بعد الظهر … في يوم حار
كانت الساعة الثالثة والدقيقة الخامسة والعشرين عندما الْتصقت السفينة المصرية السودان بالرصيف رقم «٣» في مرفأ بيروت، وتوقفت آلاتها عن الدوران. وقبل أن يهبط راكب واحد من السفينة، كانت مجموعة من رجال الشرطة اللبنانية قد صعدوا إلى السفينة، ووقفوا بجوار رجال الجمرك الذين كانوا يفحصون جوازات سفر القادمين من الإسكندرية على السفينة، قبل السماح لهم بالهبوط إلى مرفأ بيروت … وكان هناك عدد آخر من رجال الشرطة يقفون على طول الرصيف … وعدد آخر في قارب يدور حول السفينة …
كان الحصار محكمًا … وكان الهدف القبض على «بيرد آمبروز» القاتل المحترف، والذي لا يعرف شخصيته الحقيقية إلا عدد قليل جدًّا من الناس … وكانت أوصاف «بيرد» في ذهن كل رجل من الرجال الذين أحاطوا بالسفينة أو صعدوا إليها … الطول ١٧٥ سنتمترًا … رشيق … مفتول العضلات … أسود الشعر … العيون عسلية تميل إلى الاصفرار، وفي حقائبه سلاح أو أكثر.
وأهم من هذه الأوصاف أن «بيرد»، كما قالت النشرة، رجل شديد الخطورة … سريع الحركة … يجيد التصويب ولا يتردَّد في القتل …
وأخذت عشرات العيون ترقب كل راكب يتقدَّم إلى ضابط الجوازات ويسلِّمه جواز السفر الخاص به. كان فحص دقيق يتم حول كل شخص … ولا يُسمح له بالنزول إلا بعد التأكُّد من شخصه … وفحص حقائبه.
كان يومًا حارًّا من أيام شهر يوليو … والشمس تُصلي المرفأ بنيرانها الحامية. ومال العقيد «شموط» — من رجال الشرطة — على زميل له قائلًا: متى وصلت البرقية من القاهرة؟ رد الآخر: منذ ربع ساعة فقط.
شموط: هل هناك احتمال أن يكون «بيرد» قد غيَّر رأيه ولم يركب السفينة؟
الرجل: إن جهات الأمن المصرية متأكدة؛ فقد وصلت لهم برقية من الإنتربول، وهو البوليس الدولي، بعد إقلاع السفينة بمدة طويلة. وتأكد رجال الأمن المصريون من كشوف الركاب في الشركة العربية للملاحة أن «بيرد» بين ركاب السفينة السودان وهكذا أبرقوا إلينا.
شموط: إذا كان «بيرد» بين ركاب السفينة حقًّا … فلن يفلت من أيدينا.
رد الرجل الآخر: إنه موجود … فقد سألت الضابط «سمير» المسئول عن شئون الركاب على السفينة، فأكد لي أن جواز السفر الخاص ﺑ «بيرد آمبروز» كان ضمن جوازات السفر التي جُمعت من الركاب عند صعودهم إلى السفينة في الإسكندرية.
شموط: إن المشكلة الحقيقية في عدد الركاب … فالسودان سفينة كبيرة نسبيًّا … وقد قال لي القبطان إن عليها ١٦٠٠ راكب.
الرجل: أخشى ما أخشاه أن يحس «آمبروز» بهذا التفتيش والفحص فيتصرَّف بحماقة، أو يعرِّض أرواح الركاب للخطر.
شموط: لهذا حرصت أن يلبس رجالنا جميعًا الملابس المدنية حتى لا يلفتوا الأنظار.
واستمرت إجراءات الفحص … وأخذ الركاب يغادرون السفينة …
في السابعة بعد ظهر نفس اليوم … بدأ جهاز اللاسلكي في مقر الشياطين اﻟ «١٣» في بيروت يرسل دقاته المتقطعة، ولم يكن في المقر سوى «إلهام» التي كانت تقوم في ذلك اليوم بدور النوبتجية، أمَّا بقية الشياطين فقد ذهبوا للغداء وقضاء بقية اليوم في الجبل، حيث تنخفض درجة الحرارة، ويرق الهواء ويبرد.
