رمز البطولة في قصص المقاومة
قصة البطولة وقصة المقاومة ليستا مترادفتين. على أنه إذا اقترنت قصة البطولة بقصة المقاومة فإننا نحصل حينذاك على قصة من أروع القصص، طالما كان كاتبها قد أُوتي من الموهبة الفنية والقدرة ما يرتفع بها إلى مستوى العمل الإنساني الناضج. فلعل الرواية أو القصة القصيرة على السواء تمتلك ناصية الإطار المتسع أو القالب المستريح، الذي يتيح للكاتب فرصة المعالجة المستأنية، ويباعد بينه وبين الاندفاع كما هو الحال في الشعر مثلًا. أي أنه في إمكان القصة أن تتجاوز ضرورات اللحظة العابرة والانفعال الطارئ، وأن تتجه مباشرةً إلى صميم القضية وقلب المشكلة. وهي من هذه الزاوية أيضًا تختلف عن فنٍّ آخر كالمسرح تدور أحداثه حول «تجسيم» الأزمة، فيظل النسيج الدرامي — بطبيعته — أسيرًا لهذا المعنى من معاني البطولة مهما تعددت الزوايا الفكرية والفنية التي يرى منها الكاتب المسرحي هذه «الأزمة». أما في القصة فالوضع يختلف لأنها تستخدم فنيًّا مختلف أدوات التعبير والصياغة من السرد النثري الصرف، إلى المونولوج ومقطوعاته القريبة من الشعر، إلى الديالوج في حوارياته التي تلج أبواب الصراع الدرامي، وهكذا، فالقصة — وقد اكتملت لها هذه المميزات جميعها — تتمتع بحرية الحركة في الأداء، إلى الدرجة، التي تقترب من هذه الحركة في الطبيعة. إن القصة بين فنون الأدب هي المرادف «البسيط» للسينما أو الكاميرا السينمائية بين الفنون الصناعية المركبة. لا يعني هذا أن القصة مرآة الطبيعة كما قيل في القرن الماضي، وإنما هي تملك إحدى الخصائص الهامة في الطبيعة؛ وهي «حرية الحركة» التي يبلغ مداها، وفق المذاهب الفنية المختلفة، أن تحاول «محاكاة» الواقع أحيانًا، وأن «تخلق» واقعًا جديدًا أحيانًا أخرى.
أقول إن هذه السمة البارزة في الأدب القصصي، من أهم العوامل التي أسهمت في صياغة «بطولة المقاومة» على نحوٍ غاية في التركيب، بحيث غدت هذه البطولة في قصص المقاومة «رمزًا»، لا «صورة» شعرية، أو «أزمة» مسرحية. فحين تتعدد الأبعاد الشاملة لمعنى البطولة لا يبقى أمام الكاتب إلا أن «يرمز» إلى هذا المعنى، بدلًا من الاقتصار على بُعد دون آخر وبدلًا من الإغراق في واقعيةٍ تقرب من حافة الابتذال. إن تعدد الأبعاد في القصة الواحدة لا ينفي «التركيز» على أحدها، ولا ينفي كذلك أن هناك قصةً ترتفع إلى مستوى «النبوءة»، فهي تومئ بروح الأحداث دون أن تغمس إشاراتها في مادة الواقع، وهناك القصة التي تسهم مباشرةً في أعمال المقاومة من موقع «لحظة الحضور»، وهناك القصة التي تؤرخ لمقاومةٍ مضت ولكنها تشحذ القلب والعقل في كل زمان ومكان.
وليس من الغريب أن نجد كاتبًا من فرنسا — على سبيل المثال — كمالرو يصوغ روايته «الوضع الإنساني» من نسيج المقاومة البطولية للشعب الصيني في بدايات الربع الثاني من هذا القرن. كما نجد في نفس الوقت كاتبًا من الولايات المتحدة الأمريكية مثل شتاينبك يستمد «أفول القمر» من نضال الشعب النرويجي ضد النازي إبان الحرب العالمية الثانية. أي أنه على الرغم من المضمون «القومي» لأية قصة من أدب المقاومة فإنه من الممكن للبعد الإنساني أن يجذب كاتبًا إلى بطولةٍ بعينها قد لا يكون منتميًا إلى قوميتها. وليس صحيحًا ما يقال من أن الكاتب الغربي قد رأى في الحرب «العالمية» الأخيرة مضمونًا «عالميًّا» صالحًا للتشكيل بأية ألوان قومية، فالنازية والفاشية عدو واحد مشترك لكل شعوب العالم، وبالتالي فإن كاتبًا روسيًّا — مثل أهرنبورج — يستطيع أن يكتب «سقوط باريس» لمجرد أن البلاء القادم سوف ينزل بفرنسا وروسيا معًا، ليس هذا صحيحًا لأن العنصر الإنساني الجاذب لاهتمام كاتب ما بمقاومة شعب لا ينتمي إليه، أكبر وأعمق من العنصر السياسي المشترك «الحرب العالمية ضد النازي». إن العنصر الإنساني الأشمل هو العنصر الذي نراه في قصة مالرو عن الصين، وفي قصة مانين عن فلسطين، ولم تكن مقاومة الصين أو مقاومة فلسطين جزءًا من المقاومة العالمية ضد الفاشية.
