مدخل
لا يثور الجدل ويحتد حول أهمية الأدب ودور الفن مثلما يثور ويحتد في وقت الأزمات الكبرى أو المحن التي تلحق بأمة ما في وطن معين.
ويظل النقاش في دائرة نظرية مفرغة طالما كان المجتمع، الذي تدور بين جنباته المناقشات، مجتمعًا هادئًا نسبيًّا ومستقرًّا على نحوٍ من الأنحاء. ثم يختلف الوضع اختلافًا كيفيًّا حين تتجدد هذه المناقشات في إحدى المراحل العصيبة التي يجتازها هذا البلد أو ذاك إبان محنة من المحن تهزها حتى الأعماق. فالمحنة من تلقاء نفسها، وبكل ما تتضمنه من عناصر السلب والإيجاب ومحصلات الوجدان والتاريخ، تفرض على المجتمع المأزوم هذا السؤال القديم الجديد: ما هو دور الأدب والفن؟ ولكنها تفرضه في مستوًى آخر، مستوى «الأمر الواقع» و«التحدي القائم» الذي يواجه كافة نشاطات الإنسان، ومن بينها الآداب والفنون. هذا المستوى الجديد هو «الامتحان العملي» لوظيفة الأدب في المجتمع، وهو المستوى الوحيد الذي يطرح المشكلة من خلال ما هو مجسم وموضوعي ومحدد، لا من خلال ما هو متخيل وذاتي ومجرد، كما كان الأمر يدور فيما مضى بين حدود الدائرة النظرية المفرغة. ولعل الجانب النظري الوحيد الذي تستدرجنا إليه المشكلة الراهنة بالضرورة هو أن السؤال في حقيقته ذو شقين: أولهما، ما هو دور الأدب — على ضوء محنة ما — بشكل عام، وما هو دوره إزاء المحنة نفسها بشكل خاص؟
إذا أخذنا مثلًا محددًا كرواية «العجوز والبحر» لهمنجواي، حيث تكاد تكون الرواية الوحيدة التي كتبها دون أن يذكر كلمة «الحرب» بخير أو بشر، فماذا نجد؟ نجد إنسانًا وبحرًا يتصارعان فوق شبكة الصيد وحيوان البحر الذي يأكلها، وليس من المهم بعد ذلك أن ينتصر الصياد العجوز أو ينهزم أمام الوحش البحري، وإنما المهم هو هذا الرمز المباشر والعميق الدلالة في آنٍ، الرمز القائل بأن الإنسان — لمجرد كونه كائنًا بشريًّا — في صراع لا يكل ولا يهدأ من أجل الحياة. هذه هي الشحنة الرئيسية التي يملأ بها همنجواي حنايا الإنسان المعاصر في عالمنا، وهي الشحنة التي تنقذ الوجدان المتعب من الاستسلام أمام «الأمر الواقع» أو الوحش البحري الذي قد يتجسد حينًا في غازٍ أجنبي، وحينًا آخر في سلطة طاغية، وحينًا ثالثًا في قهر اجتماعي عاتٍ، إلى غير ذلك من صور الضغوط التي تلاحق الإنسان أينما كان وفي أي زمان.
وإذا عدنا مئات السنين إلى التراث اليوناني، نطالع صورةً أخرى للصراع البطولي الخارق بين الإنسان والكون، كما أبدعتها القريحة الإغريقية في أسطورة «سيزيف»، هذا البطل الذي حكمت عليه الآلهة أن يرفع الصخرة إلى قمة جبل عالٍ ما إن يصل إليها حتى تتدحرج الصخرة لتهوي إلى السفح فيرفعها من جديد لتسقط من جديد، وهكذا إلى ما لا نهاية. لقد اتخذ ألبير كامو من هذه الأسطورة العظيمة محورًا فكريًّا لنظريته في «عبث الوجود الإنساني»، بالرغم من أنها لا تختلف عن قصة همنجواي من حيث الجوهر في أنها تجسيد عميق للصراع الأبدي بين الإنسان والظروف المحيطة به. نقطة الخلاف بين «العجوز والبحر» والأسطورة الإغريقية، أن همنجواي لا يجعل من الصراع الإنساني قدرًا غيبيًّا أو عقابًا من الآلهة، وإنما يراه جزءًا لا يتجزأ من طبيعة العلاقة الدينامية بين الإنسان والكون، علاقة التفاعل بين الجنس البشري والوجود المحيط به. أما العقل اليوناني القديم، فقد رأى في هذا الصراع «نتيجةً» للخطأ في حق الآلهة، لا سببًا للحياة بكل ما تحتويه من تناقضات تحتدم فيما نسميه صراعًا، وما هو إلا الحياة في انبثاقها واستمرارها وصيرورتها اللانهائية.