كانت أمام «إلهام» زجاجة من الكراش، وهو عصير البرتقال المفضل في لبنان، وكان في يدها كتاب بعنوان «يوم ابن آوى» من تأليف «فردريك نورسيت» وهو عن الزعيم الفرنسي الراحل «ديجول» … ومحاولات اغتياله. كان كتابًا شيِّقًا شد انتباهها تمامًا … حتى سمعت أزيز جهاز اللاسلكي فأسرعت إليه … وبدأت تتلقَّى أول رسالة تصل إلى الشياطين في الأسابيع الأخيرة.
من رقم «صفر» إلى «ش. ك. س» شياطين الكهف السري
استطاع رجل يدعى «بيرد آمبروز» أن يدخل بيروت قادمًا من الإسكندرية. الرجل قاتل محترف … ركب السفينة السودان إلى بيروت، ورغم الحصار الذي وضعه رجال الشرطة حول السفينة استطاع أن يقوم بخدعة مدهشة؛ فبعد أن خرج جميع الركاب بحث رجال الأمن في السفينة كلها … وعثروا على شخص مقيَّد ومُكمَّم وملقًى في دورة مياه الدرجة الأولى، وقد ظنوا أنه «آمبروز» لأنه يشبهه فعلًا، ولكن الرجل قال إن اسمه «سيمون جالارد»، وإنه فرنسي الجنسية ويعمل في تجارة الآلات الدقيقة. وقال «جالارد» إنه تعرَّف ﺑ «آمبروز» على ظهر السفينة … وقُبَيل وصول السفينة بساعة تقريبًا إلى المرفأ، كان يحزم أمتعته في الكابينة عندما دخل «آمبروز»، وقبل أن يدرك «جالارد» ما يريد … ضربه «آمبروز» على رأسه واتضح أنه جرَّده من ثيابه ومن أوراقه … ثم نزل من السفينة على أنه «سيمون جالارد». والمدهش أن «جالارد» أكبر سنًّا من «آمبروز»، وشعره أصفر، وعيونه زرقاء … ومن المرجح أن «آمبروز» يجيد التنكُّر … وأنه استطاع تغيير منظره في النصف ساعة التالية … وهكذا استطاع المرور من حصار رجال الأمن … مطلوب منكم الاشتراك في البحث عن «بيرد آمبروز» في شخصيته الجديدة «سيمون جالارد».
ثم أورد رقم «صفر» في تقريره وصفًا دقيقًا للرجل … واختتم التقرير قائلًا: «طلبت من البوليس الدولي معلومات أوفر عن «آمبروز»، ويقوم رجال الشرطة الآن بفحص جميع سجلات فنادق بيروت، والعمارات المخصصة للشقق المفروشة، وسيصلكم تقرير آخر في الساعة العاشرة.»
أخذت «إلهام» تقرأ التقرير وهي تهز رأسها مندهشةً لجرأة الرجل، وأسرعت إلى جهاز التليفون … وكان بقية الشياطين عندما وصلوا إلى الجبل قد اختاروا مطعم «برج الحمام» للغداء، فاتصلوا ﺑ «إلهام» وتركوا لها رقم التليفون إذا احتاجت لهم.
سمع «أحمد» اسمه يتردَّد في المطعم، فأسرع إلى جهاز التليفون، قالت «إلهام»: تقرير من رقم «صفر» خاص بشخص تسلَّل إلى بيروت ومطلوب القبض عليه سريعًا، ليست المعلومات دقيقةً وسيصلنا تقرير آخر في الساعة العاشرة.
ثم لخَّصت له المعلومات التي وردت في التقرير.
وقال «أحمد»: سنأتي فورًا. ثم أسرع إلى بقية الشياطين يطلب منهم ركوب السيارتين ونزول الجبل. كان الموجودون في بيروت من الشياطين اﻟ «١٣» هم: «عثمان» … السوداني، و«أحمد» … المصري، و«زبيدة» … التونسية، و«فهد» … السوري، و«ريما» … الأردنية، و«إلهام» … اللبنانية.
