الفصل الأول
قرطاج والرحلة الليبوفينيقية
لعلنا لا نعرف الآن سوى القليل النادر الذي حفظته لنا كتابات المؤرخين الأوائل من
إغريق
ورومان عن الرحلات التي قام بها المغامرون الليبوفينيقيون القرطاجيون، لكن انطلاقها
كان
حدثًا عامًّا يُحتفل به، وكان يتم برعاية وتمويل ملوك وأمراء قرطاج (ثم الأسباط ومجلس
الشيوخ فيما بعد)، وتُرتجى فيه الآلهة لتوفيق المسافرين وهم يخوضون غمار الآفاق
المجهولة.
إننا في الحقيقة لا نعثر على مدونات قرطاجية تحفظ تاريخ هذه الرحلات ووقائعها، فالمدونات
الفينيقية مطلقًا قد ضاعت بضياع وتلف ورق البردي الذي اعتمده الفينيقيون في تدوين
وقائعهم،
وكانوا قد اختاروه لسهولة حفظه وحمله، وتركوا النقش على الحجر أو الرقن على الطين،
أو غير
ذلك من الوسائط.
من هذه الرحلات التي تركت أثرًا كبيرًا على الحياة العامة لمدينة قرطاج رحلات ماغون
التي
رافق فيها تجار الغرمنت إلى الصحراء الكبرى وما يليها، ورحلة هِمِلكون إلى السواحل
الأوروبية الغربية، ونصوصها مجهولة حتى الآن، ورحلة حنون إلى السواحل الأفريقية الغربية،
وهي أشهر هذه الرحلات.
تأسست قرطاج في منتصف القرن الثامن قبل الميلاد (٧٥٠ق.م.)، ومن السائد أن يقول المؤرخون
إنها تأسست تحديدًا عام ٨١٤ق.م. لكن هذا التاريخ المأخوذ عن المؤرخ تيمايوس الصقلي
لا يدل
على تأسيس المدينة، وإن تم اعتماده تأريخًا حينيًّا لظهورها في حوض المتوسط، وتسهيلًا
لفهم
حَدَث نشأتها، لأن نشأة المدينة وتأسيسها قد تم ببطء وعلى مدى عقود طويلة بعد هذا
التاريخ
حسب الأدلة الأثرية التي تعود بدايتها إلى عام ٧٥٠ق.م. وهو ما يتوافق مع تاريخ أقدم
اللقى
الفينيقية في قرطاج إبان نشأتها محطةً أو وكالةً تجارية كان الفينيقيون يأتونها في
مواسم
محددة من السنة للاتجار والمقايضة مع الأهالي، فكان رسو سفنهم القادمة من صور سوقًا
(إمبوريوم) عامة يلتقي فيها الطرفان فيعرضون ويقايضون، أو يبيعون ويشترون، ثم توسعت
تدريجيًّا، وشهدت قدوم عدة هجرات جماعية توطنتها وأسستها قريةً جمعت بين المهاجرين
الفينيقيين والأهالي الليبيين (سكان شمال أفريقيا، أسلاف الأمازيغ الحاليين الذين
تتعدد
الآراء حول هجرتهم من الشرق، وهو ما تؤكده الصلة الوثيقة للغتهم باللغات الأفروآسيوية
—
العاربة أو العربية القديمة — كما تنبئ بها الدلائل الأثرية واللقى التاريخية). وقد
غدت
قرطاج بعد ذلك وطنًا بديلًا عن سواحل شرق المتوسط، فكان أن ظهر اسمها المعروف أي:
قَرْتْ
حَدَشْتْ Qart Hadasht (القرية الحديثة)، ثم انتقل إلى
اللاتينية كرتاغو Carthago، ثم أظهره العرب بصيغة قرطاج
Carthage وقرطاجة التي عُرفت بها.
ووفقًا للتاريخ المذكور (أي ٧٥٠ق.م.) بإمكاننا القول إن قرطاج وروما قد نشأتا في
الزمن
نفسه، وإن اختلفت أسباب كل مدينة وأساليبها ومساراتها عن الأخرى، كما بإمكاننا القول
إن
المدينتين عانتا بادئ الأمر من سيطرة أثينا التي تضاءل دورها تدريجيًّا أمام روما،
مثلما أن
روما وأثينا معًا قد عانتا بدورهما من تحالف الأتروريين (الأتروسكيين)
١ مع قرطاج التي وظفت هذا التحالف في القضاء على هميرا
Himere٢ (شمال صقلية) وتدميرها، ثم إعادة بناء مدينة أخرى تقوم بدورها الاقتصادي المهم
في منطقة البحر المتوسط، إلى أن اشتد كيان روما وقوي على حساب جيرانها فأصبحت إمبراطورية
منيعة تبسط نفوذها على أمم البحر المتوسط، وتخضع لها مدنه وممالكه القريبة والبعيدة،
وعلى
رأسها قرطاج.
