لغة الجرائد
تقدم لنا في الجزء الأول من مجلة الضياء كلام في بيان موضع الجرائد من الأمة، وما لها من التأثير في مداركها وأذواقها وآدابها ولغتها وسائر ملكاتها، ولا سيما مع كثرتها وانتشارها في عهدنا الحالي حتى أصبحت بحيث تصدر الألوف منها كل يومٍ وتوزع بين أيدي القراء؛ فيتناول كل قارئ منها على حسب وسعه واستعداده، وليس من ينكر أن ذلك كان سببًا في انتشار صناعة القلم عندنا، وتدريب الكتَّاب على أساليب الإنشاء، واقتباسهم صور التراكيب المختلفة، وإحياء كثير من اللهجة الفصحى حتى بين عامة الكتَّاب؛ مما آذن بانتعاش اللغة من كبوتها وأحيا الآمال في عودها إلى قديم رونقها، بل إذا تفقدت الجرائد أنفسها وجدتها قد انتقلت إلى طور جديد من الفصاحة وجزالة التعبير، كما تتبين ذلك من المقابلة بين حال الكثير من جرائدنا اليوم وما كانت عليه عامة الجرائد منذ نحو عشر سنوات أو دونها. والفضل في ذلك — ولا شك — عائدٌ إلى هذه الكثرة نفسها بما نشأ عنها من المباراة بين الأقلام، وازدحام القرائح في حلبات السبق، فضلًا عما تهيأ بها من انتشار أسلوب الفصاحة ورسوخ ملكة الإنشاء.
بيد أننا مع ذلك كله لا نزال نرى في بعض جرائدنا ألفاظًا قد شذَّت عن منقول اللغة؛ فأُنزلت في غير منازلها أو استُعملت في غير معناها؛ فجاءت بها العبارة مشوهة وذهبت بما فيها من الرونق وجودة السبك، فضلًا عما يترتب على مثل ذلك من انتشار الوهم والخطأ، ولا سيما إذا وقع في كلام من يوثق به؛ فتتناوله الأقلام بغير بحث ولا نكير. ولا يخفى أن الغلط في اللغة أقبح من اللحن في الإعراب، وأبعد عن مظانِّ التصحيح لرجوعها إلى النقل دون القياس؛ فيكون الغلط فيها أسرع تفشيًا وأشد استدراجًا للسقوط في دركات الوهم.
والعجب هنا أنك كثيرًا ما ترى أناسًا من متقدمي الكتَّاب وذوي القدم الراسخة في اللغة والإنشاء يعتمدون أحيانًا على التقليد، وربما قلدوا من هو دونهم من أصاغر أهل الصناعة؛ حتى فشا النقل بين تلك الطبقات كلها، وأصبح كثيرٌ من ألفاظ الجرائد لغةً خاصةً بها تقتضي معجمًا بحاله. ولما كان الاستمرار على ذلك مما يُخاف منه أن تفسد اللغة بأيدي أنصارها والموكول إليهم أمر إصلاحها، وهو الفساد الذي لا صلاح بعده، رأينا أن نفرد لذلك هذا الفصل نذكر فيه أكثر تلك الألفاظ تداولًا، وننبه على ما فيها، مع بيان وجه صحتها من نصوص اللغة، وفي يقيننا أن وصفاءنا الأفاضل يتلقَّون ذلك منا خدمة إخلاص لهم لا نقصد بها إلا المحافظة على اللغة وصيانة أقلامهم من مثل هذه الشوائب، مع كفايتهم مئونة البحث والتنقيب في كتب اللغة على ما هو معلوم من وعورة مسلكها وشكاسة ترتيبها، مما كان ولا شك هو السبب في تجافيهم عن مراجعتها واستثبات صحة تلك الألفاظ منها. والله نسأل أن يوردنا جميعًا موارد الصواب بفضله — عز وجل — وحسن تسديده.
فمن تلك الألفاظ لفظة التحوير التي لم يبقَ كاتب جريدة ولا مؤلف كتاب إلا وردت في كلامه مئات من المرار يريدون بها معنى التنقيح والتعديل والتهذيب وما جرى هذا المجرى، وذلك في الكلام على الشروط والمعاهدات والأحكام وأشباهها. ولم ترد هذه اللفظة في شيء من كتب اللغة بمعنى من هذه المعاني؛ إنما التحوير في اللغة بمعنى التبييض، يقال: حوَّر الثوب إذا قصَّره وبيَّضه، ومنه الحُوَّارَى للدقيق الأبيض، وهو لباب البُرِّ وأجوده وأخلصه، وقد حوَّر الدقيق إذا بيَّضه، وغالب ألفاظ هذه المادة يرجع إلى معنى البياض، فما ضرَّ لو استعملوا في مكان هذه اللفظة إحدى الكلمات التي ذكرناها في مرادفها.
ومن ذلك قولهم: تقدم إليه بكذا، يعنون رغب إليه فيه وسأله قضاءه، وإنما يقال: تقدم إليه بمعنى أوعز إليه وأمره، تقول: تقدم الأمير إلى عامله أن يفعل كذا وكذا، فهو على عكس المعنى الذي يريدونه كما ترى.
ومن ذلك قولهم: شكر له على إحسانه، وشكر لإحسانه، وشكر له لإحسانه؛ صورٌ لا تكاد تتعداها كتابات الأكثرين، وكلها حائدة عن الصواب. قال في تاج العروس: شكره وشكر له، وشكرت الله وشكرت لله وشكرت بالله، وكذلك شكرت نعمة الله وشكرت بها. وفي البصائر للمصنف: يقال شكرته وشكرت له، وباللام أفصح. ا.ﻫ. وفي لسان العرب قريب منه، وهو لا يخلو من إبهام وقصور. وأحسن منه وأوضح تفصيلًا ما جاء في الأساس قال: شكرت لله نعمته، واشكروا لي. وقد يقال: شكرت فلانًا يريدون نعمة فلان … ا.ﻫ. فعُلم من صريح عبارته أن الشكر يعدَّى إلى المشكور له — أي المنعم — باللام، وإلى المشكور به — أي النعمة — بنفسه؛ تقول: شكرت لزيد صنيعته، بجر الأول ونصب الثاني، وهو الأشهر في أصل استعمال هذا الحرف، ثم يجوز لك أن تحذف أحد المتعلقين فتقول: شكرت لزيد وشكرت صنيعة زيد، ويجوز أن تقول: شكرت زيدًا، على تقدير مضاف محذوف؛ أي: صنيعة زيد. وأما تعديته إلى المشكور به بعلى فيجوز على تضمين الشكر معنى الحمد، وحينئذٍ تمتنع اللام فتقول: شكرته على إحسانه، كما تقول: حمدته على إحسانه؛ للمطابقة بين الاستعمالين؛ فتأمل.
ومن ذلك قول بعضهم: مزق الكتاب إربًا إربًا، وقطع الحبل إربًا إربًا؛ أي: قطعة قطعة. وأكثرهم يقرؤها: أرَبًا أرَبًا، بفتحتين، وليس شيء من ذلك بصواب، إنما يقال: قطعت الذبيحة إرْبًا إرْبًا، بكسر الهمزة وسكون الراء، أي: إربًا فإربًا. ومعنى الإرب العضو؛ فهو خاص بما له أعضاء، ولا يجوز استعماله للكتاب والحبل وأمثالهما. وأما الأَرَب — بفتحتين — فمعناه الحاجة.
ومن ذلك قولهم: خرج فلان عصارى يوم كذا؛ يريدون وقت العصر. وأكثر ما سُمعت اللفظة في قراءتهم بضم العين وفتح الراء على مثال قُصارى وخُزامَى، ولا وجود لهذه اللفظة في كتب اللغة. ولعل أولَ من قالها أراد أن تكون بفتح العين وكسر الراء وتشديد الياء كأنها جمع عصرية، من قول العامة: جئته عصرية النهار، كما يقولون: جئته صبحية وظهرية، وكل ذلك لم يرد شيء منه في استعمال العرب.
ومن ذلك قولهم: أوجبني إلى كذا؛ أي: ألجأني إليه واضطرني. وإنما يقال: أوجبت الأمر، ولا يقال: أوجبت الرجل؛ فالصواب: أوجب عليَّ كذا.
ومثله قولهم: أعلنت فلانًا بالأمر، على حد أعلمته به مثلًا، وإنما يقال: أعلنت الأمر وبالأمر؛ أي: أظهرته، وقد أعلنته لفلان كما تقول أظهرته له، ويقال أيضًا: أعلنته إليه كما يؤخذ من عبارة لسان العرب.
ومن ذلك قولهم: تولج فلان الأمر؛ أي: تولاه. وما نَحسَبُهم إلا أرادوا هذا اللفظ الأخير بعينه؛ أي لفظ تولاه، فأبدلوا من ألفه جيمًا، وهو من غريب التحريف. وأما تولج فمعناه دخل، مثل ولج المجرَّد.
ويقولون: أشار عليه بكذا فانصاع لمشورته؛ يعنون انقاد وأطاع، ولا وجود لذلك في اللغة، لكن يقال: انصاع الرجل إذا انفتل راجعًا مسرعًا. وفي الأساس: انصاع القوم إذا مرُّوا سراعًا. وفي اللسان: صاع الشيء يصوعه صوعًا فانصاع؛ أي: فرَّقه فتفرق، لم يجئ في هذا الحرف غير ذلك.
ومن ذلك قولهم: عَهِد إليه أمر كذا، فيستعملون عَهِد متعديًا بنفسه، والصواب تعديته بفي. قال في لسان العرب: ويقال عهد إليَّ في كذا؛ أي: أوصاني … ومنه قوله عز وجل: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ؛ يعني الوصية والأمر، والعهد: التقدُّم إلى المرء في الشيء. ا.ﻫ. وقد علمت معنى التقدم في محله.
ومن ذلك قول بعضهم: ينبغي عليك أن تفعل كذا، فيُعدُّونه بعلى لظنهم أنه بمعنى يجب، وليس كذلك؛ لأنه في الأصل مطاوع بغى الشيء بمعنى طلبه، فكأنه قيل: ينطلب لك، وإن كان لا يجوز أن يقال: انبغى وانطلب بهذا المعنى، ولكنه من الألفاظ التي جرت كذلك على ألسنة العرب، وأُلزمت وجهًا من الاستعمال لا تتعداه، وهو يستعمل عندهم بمعنى يجوز ويصلح ويتيسر، ولم يُسمع عنهم إلا موصولًا باللام، ومنه لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَر، وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ، ولا يكاد يستعمل إلا بصيغة المضارع كما رأيت؛ ولذلك يعدُّه أكثرهم من الأفعال الغير المتصرفة.
ومن هذا القبيل قولهم: هذا العمل يقتضي له كذا من النفقة، وقد جُمعت له الأموال المقتضية، فيستعملون هذا الحرف لازمًا بمنزلة يجب وهو لا يستعمل كذلك البتة؛ لأن اقتضى هنا بمعنى طلب. يقال: افعل ما يقتضيه كرمك؛ أي: ما يطالبك به كما في الأساس. فالصواب أن يقال: هذا العمل يقتضي كذا من النفقة باستعمال الفعل متعديًا مسندًا إلى ضمير العمل. وقد جُمعت له الأموال المقتضاة بصيغة اسم المفعول.
ومثله قولهم: هذا الأمر قاصر على كذا؛ أي: مقصور عليه لا يتعداه إلى غيره، فيستعملون هذا الحرف لازمًا أيضًا لا تكاد تجده في كلامهم إلا كذلك، وهو غريب. قال في لسان العرب: قصرتُ نفسي على الشيء: إذا حبستها عليه وألزمتها إياه … وقصرت الشيء على كذا: إذا لم تجاوز به إلى غيره. يقال: قصرتُ اللِّقحة على فرسي: إذا جعلت دَرَّها له، وناقة مقصورة على العيال يشربون لبنها. ا.ﻫ.
ويقولون: فلان من ذوي الشهامة؛ يعنون المروءة وعزة النفس، وليس ذلك في شيء من كلام العرب، ولكن الشهم عندهم الذكي المتوقد الفؤاد، ويجيء بمعنى السيد النافذ الحكم في الأمور. وقال الفراء: الشهم في كلام العرب الحَمُول الجيِّد القيام بما حُمِّل. وكله بعيدٌ عن المعنى الذي يريدونه كما ترى.
وقريب من ذلك قولهم: فلان طاهر الذيل؛ يريدون أنه ظَلِف النفس منزَّهٌ عن المطامع الدنيئة والمكاسب الممقوتة. ولا معنى لطهارة الذيل هنا كما لا يخفى، ولكن لهذه الكناية معنًى آخر لا يخفى على اللبيب، ومثلها هو عفيف المئزر، ونقيُّ الثياب، وطاهر الحُجزة، وطيب معقد الإزار؛ قال النابغة:
ويقولون: غصنٌ يانع؛ أي: نضير أو رطب، وكذا زهرة يانعة وروض يانع. ولا يأتي ينع بهذا المعنى، إنما يقال: ثمرٌ يانع وينيع؛ أي: ناضج، وقد ينع الثمر وأينع: إذا أدرك وحان قطافه، واليانع أيضًا: الأحمر من كل شيء، وثمر يانع: إذا لوَّن. ومن الغريب أن هذا الوهم ورد في كلام أناس من المتقدمين، وممن وهم فيه الحريري صاحب درَّة الغوَّاص؛ قال في المقامة النصيبية: «وكان يومًا حامي الوديقة يانع الحديقة.» وفسر الشريشي يانع الحديقة بقوله «ناعم الروضة». وجاء للشريشيِّ أيضًا في خطبة شرحه: «ولم يزل في كل عصر من حَمَلته بدرٌ طالع وزهر غصن يانع.» ومن كلام القاضي شهاب الدين بن فضل الله: «حتى تدفَّق نهره وأينع زهره.» رواه صاحب فوات الوفيات، وقال الصفدي:
وهو كثير في كلامهم، ووقوع مثل هذا من أمثال هؤلاء الأئمة في منتهى الغرابة.
ويقولون: أخذت بناصر فلان؛ يعنون: أخذت بيده ونصرته، وهو غير مسموع عن العرب، ولا يظهر له وجه في اللغة.
