«عثمان» يعمل وحده
في هذه الأثناء كان «عثمان» يتعلَّق بغصن شجرة بارز في جانب الجبل، يحاول جاهدًا أن يرفع جسده إلى فوق … متذكرًا المعركة التي دارت بينه وبين الرجال الأربعة … والبسالة التي أبدتها «ريما» حتى وقعت بين أيديهم … وكيف قفز في الهواء لاتقاء ضربة من خنجر وجَّهه أحد الرجال إليه فسقط من فوق الجبل … ولولا هذا الغصن البارز لكان قد سقط من ارتفاع ألف متر إلى قاع الهاوية …
كان يشعر في ذراعه الأيسر بألم حاد كالنار … ولكنه كان صافي الذهن، مسيطرًا على أعصابه … فقد أدرك أن «فهد» و«زبيدة» و«أحمد» قد وقعوا في أيدي المطاردين، وأنه و«إلهام» الآن وحدهما في مواجهة هذه العصابة القوية … وكان عليه أن يتماسك وأن يصل إلى «إلهام» بأسرع ما يمكن، حتى يمكن أن يعاودوا المحاولة لإنقاذ باقي الشياطين … وإيقاف «آمبروز» قبل أن يضرب ضربته التي لا يعرفون إلى من تُوجَّه ومتى وأين.
أخذ يطوِّح جسده في الهواء كبندول الساعة، ثم استجمع كل قوته ودار دورةً كاملةً في الهواء … ووصلت قدماه إلى الغصن … وأصبح كالكرة … ثم وقف مسرعًا وأمسك بالغصن الذي فوقه، وهكذا استطاع أن يسترد أنفاسه … وأخذ يتسلَّق الجبل ببطء، مستعينًا بالصخور البارزة، وبالأشجار النابتة … حتى وصل إلى حافة الجبل … فاستلقى على العشب الطري لحظات، وأخذ نفسًا عميقًا فرد له الهواء البارد المنعش بعض قوته وصفاء ذهنه …
صعد إلى الشارع … ووقف في الظلام وبدأ يفكِّر … كان في حاجة إلى كرته المطاطة وإلى مسدس … وإلى الحديث إلى «إلهام»، ووقف بجانب الطريق ينتظر سيارة … ولحسن حظه شاهد سيارةً بها بعض الرهبان … فأشار إليها … وسرعان ما كانت تحمله إلى بيروت.
دق جرس الباب ثلاث دقات متلاحقة … ثم مرةً رابعةً بعد قليل، وفتحت «إلهام» الباب … نظرت إليه وأدركت كل شيء … وأسرعت تُعد له مياهًا ساخنةً وضمادات، وجلست تستمع إليه وهي تُطهِّر له الخدوش الكثيرة التي أصابته أثناء الصراع والسقوط … وأخذ يروي لها بالتفصيل ما جرى.
وبعد أن انتهى من حديثه قالت له: لقد اتصل بي «أحمد» ووعدني أن يتصل مرةً أخرى بعد ساعتين. وقد مضتا دون أن يتصل … وما دام لم يعد إليكم فمعنى ذلك أن «أحمد» قد سقط في يدَي العصابة أيضًا …
عثمان: من المؤكد أن هذا حدث.
إلهام: لم يبقَ سوى أنا وأنت.
عثمان: إنهم يظنون أني ميت.
ودق جرس التليفون في هذه اللحظة فقالت إلهام: إنه «أحمد»، إنهم لم يأسروه. أسرعت إلى التليفون وصاح «عثمان»: استمعي جيدًا!
ورفعت «إلهام» السماعة، وسمعت صوت «أحمد» من بعيد فقالت: «أحمد» أين أنت؟
رد «أحمد»: إنني في مطعم صغير عند بولونيا بعد ضهور الشوير مباشرة … سأنتظرك في سيارة من سياراتنا بعد ساعة من الآن … لا تتأخري للأهمية.
إلهام: وأين بقية الشياطين؟
أحمد: معي «عثمان» و«ريما»، ولم نعثر بعدُ على «زبيدة» و«فهد»، فانضمي إلينا!
إلهام: سأحضر حالًا.
وسمعت صوت السماعة وهو يغلق مع الطرف الآخر، ووضعت السماعة، والتفتت إلى «عثمان»: لقد أدركت كل شيء …
قال «عثمان»: ماذا هناك؟
إلهام: لقد وقع «أحمد» في أيديهم أيضًا … إنه يقول لي إنك معه … وأنت الآن معي ومعنى ذلك أنه يكذب … لقد أملَوا عليه الكلام الذي يقوله … وهم يظنون أنك ميت، ويجب أن نضع خطتنا على هذا الأساس!
