت من شعور متدفق يهدد كل شيء إلى قرارات عملية وإلى البحث عن أدوات مناسبة، وهو ما يحدث عادة لها بعد فترة مع مختلف المشاعر، تمامًا مثلما يحدث مع هموم القائد العسكري. أخرجت منظارًا طويلًا له قاعدة ثلاثية القوائم؛ ووضعت عينيها عليه. وهكذا كانت تقضي الساعات في شرفة الفيلا، وهي تضبط بانتظام وضع العدسات لترصد حركة الفتى وسط أوراق الأشجار، حتى وإن كنا نقسم لها أحيانًا أنه خارج مجال الرؤية.

كان والدنا يسألها وهو يذهب ويجيء تحت الأشجار، ولا ينجح في أن يلمح كوزيمو، إلا إذا كان يقف فوق رأسه تمامًا.

– هل ما زلت ترينه؟!

كانت الجنرالة تشير إليه بنعم، ثم تشير في الوقت نفسه بالتزام الصمت وألا نزعجها، وكأنها تتابع تحركات قوات عسكرية فوق أحد المرتفعات. وكان واضحًا أنها لا تراه أحيانًا، ولكنها أقنعت نفسها، من يدري لماذا، بأنه يجب أن يظهر في مكان بعينه، وليس في مكان آخر، ونحوه توجه منظارها المكبر. ولكنها من حين إلى آخر، بينها وبين نفسها، تعترف بأنها أخطأت، عندئذٍ ترفع عينيها عن العدسة، وتبدأ في فحص خريطة خاصة بمساحة الأراضي تضعها مفتوحة على ركبتيها، وإحدى يديها فوق فمها منهمكة في التفكير، والأخرى تتبع رموز الخريطة الغريبة. بمجرد أن تحدد المكان الذي يجب أن يكون ابنها قد وصل إليه، وبمجرد أن تحسب الزوايا، تسدد المنظار المكبر تجاه أية قمة شجرة في وسط هذا البحر من الأوراق، ثم تبدأ في ضبط العدسات، وبمجرد أن تظهر على شفتيها تلك الابتسامة المرتعشة ندرك على الفور أنها قد رأته، وأنه هناك بالفعل!

عندئذٍ تمسك في يدها ببعض الأعلام الملونة التي تضعها بجوار الكرسي الخشبي، ثم تبدأ في التلويح بأحدها ثم بالآخر بحركات حاسمة، إيقاعية، وكأنها ترسل رسائل بلغة متفق عليها (وشعرت أنا بغصة لأنني لم أكن أعرف أن أمنا تملك تلك الأعلام الصغيرة وتعرف كيفية استخدامها، فمن المؤكد لو علمتنا اللعب معها بتلك الأعلام لكان ذلك شيئًا جميلًا — وخاصة قبل ما حدث — عندما كنا نحن الاثنين أصغر سنًّا؛ ولكن أمنا لم تعتد على أن تفعل أي شيء بغرض اللعب، والآن لم يعد أي أمل في ذلك قط).

يجب أن أقول إنه بالرغم من كل معدات الحرب التي لديها، فإنها مجرد أم يعتصر الألم قلبها، تكور المنديل في يدها، ولكن ربما يمكن القول إن دور الجنرالة يريحها، وإن اختيارها أن تعيش هذا الموقف المخيف وهي ترتدي شخصية الجنرالة بدلًا من أن تستمر كأم عادية؛ يجنبها الشعور بالتمزق، وذلك لأنها امرأة غاية في الرقة، وكان الأسلوب العسكري الذي ورثته عن أسرة فون كورتفيتس هو وسيلة الدفاع الوحيدة لديها.

في حين تحرك أحد تلك الأعلام الملونة وهي تنظر بمنظارها المكبر، إذ بوجهها يضيء وتضحك، وفهِمنا أن كوزيمو قد أجابها. كيف؟ لا أعرف، ربما لوح لها بقبعته، أو هز فرع شجرة. من المؤكد أن أمنا قد تغيرت منذ تلك اللحظة، ولم تعد تشعر بالفزع الذي شعرت به في البداية، وإذا أضحى قدرها كأم مختلفًا عن قدر أي أم أخرى بسبب غرابة ابنها، وبسبب فقدانه للعواطف المعتادة إلا أنها استطاعت أن تصبح أول من قبِل غرابة كوزيمو وكأنها قانعة بتلك التحيات غير المتوقعة التي من الآن فصاعدًا، ومن حين إلى آخر، سيرسلها إليها، وتلك الرسائل الصامتة التي سيتبادلانها.

