الكابينة رقم «١٣»
انهمك الشياطين الأربعة في تركيب العجلة الإضافية بعد أن ركنوا السيارة بعيدًا عن حركة المرور، ولم يستغرق التغيير أكثر من عشر دقائق، ثم عادت السيارتان تشقان طريقهما إلى بيروت … ومرُّوا بمكان السيارة الكاديلاك التي حاول صاحبها المرور رغم الزحام … كانت قد اصطدمت بسيارة أخرى ثم مضت مسرعة … ووقف صاحب السيارة التي صُدمَتْ يسب ويلعن … وقال «فهد» ﻟ «زبيدة»: شيء غريب هذا الرجل صاحب الكاديلاك! كيف حاول أن يدور في هذا المكان الضيِّق؟
زبيدة: لقد رأيته يدور كالمجنون محاوِلًا الإسراع بسيارته رغم الزحام وضيق المكان، وكأنه يفر من شيء.
ومضت السيارتان … وكانت الشمس قد غربت وراء الجبال العالية … وتركت على السفوح والقمم مساحات من اللون الأحمر … وساد السكون الجبل … ولاحظ «عثمان» عند أحد المنحنيات بريقًا قويًّا يأتي من انعكاس ضوء سيارته على شيء معدِني مختفٍ بين الأحراش … وعندما تجاوز مكان الشيء الْتفت خلفه بسرعة، واستطاع بعينَيه الحادتَين أن يلمح الرفرف المعدِني لسيارة رابضة بين الأشجار الكثيفة، وتذكَّر «عثمان» الكاديلاك وسائقها المتهوِّر … وقرَّر أن يتوقف ويتأكَّد، فأطلق إشارةً خلفيةً من السيارة، ثم ركن بهدوء … وبعد لحظات كانت «زبيدة» قد أوقفت سيارتها خلفه تمامًا … ونزل «عثمان» مسرعًا واتجه إلى حيث تقف سيارة «زبيدة» و«فهد» و«أحمد» قائلًا: إن تصرُّفات قائد السيارة الكاديلاك السوداء مثيرة للشبهات … لقد كان متعجِّلًا جدًّا … وعرَّض حياته وحياة غيره للخطر. ولقد لمحت حالًا رفرف سيارة أظن أنها الكاديلاك … وسنُضيِّع بضع دقائق فقط لنتأكد.
تقدَّم الشياطين الخمسة بهدوء إلى حيث أشار «عثمان»، ونزلوا المنحدر الذي يؤدي إلى مكان السيارة المختفية خلف الأشجار … وكان استنتاج «عثمان» صحيحًا؛ فقد كانت هي الكاديلاك السوداء.
لم يكن «أحمد» قد شرح للشياطين الأربعة الذين معه المهمة العائدون من أجلها إلى بيروت، وكل ما قاله إن هناك تقريرًا من رقم «صفر»، وإن عليهم الذهاب إلى مقرهم، لهذا لم تثِر البطاقة أي رد فعل عند «عثمان»، وكاد يلقيها لولا أن حاسة المغامر جعلته يُسلِّمها إلى «زبيدة» التي كانت خلفه مباشرة، فناولتها إلى «أحمد» الذي قرأها على ضوء بطاريته … ثم أطلق صيحة دهشة لفت أنظار الشياطين إليه.
قال «أحمد»: صدفة لا تتكرَّر!
عثمان: ماذا حدث؟
أحمد: حدث الكثير جدًّا … إنك أيها الولد الأسمر تساوي ثقلك ذهبًا.
عثمان: شيء مدهش! … ما الذي جعلني ثمينًا ومهمًّا إلى هذا الحد؟
أحمد: لقد وضعتنا خلف «آمبروز» … في أقل من ساعة من وصول التقرير.
عثمان: إنني لا أكاد أفهم أي شيء … من هو «آمبروز»؟
أحاط الشياطين الأربعة ﺑ «أحمد» وهو يُقدِّم لهم ملخَّصًا لتقرير رقم «صفر» عن «آمبروز»؛ قاتل محترف … شديد المهارة في التنكُّر … سريع التصويب والإطلاق …
زبيدة: شيء مدهش أن نقع على أثره بهذه السرعة!
أحمد: أُرجِّح أنه تصوَّر أن زحام السيارات ناتج عن وجود رجال شرطة يُفتشون السيارات، فتصرُّفاته المجنونة تدل على أنه خشي أن يُقبض عليه.