فهل تعد «العجوز والبحر» في الأدب المعاصر، و«أسطورة سيزيف» من الأدب القديم، مما يمكن أن ندعوه بأدب المقاومة؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تشير إلى قضيتين متمايزتين: أولاهما أن الأدب كأدب هو في ذاته نشاط إنساني يقاوم عوامل الضعف والخور التي قد تلم بالنفس البشرية في لحظات الانكسار، فليس هناك عمل أدبي جاد، في تاريخ الإنسان القديم والحديث، يمكنه أن يخلو من هذه السمة البارزة وهي «المقاومة» لأن هذا العمل يفقد عنصرًا خطيرًا من مكونات وجوده إذا خلا — من أحد وجوهه — من فكرة الصراع بين الإنسان والكون، سواء تمثل هذا الكون في الوجود الطبيعي أو النسيج البشري. والقضية الثانية هي أن لأدب المقاومة عمومًا وجهه الإنساني العام، الذي لا يندرج في تصويره للصراع البشري تحت أية أطرٍ قومية أو قوالب اجتماعية. والجانب الإيجابي الهام في هذا اللون من ألوان الأدب هو أنه من عوامل «التجمع» لا من عوامل «الفرقة»؛ فحين تكتب مؤلفة مثل «إيثيل مانين» قصتها «الطريق إلى بئر سبع» عن مأساة فلسطين، وهي الكاتبة الإنجليزية، وحين تكتب مؤلفة مثل «هارييت بيتشر ستو» قصتها «كوخ العم توم» عن مأساة الزنوج في الجنوب الأمريكي، وهي الكاتبة الأمريكية البيضاء، فإنهما تنطلقان في صياغة هذه المأساة أو تلك من هذا المنظور الإنساني الشامل، وليس من المنظور القومي أو الديني أو الاجتماعي، وإلا لما كتبتا روايتيهما منذ البداية. ولا يعني هذا أن البعد الإنساني لا يتأتى إلا عن طريق «الأدب المجرد» — ولا أقول التجريدي — كقصة همنجواي التي يمكن أن تحدث في أي زمان ومكان وبشر، وكالأسطورة الإغريقية، وإنما يتواجد هذا البعد كذلك في الانطلاق منه نحو «مآسٍ إنسانية محددة» في هذه البقعة أو تلك، في هذا العصر أو ذاك. فالمأساة الفلسطينية التي تحددت بحرب ١٩٤٨م هي الخامة «المحددة» في رواية مانين، والمأساة العنصرية التي تحددت بالحرب الأهلية في الولايات المتحدة هي الخامة «المحددة» في رواية ستو، ولكن «الزاوية» الفكرية التي تشكلت من خلالها هذه الخامة هي الزاوية الإنسانية العريضة الرحبة، وليست بأي حال من الأحوال هي القومية العربية التي لا تنتسب إليها الكاتبة الإنجليزية، ولا هي اللون الأسود الذي لا تتلون به الكاتبة الأمريكية البيضاء. هذا الأدب «الإنساني» إذن هو — من أحد وجوهه — أدب «تجمع» للدرجة التي تجذب «الخامة الإنسانية» إليها أنظار واهتمام — وربما تجاوب — من يتناقضون مع شكلها القومي أو مضمونها الاجتماعي.
