الفصل الثالث
النص الفينيقي المفقود
إذا كان القرطاجيون قد دونوا رحلة حنون بأنفسهم، فلماذا لا نجد النص الفينيقي الذي
يتحدث
عن تفاصيل هذه الرحلة التي ميزت المستكشفين من أهالي قرطاج عن الإغريق والرومان؟ وما
حقيقة
أسماء الآلهة التي ترد في نص الرحلة المعروف؟
يتساءل إ. كوري
١ عن الكتابات القديمة قائلًا: «أين هي إذن كتابات أشور وبابل، فارس ومصر
وفينيقيا، صور وقرطاج، والنصوص الأدبية لتلك الإمبراطوريات العظيمة، بل أين بقاياها؟»
تعود
هذه التساؤلات إلى زمن نشر الشذرات (١٨٢٨م)، وكانت صائبةً آنذاك، لا شك، أما الآن
فإننا لم
نعد نتساءل عما بقي من أشور وبابل ومصر، فتلك الممالك أورثت العربَ ما يغنيهم عن التساؤل
أبد الآبدين، لكننا ما زلنا نتساءل في الوقت نفسه عن تراثنا الكنعاني (الديني والتاريخي
والأدبي)، بعد أن أعيانا البحث عن مصادره، فلم تفصح مظانه عن الكثير، ولم نجد منقولًا
منه
إلى اللاتينية والإغريقية إلا القليل.
لقد أثارت هذه التساؤلات مخيلة باحثين كثر كانوا ينتهون غالبًا إلى التسليم بفقر
الفينيقيين الأدبي، في مقابل ثرائهم الخرافي الذي اشتهروا به بين أمم العالم القديم،
إلا أن
الإجابة عن هذه التساؤلات ربما كانت أيسر مما يتخيل بعضنا. فالفينيقيون عامةً، والقرطاجيون
على غرارهم، وإن لم يولوا اهتمامًا يُذكَر بتدوين حولياتهم وملاحمهم ومعتقداتهم، إلا
أنهم
لم يُعدَموا ذلك، ولكن استخدامهم للبردي، بقدر ما كان متفقًا تمامًا مع يومياتهم التي
يغلب
عليها طابع الاتجار والمقايضة وتدوين سجلات التجارة، والتنقل بين مدن البحر المتوسط،
ومدن
الصحراء الليبية، ومدن مصر وبلاد الشرق، لسهولة حملها وحفظها، بقدر ما كان — أي البردي
—
سريع التلف والاندثار، فلا وجه للمقارنة — بعد ذلك — بين مادة تدويناتهم العابرة تلك،
وبين
ما كان المصريون قد نقشوه على الحجر من مسلات، أو كان السومريون قد رقموه على الطين
من
ألواح مفخورة، وهو ما اتسم بالديمومة والسلامة إلى يوم الناس هذا، وإذ نفكر في هذا
التراث
علينا أيضًا أن نستدعي دمار قرطاج على يد الرومان وما رافقه من حملات حرق محفوظات
القرطاجيين وإتلافها. لقد كان تخريبًا شاملًا أثارت قسوته مخيلة المؤرخين إلى أبعد
الحدود.
كانت مدونة رحلة حنون حجرًا منقوشًا في معبد بعل حمون، ولم يعرفها العالم إلا من خلال
ترجماتها التي يرجح أنها كانت إلى اللغات الإغريقية واللاتينية، وربما المصرية. وهي
الترجمات التي تغير فيها اسم بعل حمون إلى كرونوس تارةً، وإلى ساتورن تارةً أخرى،
بحسب
معتقد من قام بالترجمة. أي إن ورود أسماء الآلهة غير القرطاجية (الكنعانية) كان أثناء
ترجمة
النص قبل أن يُفقَد، وكان من ضرورات هذه الترجمة مقابلة أسماء الآلهة الغريبة لإعطاء
النص
موثوقيته إذا أذيع بين الناس.
كان بعل حمون
Ba’l Hammon كبير آلهة قرطاج، ويعني اسمه
«سيد الأعمدة»، أي أعمدة المعبد، أو «سيد الأنصاب» بمعنى كبير الآلهة، وربما كان الأصل
في
تسميته «بعل حماميم»، ما لم يكن ذلك وصفًا له، ويكون الأصل في اسمه «بعل آمون»
Ba’l Ammon، دمجًا بين الإله الكنعاني بعل والإله
الليبي آمون الذي كان مقره (معبده الأصلي) في واحة سيوة شرق ليبيا، وهي المسماة أيضًا
واحة
آمون، وما يرجح هذا الدمج بين المعبودين أن الكبش كان رمز بعل في قرطاج، وهو أيضًا
رمز
آمون. وقد كانت الصلاة له (في قرطاج ومعظم مدن الساحل الأفريقي) تُقرن عادة بالصلاة
للإلهة
تانيت
Tanit٢ التي كانت تسمى «وجه بعل»، وقد جرت المعتقدات على دمج آمون بآلهة وافدة أخرى
مثل زيوس آمون الإغريقي، وجوبيتر آمون الروماني، وكان تقديس الليبيين والقرطاجيين
على
السواء (أو الليبوفينيقيين
Libophoenicians)
٣ مكرسًا له على هذه الوجوه الثلاثة لقِدمه وارتباطه بالساحل والصحراء.