ريما: إنه لم يسبقنا إلا بدقائق قليلة … ومعنى ذلك أنه قريب منَّا.
أحمد: سنفتش المنطقة المحيطة بنا الآن. كونوا على حذر، وسندور في شكل مروحة مركزها هذه السيارة، ونعود بعد نصف ساعة.
وبشكل آلي بحت … نظر كل واحد منهم إلى ساعته، وقال «أحمد»: الساعة الآن الثامنة و١٥ دقيقة … سنلتقي في التاسعة إلا ربع … سيكون «عثمان» مع «ريما» و«زبيدة» مع «فهد» وسأتجوَّل وحدي.
وانتشر الشياطين الخمسة سريعًا، وأخذوا يُطلقون أشعة بطارياتهم على الأرض بحثًا عن آثار … وكانت المنطقة كثيفة الأشجار … منحدرة … فساروا على حذر، وسرعان ما عثر «أحمد» على أول خيط … لاحظ وجود أغصان منثنية في منطقة كثيفة الأغصان … واقترب على حذر … كان واضحًا أن أقدامًا قد مرَّت فوق بعض الأغصان فكسرتها … وانحنى «أحمد» وسار ببطء … متتبِّعًا الأغصان المكسورة ثم توقَّف فجأة، كان ثمة صوت حركة قريبة منه … ووقف كالتمثال وأنصت … ولكن الهدوء كان يسود المكان تمامًا … لا يقصمه سوى صوت بعض السيارات المارة على الطريق البعيد.
قال «أحمد» في نفسه لعله فأر أو طائر … ثم استمر في سيره … والتقطت أذناه المرهفتان صوت حفيف سريع جدًّا … ثم سمع شيئًا يصطدم بجذع شجرة خلف رأسه مباشرة … وأطلق شعاع ضوء على جذع الشجرة … ثم أطفأ بطاريته على الفور، كان هناك أثر رصاصة غائرة في جذع الشجرة … أدرك «أحمد» أن «آمبروز» قريب منه، وأنه يستخدم مسدسًا أو بندقيةً كاتمةً للصوت.
وعاد الصمت من جديد … وأدرك «أحمد» من اتجاه الرصاصة أن «آمبروز» يقف في اتجاه أمامي بالنسبة له … فانحرف يمينًا … ودار دورةً واسعةً سريعةً بين جذوع الأشجار محاولًا قدر الإمكان ألَّا يحدث صوتًا … ثم اتجه رأسًا إلى حيث قدَّر أن يكون «آمبروز»، ولكن الرجل لم يكن موجودًا.
وقف «أحمد» مكانه مفكِّرًا … ثم أطلق من فمه صيحة الخُفَّاش … وهي الإشارة المتفق عليها بين الشياطين للنداء … وفي هذه اللحظة سمع صوتًا خلفه … وقبل أن يتمكَّن من الالتفات، أحس بضربة قوية تنزل على رأسه، وسقط على الأرض، وقبل أن يغيب عن وعيه تمامًا سمع صوت أقدام كثيرة تجري … ثم لم يعد يحس بشيء …
سمع الشياطين الأربعة صوت نداء الخفاش وحدَّدوا مكانه، ثم انطلقوا، وبذلك أنقذوا «أحمد» من موت محقق … فقد كان «آمبروز» في تلك اللحظة يقرِّب مسدسه من رأس «أحمد» ليُطلق رصاصته القاتلة … ولكن صوت الأقدام المسرعة اضطرَّه إلى الهرب سريعًا.
على ضوء البطاريات شاهد الأربعة «أحمد» ملقًى على الأرض، وسمع «عثمان» صوت أقدام «آمبروز» فأسرع خلفه، وبدأت مطاردة عنيفة في الظلام الكثيف الذي هبط على الجبل … مطاردة كمطاردة الحيوانات تعتمد على السمع فقط … كان كل منهما يربض في مكانه محاوِلًا الاستماع إلى الآخر والاتجاه ناحيته … وكان على عثمان الذي لم يكن يحمل مسدسًا أن يكون أكثر حذرًا … خاصةً مع قاتل محترف يجيد التصويب.