ولقد أحس فريق من الأدباء العرب الشباب بأهمية هذا «البعد الإنساني»، فكتب غسان كنفاني قصته «رجال في الشمس» عن مأساة فلسطين من خلال قصة رجال ثلاثة أرادوا العبور من حدود البصرة إلى حدود الكويت سعيًا وراء القوت بعد أن تركوا أرضهم قسرًا واغتصابًا، ويصور لنا الفنان ما يعانيه الرجال الثلاثة على أيدي سماسرة البصرة المختصين بالتهجير والهرب عبر الحدود. ويلتقون أخيرًا بسائق عربة «فنطاس» يقترح عليهم أن يعبر بهم الحدود بشرط أن يدخلوا إلى جوف الفنطاس ويغلق عليهم أثناء مرورهم أمام محطات الرقابة ووحدات التفتيش. ويوافقون على الاقتراح ويركبون العربة، وما إن تلوح مراكز التفتيش على الحدود حتى يندفعوا إلى بطن الفنطاس ويحكم السائق إغلاق الفتحة العليا التي تدلوا منها، وما إن يتجاوز بهم منطقة الرقابة حتى يعيد فتح العربة فيخرجوا منها بين الحياة والموت، والعرق الغزير يتصبب من أجسادهم الساخنة بحرارة الشمس وانصهار الحديد. ثم يصل بهم إلى مركزٍ جديد للتفتيش فيعيدون الكرة ويهرولون إلى داخل الزنزانة الجهنمية. ولكن صاحبنا السائق يغيب عليهم هذه المرة وهو يمرر أوراقه بين الرقباء للموافقة على العبور إذ راح أحدهم يمزح معه حول ليلة حمراء مرتجاة. ويعود السائق ليجتاز بهم المنطقة كلها ويبادر إلى سطح الفنطاس ليناديهم إلى الخروج، ولكن بعد فوات الأوان؛ فقد تسببت اللحظات القليلة التي تأخرها في موتهم جميعًا. وكانت المهمة العسيرة التي تنتظره هي إخراج الجثث من بطن العربة، ولا بأس من أن يفتش جثث الأموات بعد ذلك، فلعلها تحمل ما يقيت الأحياء.
هذه القصة إذن تجرِّد مأساة فلسطين من ثيابها القومية لتبرز إلى الوجود ثيابها الإنسانية الخالصة، وهذا هو البعد الجاذب لاهتمام الذين لا يشاركوننا الثياب القومية. فالعنصر الإنساني المحض في «رجال في الشمس» أن البشر في هذه الرقعة من العالم الواسع يموتون، لا لشيء إلا لأنه «لا حياة لهم» في عرف الذين سلبوهم أرضهم وديارهم، ومع هذا فهم يصارعون صراع العجوز في قصة همنجواي، وصراع سيزيف في الأسطورة الإغريقية، ولا يعدون ذلك عبثًا في عبث كما يتصور ألبير كامو، وإنما يعدونه جوهر الحياة وديناميتها، وهذا — بالضبط — ما حمل كاتبًا آخر، هو حليم بركات في قصته «ستة أيام»، أن يصل بهذا البعد الإنساني إلى حده الأقصى حين وضع بطله «سهيل» موضع الامتحان العسير أمام آسره من ضباط الأعداء؛ فقد كان سهيل خلال الأيام الستة التي أنذرت قوات العدو قريته في مداها أن تختفي من خريطة فلسطين إذا لم تسلم. كان سهيل يعيش في بوتقة عنيفة الوطأة بين التخلف الذي يحياه أهله ووطنه، والحضارة التي وفد من بين أحضانها في أوروبا. وإذا بالحرب تحاصره أثناء زيارته العابرة، وتتحول به الأيام الستة إلى أيام شبيهة بأيام الخلق الأولى في تاريخ البشرية، يومًا بعد يوم يضيء فيه نور جديد، ويومًا بعد يوم يصحو على المعنى الحقيقي للحضارة والقوة والحرية. وفي اليوم الأخير يقع في الأسر والتعذيب الرهيب، فيرى بين الغيبوبة والوعي شريط الأيام الستة يغلب شريط أيام عمره كلها. ولا يتبقى أمامه إلا أن يكون أو لا يكون، ولكن على نحوٍ شديد الاختلاف عن هملت؛ فهو يكون حين يسلم عنقه للجلاد ولا يستسلم، وهو لا يكون حين ينقذ عنقه وحده ويسلم بلده كله. ولا يظل «سهيل» بين الغيبوبة والوعي طويلًا؛ إذ هو يختار بوعي كامل أن يسكن إلى الغيبوبة الأبدية.
