طلقتان إحداهما تكسب
ظهر رجل من خلف السياج … كان هو الذي يحرِّك الدمية … وفحص رأس الدمية وقال: الرصاصة الثانية من البندقية الميزر تكسب.
والتفت الزعيم إلى «أحمد» قائلًا: الآن أستطيع أن أتحدث معك.
أدرك «أحمد» أنه كان في امتحان للتصويب للحكم على مدى كفاءته كمقاتل … وأنه أصاب الهدف. وأدار «أحمد» رأسه فوجد نفسه أمام باب مغلق في المبنى الصخري. وتحرَّك الباب إلى أسفل وليس إلى الجانبين؛ فظهر باب آخر من الزجاج السميك، أدرك أنه من النوع الذي لا يؤثِّر فيه الرصاص. وتحرَّك هذا الباب جانبًا. وأشار إليه الزعيم بالدخول ثم دخل وراءه.
كان المقر من الداخل قلعةً حقيقيةً من الأسلحة … ودُهش «أحمد» لكل هذه الاستعدادات، وقال الزعيم كأنه يقرأ خواطره: لقد قضيت أعوامًا في بناء هذا المقر ليكون حصنًا يمتنع على كل هجوم …
أحمد: ولكن لماذا؟
الزعيم: هذا ما ستعرفه الآن عندما نتحدَّث.
وجلسا على كرسيين متقابلين … وأحضر أحد الرجال عربةً صغيرةً عليها مختلِف أنواع المشروبات. وطلب «أحمد» كوبًا من عصير البرتقال. وقال الزعيم: كنت أظن أننا فقط الذين يعلمون بزيارة «يانك تورو» لبيروت … فكيف عرفتم بذلك؟
أحمد: فلنقل إن صديقًا مُعيَّنًا أخبرنا.
الزعيم: من هو؟
أحمد: لا إجابة.
الزعيم: إننا يجب أن نكون صرحاء جدًّا حتى يمكن أن نتعاون.
أحمد: للأسف هناك حدود للمعلومات التي يمكن أن أقولها لك … وما يهمني أن أعرف لماذا حضر «يانك» إلى بيروت.
تمهَّل الزعيم لحظات، وأخذ يهز قطع الثلج في الكوب الذي يحمله، ثم سدَّد إلى «أحمد» نظرةً طويلةً فاحصةً وقال: ليقتلني!
أصابت «أحمد» دهشة خاطفة وقال: أنت؟!
الزعيم: نعم … ليقتلني … أو أقتله.
أحمد: ولكن لماذا؟!
الزعيم: لقد طلبت أن تعرف لماذا حضر «يانك تورو» إلى بيروت … أمَّا لماذا يريد أن يقتلني فتلك قصة لا يهمك سماعها.
أحمد: وما هو المطلوب منا بالضبط؟
الزعيم: إن «تورو» يعرفني ويعرف أكثر أعواني، لهذا يصعب علينا الاقتراب منه والقضاء عليه قبل أن يقضي عليَّ … أمَّا أنتم فإنه لا يعرفكم، وسيكون من السهل عليكم الإجهاز عليه دون أن يشك فيكم … لقد اختبرتك الآن وعرفت أنك رامٍ ماهر … بل أمهر ممَّا توقعت بكثير … وإذا كنتم جميعًا على هذا المستوى، فسوف تقضون عليه بمجرد ظهوره.
أحمد: ولكن «تورو» لا يستطيع مهاجمتك في هذا المكان مطلقًا. إن فرصته لا تزيد على واحد في المليون.
الزعيم: إنك لا تعرفه، أمَّا أنا فأعرفه جيدًا. ثم إنني لن أظل سجينًا هنا إلى الأبد … فلا بد أن أخرج وأسافر. وسيكون «تورو» في مكان ما في انتظاري، والحل الوحيد هو الخلاص منه.
كان «أحمد» يريد أن يعرف أكبر قدر من المعلومات قبل أن يقول كلمته، فاستمر في الحديث، قائلًا: إنك لست لبنانيًّا؟
الزعيم: لا.
أحمد: لماذا إذن جئت إلى لبنان؟
الزعيم: لهدف مُعيَّن يتحقَّق في الأيام القادمة ثم أغادر لبنان.
أحمد: هذا الهدف الذي يريد «يانك تورو» أن يقتلك من أجله.
ضاقت عينا الزعيم لحظات ثم قال: إنك شديد الذكاء.
أحمد: وأنت لا تريد أن تقول لي على هذا الهدف الذي تتصارع أنت و«تورو» عليه؟
الزعيم: نعم؛ لأن هذا لا يهمك.
أحمد: إنه يهمني جدًّا … ولا بد أن أعرفه.