قفز «عثمان» من مكانه كالفهد وقال: فكري بسرعة … سأدخل لأغتسل وأبدل ثيابي ثم ننطلق … سنركب سيارتين!
وأسرع «عثمان» إلى الحمام، ووقف تحت المياه الباردة دقائق ردت إليه نشاطه، وعندما خرج كانت «إلهام» قد أعدت له كوبًا من الشاي وبعض البسكويت، فتناولهما وهو واقف يقفز على قدميه … قالت «إلهام»: لماذا لا تجلس؟! ظل «عثمان» يقفز مكانه وقال: إنني أسخن نفسي للصراع القادم، لقد اصطدمت بهم مرة، وقد استطاعوا أسر «ريما» وإسقاطي من فوق الجبل، هذه المرة يجب أن يحدث العكس …
كانت «إلهام» تفكر وهي تنظر إلى «عثمان» ثم قالت: لقد عرفوا رقم تليفوننا وفي إمكانهم الآن أن يعرفوا مقرنا … وتصوَّر لو وصلوا إلى هنا وعثروا على جهاز اللاسلكي والتقارير السرية التي يرسلها رقم «صفر». إن هذا يعني دمارنا، وانتهاء دورنا إلى الأبد. توقف «عثمان» عن القفز وقال: معك حق … يجب التخلُّص من كل هذا فورًا. وأسرعا إلى غرفة اللاسلكي، وأرسلت «إلهام» آخر تقرير لها من هذا المكان، وأخبرت رقم «صفر» أنهم سيحملون كل شيء له أهمية في حقائب يحتفظون بها في أحد الفنادق مؤقتًا … ثم أخبرته بكل ما جرى في تلك الليلة حتى مكالمة «أحمد» التليفونية التي أملتها عليه العصابة … وحدَّدت له المكان الذي ستقابل فيه «أحمد» كما طلب … ثم حمل «عثمان» الجهاز وفكه ووضعه في حقيبة، وحملت «إلهام» التقارير في حقيبة أخرى. وقال «عثمان»: خذي معك بعض كرات الفسفور الصغيرة؛ فقد فكرت في خطة قد تكون قديمة … ولكنها ممكنة التنفيذ.
وأسرعا بالنزول … ركبا سيارتين حملتهما إلى فندق «كارلتون» الفخم على شاطئ الروشة حيث حجزا غرفتين، ثم نزلا بعد ذلك … ووقف «عثمان» يشرح ﻟ «إلهام» خطته: ستذهبين وحدك ومعك بعض كرات الفسفور التي تضيء في الظلام، وعندما تصلين إلى المكان الذي حدَّده «أحمد»، لن تجدي «أحمد» طبعًا … فسوف يستقبلك بعض أفراد العصابة، وبالطبع فإن المكان الذي ستذهبين إليه سيكون بعيدًا عن مكان اللقاء … وعندما تتحرَّك السيارة بكم ألقي على مسافة كل عشرة أمتار بِكُرَة من الفسفور … وسوف أتبع هذا الأثر الواضح.
إلهام: ولكنهم قد يلاحظون ذلك.
عثمان: سيعتمد كل هذا على مهارتك.
نظرت «إلهام» لحظات ثم قالت: اشترِ لي قطعة شوكولاتة مقسمة إلى مربعات. وفهم «عثمان» على الفور وأسرع يحضر لها الشوكولاتة … وقالت «إلهام»: سآكل كل عشرة أمتار قطعة …
وأكمل «عثمان» الحديث: ومع كل ورقة ستلقين بكرة الفسفور … هيا بنا!
وانطلقت «إلهام» بسيارتها مسرعة، بينما انتظر عثمان نحو ربع ساعة ثم انطلق بسيارته خلفها. كانت الكرة المطاطة الجهنمية بجواره … ومسدس أوتوماتيكي محشو بالطلقات في حزامه … ودماء المغامرة تسري في عروقه متدفقة … وانطلقت السيارة تزمجر على الطريق، وغادر المدينة التي بدأت تنام، وانطلق في طريق الجبل …
بعد ضهور الشوير بقليل بدأ «عثمان» يخفض من سرعة سيارته ويبحث على الطريق عن كرات الفسفور المضيئة … وبدأت الكرات تظهر بانتظام بين مسافة وأخرى، ومضى يتبعها فترة، ثم وجدها تنقطع فجأة، وأدرك أنه يقترب من المكان الذي وصلت إليه «إلهام»، فاختار جانبًا من الطريق تكاثفت أشجاره … ثم ركن السيارة فيه ونزل …
سار «عثمان» على قدميه … ووجد كرةً أخرى عند طريق فرعي ضيق، واستطاع على ضوء بطاريته أن يرى لافتةً مكتوبًا عليها طريق خاص، فربض في الظلام يراقب مدخل الطريق والبوابة التي تغلقه … وبعد لحظات لاحظ أن حارسًا يأتي إلى الباب يختبره ثم يذهب … وانتظر فترةً وهو ينظر في ساعته، وبعد عشر دقائق ظهر الحارس ثم اختفى. وخرج «عثمان» من مكانه واتجه إلى الباب الحديدي، ثم قفز فوقه برشاقة … وعاود الاختباء في الظلام على الجانب. ولم يكن في إمكان أحد أن يراه … فقد كانت سُمرة بشرته تجعله قطعةً من الظلام.