إن أمثال هذه القصص تخترق الغلاف القومي الضيق، لتنادي أعمق أعماق الوجدان البشري العام. وهي لذلك — وفي المستوى الفني — ليست هتافًا تقريريًّا مباشرًا، وإنما هي أقرب ما تكون إلى نبضات القلب المختنق الذي لا يختلف بشأنه طبيب من السويد أو آخر من جنوب أفريقيا. هذا التركيز على البعد الإنساني في أدب المقاومة من شأنه أيضًا أن يفرق بين كونه أدبًا للمقاومة وبين أن يتحول إلى أدب المناسبات. فأدب المقاومة العربية — على سبيل المثال — يمكن للقارئ خارج الديار العربية أن يستجيب للقاء وجهه الإنساني العام فيتعاطف مع قضيتنا «الخاصة»، ويمكن للقارئ خارج الديار العربية أن يحس آلام أوطان أخرى تعاني من نفس المصائب والملمات، فلا تحول كلمة «فلسطين» من أن يجد لها مرادفًا في روديسيا البيضاء أو جنوب أفريقيا، بل الجنوب الأمريكي نفسه ما دامت «العنصرية» هي الخيط الواحد الذي يشد هذه المآسي جميعها. ويمكن أخيرًا للقارئ خارج الديار العربية أن يشعر ﺑ «الإنسان» في هذه المنطقة من العالم «إنسانًا» يصارع من أجل الحياة؛ قانون الوجود الذي لا يتغير. أي أننا بهذا الأدب لا نقاوم ضعفنا ولا دعاة الهزيمة والاستسلام، بل نحن نشارك بهذا الأدب في حركة النضال الإنساني عامة.
على أن هذا البُعد الإنساني لا يتعارض مطلقًا مع البعد القومي في أدب المقاومة. فليس هناك وجه عام ومجرد ومطلق ينفرد بالعمل الأدبي. تتفاوت فحسب نسب التركيز على هذا الوجه أو ذاك. وفي تاريخ الأدب المصري الحديث تعد رواية «عودة الروح» طليعة الأدب القومي المناضل ضد الاستعمار. حقًّا هناك قصة محمود طاهر حقي «عذراء دنشواي» التي كتبها عام ١٩٠٦م، أي قبل أن ينشر الحكيم قصته بربع قرن، ولكن الفرق الكبير بين بناء «عودة الروح» و«عذراء دنشواي» لا يجعل من قصة حقي النموذج الأكثر جدارةً بأن نستشهد به في هذا المضمار. ذلك أن رواية «عودة الروح» تجاوزت الفكرة الوطنية العاجلة — وهي الاستقلال والثورة ضد الإنجليز — إلى المحور القومي الشامل الذي يجعل من «مصر» بثورتها وتخلفها وحضارتها ونكساتها وطبقاتها هي المضمون العميق الرحب لأدب المقاومة في الإطار القومي. وليس من الغريب أن يعلق معظم الذين قرءوها من نقاد الغرب في لغات أجنبية أن الذي بهرهم في الرواية هو «ريف مصر» بناسه وأرضه ونباته وحيواناته وروحه وجوه، أي أن الذي أعجبهم هو «العنصر القومي» في الرواية؛ لأنهم في أغلب الظن لم يستشعروا بعدًا إنسانيًّا سائدًا وإن لم يخلُ منه العمل الفني خلوًّا تامًّا. وبالرغم من أن «عودة الروح» تستلهم ثورة ١٩١٩م في جانبها التاريخي، إلا أن توفيق الحكيم آثر أن «يعمم» هذه الثورة، فجاءت «عودة الروح» قصة الثورة المصرية عمومًا وليست قصة ثورة بعينها فحسب، بل جاءت قصة «مصر» عمومًا وليست قصة ثورتها فحسب. لقد دمج الفنان معنى مصر بمعنى الثورة، فكوَّن مزيجًا مركبًا هو «ثورية مصر» الكامنة في شعبها، والتي تهب من رقدتها كلما دعا الداعي إلى ذلك. إن الحكيم يصوغ هذه الفكرة المحورية في الرواية كما لو كان قدرًا ميتافيزيقيًّا أن تثور مصر أو أن تعود إليها «الروح» بمجرد أن تتعرض حياتها للخطر. ومع ذلك فالرواية لا تحمل مضمونًا ميتافيزيقيًّا وإن كانت تتزين بهذا الشكل الميتافيزيقي — إن جاز التعبير — ليشحن الوجدان المصري بالثقة المطلقة في إمكانياته الثورية المترسبة في الأعماق، والتي تطفو على السطح إذا عكرت صفو نيلها الملمات. أي أنه من خلال هذا الشكل يحقق للنفس