والشيء الغريب أن أمنا لم تتوهم قط أن كوزيمو بإرساله التحية له يعد نفسه لأن يضع حدًّا لهروبه، وليعود مرة أخرى بيننا. ولكن والدنا عاش دائمًا في ذلك الوهم، وأي خبر جديد يتعلق بكوزيمو تدفعه ليعلن: آه … نعم؟ هل رأيتم؟ سيعود؟ ولكن أمنا، ربما لأنها مختلفة عنه تمامًا، بدت الوحيدة المستعدة لقبول كوزيمو على ما هو عليه، ربما لأنها لم تحاول أن تجد تفسيرًا لهذا الموقف.

لنعد إلى ذلك اليوم. خلف أمنا تقف للحظة أيضًا باتيستا، التي لم تكن تطل قط، وبطريقة لطيفة تمد طبقًا به نوع من الحساء وترفع ملعقة: كوزيمو … أتريد؟! فنالت على ذلك صفعة من والدها وعادت إلى المنزل. من يدري أي نوع من القاذورات أعدت. واختفى أخونا.

انتابتني رغبة جنونية لأن أتبعه، وخاصة الآن وقد عرفت أنه يشارك في مغامرات تلك العصابة من اللصوص الصغار، يبدو لي وكأنه قد فتح أمامي أبواب مملكة جديدة، ولكن أنظر إليها، لا بالخوف المتشكك كذي قبل، ولكن بحماس تضامني. اتخذت مسارًا مكوكيًّا بين سطح المنزل ومبنى عالٍ فوقه، ومنه استطعت أن أجول بناظري فوق أغصان الأشجار، ومن هناك أستعين بحاسة السمع أكثر من النظر، وأتابع صخب العصابة وسط البساتين، وأرى قمم أشجار الكرز وهي تتحرك. ومن حين إلى آخر تظهر يد تتحسس وتقطف الثمار، أو رأس أشعث الشعر أو يغطيه جوال. وبين تلك الأصوات كنت أسمع أيضًا صوت كوزيمو، فأتساءل: «ولكن كيف يستطيع أن يذهب لهناك؟ لقد كان هنا في الحديقة منذ فترة وجيزة! هل أصبح يتحرك فوق الأشجار أسرع من السنجاب؟»

وأتذكر أنهم كانوا فوق أشجار البرقوق الأحمر فوق الحوض الكبير عندما سمعوا صوت البوق. وسمعته أنا أيضًا، ولكنني لم أنتبه له، فلم أكن أعرف كنهه. وأما رد فعلهم هم! فقد قص عليَّ أخي أن الدهشة قد عقدت ألسنتهم، ومن فرط مفاجأة استماعهم لصوت البوق يبدو وكأنهم لم يتذكروا أنه كان إشارة إنذار، ولكنهم أخذوا يتساءلون فقط فيما بينهم هل سمعوا ذلك جيدًا، وهل هي سينفوروزا من جديد تتجول في المدقات بحصانها القزم لتحذرهم من الخطر. وفي لحظة واحدة هربوا من بستان الفاكهة، ولكنهم لم يهربوا ليبتعدوا خوفًا؛ ولكن بحثًا عنها، ووصولًا إليها.

لم يبقَ سوى كوزيمو في مكانه ووجهه أحمر كشعلة النار، ولكن بمجرد أن رأى المتشردين يجرون وأدرك أنهم ذهبوا ليبحثوا عنها؛ أخذ يقفز فوق الأغصان مخاطرًا بأن يدق عنقه مع كل خطوة.

كانت فيولا تقف عند منعطف أحد الطرق الصاعدة، ممسكة في إحدى يديها باللجام مستندة إلى شعر الحصان، والأخرى ترفع بها السوط الصغير إلى أعلى. أخذت تنظر من أسفل إلى أعلى إلى هؤلاء الصبية، وتضع طرف السوط في فمها وتعضه. ثوبها أزرق اللون، والبوق الذهبي اللون معلق في رقبتها بسلسلة. توقف الصبية جميعًا أخذوا هم أيضًا يقضمون إما البرقوق وإما أصابعهم، وإما إصابات كانت بأيديهم أو بأذرعهم، أو يقضمون أطراف الأجولة. ورويدًا رويدًا، ومن أفواههم القاضمة تلك، وكأنهم مجبرون على فعل شيء ليتغلبوا على استياء ما، وليس بدافع شعور حقيقي منهم، وكأنهم يتمنون أن يعارضهم أحد، بدءوا في النطق بصوت خافت؛ عبارات بدت ملحنة، وكأنهم يحاولون غناءها: ماذا أتيت … لتفعلي … يا سينفوروزا … أتعودين الآن … لم تعودي صديقتنا … ها ها ها … أيتها الجبانة.

أخذت الفروع تتحرك، ثم ها هو رأس كوزيمو يظهر من فوق شجرة تين عالية، بين ورقة وأخرى وهو يلهث. أما هي، فقد أخذت تنظر إليه وإليهم من أسفل إلى أعلى وذلك السوط في فمها، وهي تغطي الجميع بالنظرات نفسها. لم يتحمل كوزيمو، وانفجر قائلًا وهو ما زال لسانه خارجًا من فمه: أتعرفين أنني لم أنزل من فوق الأشجار من وقتها؟!