ومثله قولهم: فعلت هذا لصالح فلان؛ أي: لمصلحته ومنفعته، وهذا الأمر من صالحي، وهي الصوالح. ولم يأت الصالح في شيء من اللغة بهذا المعنى، وإنما هو من كلام العامة.
ويقولون: أنعِم بفلانٍ من رجل؛ أي: نِعْمَ الرجل هو. فيأتون به على صيغة أَفْعِل على حد أكرم به مثلًا، ومنهم من يجمع بينهما يقول: أنعم به وأكرم، وهي من العبارات الشائعة على ألسنة العامة. ومعلوم أن أنعِم بهِ صيغة تعجُّب؛ فهو بمعنى: ما أنعمه! كما أن أكرِم به بمعنى: ما أكرمه! وحينئذ فاشتقاقه من النعومة أو النَّعمة لا من نِعمَ التي هي فعل مدح؛ لأن هذه من الأفعال الجامدة التي لا تُبنَى منها صيغة التعجب.
ويقولون: أرفقته بكذا، وجاء مرفوقًا بفلان، وأرسلت الكتاب برفق فلان؛ أي: برفقته. وكل ذلك بعيدٌ عن استعمال العرب؛ لأن فعل الرُّفقة لا يتجاوز المفاعلة وما في معناها. يقال: رافقته وترافقنا وارتفقنا، ولا يقال: أرفقت فلانًا ولا رفقته به. على أن المرافقة لا تكون إلا في السفر، فإن أُريد مطلق الصحبة قيل: أصحبته الشيءَ، واستصحبته كتابي.
ومن ذلك قولهم: يخال لي أن الأمر كذا بفتح الياء أو ضمها على أن الفعل مجرَّد أو من باب أفعل مبنيًّا للمجهول، وكلاهما غير صواب؛ لأن خال المجرَّد لا يكون إلا متعديًا؛ تقول: خلت الأمر كذا ولا تقول خال لي الأمر، وأخال لا يكون إلا لازمًا؛ تقول: أخال الأمرُ إخالةً: إذا اشتبه والتبس، وهو أمرٌ مُخيل. والصواب: يُخيَّل إليَّ أن الأمر كذا، من باب التفعيل، وقد خُيِّل إليَّ أنه كذا بالبناء فيهما للمجهول.
ويقولون: أحطته علمًا بالأمر؛ أي: أنهيته إليه وأعلمته به، فيجعلون هذا الفعل متعديًا، وهو لا يكون إلا لازمًا، يقال: أحطتُ بالأمر وأحطتُ به علمًا، لم يُسمع فيه غير ذلك.
ويقولون: فلان حميد النوايا، يريدون النيات جمع نية، وإنما النوايا جمع نويَّة مثل الطوايا جمع طويَّة. ولم ترد النويَّة في شيء من كلامهم بهذا المعنى.
ويقولون: هو وريث فلان ووريث العهد وهم الورثاء، ولم يُنقل عنهم لفظ الوريث، إنما هو الوارث، والجمع الوَرَثة والوُرَّاث.
ويقولون: وحشٌ كاسر؛ أي: ضارٍ، وإنما الكاسر في مثل هذا من صفات جوارح الطير، يقال: كسر الطائر: إذا ضمَّ جناحيه يريد الوقوع، وباز كاسر، وعقاب كاسر.
ويقولون: حكم صارم؛ أي: عنيف، ورجلٌ صارم مثله، وفلان من أهل الصرامة؛ أي: من أهل الشدة والعنف، وإنما الصرامة بمعنى الشجاعة، وفسرها في الأساس بمعنى المضاء في الأمور، وقد صَرُم الرجل بالضم وهو صارم، نادر.
ويقولون: انجلى القوم عن المكان؛ أي: خرجوا منه، ولا يأتي انجلى بهذا المعنى، والصواب جَلَوا وأجلو، وقيل: جلوا من الخوف وأجلوا من الجدب، وهذا أوان جلائهم بالفتح.
ويقولون: اقتصد كذا من المال: إذا استفضل منه فضلة، فيغيرون معنى الفعل ووجه استعماله؛ لأن الاقتصاد في اللغة بمعنى الاعتدال والتوسط في الأمر. يقال: فلان مقتصد في معيشته إذا توسط بين التقتير والإسراف، واقتصد الرجل في أمره إذا لم يبالغ فيه، وأصل معنى القصد استقامة الطريق، فكأن المقتصد لا يميل إلى التفريط ولا الإفراط، ولكن قصدًا بين الطريقين، وحينئذ فلا معنى لأن يقال: اقتصدت مالًا فضلًا عن أن الفعل لازم لا يحتمل التعدية، ويا عجبًا! لم لا يستعمل التوفير في هذا الموضع، وهو اللفظ اللائق به مع شهرته على الألسنة وعدم مباينته لأصل المعنى الذي وضع له. بلى إنا لم نجد هذا اللفظ في كلامهم على وجهه الذي نستعمله اليوم، ولكن يمكن رده إلى كلامهم من أسهل سبيل، وذلك إنهم يقولون: شيء وافر: أي تامٌّ لا نقص فيه. وقد وفَّره توفيرًا: إذا جعله تامًّا، وكذلك إذا تركه تامًّا. يقال: وفَّر شعره إذا لم يأخذ منه، ووفرت عِرضه إذا لم تنتقصه بشتم. وجاء في اصطلاح العروضيين إطلاق الموفَّر على ما جاز من الأجزاء أن يُخرَم فلم يُخرَم، فسمِّي ترك الخرم توفيرًا. فيتحصَّل من ذلك أنك تقول: وفَّرت المال إذا لم تنقص منه، ثم استُعمل في الحصة التي استُبقيت منهُ فجُعل استبقاؤه توفيرًا، وهو غير خارج عن أصل المعنى كما ترى. وقد تضافرت على هذا الاستعمال أقوال مشاهير الكتاب من المولدين، ولا بأس أن ننقل شيئًا منها في هذا الموضع ولو أطلنا تقريرًا للفائدة.
فمن ذلك ما جاء في مروج الذهب للمسعودي في الكلام على خلافة المعتضد نقلًا عن ابن حمدون أن المعتضد أمر أن تُنقَص حشمه ومن كان يجري عليه من كل رغيف أوقية … قال: قال ابن خلدون: فتعجبت من ذلك في أول أمره، ثم تبيَّنت القصة فإذا إنه يتوفر من ذلك في كل شهر مالٌ عظيم. ا.ﻫ. وجاء في المجلد الثاني من نفح الطيب للمقَّرِّي (صفحة ٥٢٨ من النسخة المطبوعة في مصر): أمضي إليكم وألقاكم في بلادكم رفقًا بكم وتوفيرًا عليكم. وفي المجلد نفسه (صفحة ٦١٣)، وما ذلك منه إلا توفيرٌ لرجالهِ وعدته ودفعٌ بالتي هي أحسن. وفي المجلد الثاني من كتاب ألف با للبلويِّ (صفحة ١٦٨) نقلًا عن بعض التفاسير أن سليمان سأل مرة نملة: كم تأكلين في السنة؟ فقالت: ثلاث حبات. فأخذ النملة وجعلها في حُق، وجعل معها ثلاث حبات، ثم نظر إليها بعد سنة فوجدها قد أكلت حبةً ونصف حبة، فقال: كيف هذا؟ فقالت: لما سجنتني هنا وأنت ابن آدم خشيت أن تنساني فوفَّرت قوت عام آخر. ا.ﻫ. وبهذا القدر كفاية.
ويقولون: رجلٌ تعيس وقومٌ تعساء، وهو من أهل التعاسة، وكل ذلك خلاف المنقول عن العرب. والمسموع عنهم رجلٌ تاعسٌ وتَعِسٌ بوزن كتِف، وقد تَعَسَ بفتح العين وكسرها، والمصدر التَّعْس بالفتح والتَّعَس بالتحريك، ويعدَّى الأول بالهمزة؛ تقول: أتسعه الله إتعاسًا، والثاني بالحركة تقول: تعسه بالفتح، وهو مُتْعَسٌ ومتعوس لم يُحكَ فيه غير ذلك.
ويقولون: نوَّه بالأمر عنه؛ أي ذكره تلويحًا وأشار إليه من طرفٍ حفيٍّ. وليس ذلك من استعمال العرب في شيء، وإنما هو من تواطؤ العامة. قال في الأساس: نوَّهت به تنويهًا رفعت ذكره وشهرته … وإذا رفعت صوتك فدعوت إنسانًا قلت: نوَّهت به ونوَّهت بالحديث: أشدت به وأظهرته. ا.ﻫ. فهو لا يخلو أن يكون على عكس استعمالهم كما ترى.
ويقولون: انفرط العقد؛ أي انتثر وتبدد، وهو من أوضاع العامة صيغةً ومعنى. ومن الغريب أن هذا اللفظ ورد في كلام ابن حجة الحموي في خزانة الأدب، وهو قوله في الكلام على نوع الانسجام: «وقد ألجأتني ضرورة الجنسية إلى ضمِّ المتقدمين مع المتأخرين؛ لئلا ينفرط لعقودها نظام.» ومثله بعد صفحات: «وقدَّمت عصر المتأخر لئلا ينفرط سلكه.» فجعل هنا الانفراط للسلك وهو أغرب؛ لأن المتعارف في معنى هذه اللفظة عند العامة الانتثار، وقد فرط الشيءَ فانفرط، يقولون: فرطت حب الرمانة وانفرط عنقود العنب ونحو ذلك، ولا يقولون: انفرط الخيط أو الحبل.
ويقولون: صحيفةٌ وضَّاء وفلانٌ ذو طلعة وضَّاء، فيؤنِّثُون لفظ الوضَّاء ذهابًا إلى أن ألفه للتأنيث على حد ألف غراء مثلًا. ومقتضاه أن الوضاء مؤنث الأوَضِّ مثل غراء وأغر، وهي مادة لم ينطقوا بها ولا يُعرَف لها معنى، وإنما الوضَّاء من الوضاءة بمعنى الحسن. يقال: وَضُؤ الرجل، وهو وَضيء على فعيل ووُضَّاءٌ بضم فتشديد مثل كبير وكُبَّار وعجيب وعُجَّاب، فالهمزة فيه أصلية وهي لام الكلمة، ويقال في مؤنثه: وُضاءة.
على أن مثل هذا الوهم قد جاء حتى في كلام بعض الجاهليين؛ لأنه من المواضع التي تلتبس على غير اللغوي. قال الحارث بن حِلِّزة:
فأنَّث الضوضاء على توهم أنه من باب شحناء وبغضاء. والذي يلزم عن هذا أن يكون اشتقاقه من ضاض يضوض، وهي مادة لم ينطقوا بها أيضًا. والصحيح أن الضوضاء وزنه فَعْلال على حد بَلبال وزَلزال، واشتقاقه من الضوَّة وهي الصياح والجَلَبَة، وأصله ضَوْضاوٌ، ثم قُلبت الواو همزة لتطرفها بعد ألف.
وأغرب منه ما جاء في القاموس حيث أورد الخِشَّاء — بالكسر والتشديد — في مادة «خ ش ش»، وفسره بالتخويف. وليس في هذه المادة شيء من هذا المعنى. وإنما الخشاء فِعَّال (بالكسر) من خَشَّاه — بالتشديد — يخشِّيه تخشية وخِشَّاءً، مثل كذَّبه تكذيبًا وكِذَّابًا، وقضَّاه تقضيةً وقضَّاءً. فالهمزة فيه منقلبة عن الياء التي هي لام الكلمة كما هو ظاهر. ومن الغريب أن الشارح لم يتعرض لهذه اللفظة مع أنها لم تردْ في لسان العرب الذي عنه أخذ معظم ما جاء في هذا الشرح مع ما هو معروف من كثرة تنقيب صاحب اللسان وحرصه على جمع نوادر اللغة.
ويقولون: هم في حاجةٍ إلى الغذاء الكساء، فيستعملون الكساء بالمد لمطلق الملبوس، وإنما الكساء ثوبٌ بعينه، وهو نحو العباءة من صوف. قال:
والصواب في مرادهم الكُسَى — بالقصر مع ضم الكاف وكسرها — جمع كسوة بالوجهين، وهي كل ما يُكتَسى.
ويقولون: أمعن في الأمر وتمعَّن فيه؛ أي: تدبره وتقصَّى النظر فيه. وربما قالوا: تمعَّنه وأمعن فيه النظر، وكل ذلك غلط؛ لأن الإمعان بمعنى الإبعاد في المذهب، وهو لا يستعمل إلا لازمًا يقال: أمعنت السفينة في البحر؛ أي: أوغلت، وأمعن الطائر في الطيران: إذا تباعد. وقد يستعمل بمعنى المبالغة في الأمر مجازًا، يقال: أمعن في الطعام والشراب وأمعن في الضحك، وأما تمعَّن فلم يثبت وروده في شيء من كلام العرب، وكأنهم بنَوه على تأمُّل وتدبُّر وتفرُّس وما أشبه ذلك.
ويقولون: قرأت هذا في صحيفة كذا من الكتاب، وفي هذا الكتاب كذا كذا صحيفةً، يعنون الصفحة، وهي أحد وجهي الصحيفة، وإنما الصحيفة الورقة بوجهيها.
ويقولون: ذهب الرجلان سويةً؛ أي: ذهبا معًا، وإنما السوية بمعنى السواء، يقال: قسموا المال بينهم بالسوية، وهذا حكمٌ لا سوية فيه، وهي النَّصَفة والعدل.
ويقولون: احتار في الأمر من الحيرة، ولم يسمع افتعل من هذا، وإنما يقال: حار يحار فهو حائرٌ وحيران، وحيَّرته فتحير.
ويقولون: فوَّضت فلانًا بالأمر وفي الأمر؛ أي: رددته إليه، فيعكسون عمل الفعل، والصواب فوَّضت الأمر إلى فلان.
ومثله قولهم: نوَّطته بالأمر وأنطته بالأمر، فيغيرون صيغة الفعل وعمله جميعًا، والصواب نُطت الأمر بفلان أنوطه، وهذا الأمر مَنوطٌ بك بلفظ الثلاثي لا غير.
ويقولون: هذا أمرٌ مُريع، وقد أراعه الأمر، فيأتون به على صيغة أفعل، والصواب راعه يروعه وهو أمر رائع. وهذا في كلامهم باب واسع نذكر منه ما يحضرنا في هذا المقام.