ومضت المطاردة وهما يتحاوران بالصوت والجري دون أن يتمكن أحدهما من اصطياد الآخر … ثم لاحظ «عثمان» أن فترةً طويلةً مضت دون أن يسمع صوت أقدام الرجل … فهل ربض في مكانه دون حركة، أم ابتعد كثيرًا حتى لم يعد يسمع صوت أقدام الرجل؟ …
انتظر «عثمان» فترةً أخرى دون أن يحدث شيء، ثم تحرَّك مسرعًا إلى حيث كان «أحمد»، وحوله «زبيدة» و«ريما» و«فهد»، وجده قد أفاق تقريبًا … ووقف على قدميه، وقال «عثمان»: من الصعب جدًّا تتبُّع إنسان في هذا الجبل … وبين هذه الأشجار.
أحمد: ولكن هذه فرصتنا الوحيدة لمطاردته … لقد كانت صدفةً ممتازةً نشتبك معه سريعًا، ومن الأفضل ألَّا نُضيع الفرصة.
عثمان: هل تستطيع الاشتراك في المطاردة؟
أحمد: طبعًا … هيا بنا، فقط خذوا حذركم فهو مسلَّح.
ومرةً أخرى بدءوا الانتشار … وسار «عثمان» ومعه «ريما» … و«فهد» ومعه «زبيدة» … و«أحمد» وحده … كان الظلام قد ازداد كثافة، وبدت البطاريات في الظلام كأنها نجوم تتحرَّك على الأرض.
وفجأةً لاحظت «ريما» أن ثمة شيئًا على الأرض يُشبه كومةً من الأتربة وورق الشجر … وبدت الكومة جديدةً رغم محاولة إخفائها تحت أوراق الشجر الجافة … ووقفت «ريما» خلف إحدى الأشجار لحظات ثم أشارت ﻟ «عثمان» أن يتوقف هو الآخر … كان تحذير «أحمد» لهما من القاتل المحترف يلزمهما بهذا الحذر … فقد يكون وراء هذه الكومة شيء ما …
ودار «عثمان» حول الكومة دورةً واسعة، ولكن لا شيء هناك … ثم اقتربا معًا من الكومة … وبغصن شجرة طويل بدأ يُزيح ما على الكومة من أوراق شيئًا فشيئًا، ثم أخذ يُزيل التراب … وأحس «عثمان» بشيء طري تحت الأتربة، فاقترب من الكومة وأخذ يُزيح التراب سريعًا … وتحت الأتربة برزت مجموعة من الملابس … أخذ «عثمان» يفردها بين يديه … وكم كانت دهشته ودهشة «ريما» معًا أن وجداها نفس الملابس التي كان يرتديها رجل الأعمال الفرنسي «سيمون جالارد» كما وصفها «أحمد» … والتي استطاع «آمبروز» في السفينة أن يجرِّده منها بعد أن ضربه على رأسه! … وبتفتيش الملابس عثر على جواز سفر «سيمون جالارد».
قال «عثمان» مبتسمًا وأسنانه تلمع في الظلام: … لقد تخلَّص «آمبروز» من الشخصية الثانية التي ادعاها … وهو الآن شخص جديد …
ريما: إنه الشخصية الثالثة الآن، وكان المفروض أن نطارد «آمبروز» … ثم طاردنا «سيمون جالارد»، والآن علينا أن نطارد اسمًا ثالثًا لا نعرف عنه شيئًا.
حمل «عثمان» الثياب وعاودا المسير متجهَين إلى مكان التجمُّع عند السيارة الكاديلاك … وعندما وصلا كان «أحمد» … قد عاد وحده، وكان يبدو مرهقًا … وعندما لاحظ ما يحمله «عثمان» صاح: ما هذا؟!
عثمان: إنها ثياب «سيمون جالارد» التي سرقها منه «آمبروز»، وجدناها «ريما» وأنا تحت كومة من الأتربة وورق الشجر على بعد حوالي مائة متر من هذا المكان …
أحمد: معنى ذلك أن «آمبروز» أصبح شخصيةً ثالثةً لا نعرف عنها شيئًا، وهذا ما كنا نتحدث عنه الآن …
ريما: إنه رجل غريب … والسؤال الآن ما هي الشخصية الجديدة التي يتحرَّك «آمبروز» بها؟ …
ساد الصمت بعد سؤال «ريما» الذي لا إجابة عليه … ومرت فترة من الوقت دون أن يظهر «فهد» أو «زبيدة»، وقال «أحمد» بصوت قَلِق: لقد تأخرت «زبيدة» و«فهد» أكثر من اللازم! …
ريما: لعلهما وجدا أثرًا ﻟ «آمبروز» يتابعانه.
عثمان: أو لعلهما …
وتوقف «عثمان» عن إتمام جملته … فقد كانت بقية الجملة متشائمةً جدًّا …