المصرية «إرادة النصر» في أحلك الظلمات، وأبشع الهزائم. وليس من الغريب للمرة الثانية أن تكون «أهل الكهف» هي شقيقة «عودة الروح» في المضمون وإن اختلف الشكل من البناء الروائي إلى البناء الدرامي. فنظرية البعث التي تقوم عليها أركان هذه الدراما هي نفسها نظرية الثورة في «عودة الروح»؛ طريقهما واحد هو الفداء، وهدفهما واحد هو الخلود. والبعث الحضاري في «عودة الروح» يتخذ من الأسطورة الفرعونية عمادًا لها، والبعث الحضاري في «أهل الكهف» يتخذ من مصر المسيحية عمادًا آخر. ومعنى هذا أن البعث الذي يقصده الحكيم هو البعث «المصري»، هوا البعث «القومي» الذي يبدأ من الجذور التاريخية وينتهي بمصر المعاصرة. وهكذا تقف أعمال الحكيم المبكرة مع أشعار الفنان العظيم بيرم التونسي، موقف الريادة والطليعة من أدب المقاومة في تاريخنا الحديث.
هذا البعث يتخذ أشكالًا متنوعةً في أدب المقاومة العربية، خاصةً في الشعر. إننا نجد حشدًا هائلًا من الشعراء التموزيين كما يدعون أنفسهم أو كما يسميهم بعض النقاد، وهم هؤلاء الذين يتخذون من أسطورة «البعث» خامةً فنية ينسجون منها مختلف وجهات النظر الفكرية في الحياة العربية المعاصرة. فهناك من يتخذ من «فينيقيا» قبلةً روحية يتطلع إليها؛ بمعنى أن يعود المجد الغابر إلى هذه المنطقة من العالم. وهي فكرة «القوميين السوريين» على وجه الخصوص. وهناك من يتخذ من «تموز» إلهًا للمطر يسترحم ماءه أن تروي الأرض العطشى بغير تفرقة أو تمييز، وهي فكرة الشعراء الاشتراكيين من أمثال بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي. وهناك من ينسج البعث في إطار القومية أو الحضارة العربية كما يصنع خليل حاوي. هذه الأشعار جميعها تندرج تحت أدب المقاومة بمجرد أنها تتخذ من «البعث» رؤيةً فكرية، وهي في الأساس رؤية قومية تختلف من الهلال الخصيب إلى القومية العربية إلى التركيز على الوجه الاجتماعي للنضال القومي. ولكن ما لا ريب فيه أن شعر المقاومة الحقيقي، ومن زاوية رئيسية، كان الشعر الشعبي؛ شعر العامية، فقد استطاع شاعر عظيم كبيرم التونسي أن يحيل «مصر» إلى رصاصات قاتلة في قلوب الأعداء، وأن يحيلها شموعًا هاديةً في قلوب الأصدقاء، وأن يجعل منها قانونًا للإيمان في قلوب المصريين. ويعد بيرم التونسي في مصر هو الشاعر الأب والأم لحركة شعر العامية المعاصرة، ابتداءً بصلاح جاهين إلى عبد الرحمن الأبنودي وسيد حجاب. ولعل القيمة الأساسية في إنتاج هذه المدرسة التونسية أنها تمثل أرفع مستويات الالتحام القائم بين النضال القومي والصراع الاجتماعي. فاتخاذ العامية المصرية لغةً لهذا الشعر، بكل ما تحتويه من تراثٍ فكري وفني، يؤكد الوجه القومي لهذا اللون من ألوان أدب المقاومة. واتخاذ الثورة الاجتماعية نسيجًا أيديولوجيًّا لهذا الشعر، يؤكد الوجه الثوري لهذا الأدب. ولقد كانت هناك فكرة متطرفة نوعًا ما، تقول بأن «الأدب الشعبي» وحده هو أدب المقاومة بما ينطوي عليه من بطولات جماعية وفردية مجهولة ومعلومة ضد الغزاة والمستبدين؛ كبطولة أدهم الشرقاوي وبطولة ياسين وغيرها من البطولات الشعبية العامية. والحق أن هذا الأدب يشكل قطاعًا هامًّا من قطاعات أدب المقاومة، ولكنه ليس الأدب الوحيد الذي قاوم الغزاة والمستبدين. وقيمته الآن لا تزيد على أهمية «ضرب المثل» على قدرة الشعب على المقاومة. فلا شك أن الأدب المكتوب باللغة العربية الفصحى، قد شارك بنصيب موفور في «أعمال» المقاومة البطولية ضد