وأسرع الخمسة إلى السيارتين الحمراوين، ودارت المحركات وانطلقت السيارتان تنزلان الجبل. كانت الطرق متعرِّجةً تشبه طبقًا من الإسباجتي الرفيعة وتحتاج إلى قيادة سريعة، ولكن حَذِرة. وانطلقت السيارتان و«عثمان» يقود إحداهما و«زبيدة» تقود الثانية، وأخذتا تدوران واحدةً بعد الأخرى. وفجأةً عند أحد المنحنيات سُمع صوت انفجار داوٍ … واتضح أن الإطار الأمامي في السيارة الأولى التي يقودها «عثمان» قد انفجر، ومالت السيارة على جانبها الأيمن في اتجاه الهاوية وهي تمضي كالسهم إلى أسفل، وضغط «عثمان» على الفرامل بشدة، وانحرف بمِقْوَد السيارة إلى اليسار محاوِلًا تجنُّب الهاوية.
دارت السيارة حول نفسها، وأصبحت مقدمتها على الطريق، ومؤخرتها على حافة الجبل ثم توقفت، وعندما حاول «عثمان» و«ريما» النزول، مالت السيارة إلى الخلف وأصبح نصفها الخلفي أثقل من نصفها الأمامي … فجلس «عثمان» و«ريما» مكانهما يحاولان حفظ توازن السيارة حتى لا تسقط في الهاوية … وكانت السيارة التي تقودها «زبيدة» قد توقفت، وتوقف عدد آخر من السيارات القادمة في نفس الاتجاه والاتجاه المعاكس.
كانت لحظات حافلةً بالخطر … فأي حركة من «عثمان» و«ريما» كانت كافيةً لتسقط السيارة في الهاوية … فقد كانت تستند من وسطها على حافة الجبل … وكأنها ميزان حساس أي حركة تؤثر فيه …
أسرعت «زبيدة» و«فهد» و«أحمد» إلى السيارة المتأرجحة … وفي نفس الوقت نزل رجل أسمر طويل القامة من سيارة فولكس بيضاء وأقبل مسرعًا ناحية الحادث ورفع يديه الاثنتين إلى فوق طالبًا من الشياطين الخمسة الانتظار … ثم أشار إلى بعض ركاب السيارات الأخرى أن يحضروا … وصاح بصوت صارم: سنسحب السيارة إلى الأمام قليلًا …
والْتفَّ نحو عشرة أشخاص حول السيارة المتأرجحة، وأمسكوا بها من كل جانب ثم بدءوا يسحبونها … وكان «فهد» قد أحضر قطعةً من الصخر ووضعها خلف العجلة الأمامية حتى لا تعود إلى الوراء … وشيئًا فشيئًا بدأت السيارة تنسحب إلى الأمام والرجل الأسمر الطويل يصدر تعليماته … وبعد فترة مشحونة بالتوتر … استوت السيارة على الطريق ونزل «عثمان» و«ريما».
وتقدَّم عثمان من الرجل الأسمر يشكره، ونفض الرجل يديه وهو يبتسم قائلًا: لقد كنت تسير بسرعة أكثر من اللازم … وحسن الحظ وحده هو الذي أنقذك من الموت أنت وزميلتك.
عثمان: أشكرك كثيرًا يا سيدي … وأود أن أتعرف بك. قال الرجل مبتسمًا: اسمي «سمير سلامة».
وقبل أن يتم جملته سمع الجميع صوت اصطدام … ثم أصواتًا عاليةً تسب وتلعن …
كانت صفوف السيارات على الجانبين تقف … وعلى بعد عشرين مترًا كانت سيارة كاديلاك سوداء تحاول المرور رغم الزحام … وكان قائدها يلف بها كالمجنون محاوِلًا الدوران بها في الطريق الضيِّق … دون أن يلقي بالًا إلى خطورة ما يفعل …