٤
إن ما يُجمع عليه جميع من تناول هذه الرحلة بالبحث هو أن القرطاجيين قد دونوا نص
رحلة
حنون على مسلة وُضعت في معبد بعل حمون في قرطاج، وأن هذه المسلة قد دُمرت مع دمار
قرطاج على
يد الرومان، وعن هذه المسلة نقل اليونانيون نص الرحلة، وعن اليونانيين نقلها آخرون،
بعضهم
ممن نعرف وبعضهم ممن لم نعرف، وعلى ذلك اعتمد بليني الأكبر
Pliny the
Elder فأشار إلى الطواف في كتاباته الجغرافية، قائلًا إن «حنون الليبي
انطلق من قرطاج فعبر أعمدة هرقل، وأبحر في المحيط. غادر مرفأه على ليبيا وأبحر باتجاه
الشرق
(!) خمسةً وثلاثين يومًا كما أُخبِرت. لكنه آخر الأمر، عندما استدار نحو الجنوب، وقع
في
محنة كبيرة: الحاجة إلى الماء، والحرارة اللافحة، والتيارات المحمومة التي تجري في
البحر».
وهو ما نجده في النسختين المعتمدتين لدينا، باستثناء مسألة الشرق التي أشرنا إليها
آنفًا،
ولا يمكننا هنا سوى التأكيد على أن نص المسلة التي أقيمت في معبد بعل حمون قد ترجم
مرارًا
وتكرارًا، وأنه قد انتشر بعيد وضعه في المعبد وإعلانه على الملأ. إن سيمونيدس يعود
في بحثه
المضني عن الاستشهادات إلى ستيفانوس البيزنطي
Stephanos the
Byzantian الذي «في وصفه الأمم عامةً أشار إلى حنون، ليس مرةً، ليس
مرتين، أو ثلاث مرات، بل أكثر»، وإلى ديون كرسوستوم
Dion
Chrysostomos (٤٠–١١٢م) الذي قال إن «حنون القرطاجي يجعل القرطاجيين
ليبيين بدلًا من كونهم صوريين»، وأنهم توطنوا ليبيا بدلًا من فينيقيا «فنالوا ثراءً
كبيرًا
وتجارة عظيمة ومرافئ كثيرة وسفنًا ثلاثية الطبقات، وحكموا قدرًا أكبر من الأرض والبحر»،
٥ ويعود إلى شهادة إفاغريوس
Evagrios وهو من
أوائل النساخ الذين نقلوا نص الرحلة مترجمًا إلى اللغة اليونانية، ويصفها بقوله «إنها
شهادة
قوية جدًّا.»
وقد تناقل المؤرخون عددًا من الحكايات هي إما نتاج هذه الرحلة، وتدل على أن القرطاجيين
قد
واصلوا بعد رحلة حنون زيارة سواحل غرب أفريقيا، أي كانوا يزورونها فيتاجرون ثم يعودون
منها،
وإما أنها جزء من النص المفقود في لغته الأصلية، أي القرطاجية، أو الفينيقية الليبية،
أو ما
اصطُلح عليه باسم البونيقية. من هذه الحكايات — ونجدها تكررت كثيرًا بعد أن نُقلت
في الأصل
عن هيرودوت، أي قبل رحلة حنون، حتى وصلت ياقوت الحموي فأوردها في معجم البلدان — أن
القرطاجيين تحدثوا عن بلد في ليبيا وراء أعمدة هرقل، وأنهم تعودوا زيارة هذا البلد،
ولكنهم
لم يخاطبوا أهله أو يختلطوا بهم، لأنهم كانوا يُنزلون بضائعهم على الشاطئ ويتركونها،
ثم
يشعلون نارًا يرتفع دخانها عاليًا، ويصعدون إلى سفنهم، فيأتي السكان الأصليون إلى
الشاطئ
عندما يرون الدخان، وبعد أن يعاينوا ما تركه القرطاجيون يتركون بدورهم قدرًا من الذهب
يعادل
ما يجدون من بضائع، ويبتعدون مسافةً ما، وعند ذلك يغادر القرطاجيون سفنهم فيعاينون
الذهب،
فإذا رأوا أنه يعادل بضاعتهم أخذوه وانسحبوا، وإذا رأوا أنه دونها تركوه وعادوا ثانية
إلى
سفنهم ينتظرون، فيأتي السكان ويضيفون قدرًا آخر إلى الذهب حتى يرضى التجار القرطاجيون
عن
الثمن الذي يعادل بضاعتهم ذهبًا، فإذا عادلها أخذوه وانصرفوا، وإذا وجدوا بضاعتهم
كما هي
دون ذهب بجانبها، علموا أن أولئك السكان غير راضين عن الثمن. هكذا لا يغمط طرفٌ طرفًا
حقه،
لا هؤلاء يأخذون الذهب حتى يكون بالقدر الذي يريدون، ولا أولئك يحملون البضاعة حتى
يأخذ
هؤلاء الذهب إلى سفنهم.
