مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل لغة العرب أشرف لغات العباد، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفصح من نطق بالضاد، وعلى آله وأصحابه أجمعين والتابعين لهم إلى يوم الدين. وبعد؛ فلا يخفى ما انتهت إليه اللغة في العصور المتأخرة من التحريف والمسخ، وضياع الكثير منها بسبب ما اعتوَر الأمة من تقلب الأحوال، واختلاف الدول، وتبدل المواطن، ومخالطة الأعاجم، ثم ما طرأ عليها بهذه الأسباب من إهمال التعلم والتعليم حتى عادت إلى أُمِّيَّتِها الأولى، ولكن بعد أن ذهبت اللغة من ألسنتها إلا أقلها، وانحصرت اللهجة الصحيحة بين ألواح كتب السلف لا تكاد ترى من يفتح منها سِفْرًا أو يقرأ حرفًا. ومرت على ذلك السنون تتلو السنين إلى أن أفضينا إلى هذا العهد الذي هبَّت الأمة فيه من رقادها بفضل الذين تولوا أمر قيادها؛ فتجدَّدَت معالم اللغة بعد الدُّرُوس، وعادت الأقلام إلى الاستنان في حلبات الطروس، وكثر عندنا عدد الكتَّاب والقراء، وانتشرت المطابع والجرائد إلى ما يفوت حد الإحصاء.
غير أنه لما كان قد غلب على الألسنة التخاطب باللغة العامية، وتُنُوسِي كثير من اللفظ الفصيح، فضلًا عما خالط اللغة من الكلم الأعجمي؛ كانت الأقلام — ولا بِدْعَ — تَنْزع إلى الكتابة بما ألفته الألسنة والأسماع تخُطُّه من غير بحث ولا استثبات، وتتلقاه الأذهان من غير نكير ولا ارتياب، حتى لقد كان ما نعده تجديدًا لحياة اللغة سببًا في تقويض بنائها وتشويه بهائها، وكانت الجرائد — التي هي مدرسة الأمة ووسيلة نشر العلم بين جمهور قرائها — هي العامل الأعظم على نشر تلك الأغاليط والأوهام؛ لأنه يظهر منها كل يوم ألوف من النُّسَخ تتوزع على ألوف من القراء، فكل وَهْم فيها أو زَيْغ يتكرر عليهم ما تكررت الأيام.
على أن الكتَّاب معذورون في ذلك؛ إذ لا يسع الكاتب أن يستوقف قلمَه عند كل لفظة تشتبه عليه، وقد لا تعرض له فيها شبهة أصلًا لاستدراج العادة له إلى استعمالها، وعلى الخصوص إذا رآها في كلام من يثق بعلمه من كبراء الكتَّاب؛ فيمضي عليها من غير توقف، وحينئذٍ اقتُضي لتصحيح هذه الأوهام من يستقريها في كلام الكتَّاب، وينبه على واحدةٍ واحدةٍ منها بما يكفيهم استثباتها بأنفسهم من كتب اللغة، ولا يخفى ما في تحقيق هذا المطلب من بُعْدِ الشُّقَّة إلا على من مارس اللغة دهرًا طويلًا حتى يدرك باللحظة ما لا يدرك سواه إلا بعد البحث والتنقيب. وقد قيَّض الله لهذه البغية ابن بجدتها ورب نجدتها؛ أعني به سليل بيت العلم والأدب الشيخ إبراهيم ابن الشيخ ناصيف اليازجي الشهير، وهو الذي عرفه جمهور القراء والمتأدبين ببعد الغور في معرفة اللغة، ودقة النظر في التمييز بين صحيحها وفاسدها؛ فإنه قد أفرد لهذه الأوهام مقالة طويلة في مجلد السنة الأولى من ضيائه المنير تحت عنوان «لغة الجرائد» أورد فيها من الألفاظ الدائرة بين الكتاب نحوًا من مائتين وثلاثين لفظة، نَبَّه على صحة جميعها بما كان له عند صدوره أعظم فائدة، تناولتها أقلام أكثر الكتاب؛ ثقةً منهم بمقدرة هذا الكاتب وسعة علمه بمواقع الخطأ والصواب.
بيد أنه لما كان مثل هذا العدد من الأغلاط لا يمكن استظهاره إلا بعد الدرس وتكرار المراجعة — ولا سيما مع انطباع تلك الألفاظ على صفحات الأذهان — لم نزل نرى الكثير منها يتكرر تحت أقلام الكتاب؛ إما سهوًا وإما لأنه لم يتيسر لهم الوقوف على المقالة المشار إليها، وربما استصعب بعضهم تتبُّعها في أماكنها للوقوف على ضالتهم منها؛ ولذلك رأيت أن أطبعها مجموعة في جزء مخصوص أطرف به حملة الأقلام؛ لتكون مرجعًا يُثاب إليه في التحقيق ويعتمد عليه في التدقيق، بعد أن استأذنت حضرة الكاتب في طبعها على الوجه المذكور، فلم يمانع — أطال الله بقاءه — فيه، والله يعلم أن لا غرض لي في تجديد نشرها إلا خدمة هذه اللغة الشريفة التي هي أفصح ما جرى به لسان وأشرف ما وعته الآذان، بل لغة كتاب الله العظيم وحديث رسوله الكريم؛ فهي أحرى اللغات بأن تُصَانَ عما يوجب ابتذالها ويُضَنَّ بها على ما يشين كمالها أو يشوِّه جمالها، وها أنا أبدأ بنص المقالة نقلًا عن مجلة الضياء الغراء، والله المسئول أن ينفع بها المستفيدين وأن يوفِّقَنا إلى كل ما به مرضاته، إنه نعم المولى ونعم المعين.