الزعيم: لقد رفضت أن تجيب على بعض أسئلتي … ومن حقي أن أمتنع عن الإجابة على بعض أسئلتك أنت أيضًا.
أحمد: في هذه الحالة أرفض التعاون معك.
الزعيم: قد تفكِّر قليلًا إذا عرفت أنني سأدفع لكم ١٠٠ ألف ليرة …
أحمد: إن النقود لا تُهمُّني كثيرًا.
الزعيم: إن رجلًا يرفض النقود … هو رجل خطير …
أحمد: إننا لا نعمل من أجل النقود.
تصلَّب وجه الزعيم وقال: أنت تعمل إذن مع الشرطة؟!
أحمد: ليس بالضبط.
وقف الزعيم فجأةً وقد بدا عليه الغضب وقال: لقد كنت تخدعني طول الوقت. إنك تعمل مع الشرطة … وهذا يُغيِّر اتفاقنا كله.
كان التحوُّل مفاجئًا، ولكن عضلةً واحدةً في وجه «أحمد» لم تتحرَّك وقال: لقد كنت أتصوَّر أنك تحترم كلمتك.
لم يردَّ الزعيم، بل غادر المكان فجأةً من باب جانبي، وسرعان ما ظهر رجلان أحاطا ﺑ «أحمد» سريعًا، ثم جرَّاه إلى باب جانبي ضيق … ونظر «أحمد» إلى أحد الرجلين وهو يسير بجواره … ضخم الجثة … يعرج قليلًا … يلبس نظارات طبية … وتذكَّر كل شيء، فتظاهر بأنه قد تعثَّر ومال على أذن الرجل وقال: «سامي»؟!
أحس «أحمد» بيد الرجل التي تمسك به وهي ترتعد بشدة، وأدرك أنه قد أصاب عندما عرف في هذا الرجل «سامي صيدح» … الرجل الذي أرسل البرقية إلى «يانك تورو» في القاهرة … وقام الرجلان بتفتيشه وجرَّداه من كل ما يحمل.
قذف الرجلان ﺑ «أحمد» في غرفة صغيرة جدرانها من الصخر الأصم … يصل إليها ضوء خفيف من فتحة مُسوَّرة بالقضبان في السقف … وتحسَّس «أحمد» الباب، كان من الصلب المصفَّح، ولا سبيل إلى اقتحامه … وبعد أن دار دورةً صغيرةً استكشف فيها جدران الغرفة وأرضيتها؛ تأكد أن أي مجهود يبذله في الخروج منها لن يكون مجديًا إلا بمساعدة من الخارج، خاصةً والأدوات الدقيقة التي كان يحملها لمثل هذه المآزق قد جُرِّد منها …
ونظر في ساعته … كانت قد تجاوزت الحادية عشرة صباحًا … ورغم الموقف الخطير الذي كان فيه … فقد كانت أعصابه هادئة … وكان بالغرفة فِراش صغير استلقى عليه … وسرح مع أفكاره … إن وجود «سامي صيدح» … الرجل الوحيد في لبنان الذي يعرف «يانك تورو» بين أعوان الزعيم شيء مذهل … ومعناه أن «يانك» يعرف كل شيء يدور في هذه القلعة الحصينة … ويعرف الخطط التي وضعها الزعيم لقتله.
والآن و«سامي صيدح» … يعرف أن «أحمد» يعلم حقيقته … كيف سيتصرَّف؟ إن هناك احتمالين؛ الأول أن يحاول القضاء على «أحمد» قبل أن يكشف «أحمد» حقيقته. والثاني أن يظن أن «أحمد» من أعوان «يانك»، ويُساعده على الفرار … ورجَّح «أحمد» أن «سامي» لن يجرؤ على قتله دون أمر الزعيم، ولكن هل يساعده على الفرار؟
وتأكد «أحمد» أن «سامي» في الحالتين لن يُقدم على شيء قبل أن يهبط الظلام، فما زال هناك إذن وقت طويل … وهكذا خلع حذاءه، واستلقى على الفراش، وسرعان ما ذهب في نوم عميق.
في تلك الأثناء كانت الطائرات تحمل بقية الشياطين من مختلِف أنحاء الوطن العربي إلى بيروت … «هدى» من المغرب، «بو عمير» من الجزائر … «مصباح» من ليبيا … «خالد» من الكويت … «قيس» من السعودية، و«رشيد» من العراق … وكان «باسم» الفلسطيني في مهمة في قطر فوصل هو أيضًا … وأسرعوا جميعًا إلى المقر السري الجديد للشياطين اﻟ «١٣» في بيروت، وكان مقرًّا مدهشًا سنعرف تفاصيله في القصة القادمة … وعندما وصلوا واحدًا إثر الآخر، كانت «إلهام» في انتظارهم … وكانت «زبيدة» تجلس إلى جهاز اللاسلكي الضخم تتلقى رسائل من «عثمان» … وكان «عثمان» يختفي بين الأشجار عند بداية طريق برمانا … وكان «فهد» يختفي بين الأشجار أيضًا قريبًا جدًّا من البيت الصخري الذي دخله «أحمد».