الاستعمار الأجنبي والطغيان المحلي على السواء. بل إن هذا الأدب العربي «الفصيح» هو نقطة الارتكاز الرئيسية في النضال الشعبي المعاصر لسببين: أولهما أن انتشار التعليم باللغة العربية يمنحها الأولوية في حق التعبير. وثانيهما أن «وحدة المصير» التي تجمع الشعوب العربية من شأنها أن تعمل على توحيد أساليب النضال، ومن بينها لغة الأدب. ليس معنى ذلك أن اللغة الشعبية توقفت عن أداء دورها النضالي، أو أنه لم يعد لها دورٌ ما، وإنما أضحت اللغة العربية هي الركيزة الأساسية في أدب المقاومة العربية.
هذه اللغة الجامعة للوجدان العربي والذهن العربي لا «تميع» الصراع الاجتماعي في كل بلد عربي على حدة. ومن هنا كان البعد الاجتماعي في أدب المقاومة من الأبعاد الهامة التي تضاف إلى كل من البعد الإنساني والبعد القومي. نجيب محفوظ — مثلًا — يكتب باللغة العربية، وتوفيق الحكيم كذلك، ومعظم إنتاج يوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي، ومع هذا فالبعد الاجتماعي هو البعد الذي ينال تركيزًا واضحًا في أدب المقاومة عند محفوظ والحكيم وإدريس والشرقاوي. ولقد آن الأوان لأن نفرق بين الأدب الذي «يقاوم» قبل حدوث المحنة، وهو الأدب الذي يرتفع إلى مستوى النبوءة، والأدب الذي يقاوم «أثناء» المعركة وبعد الهزيمة أو النكسة، والأدب الذي «يؤرخ» للأزمة بعد انتهائها بوقت طويل أو قصير. هناك فرق كبير بين مؤلفات نجيب محفوظ التي كتبها قبل الثورة تدين الوضع الاجتماعي القائم وتقاومه في أفئدة الحكام والمحكومين، وبين المؤلفات العديدة التي صدرت بعد الثورة، تسجل جرائم الإقطاع والاستعمار والرأسمالية. هناك فرق كبير بين أعمال توفيق الحكيم التي ناضلت الاستعمار في مواقعه الفكرية الرابضة في قلوب بعض المثقفين وعقولهم، وبين الأعمال التي «أرخت» بعد الحصول على الاستقلال للوجود الاستعماري في بلادنا.
الفرق هو أن نجيب محفوظ في رواية «زقاق المدق» كان «يناضل» الاستعمار الإنجليزي بمصرع عباس الحلو وسقوط حميدة، وكان الاحتلال ما يزال جاثمًا على صدر مصر. الفرق أيضًا هو أن نجيب محفوظ في «ثرثرة فوق النيل» و«ميرامار» كان بمثابة النذير قبل النكسة التي نجتازها الآن. أي أنه كان على وعي نافذ البصيرة بما حدث — لا في التفاصيل وإنما في الخطوط العامة — من قبل أن يحدث. ألا يدعو إلى التأمل وفتح العينين على آخرهما أن نجد كاتبًا في مصر — كنجيب محفوظ — ينهي رواياته قبل الثورة بمصرع عباس الحلو وسقوط حميدة وانتحار حسنين وسقوط نفيسة، ويصبح هذا المجتمع في حالة «أزمة حادة» لا تنفرج إلا في ٢٣ يوليو، ألا يدعو إلى التأمل أن نقرأ في نهايات أحدث قصصه عن جريمة قتل يتنصل منها أهل العوامة العجيبة في «ثرثرة فوق النيل» وعن انتحار سرحان البحيري — محدث الاشتراكية والمنتفع بها — في رواية «ميرامار»؟ ما معنى ذلك؟ معناه أن نجيب محفوظ كان «يناضل» بأدبه أزمةً حقيقية في بناء هذا المجتمع من قبل أن تفصح هذه الأزمة عن نفسها بصراحةٍ قاسية. وهو ما يمكن أن يقال بصورةٍ من الصور عن بعض مسرحيات الحكيم مثل «السلطان الحائر» و«الصرصار ملكًا» و«رحلة قطار» و«رحلة صيد» و«كل شيء في محله»، ومسرحية عبد الرحمن الشرقاوي «الفتى مهران»، ومسرحية ألفريد فرج «حلاق بغداد»، و«مأساة الحلاج» لصلاح عبد الصبور. هذه الأعمال جميعها «قاومت» في أشكال متعددة ومن زوايا فكرية مختلفة، «قاومت» الأزمة من قبل أن تفصح عن نفسها علانيةً وفي صورة تراجيدية دامية.