يقولون: أسأت الرجل أي: فعلت به ما يكره، وهو خلاف سررته، فيزيدون في أوله همزة، والصواب سؤته بالمجرد، وأما أسأت فهو خلاف أحسنت؛ تقول: أساء الرجل العمل: إذا جاء به سيِّئًا، وقد أساء إلى فلان: إذا أتى في حقه فعلًا سيئًا، كما تقول: أذنب إليه وأجرم إليه.
ويقولون: أهاجه الغضب، وهو مُقادٌ إلى هذا الأمر بطبعه، وطعام مقيت، وأقرَّ المجلس على كذا؛ أي: استقرَّ رأيه عليه، والصواب في كل ذلك التجريد. وربما خصُّوا هذا الاستعمال ببعض صيغ الفعل دون بعض، يقولون: فلان غير مُلام في هذا الأمر فيأتون به من باب أفعل مع أنهم يقولون: لُمتُه ألومه وأنا لائم له، وهو عجيب. وكذا قولهم: أكربه الهم، وأرعبه الخطب، وأمرٌ مكرب ومرعب، وفلان رجل مُهاب، مع أنهم يقولون: رجل مكروب ومرعوب، وهِبْتُ فلانًا، وأنا أهاب أن أكلمه. ويقولون: أشهرت الأمر وأشهرت عليه السلاح وأمر مشهور وسيف مُشهَرٌ، فيفرقون بين الأمر والسيف في صيغة المفعول. وقد جاء من هذا في كلام الأولين قول سليمان بن عبد الملك: «أنا الملك الشاب السيد المهاب» (رواه المسعودي في مروج الذهب). وهذا يدل على أن هذا الغلط قديم يتصل بأوائل عهد الإسلام، وقد وَهِمَ فيه أناسٌ من أكابر الشعراء وجلة أهل الأدب لندرة كتب اللغة في أيامهم واعتمادهم في تحملها على السماع مع ما دخلها من الفساد والتحريف، فمن ذلك قول الإلبيري رواه في نفح الطيب:
وقول صفوان بن إدريس:
يريد عددت. وقول مصطفى الحلبي:
والأمثلة من هذا كثيرة، فنقف منها عند هذا القدر رعاية للمقام.
ويقولون: أمرٌ عتيد ويومٌ عتيد؛ أي: منتظر، فيغلطون فيه؛ لأن العتيد بمعنى الحاضر المهيأ، وقد أَعتَد الأمر؛ أي: أعدَّه، وأمر مُعتَدٌ وعتيد.
ويقولون: هذا كلام طليٌّ، وهو أطلى من كلام فلان؛ أي: كلام ذو طُلاوة، وهو أكثر طلاوة من كلام فلان. ولم ترد الصفة من هذا الحرف فيما نقلوه.
ويقولون: له في هذا الأمر باعٌ طُولى، فيؤنِّثون الباع وهو مذكر.
ويقولون: جماعة القُسُس بضمتين يريدون القسوس، فيحذفون الواو؛ لأن فَعْلًا الساكن العين لا يجمع على فُعُل، ولم يمرَّ بنا من مثل هذا إلا قول عبد الرحمن الشيرازي:
يعني الشنوف، فحذف الواو لضرورة الشعر، وإن كان المتأخر لا تعذره ضرورة.
ويقولون: هو يسعى لنَوَالِ بُغيَتِه، وإنما النوال بمعنى العطاء؛ أي: الشيء الذي يُعطى، وليس بمصدرٍ لنال، والصواب لنيل بغيتِهِ.
ويقولون: أمره أن يصنع كذا فصدع بالأمر؛ يعنون أنه أطاع وأمضى ما أُمر به. ولم يأت صدع في شيء من هذا المعنى، ولكن أصل هذا التعبير ما جاء في سورة الحجر من قوله: فاصدع بما تؤمر، قال البيضاوي: أي فاجهر به، من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارًا، أو فافرق به بين الحق والباطل. ا.ﻫ. وقيل غير ذلك. وكله بعيدٌ عن المعنى الذي يذهبون إليه.
ويقولون: حرمه من الشيء، فيعدونه إلى المفعول الثاني بمِن، والمنقول عنهم حرمه الشيءَ بنصب المفعولين.
ويقولون: التفَّ بالحِرام بالكسر، وهو الملحفة المعروفة، وإنما هو الإحرام مصدر أحرَم الحاجُّ؛ لأن المحرم لا يلبس ثوبًا مخيطًا؛ فأُطلق عليه لفظ الإحرام من التسمية بالمصدر. والكلمة من مواضعات المولَّدِين، وقد جاء ذكرها في رحلة ابن بطوطة باللفظ المذكور، وتجمع فيما نقله على أَحَارِيم.
ويقولون: هؤلاء أخصامي؛ يريدون جمع الخصم بالفتح، وفعل الصحيح العين لا يجمع على أفعال إلا ألفاظًا شذَّت ليس هذا منها، والصواب جمعه على خصوم.
ويقولون: لا يخفاك أن الأمر كذا؛ فيعدُّون الفعل بنفسه، والصواب لا يخفى عليك كما صرَّح به في الأساس والمصباح. ومنه سورة آل عمران إِنَّ اللهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ. ومن الغريب أن هذا الوهم وقع لقومٍ من أكابر الكتاب، كقول صاحب نفح الطيب في المجلد الثاني (صفحة ٣٧٤ من الطبعة المصرية)، ولا يخفاك حسن هذه العبارة، وقوله في المجلد الرابع (صفحة ٤٤٧): ولا يخفاك أنه التزم في هذه القطعة ما لا يلزم. ومنه قول سراج الدين المدنيِّ:
وهذا مأخوذ من قول السراج الورَّاق يذكر ولده:
ولا يخفى ما فيه مع ذلك من لطف الاقتباس.
ويقولون: احتاطوا المدينة يُعدُّونه بنفسه أيضًا. والصواب احتاطوا بها؛ يتعدى بالباء، مثل أحاط الرباعي.
ومثله قولهم: هذا أمر يأنفه الكريم، والصواب يأنف منه. وقد جاء من هذا قول لسان الدين بن الخطيب:
ويقولون: استأسر العدوُّ كذا من الجيش؛ يعنون أسر. وإنما يقال: استأسر الرجل بمعنى استسلم للأسر؛ فالفعل لازم لا متعدٍّ. وقد جاء مثل هذا في تاريخ أبي الفداء، ومنه قوله في حوادث سنة ثمانٍ وخمسين وستمائة: وقُتل مقدَّمهم كتبغا واستؤسر ابنه. ومثله في شرح رسالة ابن زيدون لابن نباتة في الكلام عن الإسكندر: أصبح مستأسر الأسرى أسيرًا. قال في لسان العرب: أسرت الرجل أسرًا وإسارًا فهو أسير مأسور … وتقول: استأسِر لي؛ أي: كن أسيرًا. ا.ﻫ.
ويقولون: هذا الأمر يمس بكرامتي، ولا معنى لهذه الباء؛ لأن الفعل متعدٍّ بنفسه، والصواب يمسُّ كرامتي.
ويقولون: فعلت كذا لمساس الحاجة إليه، والصواب لمس الحاجة أو لمسيسها. وأما المساس فهو مصدر ماسَّهُ على فاعَل، مثل القتال من قاتل.
ويقولون: هو يؤمِّل بالحصول على كذا، فيزيدون الباء أيضًا، وصوابه يؤمِّل الحصول.
ويقولون: رمحت الدابة؛ أي: عدَت وأحضرت، ومنه قولهم: مرمح الخيل ومرماحها؛ لميدانها. ولا أصل لذلك في اللغة، إنما يقال: رمحت الدابة: إذا ضربت برجلها، مثل رفست وضرحت.
ويقولون: هو مُعافٌ من كذا: إذا أُسقطت عنه كلفته، ومقتضاه أنه يقال: أعافه من الأمر، ولا وجود لهذا الحرف في اللغة، إنما هو تحريف أعفاه من الشيء معفًى. ومن غريب الاتفاق في هذا ما جاء في شرح الشريشي لمقامات الحريري عند قوله:
قال: تعافيتها: تكارهتها، وهي تفاعلتُ من عِفْتُ الشيء أعافه عيافًا؛ أي: كرهته. ا.ﻫ. وعجيبٌ من مثل الشريشي أن يجوز عليه مثل هذا الوهم، وكيف يكون تعافت من عفتُ وهو من معتلِّ اللام، وهذا من الأجوف، وإلا لكان اللفظ تعايفت لا تعافيت كما هو ظاهر. والأشبه أن الحريري أراد بقوله: تعافيتها تجاوزتها، وكأنه أخذ هذا اللفظ من عبارة الحديث تعافَوا الحدود فيما بينكم؛ أي: تجاوزوا عنها، ولا ترفعوها إليَّ كما في النهاية، وفي ذلك ما فيه.
ويقولون: انطلت عليه الحيلة؛ أي: جازت عليه وراجت، وطلى عليه المحال؛ أي: موَّهه وأجازه، ولم يُنقل شيء من ذلك عن العرب، وإن كان له وجهٌ في الاشتقاق.
ويقولون: هو عدوٌّ لدود، وهو ألدُّ أعداء فلان، يريدون باللدود الشديد العداوة، وهو خلاف المعروف في استعمال العرب؛ لأن اللدود عندهم بمعنى الذي يغلب في الخصومة؛ يقال: لدَّهُ يلدُّه فهو لادٌّ له، وهو رجل لدود، ويقال: خصمٌ ألدُّ إذا كان شديد الخصام لا يذعن للحجة، ومأخذه من اللديد، وهو صفحة العنق؛ لأن المخاصم ينصب لديدَيه عند الخصام.
ويقولون: مرت عليه كرور الزمان، فيؤنِّثون لفظ الفعل على توهم أن الكرور جمع، وإنما هو مصدرُ كَرَّ.
ويقولون: هو موشكٌ على الموت يستعملونه بمنزلة مشرف، ومنهم من يقول: أوشك السقوط؛ أي: قاربه؛ فينصبون بعده مفعولًا به، وكلاهما غير الصواب؛ لأن هذا الفعل لا يستعمل بعده إلا المضارع منصوبًا بأن في الغالب؛ تقول: أوشك فلان أن يفعل كذا، ولا يُبنى منه اسمٌ للفاعل في المشهور. وأما أوشك المتعدي فسُمع بمعنى أسرع، يقال: أوشك فلانٌ الخروج، وليس من الباب الذي نحن فيه.
ويقولون: فعل ذلك في شبوبيته قياسًا على الطفولية والرجولية، وهو غير منقول عنهم، والصواب الشباب والشبيبة.
ويقولون: هذا أمرٌ هامٌّ بصيغة الثلاثي لا يكادون يخرجون عنها في الاستعمال، والأفصح مهمٌّ بالرباعي، وعليه اقتصر في الصحاح والأساس.
ويقولون: جاء بعدد ينوف على كذا؛ أي: يزيد، والصواب يُنِيفُ؛ من أناف الرباعي، ويقال أيضًا: يُنَيِّف بالتشديد.
ومن هذه المادة يقولون: نيِّف وعشرون دينارًا، فيقدمون النيف والمسموع تأخيره، يقال: عشرون ونيِّف، ومائة ونيِّف.
ويقولون: رجلٌ مفسود السيرة، وقد انفسد، وكلاهما خطأٌ؛ لأن فسد لازم؛ فلا يُصاغ للمجهول، ولا يُبنَى منهُ مطاوع. وقد مثل هذا للحريري في مقامته الحجرية، حيث يقول: أما إنك لو ظهرت على عيشي المنكدر لعذرت في دمعي المنهمر. قال الشارح: قوله: المنكدر؛ أي: المتغير، والكُدرة ضد الصفاء. ا.ﻫ. قال في لسان العرب: انكدر يعدو أسرع وانكدر عليهم القوم: إذا جاءوا أرسالًا حتى ينصبُّوا عليهم، وانكدرت النجوم: تناثرت، وجاء في الأساس: انكدر الطائر بمعنى انقضَّ، لم يحكوا فيه غير ذلك.
ويقولون: جاء فلان خلوًّا من المال، فيشدِّدون الواو، وصوابه خِلوٌ بكسر الخاء وسكون اللام، وهو بمعنى الخالي.
ويقولون: بين الرجلين عدوان؛ أي: عداوة ولا يأتي العدوان بهذا المعنى، وإنما هو مصدر عدا عليه بمعنى اعتدى.
ويقولون: هذا الأمر يحدو بي إلى كذا؛ أي: يسوقني إليه، فيعدُّون الفعل إلى الشخص بالباء وإلى الأمر بإلى والصواب تعديته إلى الأول بنفسه؛ لأن أصله من حدو الإبل، وهو سوقها بالغناء، والمسموع في الثاني أن يعدَّى الفعل إليه بعلى ذهابًا إلى تضمينه معنى حمل، كما يقال: بعثه على كذا، وإن كان المعنى يحتمل الحرفين جميعًا.
ويقولون: بينهما شراكةٌ في كذا، يبنونه على فعالة، وإنما هو من الألفاظ العامية، والصواب شَرِكة بفتح فكسر، وشِرْكة بكسر فسكون.
ويقولون: أفرغ المكان والوعاء بصيغة أفعل؛ أي: أخلاه، والصواب في هذا المعنى: فرَّغه بالتشديد، وأما أفرغ فمعناه صبَّ، يقال: أفرغ الماء ونحوه وأفرغ المعدن؛ أي: سكبه.
ويقولون: هو مدمنٌ على هذا الأمر؛ أي: مواظب عليه مُدِيم لفعله. والصواب ترك الجار؛ لأن هذا الحرف يتعدَّى بنفسه.
ويقولون: خرج في موكب يبلغ خمسة آلاف عدًّا، وهي عبارة شائعة عند أكثر الكتَّاب لا تكاد تفوت واحدًا منهم، وربما قالوا: قُتِل في هذه المعركة ما يقارب خمسة آلاف عدًّا وهو أغرب. وإنما ذلك لعدم تدبرهم معنى العد هنا، والمقصود به عند من نُقل عنه هذا التركيب. وبيانه أنك تقول مثلًا: لي على فلان خمسة آلاف درهم عدًّا؛ أي: لي عليه هذا القدر معدودًا عدًّا لا بطريق التقدير والتقريب، ونقدته خمسين دينارًا عدًّا؛ أي: عددتها له واحدًا واحدًا، ومفاده التحقيق والتوكيد لا الحشو والتزيين كما يتوهمونه.