فعندما ذهب «أحمد» للقاء الزعيم كان قد اتخذ احتياطات دقيقةً ليعرف بقية الشياطين أين هو … فأخذ معه جهازًا صغيرًا جدًّا في حجم القرش يرسل موجات لاسلكيةً مستمرة … وعندما وصل إلى السيارة البيضاء التي حملته إلى الزعيم، ألصق الجهاز الدقيق تحت رفرف السيارة، وركب دون أن يحس السائق بما حدث. وكان «فهد» و«عثمان» يتبعانه في سيارة أخرى بها جهاز لاسلكي يستقبل موجات الجهاز الصغير. وهكذا استطاع «فهد» و«عثمان» أن يحدِّدا المكان الذي به «أحمد» … وكانت الخطة ألَّا يقتحم الشياطين المكان إلا إذا اكتمل عددهم … وتكون الموجة الأولى من المهاجمين مُكوَّنةً من «هدى» و«بو عمير» و«مصباح» و«خالد» و«رشيد» و«باسم» … وهي المجموعة التي لم يرَها الزعيم ولا يعرف رجاله عنها شيئًا.
وكانت الخطة بسيطة؛ سيركبون سيارة ميكروباس كأنهم في رحلة، ثم تتعطل السيارة قرب المكان الذي به «أحمد»، ويتظاهرون بالبحث عمن يساعدهم على إصلاح السيارة … وينتشرون في المنطقة … وكلما ارتفع صوت جهاز الإرسال الذي وضعه «أحمد» في السيارة البيضاء؛ عرفوا أنهم يقتربون من «أحمد» … وكانت المجموعة التالية المكونة من «عثمان» و«فهد» و«إلهام» و«زبيدة» و«ريما» هي مجموعة التغطية … ولم يكن الهدف إنقاذ «أحمد» وحده … ولكن القبض على الزعيم نفسه … واستجوابه لمعرفة مهمة «يانك تورو» في بيروت.
وظلت الاتصالات طول النهار بين مركز المراقبة و«فهد» الذي كان يحمل منظارًا مكبِّرًا يرقب به من فوق الشجرة ما يدور حول البيت الصخري … و«عثمان» وهو الذي يتلقَّى رسائل «فهد» أولًا بأول … و«زبيدة» التي تتلقَّى في المقر الجديد رسائل «عثمان» ثم تبلِّغها أولًا بأول … إلى رقم «صفر» الذي كان مهتمًّا للغاية بهذه العملية.
وكانت ساعة الصفر في الهجوم هي آخر ضوء الشمس … فإذا لم يخرج «أحمد» من البيت الصخري بدأ العد التنازلي من واحد إلى عشرة … ثم يبدأ الشياطين الستة الأول تنفيذ عملية السيارة الميكروباس … وينتشرون حول البيت الصخري … مُزوَّدين بمختلِف أنواع الأسلحة، على أن تتبعهم الموجة التالية من الشياطين إذا احتاج الأمر.
استيقظ «أحمد» من نومه عندما سمع الباب يُفتح، فجلس، وشاهد شخصًا يدخل يحمل له صينية طعام …
نظر «أحمد» في ساعته، كانت الثالثة … فما يزال هناك وقت طويل حتى يبدأ «سامي صيدح» أو الشياطين العمل.
كان «سامي» هو الذي حمل الطعام ﻟ «أحمد»، بينما وقف رجل آخر خلفه يحمل مسدسًا … ونظر «سامي» إلى «أحمد» نظرةً لها معنًى … ثم نظر إلى صينية الطعام، ووضعها على الطاولة التي بجوار الفراش وخرج.
أدرك «أحمد» على الفور أن ثمة رسالةً في الطعام، فانتظر حتى خرج الرجلان، ثم أخذ يفحص الطعام سريعًا … وبين شطري سندويتش من الجبن لاحظ ورقةً صغيرةً مخفيةً بعناية بين لباب العيش، فأخرجها بهدوء، ثم وقف تحت الضوء وأخذ يفتحها برفق حتى لا تتمزَّق … ووجد عليها كلمات بالقلم الرصاص كُتبت بسرعة: «لا تشِ بي. سوف أساعدك.»
ولم يكن على الورقة توقيع، ولكن «أحمد» عرف طبعًا أنها من «سامي صيدح» عميل «يانك» المدسوس وسط عصابة الزعيم.