إن المغامرات القائمة على قوة داخلية يجب أن تظل غامضة وفي طي الكتمان؛ وبمجرد أن يعلن عنها أحد، أو أن يتباهى بها، يبدو كل شيء تافهًا، لا معنًى له، بل ويفقد قيمته. هكذا، بمجرد أن تلفَّظ أخي تلك الكلمات، شعر أنه لم يكن يرغب في قول ذلك البتة، وأنه لم يعد يهمه شيء من أي شيء، بل شعر أيضًا بالرغبة في أن يهبط من فوق الأشجار وينهي الأمر برمته، وبالأخص عندما نزعت فيولا السوط ببطء من فمها وقالت بنبرة رقيقة: آه … أهو كذلك؟ يا لك من مكارٍ ماهر!

وهكذا بدأت الضحكات تتصاعد من أفواه الصبية القذرين، وذلك ليفتحوا بعد ذلك أفواههم أكثر، وينفجروا في صرخات تقطع الأنفاس، ومن فوق شجرة التين قفز كوزيمو قفزة قوية غاضبة إلى درجة أن غصن التين — لأنه خشب خائن — لم يصمد، وانكسر الفرع تحت قدميه، وسقط كوزيمو كحجر. سقط مفتوح الذراعين، ولم يتماسك، كانت هذه — في الحقيقة — المرة الوحيدة أثناء إقامته بين أشجار تلك الأراضي التي لم تكن لديه الرغبة ولا الفطرة ليمسك بشيء. إلا أن طرف ذيل بذلته تعلق في فرع منخفض؛ فوجد كوزيمو نفسه معلقًا ورأسه إلى أسفل على بعد أربعة أشبار من الأرض.

بدا له أن الدم في رأسه تدفعه حمرة الخجل نفسها، وأول فكرة واتته وهو يفتح عينيه في وضعهما المعكوس ويرى الصبية الصارخين في وضع مقلوب، وقد اجتاحتهم ثورة القفز والدوران في الهواء، حيث يظهرون واحدًا واحدًا بشكله المعتدل وكأنهم معلقون على أرض مقلوبة فوق الهاوية، والصبية الشقراء تطير على حصانها الصغير المنطلق، عندئذٍ الفكرة الوحيدة التي واتته هي أنها المرة الأولى التي تحدث فيها عن بقائه فوق الأشجار وأنها ستكون أيضًا المرة الأخيرة.

وبإحدى وثباته تعلق بالفرع وصعد عليه وجلس مدليًا ساقيه. أما فيولا، فبعد أن أعادت الحصان إلى هدوئه، بدت وكأنها لم تُعرِ اهتمامًا لأي شيء مما حدث. نسي كوزيمو للحظة خجله، وضعت الفتاة البوق بين شفتيها وأطلقت نغمة التحذير الكئيبة. وعند سماعهم هذا الصوت قام المتشردون (والذين قال عنهم كوزيمو بعد ذلك: بأن وجود فيولا يثير أجسادهم كما يحدث للأرانب البرية في ضوء القمر) بإطلاق أقدامهم هربًا وتركوا أنفسهم لينطلقوا، وكأنه شيء غريزي مع أنهم يعرفون أنها تمزح، وهم أيضًا أكملوا معها اللعب، وأخذوا يجرون هابطين وهم يقلدون صوت البوق خلفها وهي تركض فوق حصانها الصغير ذي السيقان القصيرة.

أخذوا يجرون بسرعة وهم يكادون يدقون أعناقهم، فكانت تختفي أحيانًا من أمامهم. تجنبتهم فخرجت عن الطريق، تاركة إياهم هناك. ولكن إلى أين ذهبت؟ استمرت تقفز بين مزارع الزيتون التي تنزل الوادي في تدريج لطيف للمراعي، وهي تبحث عن شجرة الزيتون التي يسير كوزيمو فوقها بصعوبة، وأخذت تدور حولها وهي تقفز، ثم فرت بعيدًا، ثم ظهرت من جديد أسفل شجرة زيتون أخرى، في حين يظهر أخي بين أغصانها. وهكذا أخذا يهبطان الوادي وهم يسلكان معًا طريقًا معوجًّا بين فروع أشجار الزيتون.

وعندما أدرك اللصوص الصغار، ورأوا تحركات الاثنين فوق الأغصان وعلى السرج، بدءوا جميعًا يصفرون، كان نوعًا من الصفير الخبيث والساخر، وأخذوا يرفعون أصوات صفيرهم وهم يبتعدون إلى أسفل تجاه بورتا كابيري.