ويقرب من هذا قولهم: دخلت عليه فإذا عنده رجلان اثنان، والتوكيد غريبٌ في هذا الموضع؛ لأن الرجلين لا يكونان إلا اثنين؛ فالصيغة مغنية عن التصريح باسم العدد، وإنما يزاد اسم العدد للتوكيد؛ حيث تدعو إليه الحاجة لدفع التوهم أو تقوية المعنى، تقول: شهد بهذا شاهدان اثنان فتوكد؛ لئلا يُتوهم في كلامك غير الحقيقة، وقبضت عليه بيديَّ الثنتين تريد شدة القبض عليه ومنعه من الإفلات، وقس على ذلك.
ويقولون: فعل هذا لمصلحة أهل جلدته، يريدون قومه وأهل جيله (الجيل الصنف من الناس كالعرب والترك والروس وغير ذلك). وقد أُولع كتابنا بهذه العبارة وتناقلها بعضهم عن بعض من غير بحثٍ ولا تنقيب عن أصل مغزاها ومراد قائلها، وهي في الأصل من قول جرير وقد مرَّ بنُصَيبٍ الشاعر وهو ينشد، وكان نُصَيبٌ أسود، فقال له: اذهب فأنت أشعر أهل جلدتك يعني أشعر السود، فقال: وجلدتك يا أبا حزرة — وهي كنية جرير — أي: وأشعر البيض أيضًا. وحينئذ فلا معنى لأن نقول: أهل جلدة الإنكليزي مثلًا أو الفرنسوي أو الألماني؛ لأن لكل هؤلاء جلدة واحدة؛ فهي تتناول الجميع على السواء.
وقريب من هذا قولهم: هلَّ شهر يناير مثلًا، وجاء في غرة أبريل، وكتبه لعشر خلونَ من شهر دسمبر، وإنما ذلك كله من الاصطلاح المخصوص بالأشهر القمرية؛ لأن قولهم: هلَّ الشهر يراد به ظهور هلال ذلك الشهر، وكذا غرة شهر كذا المراد بها غرة هلاله، وهي أول ما يبدو منه، وقولهم: لعشرٍ من شهر كذا بإسقاط التاء من اسم العدد؛ أي: لعشر ليال؛ لأن الأشهر القمرية تؤرَّخ بالليالي كما لا يخفى، وبخلافها الأشهر الشمسية؛ فكل ذلك من استعمال الشيء في غير محله.
ومن تهافتهم في النقل ما أُولع به أكثرهم من استعمال لفظة هاته في مكان هذه، ذهابًا إلى أنها أفصح منها، وما هي بالفُصحى ولا الفصيحة، وهذه معلقات العرب، بل قصائدها التسع والأربعون، وهذه دواوين شعرائهم من مثل عنترة، والنابغة، وحاتم، وعروة بن الورد، والفرزدق، وجرير، وغيرهم، وهذه خطب الإمام عليٍّ والمنقول عن وفود العرب كلهم، بل هذا القرآن نفسه هل يجدون في ذلك كله لفظة هاته؟ فلو كانت بهذه المنزلة التي يتوهمونها لم تفت أولئك كلهم على مكانهم من اللغة وتحققهم من فصيحها. ولقد قلَّبنا كثيرًا من صُحُف الكتاب في كل عصر من أعصار الإسلام، فلم نجد هذه اللفظة في شيء من كتب المتقدمين، ولا نذكر أننا رأيناها قبل شيوعها بين كتَّابنا إلا في كلام بعض متأخري التونسيين، بل لعلها لم تردْ إلا في كتاب خير الدين باشا المسمى بأقوم المسالك؛ فإنها شائعةٌ في الكتاب كله لا يكاد يستعمل غيرها، وهو من غريب الذوق في اختيار الألفاظ.
ويقولون: خابره في الأمر؛ أي: فاتحه فيه وذاكره وفاوضه، وإنما المخابرة في اللغة بمعنى المزارعة، وهي أن يزارع الرجل ببعض ما يخرج من الأرض.
وفي معناه يقولون: داولهُ في الأمر وتداولا فيه، وإنما يقال: تداولوا الشيء إذا أخذوه بالدُّوَل هذا مرة وهذا مرة.
ويقولون: تضرَّر له؛ أي: شكا إليه ضرره، وهو من الألفاظ التي لم ترد في اللغة أصلًا.
ويقولون: نقه من علته نقاهةً، وإنما النقاهة مصدر نقِه الكلامَ: إذا فهمه؛ يقال: فلان لا يفقه ولا يَنقَه. وأما مصدر نقه من مرضه فهو النَّقَه بفتحتين، والنَّقُوه، وقد نَقِه بكسر القاف وفتحها.
ويقولون: قد شاع هذا الخبر في النوادي يريدون جمع النادي، وهو مع كونه القياس غير مستعمل، وإنما يقال في جمعه: الأندية، وهو في الأصل جمع نديٍّ بمعنى النادي، استغنوا به عن جمع النادي كما استغنوا بالأحاديث — الذي هو جمع الأُحدوثة — عن جمع الحديث.
ويقولون: فلانٌ من ذوي الأمجاد يريدون جمع مجد. ولم يُسمَع للمجد جمعٌ على أمجاد ولا غيره؛ لأنه مصدرٌ في الأصل، وما سُمع في كلامهم من لفظ أمجاد، فإنما هو جمع مجيد على حد شريف وأشراف ويتيم وأيتام، وقد ذكرنا وجهه في مقالتنا: اللغة والعصر.
ويقولون في جمع المغارة: مغائر بالهمز، وصوابه مغاور بالواو، كما يقال في جمع مفازة مفاوز؛ لأن حرف المدِّ إذا كان أصلًا لا يُهمَز، ومثلهُ قولهم: معائب ومشائخ ومكائد بالهمز أيضًا وصوابهنَّ بالياء.
ويقولون: رأيته من منذ خمسة أيام؛ فيدخلون من على منذ، كأنهم يريدون بها الدلالة على ابتداء الغاية، وهو نفس المعنى الذي تدل عليه منذ؛ فالصواب حذف إحداهما.
ويقولون: صلَّح الشيء تصليحًا — خلاف أفسده — فاصطلح، وكلاهما خطأٌ؛ لأن الأول لم يرد في اللغة أصلًا، والثاني من أفعال المشاركة؛ يقال: اصطلح الخصمان؛ أي: تصالحا، وليس في شيء من معنى الصلاح الذي هو ضد الفساد، والصواب أصلحه إصلاحًا فصَلح هو صلاحًا وصُلوحًا؛ لأن الثلاثي إذا كان لازمًا استُغني به عن مطاوع مزيده. ومنهم من يقول في مطاوعه انصلح، وكأنها لغة من يقول في ضده: انفسد مما تقدم الكلام فيه قريبًا، وقد ورد من هذا قول عبد المحسن الصوري من شعراء اليتيمة:
ومثله قول عبد الوهاب بن جعفر الحاجب من شعراء اليتيمة أيضًا:
ويقولون: احتمى عن ذكر الأمر؛ أي: تحاماه وتفادى منه، ولم يأتِ احتمى في شيء من كلامهم بهذا المعنى، ولا سُمِع في كلام العامة، ولكنه من الألفاظ التي انفرد بها بعض كتَّابنا تعمقًا في الحذلقة، وله نظائر سنذكرها في ختام هذه المقالة.
ويقولون: دارَك الخلل والفساد؛ أي: تلافاهُ، وإنما يقال في هذا المعنى: تدارَك لا دارَك؛ لأن المداركة في اللغة بمعنى المتابعة، يقال: دارك عليه الضرب إذا تابعه وجعل بعضه يلي بعضًا؛ فهو عكس مقصودهم كما ترى.
ويقولون: هؤلاء قومٌ أغراب يريدون جمع غريب، وهذا الجمع غير مسموع في هذا الحرف، والصواب غرباء؛ لأن جمع فعيل على أفعال من الجموع السماعية فلا يتعدى المنقول عنهم.
ويقولون: عوَّدته على الأمر وتعوَّد عليه واعتاد عليه، والصواب حذف الجارِّ في الكل؛ لأن هذا الحرف يتعدى بنفسه.
ويقولون: طال المطال على هذا الأمر؛ أي: طال العهد عليه مثلًا، ويقرءون المطال بفتح الميم ذهابًا إلى أنه مَفعَل من طال على ما يوهم ظاهر اللفظ، ولا معنى لهذا التركيب، وإنما هو عند من نُقلت عنه هذه العبارة المِطال بكسر الميم مصدر ماطله، مثل القتال من قاتله، والمعنى ظاهر.
ويقولون: فتَّش على الشيء فيعدُّونه بعلى، والصواب تعديته بعن، مثل بَحَثَ وفَحَصَ.
ويقولون: هذا الأمر في غاية الوضاحة والصراحة؛ يعنون بالوضاحة الوضوح، وهو غير مسموع في النقل، ولا وجه له في القياس؛ لأن الفعل من باب ضرب.
ويقولون: واروا الميت التراب؛ أي: واروه في التراب، فيحذفون الحرف ويبقون التراب مفعولًا فيه وهو خطأ؛ لأن التراب من أسماء المكان المختصة فلا يصلح للظرفية. وقد ورد مثل هذا للحريري في مقامته الكوفية، وهو قوله: وخلِّدوها بطون الأوراق، وكأن الذي سوَّل لهُ صحة هذا التركيب ما جاء في سورة يوسف من قوله: اطْرَحُوهُ أَرْضًا، وهذا فضلًا عن كونه من التراكيب التي لا يقاس عليها؛ فإنما سهَّل هذا الاستعمال فيه تنكير الأرض وتجريدها من الوصف، كما قاله الزمخشري، فنُصبت نصبَ الظروف المبهمة، وقيل: إنها مفعول ثانٍ لاطرحوهُ على تأويله بمعنى أنزلوه، وكلاهما على ما فيه لا يصح في عبارة الحريري.
ويقولون: هو يؤانس من فلان ميلًا إليه؛ أي: يشعر منه بميل؛ فيأتون بالفعل من صيغة فاعَل على ما يوهم لفظ ماضيه؛ لأنه بعد الإعلال يصير آنس بالمد، وإنما هو أفعل لا فاعَل؛ لأن أصله أَأْنَسَ بهمزتين، والصواب في مضارعه يؤنس، مثال يُكْرِم.
ويقولون: ليس زيدٌ ليفعل كذا؛ فيأتون باللام في خبر ليس على أنها لام الجحود مثلها في قولك: لم يكن ليفعل كذا، وهو خطأٌ؛ لأن هذه اللام لا تدخل إلا في خبر كان المنفية كما هو مقرر في كتب النحاة.
ويقولون: تمَّ بينهما عقد الزيجة؛ يعنون الزواج، ولم يُحكَ وزن فِعلة من هذه المادة، وإنما هي من الألفاظ العامية.
ويقولون: زُفَّ فلانٌ على فلانة — هكذا معدًّى بعلى — فيعكسون الاستعمال؛ لأنه يقال: زفَّ العروس إلى بعلها؛ أي: أهداها إليه، ولا يقال زفَّ الرجل إلى المرأة إلا أن يكون هذا من مقتضيات العصر الذي استنوقت جماله، وأصبح ونساؤه رجاله، حتى رأينا الرجل يأخذ المهر ورأينا المرأة تتطالُّ إلى النهي والأمر، والأمر لله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ويقولون: انظر إن كان زيدٌ في داره، وسله إذا كان الأمر كذا، فيأتون بأن وإذا في هذا الموضع، وهو من التعريب الحرفي عن الإفرنجية، وكأن الذي استدرجهم إلى ذلك ما يُرى في الكلام الفصيح من نحو قولنا: افعل هذا إن استطعت، وشتان ما بين الصيغتين وإن تشابهتا في بادي الرأي؛ لأن قولنا: افعل هذا هو في معنى الجواب لإنْ؛ فالعبارة على تأويل إن استطعت فافعل، وهذا بعيد في نحو المثالين المذكورين؛ لأنهما ليسا على معنى إن كان زيدٌ في داره فانظر، وإذا كان الأمر كذا فسله، والصواب أن تبدَل أداة الشرط في مثل هذا بهل، تقول: انظر هل هو في داره وسله هل الأمر كذا، وقس على ذلك ما أشبهه.
ويقولون: هذا الأمر يجعلني أن أفعل كذا؛ أي: يحملني على فعله، فيزيدون أن على ثاني مفعوليْ جعل، ولا وجه لزيادتها لتعذُّر السبك بالمصدر، والصواب يجعلني أفعل، وقد ورد من هذا قول ابن عبد الظاهر:
ويقولون: أصبح الصباح وأمسى المساء، ولا معنى لهذا التركيب؛ لأن معنى أصبح دخل في الصباح، ومثله أمسى؛ أي: دخل في المساء. ولا معنى لدخول الصباح في الصباح أو المساء في المساء، وإنما يقال ذلك بالنسبة إلى الإنسان مثلًا، تقول: سهر حتى أصبح، ودخل الدار حين أمسى، ونحو ذلك.
ويقولون: بعث برسول إلى فلان وبعث إليه هدية، وكلاهما خلاف الصواب؛ لأن ما ينبعث بنفسه كالرسول، تقول: بعثته وما ينبعث بغيره كالهدية والكتاب، تقول: بعثت به؛ فتعدِّي الفعل إلى الأول بنفسه وإلى الثاني بالباء.
ويقولون: هو في رفاهٍ من العيش، ولم يُنقل عنهم لفظ الرفاه، وإنما يقال: رفاهة ورفاهيَة بتخفيف الياء.
ويقولون: استحسَّ بالأمر؛ أي: شعر به أو استشعره، ولم يرد استحسَّ في شيء من كلامهم، ولكن يقال: أحسَّ الأمر وأحسَّ به، وقد يقال: حَسَّ بصيغة المجرد، والأولى أفصح.
ومثله قولهم: ذهب يستفحص عن كذا؛ أي: يفحص عنه، وهذا أيضًا غير منقول.
ويقولون: رضخ له؛ أي: أذعن وانقاد، ولم يرد رضخ في شيء من هذا المعنى، وإنما الرضخ كسر الشيء اليابس، يقال: رضخ الجوزة ورضخ رأس الحية، ويقال: رضخ له من ماله: إذا أعطاه عطاءً يسيرًا.