أما استقلال قرطاج عن صور فقد تم تدرُّجًا بازدياد عدد سكانها ودورها الاقتصادي في
البحر
المتوسط وإنشائها علاقات ودية تغلب عليها المقايضة مع جيرانها، إلى أن تمكنت عائلة
ماغون
Magon الثرية من انتزاع سيادة المدينة بالسيطرة على
اقتصادها وتأسيس جيش من القرطاجيين والليبيين والنوميديين الذين انضم إليهم بعد ذلك
عدد آخر
من المرتزقة الإغريق، وكانت الخطوة الأولى التي أقدمت عليها قرطاج المستقلة، حتى أصبحت
هدفًا أول في سياستها الأفريقية، هي توثيق صلتها بالأقاليم المجاورة، لتأمين حدودها،
من
برقة شرقًا إلى الأطلسي غربًا، ولاستغلال هذه الأقاليم بالتوسع في زراعة الحبوب والكروم
والتين والزيتون والرمان (الذي أطلق عليه الرومان اسم التفاح الفينيقي)، أما هدفها
الثاني
الذي يتوافق مع حصافتها في إدارة مصادر الثراء وتنظيم الزراعة فكان الالتفات إلى بناء
أسطول
بحري قوي يؤهلها لممارسة الدور الإمبراطوري الذي جعلها تقيم محطاتها التجارية ومستوطناتها
الدائمة على سواحل المتوسط، وضمنها سواحل البحر التيراني، أي في عقر دار الرومان أنفسهم،
ما
جعلها بالمقابل تصبح عدو روما الأول.
لقد نشأت حول تأسيس قرطاج أساطير عديدة تنسبها الأشهر منها إلى عليسة (أليسار أو
ديدون
كما تسميها الإنياذة)، وتنسب اختيار موقعها إلى حكاية جلد الثور الذي قايضت به عليسة
الملكَ
الليبي حيارباس
٣ ما كان لديها من حلي وبضائع مقابل قطعة من الأرض تقيم عليها، وترتكز هذه
الحكاية بالطبع على معنى بيرصا، أي: جلد الثور.
وإذا كانت حكاية فرار عليسة من أخيها بغماليون (٨٢١–٧٧٤ق.م.) ملك صور صحيحةً، فإن
ذلك
يعني أنها قدمت إلى ساحل تونس لتؤسس مملكةً جديدة لا رابط لها بالمملكة الأم (صور)،
بل إنه
من المنطقي تمامًا هنا افتراض العداء بين المملكتين، أو عدم نشوء أي علاقة بينهما
مطلقًا،
وهو ما يتناقض مع ما يذكره التاريخ من أن «قرت حدشت» واصلت تقديم الهبات وتكريس التقدمات
المخصصة لمعبد ملقرت في صور، وقد كان زوجها (خالها الذي قتله بغماليون حسب الرواية
التقليدية) كاهنًا من كهنة ملقرت هذا، ولا نجد ذكرًا لانقطاع هذه التقدمات أو توقفها
إلى أن
أتى الغزو المقدوني على صور (عام ٣٣٢ق.م.) وهو ما يشي بأنه لا أساس واقعي يؤكد حكاية
عليسة
على النحو الذي ترِد به عادةً، وإن كان يوسيفوس
Josephus٤ قد أشار — نقلًا عن مؤرخين آخرين — إلى أن عليسة قد أسست في السنة السابعة من
حكم بغماليون مدينة قرطاج، أي سنة ٨١٤ق.م، ما يعني أن تأسيس المدينة الجديدة ربما
تم برعاية
صور التي كانت مكتظة آنذاك بما يزيد عن سعتها من السكان، كما كانت مهددة على الدوام
من
الممالك المجاورة.
إن حكاية جلد الثور تبدو أيضًا أسطورة أخرى، وهي تقدم نوعًا من التفسير اللغوي الذي
يسوغ
إطلاق اسم بيرصا على الهضبة التي تم اختيارها لتكون أساس المدينة الجديدة. فبيرصا
(بِرْصا)
Birsa تعني: جلد الثور، وبأمر عليسة قام الحاكة
الفينيقيون بتشريحه إلى خيط رفيع متصل وعودلت مساحته فكان محيطًا بالهضبة التي دُعيت
بيرصا،
فنزلها الصوريون متوطنين. هذا هو ملخص الأسطورة، وبِرْصا تعود — فيما أرى — إلى السومرية
٥ بُرْسي (بُرْصِ)
bursi التي تعني الوعاء يُحمل
فيه الماء أو الطعام، ويكون من الجلد إذا خيط جرابًا أو قربةً. وبعبارة أخرى فإن تأسيس
قرطاج، بغض النظر عن الإطار الأسطوري الذي وُضعت فيه، إنما كان بحثًا عن إقليم جديد
قادر
على استيعاب كثافة السكان الصوريين، كما كان سعيًا إلى إقامة وتأسيس المزيد من الأسواق
(إمبوريا) وتأمين واستغلال مصادر اقتصادية جديدة لا تنافسهم عليها أمم وممالك أخرى.