ومكث أخي والفتاة الصغيرة يلاحق كل منهما الآخر في حديقة الزيتون، ولكن كوزيمو لاحظ بإحباط أن بمجرد اختفاء فريق المتشردين أخذت فرحة فيولا بتلك اللعبة تنطفئ وكأنها تقع فريسة للملل. وارتاب في أنها تفعل كل هذا فقط لتغضب الآخرين، ولكن على أمل أن تغضبه هو أيضًا معهم؛ ولكن الشيء المؤكد أنها دائمًا بحاجة إلى أن تُغضب أحدًا لتزداد قيمتها (كل هذه المشاعر لم يدركها كوزيمو وهو ما زال صبيًّا؛ فقد استمر في الصعود كالغبي بين قشور تلك الأشجار الخشنة وهو لا يفهم شيئًا، هذا ما أتخيله).

وعند دوران إحدى المرتفعات بدأ هجوم شرس وجيز من الرمي بالحجارة. خبأت الفتاة رأسها خلف عنق الحصان الصغير وهربت. أما أخي الظاهر للعيان فوق جذع شجرة، بقي هدفًا سهلًا؛ ولكن الأحجار الصغيرة تصل إلى أعلى ضعيفةً جدًّا فلا تسبب أي ألم، فيما عدا بعض الحجارة التي أصابته في جبهته أو في أذنيه. أخذ هؤلاء المجانين يضحكون ويصرخون: سينفوروزا … مقززة … ثم هربوا مبتعدين.

ووصل المتشردون إلى بورتا كابيري المحاطة بمساقط خضراء من نباتات القبار التي غطت الأسوار. ومن المنازل الخربة المحيطة تتصاعد صرخات الأمهات. ولم يكن هؤلاء أطفالًا تصرخ فيهم أمهاتهم في المساء كي يعودوا؛ وإنما تنهرهم أمهاتهم لأنهم عادوا، لأنهم عادوا ليأكلوا في المنزل بدلًا من أن يبحثوا عن طعامهم في مكانٍ آخر.

حول منطقة بورتا كابيري. في منازل صغيرة وأكواخ من الخشب، وعربات عرجاء وخيام، يجتمع أفقر سكان أومبروزا. كانوا فقراء إلى حد أنهم أقاموا خارج أسوار المدينة بعيدًا عن الحقول، فهم أناس هاجروا من أراضٍ وبلاد بعيدة، طردتهم منها المجاعة، أو البؤس المنتشر في كل بلد. وفي وقت الغروب، تحمل سيدات مشعثات الشعر أطفالًا على صدورهن ويهوين مواقد يتصاعد منها الدخان، بينما بعض المتسولين يتمددون وهم يفكون أربطة جروحهم، وآخرون يلعبون بالنرد ويصيحون صيحات متقطعة.

انغمس أفراد عصابة الفاكهة الآن في ذلك الدخان المتصاعد من القلي ومع أولئك المتشاجرين، فيتلقون الصفعات من أمهاتهم، وتشابكوا فيما بينهم بالأيدي وهم يتدحرجون في التراب. واتخذت ملابسهم الممزقة لون كل الأثمال الأخرى، وتحولت بهجتهم التي تشبه بهجة الطيور، بعد أن سقطت في ذلك الفخ من الانحطاط الإنساني، إلى إحباط كثيف. حتى إنهم بمجرد ظهور الفتاة الشقراء راكضة وكوزيمو فوق الأشجار التي حولهم رفعوا بصعوبة عيونهم التي يملؤها الخجل، وانسحبوا إلى الداخل، محاولين الاختباء بين الأتربة ودخان المواقد، وكأن جدارًا قد ارتفع فجأة بينهم.

كل هذا كان بالنسبة إليهما مجرد لحظة، طرفة عين. والآن وقد تركت فيولا خلف ظهرها دخان الأكواخ الذي يختلط مع ظلال المساء وصرخات النساء والأطفال، أخذت تجري بعيدًا بين أشجار الصنوبر الممتدة على الشاطئ.

هناك كان البحر. يُسمع صوت التدحرج بين الحصى. كان الجو مظلمًا، وتُحدث الدحرجة صريرًا عاليًا؛ كان هذا صوت المهر الذي كان يجري وهو يطلق شرارًا باحتكاكه بالحصى.

ومن فوق شجرة صنوبر منخفضة معوجة ينظر أخي إلى الظل الواضح للفتاة الشقراء وهي تعبر الشاطئ. تصاعدت من البحر الأسود قمة موجة ثم انقلبت منعكسة، وها هي تتقدم إلى الأمام بلونها الأبيض، ثم تكسرت ولمستها بالكاد ظلال الحصان الراكض بسرعة شديدة وفوقه الفتاة، وفوق شجرة الصنوبر بلَّل الرذاذ الأبيض المملح وجه كوزيمو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