ويقولون: رجلٌ جلُود؛ أي: صاحب جلَد، يأتون به على وزن فعُول، وكذا رجلٌ شَفُوق ورَحُوم ونَصُوح، وكل ذلك خطأٌ، والصواب جليد وشفيق ورحيم ونصيح.
ويقولون: أسداه الشكر على صنيعته — كذا بتعدية الفعل إلى اثنين — أي: قضاه حقَّ شكرها، ولا يستعمل الإسداء بهذا المعنى، وإنما يقال: أسدى إليه معروفًا؛ أي: صنعه، وقد يقال: أسدى إليه فقط، وفي الحديث: «من أسدى إليكم معروفًا فكافئوه.»
ويقولون: جلسوا في صاعة المنزل؛ يعنون أكبر بيت فيه أو الموضع الذي يُستقبل فيه الزائر، ولم ترد الصاعة لشيءٍ من المعنيين، لكن جاء في المعنى الأول الرَّدهة، وهي كما عرَّفها في لسان العرب: البيت العظيم الذي لا يكون أعظم منه، ويُستعمل في المعنى الثاني البهو، وهو البيت المقدَّم أمام البيوت، وأصله البيت من شعر من بيوت الأعراب، ثم نقلته الحضر إلى البناء، ودخل في قصور الملوك وزُين بالرياش والذهب. وقد ورد ذكره في نفح الطيب في الكلام على المستنصر بالله وهو في قصر مدينة الزهراء؛ قال: وقعد المستنصر بالله على سرير الملك في البهو الأوسط من الأبهاء المذهَّبة. وجاء في شعر لأبي بكر الخُوارزمي من قصيدة يصف فيها دار الصاحب بن عباد:
ومن قصيدة للشيخ أبي الحسن صاحب البريد، وهو ابن عمة الصاحب:
وللمأموني من قصيدة يصف دار أبي نصر بن أبي زيد عند تقلده الوزارة:
فالظاهر من هذا الوصف أن المراد بالبهو هو نفس ما يسمى عندنا اليوم بالصالة. وأما الردهة فلم نعثر عليها في كلام أحد من المولدين، لكن لا بأس أن تطلق على مواضع الاحتفال الفسيحة المقامة للخطابة والتمثيل، وما أشبه ذلك من المجتمعات العمومية.
ويقولون: تكدَّر من هذا الأمر؛ أي: استاء منه واشتدَّ عليه، وقد كدَّره الأمر وأحدث عنده كدرًا عظيمًا، ومنهم من يقول: كدَّره بمعنى عنَّفه وقرَّعه، وهذه الأخيرة من اصطلاح الأتراك. وكل ذلك غريب عن استعمال العرب وإن أمكن ردُّه إلى وجه صحيح.
ويقولون: بين الدولتين عهدةٌ تجارية، وجاء ذلك في عهدة برلين مثلًا، ولا معنى للعهدة هنا؛ لأنها بمعنى تَبِعة الأمر ودَرَكهِ، والصواب المعاهدة.
ويقولون: أفاض القول في هذا المعنى؛ أي: توسع فيه وتبسَّط، وهذا الفعل لا يستعمل متعديًا، وإنما يقال: أفاض القوم في الحديث: إذا اندفعوا فيه وخاضوا وأكثروا. وأصله من قولهم: أفاضوا من الموضع إذا اندفعوا بكثرة.
ويقولون: هذا أمرٌ مثبوت؛ أي: ثابتٌ أو مُثبَت، وهو من تعبيرات العامة؛ لأنهم لا يكادون يفرقون بين فعَل وأفعل، بل الغالب في كلامهم الاقتصار على فعَل المجرد يميزون بين اللازم منه والمتعدي بالحركة، وهذا من أعظم مزالِّ الخاصة لكثرة هذه الأفعال واشتهارها حتى لا يكاد يداخلهم ريبٌ في صحتها. وقد استُدرج بها أناسٌ من متقدمي الكتَّاب، كما وقع لأبي الفداء؛ حيث يقول في مقدمة تاريخه: وأما التوراة العبرانية فهي أيضًا مفسودة، وكما في قوله في هذه المقدمة؛ فصار المثبوت في الجدول كذا كذا سنة مع أنه يقول في السطر الذي قبله، وهو الذي اخترناه وأثبتناه في جدولنا هذا. وفي كلام لسان الدين بن الخطيب عند ذكر الغارة على جيَّان: فقللنا ثانيةً غربها، وجدَّدنا كربها، واستوعبنا حرقها وخربها، وإنما يقال: أخرب المكان أو خرَّبه بالتثقيل، ولا يقال: خَرَبه بالمجرد. ولأبي عبد الله بن الحجاج؛ رواه له صاحب خزانة الأدب:
والصواب مُتعَب. ومثله قول منذر بن سعيد من شعراء الأندلس:
يريد آذانا بالمدِّ. وربما تعدى ذلك إلى أفعالٍ لم تجرِ على ألسنة العامة كما في بيت ابن معتوق المشهور:
وإنما يقال: أخفر ذمتهُ أو خفر بها، ولا يقال: خفرها. وأغرب منه ورود مثل ذلك في كلام أناس من أهل الجاهلية؛ كقول عديِّ بن زيد العبادي:
يريد مُوثَق، وإنما وقع له ذلك لأنه كان قَرَويًّا كما ذكر الأصفهاني في ترجمته، قال: وقد أخذوا عليه في أشياء عيب فيها. ا.ﻫ. وقد تقدَّم لنا ذكر طائفة من الأفعال التي يزيدون الهمزة في أولها خطأً، ولا بأس أن نزيد هنا أفعالًا أُخَرَ توفيةً للفائدة. فمن ذلك أنهم يقولون: أرشاه؛ أي: أعطاه الرشوة، وآذن له بكذا؛ أي: أذِن له فيه. ومنهم من يقول: آذنه بكذا فيعدُّونه بنفسه. وإنما يقال: آذنه بالأمر بمعنى أعلمه به وأشعره. ويقولون: أعاقه عن الأمر، وهذا أمر مُلِذٌّ وأمرٌ مشين وأمرٌ مُحِطٌّ بالشرف؛ أي: حاطٌّ للشرف، فيزيدون على المفعول باءً، وقد تقدم مثله. وهو مُصان من كذا، ومُساق إلى كذا، وسلعةٌ مُباعة، وأحنى رأسه، وأذرف دمعه، وأهزل دابته، وأفسح له موضعًا، وآيس من الأمر، وأنشد الضالة، وأسدل الحجاب. وفي كلام بعضهم أبصرت بالشيء كذا معدًّى بالباء، وإنما يقال: بصرتُ به (بضم الصاد وكسرها) وأبصرته، فالباء تعاقب الهمزة. ومن هذا القبيل قولهم: أغاظه وأشغله، والأفصح غاظه وشغله بالمجرد.
ويقولون: اعتدوا على بعضهم البعض وظلموا بعضهم البعض، ولا يتحصل لهذا التركيب معنى إلَّا بعناء وتكلفٍ بعيد، وربما قالوا: تقاسموه بين بعضهم البعض، وهو أغرب وأبعد عن التأويل. والوجه: اعتدوا بعضهم على بعض، وظلموا بعضهم بعضًا، وتقاسموه بينهم.
ويقولون: أدَّاه حقه؛ فيعدون هذا الفعل إلى مفعولين، وهو تعبيرٌ عاميٌّ، والصواب أدَّى إليه حقه.
ويقولون: ثوبٌ سميك؛ أي صفيق، ومصدره عندهم السمك والسماكة، وكل ذلك من كلام العامة، وإنما السَّمْك في اللغة بمعنى الارتفاع؛ تقول: بنى جدارًا سمكه كذا ذراعًا، وهو من أعلاه إلى أسفله، وشيء سامك؛ أي: عالٍ طويل، ولم يُسمع سميك ولا سماكة.
ويقولون: خرج إلى المُنتَزه يعنون المتَنَزَّه، وهو المكان البعيد عن مستنقعات المياه ومجامع الناس، ولم يُحكَ وزن افتعل من هذه المادة. على أنهم إذا ذكروا الفعل قالوا: خرج يتنزَّه ولم يقولوا: ينتزه، وكذلك سائر مشتقات هذه الكلمة، ولم يسمع لهم وزن افتعل إلا في اسم المكان المذكور، وهو غريب.
ويقولون: أدَّى إليه كذا لقاءَ عملِهِ؛ أي: في مقابل عمله. ولم ينقل استعمال اللقاء بهذا المعنى.
ويقولون: تأمَّل منه خيرًا؛ أي: رجاه وتوقعه. وإنما التأمل التثبُّت بالفكر أو بالنظر، ولا يجيء من الأمل في شيء. والصواب أمَّل بحذف التاء، وأمل بالتخفيف.
ويقولون: فعل هذا الأمر عن طياشة. ولا وجود للطياشة في اللغة، والصواب عن طيش.
ويقولون: هل لا يجوز أن يكون الأمر كذا وكذا، وهل لم تزر زيدًا، وهل ليس عمرو في الدار، فيدخلون هل على النفي وهي مخصوصةٌ بالإثبات، وأكثرهم يكتب هل لا كلمةً واحدةً على حد كتابة هلَّا التحضيضية. وقد وقع مثل هذا لابن الجوزي في كتاب عقلاء المجانين؛ حيث قال: هلَّا يدل هذا على نقصان العلم، والصواب استعمال الهمزة في كل ذلك.
ويقولون: تعرَّف على فلان إذا أحدث به معرفةً. وهو من التعبير العامي. ومن الغريب أن أصحاب اللغة لا يذكرون ما يعبَّر به عن هذا المعنى، لكن جاء في كتب المولدين: تعرَّف به معدًّى بالباء، وهو مبنيٌّ على قولك: عرَّفته به إذا جعلته يعرفه على ما يؤخذ من عبارة المصباح. وقد ورد مثل هذا في الأغاني في أخبار عبادل ونسبه، وهو قوله: فحركتُ بعيري لأتعرف بهنَّ وأنشدهنَّ. ومثله بعد سطر. وفي نفح الطيب في الكلام عن يوسف الدمشقي: وكان من الذين أخفاهم الله لا يتعرف به إلا من تعرَّف له؛ أي: أظهر له معرفة نفسه. ومثله في كلام ابن بطوطة وغيره مما لا حاجة إلى استقصائه، وفي كل ذلك كلام لا محل له في هذا المقام.
ويقولون: مكانٌ واطئٌ وقد وَطُؤ المكان؛ أي: انخفض واطمأن. ولم يرد من هذا إلا قولهم: الوَطاء بفتح الواو وكسرها. والميطاء لما انخفض من الأرض بين النشاز والأشراف. يقال: هذه أرض مستوية لا رباء فيها ولا وطاء؛ أي: لا صعود فيها ولا انخفاض. ولم يُسمَع من هذا فعل.
ويقولون: زرع الشجرة؛ أي: غرسها، وإنما الزرع للحَبِّ والبزر، ولا يقال للشجرة وما في معناها.
ويقولون: سارت به المركب، فيؤنثون المركب وهو عجيب. وقد ورد مثل هذا في سياقة ألف ليلة وليلة، ولا يُدرَى ما أصله.
ومثله قولهم: التهبت حشاه من الحزن، وربما قالوا: وجعته رأسهُ ووجعتهُ بطنهُ، كما تقوله عامة أهل مصر؛ يؤنثون هذه الألفاظ كلها وهي مذكرة. وقد ورد شيء من هذا في كلام بعض السالفين، كقول ابن نباتة المصري:
ومثله قول ابن الفارض:
ومن هذا قول البديع الهمذاني:
وإنما المثاني جمع مَثْنَى، وهو الوتر الثاني من أوتار العود، فصوابه كواحد المثاني. وربما ورد لهم عكس هذا فذكروا المؤنث؛ كقول أبي تمام الطائي:
يريد تقادمت، وهو من الضرورات التي لا تباح للشاعر. ومثله قول المأموني من شعراء اليتيمة:
أي: انفتحتا وانطبقتا. ومن ذلك قول البستيِّ:
بتذكير الضمير العائد على القدم في قوله: أراق. وإنما أوقعه في هذا طلب التجنيس بين أرى قدمي وأراق دمي. وقد تبعه في هذا ابن حجة الحموي، حيث يقول من بديعيته:
ومن هذا القبيل قول صفيِّ الدين الحلي:
فذكرَّ الكف، ولم تُسمَع كذلك إلا في بيت تأوَّلوه. ومثله قول ابن نباتة في المناظرة بين السيف والقلم: أين أنت من حظي الأسنى وكفِّي الأغنى؟! ومن ذلك قول لسان الدين بن الخطيب:
وفيه إما تذكير الرحى وهي مؤنثة أو حذف الواو من قوله: دُرِ؛ لأن عين الأجوف لا تُحذَف من أمر الأنثى.
وأغرب من ذلك إجراؤهم جمع غير العاقل هذا المجرى، كقول ابن هانئ الأندلسي يصف خيلًا:
بالتذكير في وصف القباطيِّ، وهي جمع قبطية — بكسر القاف وضمها — لثياب بيض رقاق من الكتان كانت تُنسَج بمصر، وهي منسوبةٌ إلى القبط. ومثله قول ابن المفضل البغدادي:
وإنما الوُرق جمع ورقاء؛ وهي الحمامة لونها لون الرماد. وقول عبد الصمد الصفَّار:
فذكَّر الشقائق، وهي جمع شقيقة لواحدة الشقيق، وهو النَّوْر المعروف. ومثله قول النشَّابي:
وفيه التذكير وحذف الياء من آخر الكلمة؛ لأن أصلها أقاحيُّ بتشديد الياء وتخفيفها. وإنما يجوز الحذف مع التخفيف في الوقف، كما في الكبير المتعال ونحوه. ومن الغريب أن هذه اللفظة شاعت كذلك بين الشعراء حتى لا تكاد تجد من تفطَّن لأصلها أو تنبَّه لكونها جمعًا. وقد وردت فيما لا يُحصَى من الشعر؛ كقول ابن عائشة الأندلسي:
وقول ابن الرقَّاق:
وقول ابن قرناص:
وقول ابن منجك:
هكذا بضم الحاء؛ لأن القصيدة مضمومة الرويِّ، وأولها:
ومثله قول الآخر:
والأمثلة في ذلك كثيرة، فنجتزئ منها بهذا القدر.