هناك أيضًا من قاوم الأزمة يوم أعلنت عسكريًّا عن نفسها صباح ٥ يونيو، بأن ظهرت عشرات الأغاني والألحان، بل القصص والمسرحيات التي كتبت في ساعات معدودة، ومعظم هذه الأعمال — للأسف — لا يندرج في باب «الأدب» أو «الفن» وإن كان من اليسير أن نعده من «المقاومة» درجة أو درجات. فكلمة «الأدب» تعني تلقائيًّا القدرة على البقاء والصمود أمام الزمن. وكم من أعمال في آداب الأمم الأخرى كتبت أثناء الحروب الطويلة، وكتب لها في نفس الوقت البقاء الطويل. ذلك أنها لم تكتب تحت ضغط اللحظة العابرة وحدها، وإنما كُتبت في ظل «الحرب» عمومًا بكل ما تعبر عنه هذه الكلمة من معانٍ كبرى في قاموس الإنسانية. أما نحن فلم يبقَ لنا من الأعمال التي كُتبت خلال حرب السويس عام ٥٦ سوى أقل من القليل، بالرغم من أنه لم يمضِ عليها سوى عشر سنوات أو أكثر قليلًا، فماذا يكون الأمر بعد خمسين عامًا؟ بالطبع، لن يبقى شيء منها، لأنها أُنجزت لمجرد «المقاومة» فحسب، ولم يفكر أصحابها لدقيقةٍ واحدة أنهم يكتبون «أدبًا» و«فنًّا».
هذا هو الفرق بين مسرحية عظيمة كُتبت أثناء المقاومة الفرنسية ضد النازي، هي «الذباب» لسارتر، ومسرحية أخرى كسيحة عن «شهوانية» الجنود الإنجليز و«بلطجة» الجنود الفرنسيين و«غطرسة» الأتراك و«دموية» الرومان و«همجية» الهكسوس، إلى غير ذلك مما تُغرقنا به شاشة التليفزيون وخشبة المسرح ومحطة الإذاعة. أي أنه من الممكن أن يكون هناك «أدب» أثناء المقاومة، بل هو الأدب الأكثر فعالية في قلوب الجماهير التي تقاوم. والجائزة الكبرى التي ينالها هذا الأدب الثوري النابع من أرض المعركة وضمير الفنان وإخلاصه هي أن بقاءه يطول على الزمن، ويمتد أثره إلى مناطق أخرى وعصور ما تزال «مقاومتها» في حاجة إلى الإمدادات الروحية والفكرية. هي أيضًا الأدب الذي يضيف إلى رصيدنا الثوري من الفكر والفن ما يصوغ لنا تراثًا حيًّا باقيًا متجددًا. ولعل نجاح تجربة «من أب مصري إلى الرئيس ترومان» هي التي أوحت إلى عبد الرحمن الشرقاوي أن يكتب رسالته إلى جونسون، ولكن القصيدة الأولى بالرغم من مضي خمسة عشر عامًا عليها هي التي تحمل في ثناياها أعمق وشائج الصدق والأصالة والحرارة، بينما القصيدة الجديدة أقبلت «شبحًا» للأولى أو امتدادًا كميًّا لا يطوي في تضاعيفه همزات الوصل العميقة بين «المناضل» المصري وبقية المناضلين في جميع أنحاء العالم.