دُمرت قرطاج في ١٤٦ق.م. بعد أن استغرقت الحروب القرطاجية الرومانية قرنًا من الزمان،
إلا
أن صراع قرطاج مع روما وأثينا للسيادة على البحر المتوسط يمتد إلى أبعد من ذلك بكثير،
فقد
كانت معركة هميرا Himere، وهي مدينة أسسها اليونانيون على
البحر التيراني، أولى معارك القرطاجيين الكبيرة، فانهزموا فيها عام ٤٨٠ق.م. ولكنهم
عادوا
إلى المدينة عام ٤٠٩ق.م. فدمروها تمامًا، وقد كانت مدينة عظيمة عاشت زهاء قرنين من
الزمان،
فبدأ القرطاجيون بناء مدينة جديدة في موقع قريب من المدينة القديمة، تؤهلهم للاستقرار
وبسط
سيطرتهم على التجارة وإنتاج الحبوب، وامتدت سيطرتهم فشملت جنوب إيطاليا، وهو ما أدى
إلى
تحالف الإغريق والرومان ضد القرطاجيين المتحالفين مع الأتروريين، وأدى استدراجًا إلى
تأجيج
الصراع بين هذه الأطراف حتى بداية الحروب البونية، التي انتهت بدمار قرطاج.
إن الصراع على هميرا بين القرطاجيين وبين الإغريق والرومان، منذ اندحار القرطاجيين
في
معركتهم الأولى إلى أن تمكنوا من تدمير المدينة تمامًا، يتزامن — كما أعتقد — مع الرحلات
الليبوفينيقية (الليبية الفينيقية) Libyophoenician، كما
يتزامن مع بحث القرطاجيين عن مواقع استقرار ومحطات جديدة على سواحل أوروبا الغربية.
وبوضع
رحلة حنون في إطارها التاريخي نعرف أنها مثلت تعويضًا عن خسارة الحرب مع الإغريق في
هميرا،
وهي بالتالي جزء من سعي قرطاج الدءوب إلى التوسع وبسط النفوذ على أراضٍ جديدة، وبعبارة
أخرى: تأسيس المزيد من الأسواق وتأمين مصادر اقتصادية جديدة؛ أي إن الأسباب التي أخرجت
الفينيقيين من صور إلى قرطاج، هي نفس الأسباب التي أخرجت أبناءهم من قرطاج إلى هميرا،
ثم
أخرجتهم إلى سواحل غرب أوروبا وسواحل غرب أفريقيا التي عرف نص رحلة حنون العالمَ القديم
عليها للمرة الأولى على النحو التفصيلي الذي يذكره.
ومع أن قرائن الآراء وأدلتها تختلف بين باحث وآخر، إلا أن تقدير تاريخ الرحلة بعام
٤٢٥ق.م. يبدو موفقًا، بالرغم من أن هناك من يرى أن الرحلة قد كانت في الربع الأخير
من القرن
الخامس ق.م. أو عام ٦٠٠ق.م، وقد تساءل الكثيرون باستغراب عن السبب الذي كان وراء إحجام
هيرودوت
Herodotus٦ عن الإشارة إلى رحلة حنون، بينما كان قد أشار إلى رحلات ومغامرات شبيهة خاض
الفينيقيون بعضها، ولا أرى سببًا وراء ذلك إلا كون هيرودوت قد كان معاصرًا لحنون،
ولكنه مات
قبل أن يقوم الأخير برحلته، أي إنه لم يطلع على ترجمة النص القرطاجي إلى اليونانية.
لقد ولد
هيرودوت على ساحل آسيا الصغرى حوالي عام ٤٨٤ق.م ومات حوالي ٤٢٤ق.م في جنوب إيطاليا.
فإذا صح
تاريخ وفاته يكون قد مات قبل سنة من قيام حنون برحلته البحرية هذه. ومن المعروف أنه
زار
مصر، مع اعتقاد بأنه زار برقة ووصفهما، ووصف الأرجاء والقبائل الليبية وما يُحكى عنها
من
أساطير كان التجار من سكان الحواضر يتناقلونها آنذاك، إلا أنه بالطبع لم يرَ ترجمة
النص
القرطاجي مطلقًا، لأن هذا النص — ببساطة — لم يكن آنذاك قد ظهر بعد.
على هذا الأساس يكون سكيلاكس Scylax الذي كتب في منتصف
القرن الرابع ق.م. ما يعرف بكتاب الرحلات هو أول من أشار إلى رحلة حنون ومدينة ثمياتيريوم
أولى المدن التي أسسها في طوافه.