«عَوْدٌ» ويقولون: تناول طعام الغذاء عند فلان، يريدون الغداء بالدال المهملة، وهو طعام الغداة، وإنما الغذاء مطلق القوت لا يراد به طعامٌ مخصوص.
ويقولون: فلانٌ قبيح الفعائل يريدون جمع فعل أو فعال، وكلاهما لا يجمع هذا الجمع. وقد جاء من هذا قول الحاجبي رواه له في خزانة الأدب:
ويقولون: انشغل عنه؛ أي: عرض له ما شغلهُ. ولم يُحكَ وزن انفعل من هذا الحرف، وإنما يقال: شُغل عنه بصيغة المجهول واشتغل.
ويقولون: هو شاعرٌ بليغ ناهيك عن شجاعته؛ أي: فضلًا عن شجاعته مثلًا، ولا يستعمل ناهيك بهذا المعنى، إنما يقال: زيدٌ رجلٌ ناهيك من رجل، كما يقال: كافيك من رجلٍ، وحسبك من رجلٍ؛ أي: هو كافٍ لك، فكأنه ينهاك عن طلب غيره.
ويقولون: أمكن له أن يفعل كذا، يعدونه باللام وهو متعدٍّ بنفسه، لم يرد في شيء من كلام المتقدمين إلا كذلك، تقول: أمكنته من كذا؛ أي: جعلته يتمكَّن منه، مثل مكَّنته — بالتشديد — ثم تقول: أمكنني هذا الأمر، على تقدير أمكنني من نفسه، كما صرَّح به في الأساس، فاستغنوا عن الصلة والأصل محفوظ. وكأن أول من أدخل هذه اللام — ولم نجدها في كلام أحدٍ قبل ابن بطوطة — سمع قول القائل: هذا الأمر ممكن لي؛ فتوهَّم أنها لام التعدية فأجراها على الفعل، وإنما هي لام التقوية مثلها في قولك: زيدٌ محبٌّ لي، وعجبت من ضربك لعمرو. وهذه اللام تزاد بعد الصفة والمصدر لتقوية عملهما كما تقرر في كتب النحاة. ولا تزاد بعد الفعل لاستغنائه عن التقوية، فلا يقال: أحببت لزيد ولا ضربت لعمرو، كما يظهر لك بالبديهة؛ فتنبَّه.
على أن من المحدثين من زاد هذه اللام في غير ذلك. ولم تُسمَع زيادتها إلا في الشعر لضرورة الوزن، كقول الحافظ جمال الدين اليعمري:
وإنما يقال: استنشق الهواء، ولا يقال: استنشق له، ومثله قول أبي سعيد الرستميِّ:
وقول محمد الحلبي الكوراني من المتأخرين:
وسيأتي لهذا نظائر من غير ذلك، إن شاء الله.
ويقولون: زيدٌ كاتبٌ كما وأنه شاعر، فيزيدون واوًا بين ما المصدرية وصلتها، وهو من أغلاط العامة، والصواب ترك الواو.
ويقولون: هو لا يرجع عن غيِّه ولو مهما بذلت له من النصح، يريدون: ولو بذلت له من النصح مهما بذلت، إلا أن مهما لا تقع هذا الموقع؛ لأن لها الصدر، فالصواب أن يقال: ولو بذلت له من النصح ما بذلت، أو لا يرجع عن غيه مهما بذلت له من النصح.
ويقولون: أزوره رغمًا عن هجره لي. ولا معنى للرغم هنا، إنما من التعريب الحرفي، والذي يقال في هذا المقام: أزوره مع هجره لي أو على هجره لي، وهو المعنى المراد من التعبير الإفرنجي.
ويقولون: لما يجيئك زيدٌ أكرمه، فيدخلون لما على المضارع وهي مخصوصةٌ بالماضي، والصواب استعمال إذا في مكانها يقال: إذا جاءك زيدٌ فأكرمه.
وقد ورد من هذا قول ابن حجة الحموي:
ومثل هذا استعمالهم قطُّ للزمان المستقبل، يقولون: لا أفعله قطُّ. ومن هذا أيضًا قول النواجي:
وقول الخوارزمي:
وعكسه استعمالهم أبدًا للزمن الماضي. ومنه قول عُبَيد الله الميكالي:
ويقولون: افعل هذا ولئن كلفك بعض المشقة، يريدون: وإن كلفك، فيزيدون اللام قبل إن الوصيلة، وهي إنما تزاد قبل الشرطية توطئةً لقسم محذوف، تقول: لئن لم تفعل هذا لتندمنَّ؛ أي: والله لئن لم تفعل مثلًا؛ فالصواب حذف هذه اللام.
ويقولون: لا يجب أن تفعل كذا؛ أي: يجب أن لا تفعل. ولا يخفى الفرق بين نفي الوجوب ووجوب النفي؛ فإنه على الأول يبقى الفعل جائزًا وبخلافه على الثاني كما يظهر بأدنى تأمل.
ويقولون: لا آتيك ما زلت حيًّا، يريدون: ما دمت حيًّا، فيجعلون ما قبل زال مصدرية زمانية. ولا يخفى أن معنى ما زال ما انقطع، فإذا جُعلت ما مصدرية على فرض صحة استعمال الفعل بدون النفي أو شبهه، كان المعنى: لا آتيك مدة انقطاعي عن الحياة، وهو عكس المراد. ومن الغريب أن ممن سقط في هذا ابن خلدون، حيث قال في الفصل الخامس من الكتاب الأول: ولا تزال الصناعات في التناقص ما زال المصر في التناقص، اللهمَّ إلا أن يكون هذا من غلط النساخ، ولعله الأقرب.
ويقولون في مقام الإخبار: لا زال زيد يفعل كذا، يعنون: ما زال يفعل. ولا لا تدخل على الماضي إلا مع التكرار أو العطف على منفي، نحو لا صدَّق ولا صلَّى، وما زرت زيدًا ولا زارني، وإلَّا صار الكلام معها إنشاءً، وانقلب زمان الفعل إلى الاستقبال.
ويقولون: إذا لا سمح الله حدث كذا، وإن لا سمح الله حدث كذا … فيفصلون بين إذا وما أضيفت إليه وبين إن وشرطها، وكلاهما لا يجوز؛ فالصواب تأخير الجملة المعترضة. وقد وقع مثل هذا لبديع الزمان في إحدى رسائله إلى الإمام أبي الطيب؛ حيث يقول: وإن — والعياذ بالله — لم يوافق مرادُهُ قَدَرًا. ومن أغرب ما جاء من هذا القبيل قول الصاحب بن عباد:
ففصل بين إن وفعلها بعسى. وهو من التراكيب التي لا تصحُّ ولا يمكن تصحيحها بوجه. على أن المعنى الذي يريده من عسى مستفادٌ من الشرط نفسه. فزيادتها خطأ في اللفظ لغوٌ في المعنى.
ويقولون: قلت له أن يفعل كذا، وأن لا تقع بعد لفظ القول. والصواب قلت له: ليفعل بلام الأمر، وإن شئت حذفت اللام وأبقيت الفعل مجزومًا أو رفعته. ومن الأول قول الراجز:
ومن الثاني قول المهلهل:
على أن من المولدين من اتفق له استعمال ذلك في الشعر، كقول ابن عبد العزيز:
وربما زاد بعضهم الباء قبل أنْ، وإنما تزاد الباء في مثل هذا إذا كان القول بمعنى الرأي، والمذهب لا على أصل معناهُ. ومن هذا قول ابن العطار:
وربما زادوا الباء في غير ذلك، كقول ابن أسد الفاروقي:
ولا وجه لزيادتها هنا؛ لأنك تقول: نسيت الأمر ولا تقول نسيت به. ومثله قول ابن بقيٍّ:
فزادها على المبتدأ، وهي لم تسمع كذلك إلا في قولهم: بحسبك درهمٌ. على أن أكثر ما سُمعت هذه الزيادة إذا كان مدخول الباء مفتتحًا بأن أو أنَّ المصدريتين؛ لكثرة ورود هذه الباء هناك حتى تُنُوسِيَ المراد منها؛ ولذلك ترى أكثر كتابنا اليوم يقولون: لا يخفى بأن الأمر كذا، ويسرُّني بأن يكون زيدٌ كذا، وهلمَّ جرًّا. مع أنهم لو استعملوا المصدر في ذلك كله لم يكن لهذه الباء محلٌّ عندهم. ومن الغريب أن ممن استُدرج بهذا عنترة العبسيُّ في معلقته المشهورة حيث يقول:
وقول من قال: إن الباء تزاد على مفعول خشي ليس بشيء؛ لأنه لو استعمل الاسم هنا لم يقل: خشيت بالموت. وأنكر ما جاء من مواضع زيادتها قول ابن حجة الحموي، رواه لنفسه في خزانة الأدب:
فزادها في خبر كاد، وهو من المواضع التي لا تدخلها أن إلا شذوذًا، فضلًا عن إشكال دخولها في هذا الباب من أصله، فما عتم أن زاد هذه الطينة بلةً بدخول الباء.
ويقولون: رأيته أكثر من مرة، وجاءني أكثر من واحد، ومقتضاهُ إثبات الكثرة للمرة وللواحد؛ لأن المفضَّل عليه في معنًى من المعاني لا بد أن يشارك المفضَّل في ذلك المعنى؛ فقولك: بكرٌ أشرف من خالد يتضمَّن إثبات الشرف لخالد مع زيادة بكرٍ عليه فيه. والظاهر أن هذا التعبير منقول عن التركيب الإفرنجي، والعرب يستعملون هنا لفظ غير، يقولون: رأيته غير مرةٍ، وجاءني غير واحد؛ لأن غير الواحد لا بد أن يكون اثنين فما فوق.
ويقولون: هنَّأ القادم بسلامة الوصول، يعنون بوصوله سالمًا، وهي من العبارات الشائعة التي لا تكاد تخلو منها جريدة، ولا يخفى ما فيها من فاسد التعبير؛ لأن مفادها إثبات السلامة للوصول لا للقادم، والوصول لا يوصف بكونه سالمًا أو غير سالم.
ويقولون: تخرَّخ من هذه المدرسة كذا كذا تلميذًا، يريدون خرج، ولا يأتي تخرَّج بهذا المعنى، ولكن يقال: خرَّجت التلميذ تخريجًا إذا أدبته ودربته، فتخرَّج هو؛ أي: تأدب، وقد تخرَّج على فلان، وتخرَّج في مدرسة كذا، وهو خريج فلان.
ويقولون: تعذَّر عن الأمر؛ أي: امتنع عليه فعله وعجز عنه، والصواب تعذَّر عليه الأمر.
ويقولون: استلف منه سُلفةً بالضم؛ أي: اقترض قرضًا، وهي من الألفاظ الشائعة عند عامة مصر، ولم يرد استلف في شيءٍ من اللغة، إنما يقال: استسلف منه مالًا وتسلَّف، والاسم السلَف بفتحتين، وهو القرض بلا منفعة. وأما السُّلفة فلم تأتِ بهذا المعنى.
ويقولون: هذا أمرٌ ذو خطارة، يعنون مصدر الخطير، وإنما يقال في هذا المعنى الخَطَر والخطورة، ولم يُسمع الخطارة.
ويقولون: رغب الشيء وشيء مرغوب، يعدُّونه بنفسه، والصواب رغب فيه.
ويقولون: طلب الحظوى بهذه النعمة، وسرتني الحظوى بلقاء فلان، والصواب الحُظوة بالهاء. ومن هذا قولهم: سرتني رؤياك بالألف أيضًا، وإنما الرؤيا في النوم خاصة. وأما في اليقظة فيقال: الرؤية بالهاء، وهي اللغة الفصحى.
ويقولون في جمع السيِّد: أسياد، وهي من لفظ العامة؛ لأنهم يقولون في المفرد: سِيد بالكسر مثال عِيد، وإنما السيِّد الذئب، والصواب جمعهُ على سادة، مثل عيِّل وعالة، وكلاهما نادر.
ومن هذا الباب قولهم في جمع الكُسوة: كساوي. ولا وجه لهذه الصيغة في جمع هذه الكلمة، والصواب الكُسَى بالقصر كما تقدم في غير هذا الموضع. وقد ورد مثل هذا في مروج الذهب للمسعودي؛ حيث يقول في الكلام عن كسرى أبرويز: وأمر لجنود موريقش بالأموال والمراكب والكساوي، وهو من مثله غريب.
ومن ذلك جمعهم السطح على أسطحة وأساطح، وهذا الثاني جمع الجمع، والصواب سطوح، وقولهم في جمع القرية: قرايا، كأنهم جمعوا القرية بتشديد الياء. وقد جاء الجمع في تاريخ أبي الفداء في الكلام على غزوة الدمستق لحلب؛ حيث يقول: ثم ارتحل عائدًا إلى بلاده ولم ينهب قرايا حلب. ومثله قوله في الكلام على مقتل الأمين: وأخذوا رأسه ومضوا به إلى طاهر؛ فنصبه على برجٍ من أبرجة بغداد، يريد «أبراج». ومن هذا قول نزهون الغرناطية الشاعرة:
وإنما يجمع الزِّرُّ على أزرار.
ومن هذا يقولون: جاءوا عرايا، كأنه جمع عُريان على حد نُدمان وندامى، وكذا يقولون في جمع المؤنث، لكن نصَّ أصحاب اللغة على أن هذا الحرف لا يكسَّر؛ أي: لا يجمع جمعًا مكسرًا، وإنما يقال في جمعه: عُريانون ونساءٌ عُريانات.
ويقولون: أصبح القوم يشكون الجوع والعراء كذا بالمدِّ، والصواب العُرْي بالضمِّ وسكون الراء.
ويقولون: غليت الماء؛ فيستعملون غلى متعديًا وهو لازم، يقال: غلى الماءُ يغلي غليًا وغليانًا، وأغليتهُ أنا إغلاءً يتعدى بالألف.
ويقولون: أجَّله في الأمر إلى بعد كذا، وبقيت عنده إلى قبل المغرب. وإلى لا تدخل من الظروف الغير المتمكنة إلا على متى وأين وحيث، وباقيها لا يجرُّ إلا بمن، والصواب إلى ما بعد كذا، وإلى ما قبل المغرب.