أما أدب المقاومة الذي يكتفي بالتأريخ لحركات المقاومة السابقة، فإنه يكتفي في نفس الوقت «بضرب المثل» على البطولة إذا عاودتنا المحن من جديد. وهو يرتفع أحيانًا إلى مستوًى رفيع كالمستوى الذي بلغته ثلاثية «بين القصرين» لنجيب محفوظ، و«سليمان الحلبي» لألفريد فرج، و«الحصاد» لعبد الحميد السحار، و«في بيتنا رجل» لإحسان عبد القدوس، وتهبط أحيانًا أخرى إلى مستوًى يبتذل فيه الكاتب نفسه حين يتجرد من «موضوعية الفن» وينزلق إلى النفاق الرخيص. إن أعمالًا عظيمة مثل «دروب الحرية» لسارتر، و«المثقفون» لسيمون دي بوفوار، و«نهر الدون ينساب في هدوء» لشولوخوف، و«الحرب والسلام» لتولستوي، وغيرها، ستظل بمثابة الوثائق غير القابلة للفناء في تسجيل الصراع البطولي للإنسان على ظهر هذا الكوكب.
هذه هي الأبعاد الثلاثة الرئيسية لكل أدب يتمتع بصفة «المقاومة»، سواء كانت هذه المقاومة «إنسانية» مطلقة، أو «قومية» محددة، أو «اجتماعية» ذات صبغة شعبية، فهذه الأبعاد قد تتجاور إلى جانب بعضها البعض في العمل الأدبي الواحد، ولكن الفنان يركز على إحداها وفق موهبته الفنية وزاويته الفكرية معًا. وأدب المقاومة إذن لا يقتصر على ما يُسمَّى بالأدب الشعبي، ولا يقتصر على ما يُسمَّى بالأدب الوطني، لأن المقاومة أرحب من أن تنحصر في هذه الدائرة المغلقة أو تلك. فإذا أضفنا أن الأدب في ذاته بدأ تاريخه «نشاطًا مقاومًا» تأكد لنا بما لا يدع مجالًا للشك أن دور الأدب في الحياة أكبر من أن ينكره أحد، وتأكد لنا أن هذا الدور هو توليد الصراع في نفس الإنسان إذا خلت منه، وتجديد حس المقاومة إذا كان هذا الحس قد خبا مع الأيام.
وفي عالمنا المعاصر تنشط حركة أدبية «عالمية» في مقاومة الاستعمار الأمريكي الذي هو بدوره ظاهرة «عالمية». هنا لا يقتصر دور الأدب على الوصف والتسجيل، بل يتجاوز هذه الخطوة اليسيرة الهينة إلى ما هو أكثر جدوى وعمقًا، فآلاف القصائد والقصص والمسرحيات التي يكتبها الأدباء في الصين وفيتنام وأوروبا وأفريقيا والاتحاد السوفييتي، لا تكتفي بأن ترفع إصبع الاتهام الشهير الذي رفعه زولا في قضية دريفوس، بل هي لا تعمد إطلاقًا إلى عقد المحاكمات الشهيرة التي يقيمها برتراند راسل ضد الحرب في فيتنام، كلا، إن أدب مقاومة الاستعمار الأمريكي في عالمنا المعاصر يقوم الآن بما هو أجل وأخطر؛ إنه يصفي التركة الفكرية والوجدانية التي تركها هذا الاستعمار في «داخل» البشر الذين استعمرهم والذين لم يستعمرهم. إنه يصفي «العقلية الأمريكية» و«الشعور الأمريكي» اللذين سادا ويسودان الإنسان الحديث هنا وهناك، هذه التصفية الداخلية للاستعمار الأمريكي هي النسيج الرئيسي للأدب الذي يكتبه كل أديب مناضل في عالم اليوم، فلا يكفي «الحماس» لطرد الاستعمار الأمريكي من هذه البقعة أو تلك، وإنما لا بد من «الوعي» بمكونات هذا الكابوس الفكرية والشعورية؛ فالتطهر منها هو أولى الخطوات الجادة إلى المقاومة. إن هذا الوعي هو ما يميز أدب المقاومة العظيم عن أدب المناسبات السريع الزوال.