وأخذ يهز كرته الجهنمية في يده ويفكر … هل يضرب ضربته بها؟ … ولكن خشي أن تقفز في الظلام وتضيع … وقرَّر أن يغيِّر خطته … صعد على شجرة قريبة تجعله فوق الباب مباشرة، ثم نظر في ساعته ذات الميناء المضيء … ومضت الدقائق بطيئة … ثم سمع خطوات الحارس فوق الأرض الصخرية … كان عملاقًا عريض الكتفين، وكان يصفِّر في سعادة وكأنه في نزهة، وكان «عثمان» يريد أن يضربه ضربةً واحدةً وينتهي منه … وهكذا تدلَّى من غصن قوي حتى أصبح الرجل تحته بالضبط، ثم أرسل قدمه في ضربة عنيفة في رأس الرجل، سقط على أثرها دون أن ينطق … وأسرع «عثمان» ينزل، ثم جر الرجل جانبًا وأخفاه بين الأشجار بعد أن وضع منديله في فمه، وربط يديه بحزامه …
تقدَّم «عثمان» في الطريق الضيق، ومن بعيد شاهد أضواء المنزل الخافتة؛ فقد كانت الأشجار تحيط به من كل جانب، وتجعله بعيدًا عن العيون المتلصِّصة … ووقف «عثمان» يرمق المنزل الخشبي مفكرًا … من المؤكد أن هناك حرسًا خارج المنزل وداخله … ومن المؤكد أن عليه ألا يخطئ … فهو الوحيد الباقي من الشياطين غير أسير … ولو وقع هو لانتهى كل شيء …
كانت هناك أربع سيارات تربض في الظلام … لاحظ «عثمان» على الضوء الخفيف الصادر من المنزل أن اثنتين منها من سيارات الشياطين … وأخذ يفكِّر … كيف يتغلَّب على الحراس خارج المنزل وداخله …
وفجأةً ظهر رجل يدور حول المنزل … ويضع في كتفه مدفعًا رشاشًا … كانت المسافة بينه وبين «عثمان» لا تزيد عن خمسة عشر مترًا، وهي مسافة مثالية لاستخدام الكرة، التي يمكن أن يلاحِظ ارتدادها في الضوء الخفيف ويعثر عليها … وهكذا وقف وأخذ يهز الكرة في يده، حتى أصبح الرجل في الوضع المناسب ثم أطلق الكرة … وسمع اصطدامها برأس الرجل الذي تمايل ثم سقط على ركبتيه وانكفأ وجهه … وسقطت الكرة على بعد عدة أمتار منه … وأسرع «عثمان» إليه وجرَّده من مدفعه الرشاش … ثم فتَّشه بسرعة … ووجد سلسلةً من المفاتيح أخذها على الفور.
جر «عثمان» الحارس الثاني كما فعل مع الحارس الأول، ووضعه بين الأشجار وربط فمه، ثم أنامه على وجهه وربط يديه مع قدميه بحزامه … وحمل المدفع وتقدَّم من المنزل وأخذ يدور حوله محاذرًا.
كانت الأبواب والنوافذ كلها مغلقة … ولم يكن في إمكانه أن يتبيَّن شيئًا … فاختار بابًا جانبيًّا قدَّر أن الحارس يخرج منه، ثم أخذ يجرِّب المفاتيح في هدوء، وسرعان ما دار أحدها في الباب … وانتظر «عثمان» لحظات ثم دفع الباب في رفق … وسمع صوتًا يقول: أكل شيء على ما يرام؟
فتح «عثمان» الباب دفعةً واحدة، ودخل رافعًا المدفع بين يديه … كانت غرفة طعام، وكان المتحدث يجلس ووجهه للباب وهو يتناول طعامه … وعندما وقعت عيناه على «عثمان» بدت فيهما نظرة ذعر، وكان في فمه لقمة وقفت مكانها وقد تدلَّى فكه الأسفل …
وأشار «عثمان» بالوقوف … ودون أي مقاومة وقف … وأشار له «عثمان» أن يستدير فاستدار … ومد «عثمان» يده ففتشه بسرعة، وأخرج المسدس الذي كان يحمله، وفي تلك اللحظة سمع صوتًا خلفه يقول: أنت إذن لم تمت بعد؟!