ويقولون: والأعجب من ذلك أن الأمر كذا وكذا وهذا أخي الأكبر مني. ومن هذا قول السيوطي في المقامة الوردية: والأشرف من كل ريحانٍ فخرًا. والمقرر في كتب النحاة أن إلى ومن لا تجتمعان مع أفعل التفضيل؛ فالصواب أن تُحذَف إحداهما، فيقال: والأعجب أن الأمر كذا، أو وأعجب من ذلك أن الأمر كذا، وهذا أخي الأكبر أو أخي الذي هو أكبر مني، وقس على ذلك.
ويقولون: رجلٌ ثورويٌّ على مثال فوضويٌّ؛ أي: من أصحاب الثورة، وهم الثورويون. ولا وجه لزيادة هذه الواو قبل ياء النسبة، وكأنهم يتجافون عن أن يقولوا ثوريٌّ لئلَّا يلتبس بالمنسوب إلى الثور، على أن الثور لو فطنوا مشتقٌّ من الثوَران؛ لأنه يثور أو لأنه يُثِير الأرض؛ فالشركة حاصلة على كل حال.
ويقولون: ارتكب في هذا الأمر جُنحةً بالضم؛ أي: ذنبًا يسيرًا. وقد جنَّحهُ تجنيحًا: إذا نسب إليه الجنحة. وكلاهما لم يرد في اللغة، إنما جاء الجُناح بالضم بمعنى الذنب، وكأن الجنحة محرَّفةٌ عنهُ.
ويقولون: هم خصماء فلان، يريدون جمع خصم، وإنما الخصماء جمع خصيم، وهو الشديد الخصومة، والصواب خصوم.
ويقولون: أجَّر المنزل تأجيرًا؛ أي: اكتراه، وهو عكس المعنى؛ لأن التأجير يكون من المالك؛ تقول: أجَّرته المنزل فاستأجره.
ويقولون: صادق المجلس على كذا، يعنون أقرَّه ووافق عليه، وإنما يقال: صادقته من الصداقة. وقد يكون بمعنى صَدقته (بالتخفيف) وصَدقني خلاف كاذبته. ومنهم من يقول: صدَّق عليه تصديقًا، والتصديق في اللغة خلاف التكذيب؛ فكلاهما غير الصواب.
ويقولون: صرَّح له أن يفعل كذا، بمعنى أَذِن له وأطلق لهُ أن يفعل، ولم يأت صرَّح في شيء من هذا المعنى.
ويقولون: أشَّر على الصكِّ تأشيرًا؛ أي: رسم عليه علامةً تُفِيد التوقيع؛ أخذوه من الإشارة على توهم أصالة الهمزة في أولها، وهو من كلام العامة، على أن الإشارة لا تُفِيد ما يريدونهُ من ذلك، والصواب أن يقال: وقَّع على الصك أو أعلم عليه إذا لم يُرَد صريح التوقيع.
وهناك ألفاظٌ وصيغٌ غريبة انفرد بها بعض كتَّابنا منها عن زيادة تأنُّقٍ ومغالاةٍ في طلب الإغراب، فيخبطون في استعمال ألفاظ اللغة إلى ما يخرجها عن وضعها ويكسوها ثوبًا من القلق والإبهام، ومنها عن قلةٍ في المادة وجهل بمفردات اللغة ووجوه استعالها، فيأتي بها الكلام في منتهى الركاكة والسقم. والأمثلة من الطرفين كثيرة نجتزئ بإيراد بعضها عبرةً للمنتقد وتنبيهًا للمقلد.
فمن أمثلة الأولى قول القائل: «إن تلك السجون كانت منبت الأوباء ومبترك الأمراض.» ولفظ المبترك كما تراه غريبٌ في هذا الموضع لا يكاد يُستخرَج له معنًى إلا بعد إطالة البحث، وتقليب النظر فيما يوافقهُ من التفسير اللغوي. ولعلَّ أقرب ما يُؤَوَّل به أن يُجعل من قولهم: ابترك السحاب إذا ألحَّ بالمطر. فكأن المعنى: أن الأمراض تلحُّ فيها على المسجونين. ولا يخفى ما في هذا التفسير من التكلف والبعد، فضلًا عن إيراد مثل هذه اللفظة في جريدة يقرؤها التاجر والصانع والفلاح. فما ضرَّه لو قال: ومستقرُّ الأمراض أو مستوطن الأمراض، وكفى نفسه وقرَّاءه هذا العنت الوبيل.
ومن ذلك قوله: «أثبتت حقوقها بما لم يعد معه للريب بال.» قال في القاموس: البال الحال والخاطر والقلب والحوت العظيم والمرُّ الذي يُعتَمل به في أرض الزرع ورخاء العيش. وانظر أيها يناسب هذا الموضع.
وقوله: «دخان المعامل وعِثَير أيدي الصناع.» أي: ما يُثِيرُونه من الغبار بأيديهم. والعِثَير مخصوصٌ بالغبار الذي تثيرهُ الأرجل في المشي، إلَّا إذا أراد أن أولئك الصناع كانوا يمشون على أيديهم.
ومن تلك الأمثلة قول الآخر: «نشبت الحرب وألقت أوزارها.» يريد بقوله: ألقت أوزارها تقوية الجملة الأولى التي هي قوله: نشبت الحرب؛ لظنه أن الجملتين بمعنى واحد، وهو وهمٌ بيِّن؛ فإن الأوزار جمع وِزر بالكسر بمعنى الثقل، ويراد بأوزار الحرب العُدَد والأسلحة التي تباشَر بها. وظاهرٌ أن إلقاء الأسلحة مفهومه ترك الحرب، ومنه في سورة محمد حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا. قال البيضاوي: أي آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها؛ كالسلاح والكراع؛ أي تنقضي الحرب. ا.ﻫ.
ومن هذا القبيل قول الآخر: أخنى عليهم الدهر بكلكله، وهو من مضحكات الكلام؛ فإنه يقال: أخنى عليهم الدهر؛ أي: أهلكهم وأتى عليهم، والكلكل الصدر، ولا معنى لأن يقال: أهلكهم الدهر بصدره، وكأن هذه العبارة انحرفت على الكاتب؛ لأنه يقال: أناخ عليهم الدهر بكلكله على تشبيه الدهر بالبعير إذا برك بصدره على الشيء. ويقال أيضًا: طحنهم الدهر بكلكله وجرَّ عليهم كلاكلهُ؛ قال:
ومن ذلك قول الآخر: «بسطت أسباب العمران رواقها.» وهو من التراكيب التي لا معنى لها؛ لأن الأسباب بمعنى الجبال استعارها للعمران على جعلها بمعنى الوسائل، وهو استعمالٌ سائغ، ولكنه جعل لتلك الأسباب رواقًا، فأفسد؛ لأن ذلك مما لا يُتصور في حقيقة ولا مجاز ولا يمكن رده إلى تفسير صحيح.
وقوله: «شيَّد معالم الحضارة.» وهو يحسب أن المعالم شيء من البنيان، فجعلها مما يشيَّد. قال في لسان العرب: المَعلَم الأثر يُستدَلُّ به على الطريق. ا.ﻫ. فوجه الكلام أن يقال: أوضح معالم الحضارة مثلًا؛ أي: أظهر ما طمس من آثارها، وهو التعبير الذي تراه في كلام الفصحاء.
وقوله: «النساء اللواتي أُدليت الأحكام إليهن.» يعني أُسنِدت، ولم يُسمَع استعمال أدلى بهذا المعنى، ولا جاء في نصوص اللغة ما يحتمل ذلك فيه.
ومن ذلك قول الآخر: «الطاعنات بالأحداق.» يصف نساءً بفتنة النظر، فما زاد على أن جعل أحد أحداقهنَّ رماحًا، وهو أغرب ما سُمع من ضروب التشبيه.
وقوله: «لم يوشك أن حل هذا المحل حتى سعى لينال هذه الزيادة.» يريد لم يلبث بعد أن حلَّ أو لم يوشك أن يحلَّ؛ لأن خبر أوشك لا يكون إلا فعلًا مضارعًا، فعدل عن وجه الكلام إلى هذا التركيب الغريب.
وقوله: «عقدوا خناصرهم على هذا الأمر.» أي: عقدوا عزائمهم عليه. وليس هذا التعبير في شيء من هذا المعنى، إنما يقال: عقد خنصره على كذا؛ أي: أشار إلى تفرده في نوعه أو إلى أنه الأول بين أمثاله. وهو مأخوذ من العقد بالأصابع للدلالة على العدد. وقد تقدم لنا شرح ذلك مفصلًا في الجزء الثاني من مجلة البيان (صفحة ٨٨ وما يليها).
وآية الغرابة في ذلك كله قول القائل: «فقد يحصل أن يكون ذيل المحصول في هذا العام غليظًا.» أي: أن تكون الغلال وافرة، فلينظر المطالع هل رأى في زمانه أغلظ من هذا الذيل!
ومن أمثلة الضرب الثاني قول القائل: «سأل شوره في هذا الأمر.» أي: مشورته، وهو من ألفاظ العامة؛ لأنهم يقولون: شار عليه بكذا، وأنا لا أشور عليك بهذا الأمر.
وقول الآخر: «سهي الشيء عن باله.» وهو من التعبيرات العامية أيضًا، وفيه غلطتان؛ إحداهما إخراج سها إلى باب علم، وصوابه من باب نصر، والثانية إسناده إلى الشيء، وإنما يقال: سهوت عن الشيء، ولا يقال: سها الشيء عني.
وقول الآخر: «أرجو إليه أن يفعل كذا.» أي: أرغب إليه، والصواب أرجو منه. على أن الرجاء بمعنى الأمل، واستعماله بمعنى الرغبة عاميٌّ.
ومن ذلك قول الآخر: «الذين لا ذمة لهم ولا ذمام.» فظنَّ الذمة شيئًا والذمام شيئًا آخر، وهما على الحقيقة شيء واحد. قال في لسان العرب: وفي الحديث ذكرُ الذمَّة والذمام، وهما بمعنى العهد والأمان والضمان والحرمة والحق. ا.ﻫ.
وقوله: «هوَّم عليه بالحسام.» يريد هوَّل عليه به؛ أي: خوَّفه. وشتان بين التهويم والتهويل.
وقول الآخر: «يحمو ويحترق.» أي: يحمي، وكأنه بناه على الحموِّ مصر حَمى، وهو من المصادر النادرة.
وقوله: «قرية قفرى.» هكذا بالقصر كأنها مؤنث قفران على حد سكرى وسكران، وفي كلام غيره قفراء بالمدِّ مثال حمراء، وكلاهما غلط. وإنما يقال: بلدةٌ قفرٌ بترك التأنيث، وإن شئت قلت: قفرةٌ بالتاء.
وقوله: «صفار البيض.» أي: ما في باطنه من المُحِّ الأصفر، وكأنه من التسمية بالمصدر على ما هو في لغة العامَّة؛ فإنهم يقولون: الصفار والخضار وغير ذلك قياسًا على السواد والبياض. ومن الغريب أن مثل هذا وقع في شعر لمجير الدين بن تميم، وهو قوله:
وقول الآخر: «رضوا بتوزيع النفقات بما فيه العضوان القبطيَّان.» وليُنظر ما معنى هذه الكلمات الأخيرة.
وقوله: «حصل التنبيه على الموظفين بعدم إعطاء الأخبار.» أي: أُمِروا بذلك، ولم يُنقل استعمال التنبيه بهذا المعنى، وإنما هو من كلام العامة.
وقول الآخر: «لا يصلح أن يؤخذ حجةً طالما أن كتب اللغة لم تحط بكل الألفاظ.» يريد ما دامت كتب اللغة لم تحط، فجعل طالما ظرفًا، وهي من قبيح أغلاط العامة.
وقول الآخر: «احتُفلت هذه الأعياد.» فجعل احتفل متعديًا وهو لا يكون إلا لازمًا.
وقوله: «لا يحقُّ سوى للإله.» ففصل بين سوى وما أضيفت إليه باللام، والصواب لسوى الإله أو إلا للإله، وهي من الأغلاط القديمة التي سبق لنا التنبيه عليها في غير هذا الموضع.
وأغرب ما جاء من هذا قول القائل: «سيشرع المجلس البلدي بعمل مناقصة عن توريد أولًا الرمل وثانيًا العربات.» إلى آخره. وهذا مما قصَّرت عنه لغة الدواوين.
ولقد أطلنا في هذا الفصل إلى حدٍّ لم يكن في النية بلوغه، ولعله أدى إلى سأم بعض القراء، وإن آنسنا من جمهورهم تلقيه بالهشاشة والارتياح. على أنه قد بقي من مثل ما أوردناه شيء كثير، حتى إننا لا نكاد نتصفح مقالةً من جريدة أو مجلة أو فصلًا من كتاب عربيٍّ أو معرَّب إلا نجد فيه مواضع حَرِيَّةً بالتنبيه، بحيث لو أردنا تتبُّع كل ما نراه مخالفًا للصحة للزم أن لا نختم هذه المقالة؛ ولذلك فإنا نأمل أن يكون ما ذكرناه في هذه النبذة كافيًا لأن يدعو أذكياء كتَّابنا، ومن يهمه منهم تصحيح لغته وتنزيهها عن شوائب الأوهام، أن يتنبهوا لتولي ذلك بأنفسهم، ومراجعة نصوص اللغة فيما يشتبه عليهم من الألفاظ؛ فإن ذلك أجدى عليهم وأوسع فائدة من تنبيههم على كلمة كلمة، وكثيرًا ما تتفق لهم الفائدة يتناولونها عن غير قصد، فضلًا عما يرتسم في ملكاتهم من فصيح الأساليب التي تتكرر عليهم في تلك الأسفار. ولا يتوهمُنَّ أن الوصول إلى إصلاح تلك الهفوات يقضي عليهم باستيعاب موادِّ اللغة حتى يكونوا جميعهم لغويين، كما لا يلزمهم أن يدركوا الغاية منه في يومٍ واحد ولا في شهر واحد، ولكن لو استثبت أحدهم صحة كلمة واحدة في اليوم لم يأت عليهِ إلا زمن قليل حتى يخلص كلامه من أكثر تلك العيوب.