ومما تكرر ذكره في الكتابات التاريخية أن القائد الروماني سيبيو الأفريقي
Scipio Africanus أرسل المؤرخ بوليب (بوليبيوس
Polybius) بعد دمار قرطاج (١٤٦ق.م.) على رأس حملة تقتفي
أثر حنون في رحلته، وكان بوليب هذا أسيرًا لدى الرومان، ويبدو أنه افتدى نفسه بما
يعرفه،
فكان يقدم دروسًا في التاريخ يعلِّم بها أبناء الرومان، ثم صار صديق سيبيو. إننا نفهم
من
خلال نقل بليني رواياته حول حنون عن بوليب أن الأخير قد حاول أن يقتفي أثر حنون شيئًا
فشيئًا كما يرِد في نص الطواف، ولعل الهدف الأول بالنسبة له كان هدفًا استكشافيًّا
جغرافيًّا، بينما مثل بالنسبة إلى القائد الروماني احتمالًا جديدًا يتيح له توسيع
أطراف
الإمبراطورية. وقد كتب بليني بعد ٢٥٠ سنة من دمار قرطاج عن حنون، نقلًا — في أكثر
القراءات
ترجيحًا — عما كان بوليب نفسه قد كتبه عن الرحلة.
سار بوليب، كما يقول كي-زيربو
٦ «بحذاء الشاطئ وعدد أنهاره الواحد تلو الآخر بما يكفي من الدقة للتعرف إليها
عبر مقاربتها بأسمائها الحديثة، وهكذا اجتاز، في جملة ما اجتازه من أنهار، نهر سوبور
(سيبو)، ونهر دارات (درعا)، ونهر بامبوتوم (نهر نون!)، إضافة إلى جبل عربة الآلهة،
وهو بلا
شك الجبل الذي يقابل سلسلة جبال الأطلس، ثم انتهت رحلته عند رأس هاسباريان (رأس جوبي)،
وإلى
تلك النواحي تنتهي أيضًا الطرق التي تأتي عبر الصحراء.»
وقد تركت هذه الرحلة — التي يبدو أنها تُخفي أكثر مما تظهر — أثرها على الجغرافيا
القديمة
ووضع الخرائط، بل إن هذا الأثر تواصل إلى أبعد من ذلك فكان ما تراكم حول هذا الأصل
تراثًا
جغرافيًّا تمت الاستعانة به حتى القرون الوسطى. فقد استعان «بطليموس الإسكندري، وهو
علَّامة
جغرافي بارز، بمعطيات البحارة الصوريين في وضع خارطة ظلت وثيقة مرجعية للغربيين خلال
الفترة
الأخيرة من العصر القديم، وردح طويل من القرون الوسطى، وقد ظل تأثيره على وضع خرائط
أفريقيا
قائمًا حتى القرن الثامن عشر.»
٧
نعثر في التذييل الذي أورده سيمونيدس عقب نص الرحلة كما ورد على لسان حنون، أن هذا
النص
تم نقشه باللغة الفينيقية على حجرٍ أُودع معبد كرونوس حامي المدينة (أي بعل حمون)،
وأن
بُولِكْليتوس القوريني
Polykleitos of Kyren ترجمه إلى
اليونانية، في زمن ولادة الإسكندر الأكبر
Alexandros
Philippos في مقدونيا، ثم قام إيفاغريوس بن إيفاغريوس
Evagrios, son of Evagrios بتدوين ثلاث نسخ من الترجمة
قام بإهدائها إلى أرخون الإسكندرية (أي حاكمها اليوناني) وهو إبِماخوس أرِسطَغوراس
Epimachos Aristagoras تقديرًا له وعرفانًا بكرمه
وجميله. ويقول إن ذلك حدث في زمن الأولمبياد الأثيني الثاني والثمانين بعد المائة،
٨ وهو يوافق سنة ٥٠ قبل الميلاد.
إن هذه الإضافة التي ذُيل بها نص الرحلة لا توضح كيف انتهى الأصل؟ أنُهب أم حُطم أم
أُهمل
فدفنته الرمال؟ ولكنها تفسر لنا على الأقل بقاء النسخة اليونانية ودوامها بعد فقدان
الأصل
الفينيقي، وإنه لمن المنطقي تمامًا أن نتصور أن نَسخ النص قد تكرر، وإن كنا لا نعرف
الآن من
أي بلد كان ناسخوه ومترجموه؟ ومن هم؟