وهنا نرفع كلمات شكرنا إلى حضرات رصفائنا الأدباء؛ لما آنسنا فيهم من الإقبال على ما كتبناه في هذا الفصل، والحرص على تتبُّعِه والعمل به، وما قلدنا به جميل رأيهم من إحماد صنعنا وتقريظه مع تفضل بعضهم بنقل تلك المآخذ على صفحات جرائدهم سعيًا في زيادة انتشارها وتعميم نفعها، بيد أنَّا لا بد لنا أن نشير في هذا الموضع إلى أناسٍ منهم لم نبرح إلى يوم كتابة هذه السطور نرى تلك الأغلاط تتكرر في كلامهم، فنجد في ألفاظهم أمثال: العائلة، ولا يخفاك، وصادق المجلس على كذا، والقوم الأغراب، وأمعن النظر، وأسدل الستار، والأعيان المباعة، والمداولات في القضايا، ورضخ إلى النصيحة، والوحوش الكاسرة، وأمكن لي نوال الشيء، وشاع الأمر في النوادي … إلى غير ذلك مما سبق لنا التنبيه عليه. وهذه كلها مما نقلناهُ من عدد واحد من إحدى الجرائد. وما كان إصلاح هذه الكلمات بالأمر البعيد على هذا الكاتب لو شاء الإصلاح؛ إذ لم يكن عليه إلَّا أن يعير انتباههُ لما مرَّ به من المآخذ المذكورة، وهي لا تتعدى العشر إلى الخمس عشرة كلمة في كل مرة.
ولكن الظاهر أن بعض كتَّابنا يعزُّ عليهم الإقلاع عما تعوَّدوه من الركاكة والخطأ، شأن البلاد في سائر ما ألِفته حتى في صناعتها وزراعتها وتربية أبنائها ومعالجة أدوائها، وشديدٌ على الإنسان ما لم يعوَّد. ولعل هناك من جذب بعنانه الكبر والدعوى، فتمثَّل له أن في التصحيح اعترافًا بالغلط، فآثر أن يمضي على غلطهِ إيهامًا وتغريرًا ومكابرةً في الحقائق، مع أن كل من تصفَّح كلامنا في هذه المقالة يرى أننا قد تحامينا كل ما يبعث على الأَنَفة ويدعو إلى الإباء؛ لأنَّا لم نومئ إلى واحدةٍ من تلك الجرائد بعينها، ولم نكد ننقل من إحداها عبارة بحرفها مخافة أن يُتنبه إلى موضع النقل، فيفوتنا ما قصدناه من إقبال الكتاب على تصحيح كتاباتهم، وما تنويه من صدق الخدمة وإخلاص القصد في تقويم أوَد اللغة، وهو الغرض الذي طالما توخَّيْنَاه وسعينا له منذ ألقينا العصا في هذه الديار، وآنسنا فيها من حركة الأقلام وانتشار المطبوعات ما آذن بتجدد حياة اللغة، ورأينا من تفشي التحريف واللحن والصيغ العامية والأعجمية ما خشينا معه أن يكون ذلك الانتعاش في اللغة مدرجةً إلى تأصل الفساد فيها بما يتعذر اقتلاعه.
وكان أول من توجهنا له أن عزمنا على استئناف طبع كتابنا في المترادف الذي سبق الإلماع إليه في أحد أجزاء الضياء، ووضعه بين أيدي الكتاب والدارسين إيثارًا لهم بما يتضمنه من وجوه التعبير الصحيح في أكثر ضروب المعاني المتداوَلة، وإحياءً لكثير من ميِّت ألفاظ اللغة وتراكيبها التي انقطع عهد الأقلام بها منذ قرون. فلما أخفق السعي فيه وجَّهنا القصد صوب المجمع اللغوي الذي كان قد شُرع في تأليفه في هذه العاصمة رجاءَ أن نستنهض الهمم إلى استئناف العمل فيه، وشرعنا في مقالتنا «اللغة والعصر»، نبيِّن فيها ما وسعه علمنا القاصر من طريقة العرب في وضع ألفاظ اللغة، واشتقاق بعضها من بعض، تذرُّعًا بذلك إلى وضع ألفاظ للمعاني المستحدَثة مما كان غرض المجمع المشار إليه؛ فكان كل ما سطرناه في هذا السبيل صرخةً في واد أو نفخة في رماد.
ورأينا أن البحث الذي خضنا فيه هناك إذا لم يترتب عليه بحثٌ عمليٌّ مما تقدم الإيماء إليه، اقتصرت فائدتهُ على بعض الخاصة والمتبحرين في اللغة، وقليلٌ ما هم؛ فأهملنا تتمة الكلام فيه، وعدلنا إلى انتقاد لغة الجرائد وبيان ما انتشر فيها من الأغلاط الشائعة، مع الإشارة إلى وجوه تصحيحها، علمًا بأن هذا من أسهل سبل الإصلاح وأقربها؛ لأنَّا لم ننحُ فيه منحى القواعد الكلية كما فعلنا في مبحث «اللغة والعصر». ولعلَّ هذا وقد آنسنا فيه مخايل النجح يكون تمهيدًا لما هو أهمُّ منه مكانًا وأعمُّ منفعة — إن شاء الله تعالى — والأمور مرهونة بأوقاتها. انتهى.
•••
يقول جامع هذه النبذة ومتولي طبعها مصطفى توفيق المؤيدي: هذا آخر ما جاء في مجلة الضياء الغراء من الكلام على لغة الجرائد، وتصحيح ما تداولته فيها الأقلام من الأوهام. وقد عثرت على تصحيحات أخر لبعض ألفاظ الكتَّاب ذُكرت متفرقة في بعض فصول مجلة البيان، وفي باب الأسئلة وأجوبتها من مجلة الضياء، فرأيت أن أزيدها هنا توفيةً للفائدة بعد استئذان المؤلف الفاضل في صياغتها على نسق ما ذُكر في هذه المقالة، وها أنا ذا أبدأ بإيرادها على ترتيبها، وبالله التوفيق.
فمن ذلك أنهم يقولون: أنا مديون لفلان في هذا الأمر؛ أي: له عليَّ الفضل فيه، وإنما هي من الألفاظ المعرَّبة عن كلام الإفرنج.
ويقولون: أطرق برهةً يفكر في الأمر؛ يعنون هنيهة من الزمان، وإنما البرهة الزمن الطويل، واستعمالها للزمن القصير من أوهام العامَّة.
ويقولون: وقع هذا الأمر صدفةً يريدون بالصدفة الاتفاق أو المقدور، وهي من الأوضاع العامية، كأنهم أخذوها من المصادفة، ولم ترد في شيء من كلام العرب ولا المولدين.
ويقولون: أقام فلان بموضع كذا مع عائلته، يعنون بالعائلة الأسرة أو العشيرة، وكأنها تصحيح قول العامة: عيلة، وكلتاهما لا تأتي بهذا المعنى. إنما يقال: عيال الرجل وعَيِّله بالتشديد بمعنى الذين يتكفل بهم ويعولهم.
ويقولون: كثرت عنده الهوادس يريدون بها خطرات الهموم وما يتخالج منها في الصدر، وإنما هي من تحريفات العامة، وصوابها الهواجس.
ويقولون: وقع في شراك فلان، يريدون بالشراك الشَّرَك بفتحتين، وهو حبالة الصائد. وإنما الشراك السير الذي تُشَدُّ بهِ النعل.
ويقولون له: في هذا الأمر عشَم؛ أي: أمل، وقد تعشَّم فيه خيرًا، وإنما العشم في اللغة بمعنى الطمع، واستعماله بمعنى الأمل عاميٌّ. وأما تعشَّم فمعناه يبس من الهزال، وهو من اللفظ المتروك.
ويقولون: تحصلت على كذا؛ أي: حصلت عليه، وهو اصطلاحٌ عاميٌّ لم يرد به نقل، ولا وجه لهُ في القياس.
ومن التعبيرات الخاصة قول القائل: أخذنا هذا الأمر على عواهننا، وكأنه أراد أن يقول: على كواهلنا، فاختلطت عليه الكواهل بالعواهن. وهو مثل قول بعضهم: حباحب الكأس، يريد حبابها؛ وهو ما يطفو عليها من الفقاقيع. وقول الآخر: أحمر يقق، وإنما يقال: أبيض يَقَق؛ أي: شديد البياض. أما الأحمر فيقال فيه: أحمر قانئ.
ويقولون: انخذل الجيش بمعنى انكسر وفَشِل، ولم ترد هذه الكلمة في شيء من كلامهم لا بهذا المعنى ولا بغيره. لكن الذي في كتب اللغة خذله وخذل عنه: إذا تخلف عنه وقعد عن نصرته. وهذا فضلًا عن كونه ليس بالمعنى الذي يريدونهُ لا يصح أن تُبنَى منه صيغة انفعل؛ لأنها للمطاوعة، وهي إنما تكون فيما يقبل أثر الفعل، ولا أثر للخذلان في المخذول.
ويقولون: فلانٌ من الفطاحل؛ أي: من أكابر العلماء، واستعمال هذه اللفظة بهذا المعنى من مواضعات العامة، ولا شيء منها في كتب اللغة. انتهى.
هذا وإني تسهيلًا لمراجعة الألفاظ الوارد تصحيحها في هذه المقالة قد ختمتها بفهرست رتبته على حروف المعجم. وأنا أسأل الله أن يقيل بها عثرات الأقلام، ويجعلها نافعةً للخاصِّ والعام بفضله — عز وجل — وكرمه.
وبقي هنا قول صاحب المصباح: والأكثر أن يتعدى بالألف بعد قوله. وقد يتعدى بنفسه، وهذا القول عجيبٌ من مثله؛ لأن مقتضاه أن التعديتين بمعنًى واحد. وإنك تقول: ذهلني فلان عن الشيء كما تقول أذهلني، وهو سهوٌ منه؛ لأن تعدية الفعل بنفسه إنما تكون إلى الشيء المذهول عنه؛ تقول: ذهلت الشيء مثل ذهلت عنه، وتعديته بالألف تكون إلى الشخص الذاهل كما مثل، فقوله والأكثر أن يتعدى بالألف، ليس بشيء؛ إذ لا تنظير هنا؛ لأن كلًّا من التعديتين من وادٍ كما يظهر بأدنى تأمل.
وها هنا كل الإشكال؛ فكيف يقول لقيته — أي بلفظ الماضي — ثم يفسر من ذي قبل بقوله: فيما يستقبل؟ وجاء فيه بعد هذا: وأفعلُ ذلك من قَبَل؛ أي: فيما أستقبل، وأفعل ذلك من ذي قبل؛ أي: فيما تستقبل، وضبط لفظ قبَل بعد فعل المتكلم بفتحتين، وبعد فعل المخاطب بكسر ففتح، وهو أغرب إلا أن يكون هناك غلط في الطبع، فيبقى الإشكال في القصد من تكرير المثال. ولا بأس أن نورد هنا تفسيرهم لذي عوض وذي أنف؛ لأن هذه الألفاظ الثلاثة مترادفة في الاستعمال كما علمت.
قال في لسان العرب في تركيب «ع و ض»: وقولهم: لا أفعله من ذي عوضِ (كذا في النسخة المطبوعة في بولاق بضاد مكسورة وباقيها عارٍ عن الضبط) أي: أبدًا، كما تقول: من ذي قبلُ (كذا بضم اللام)، ومن ذي أُنف؛ أي: فيما يستقبل، أضاف الدهر إلى نفسه ا.ﻫ. ومحصله أن عوض هنا بمعنى الدهر؛ فيكون على هذا بفتح أوله وسكون الواو، وهو خلاف ما حكاه عن الفراء فيما نقلناه قريبًا. وقوله: أضاف الدهر إلى نفسه، كأنه يريد أن الأصل من ذي عَوْضي مضافًا إلى ياء المتكلم، ثم حذفت الياء على حد حذفها في النداء، وبقيت كسرة الضاد دليلًا عليها، وهو غريب. ولم يذكر القاموس عوض بهذا التركيب، ولا تعرض له صاحب التاج، مع أنه نقل عبارة الفراء المذكورة في باب اللام.
وقال — أي صاحب لسان العرب — في باب الفاء: الليث: أتيت فلانًا أُنفًا كما تقول: من ذي قُبُل، ويقال: آتيك من ذي أنف كما تقول: من ذي قُبُل (كذا يضبط قبل بضمتين في الموضعين)؛ أي: فيما يستقبل، وفيه ما في كلام الفراء من جعل أنف ظرفًا للفعل الماضي وتفسيره بما يستقبل ونقله في تاج العروس بالحرف.
والحاصل أن البحث في هذه الكتب مما يبعث السأم بل يورث السقم، وإني وايم الله لأعذر كل كاتب ينقبض عن مطالعة أسفار اللغة ويتفادى من الحوض فيها إذا كان هذا حال من يروم أن يستصبح بمشكاتها، ويستوضح منها غوامض أسرار اللغة ومشكلاتها. ولقد كان هذا مما لقيت منه العناء الطويل والعنت الثقيل؛ مما دعاني إلى أن أخدم طلاب هذه اللغة بوضع معجم أستوفي فيه نصوصها على الوجه الواضح، الذي لا إشكال فيه مع تجريدها من كل ما لا تُبيح قوانين البلاغة استعماله من اللفظ المتروك والوحشيِّ، واستبداله بالكلم المولد مما يتسنى لي العثور عليه، وقد طالعت لذلك ما يزيد على عشرين ألف صفحة من كتب التاريخ والشعر والأدب، ويشهد الله ما كانت رحلتي إلى هذه الديار إلا لأتفرغ لإتمام هذا التأليف وطبعه ثقة بما اشتهر من أنها كعبة العلم، ومحط رحال العربية ومنبثق أنوارها. ولكني صادفت من حال البلاد، بل من حال من وكل إليهم أمر العلميات فيها ما قضى عليَّ بأن أطوي هذا الكتاب إلى فتح جديد، وأطوي معه كتابًا آخر ليس بأقل فائدة منه في تجديد حياة اللغة وإخراج دفائنها، وكنت قد عرضته على نظارة المعارف المصرية فلم تزدني على استحسان الكتاب والثناء على مؤلفه … وسأفرد لما دار بيني وبينها في ذلك فصلًا مخصوصًا يعلم منه المطالع سبب انحطاط الأمم الشرقية وتخلفها، والله يهدي من يشاء ويضل من يشاء.