ولنبدأ بقصة جون شتاينبك التي كتبها أثناء الحرب، فهي من هذه الزاوية لا تؤرخ للمقاومة ولا تمهد لها، وإنما هي قد واكبت إحدى مراحل الكفاح الدامي للشعب النرويجي في بداية الغزو النازي للنرويج، وهي القصة التي أثارت الفاشست ضد جون شتاينبك للدرجة التي معها حكموا عليه بالإعدام، وظل هذا الحكم معلقًا فوق عنقه إلى أن اندحرت الهتلرية والموسيلينية إلى غير رجعة، وبقيت هذه الرواية الرائدة لتلعب دورًا جديدًا في حياة جون شتاينبك نفسه؛ فقد مضت الأيام وأصبحت القصة حكمًا معلقًا فوق عنقه، ولكن ليس بسبب وقفته السابقة إلى جانب الحق والعدالة وإنما كدليل إدانة لكاتب تخلى عن قضية الشعوب وتحول إلى معسكر أعداء الشعوب يدبج المقالات ضد شعب فيتنام و«مقاومته» و«بطولاته». أي أن جون شتاينبك الحالي يقف على الطرف النقيض من جون شتاينبك «أفول القمر»، على أن روايته هذه تظل بالرغم من تحوله إلى موقع العدو تؤدي دورها الخلاق في صفوف المقاومة البطولية التي تخوضها الشعوب في عصرنا ضد كافة أشكال النازية الجديدة، ولعل هذا ما يؤكد الاستقلال النسبي للعمل الفني في أداء دوره الخاص بمعزلٍ عن أهواء صاحبه بمجرد خروجه من حوزته.
تبدأ «أفول القمر» بهذه العبارة الحاسمة كنصل السكين: «كان كل شيء قد انتهى عند الساعة العاشرة والدقيقة الخامسة والأربعين، لقد احتُلَّت البلدة، وهُزِم المدافعون عنها، وانتهت الحرب.» وهكذا يبدأ الكاتب قصته من لحظة دامية حزينة، بل هي أعمق اللحظات جميعًا؛ لحظة الهزيمة. وقد اختار جون شتاينبك منذ البداية شعبًا مسالمًا هادئًا مستقرًّا لم يعرف الحرب منذ قرون؛ هو الشعب النرويجي. ويبدو لنا هذا الاختيار موفقًا إلى أبعد الحدود؛ لأنه يؤكد لنا في النهاية حقيقةً هامة من أخطر الحقائق البشرية، وهي أن «الغزو» لا يقابَل بالاستسلام من أكثر الشعوب هيامًا بالسلام وابتعادًا عن روح الحرب، وقد اختار شتاينبك لأحداث روايته بلدةً صغيرة يعسكر الجيش الغازي في وسطها بلا جبال ولا غابات ولا أدغال. ويبدو لنا هذا الاختيار أيضًا موفقًا إلى أبعد الحدود، لأن «الطبيعة» لم تشارك البشر في مقاومتهم للعدو، بل استطاع البشر وحدهم أن يحيلوا حياة الغزاة بينهم إلى جحيم لا يطاق. واختار جون شتاينبك بعد ذلك شخصياته من الناس البسطاء الذين يمكن أن نلتقي بهم في هذه البلدة ومثيلاتها: رئيس البلدية، الطبيب، خادم، رئيس البلدية وزوجته، عامل منجم وزوجته، وأشباههم من أبناء الشعب المهزوم. وفي الجانب الآخر نجد: قائد الحامية التي استولت على البلدة، ومجموعة من مساعديه العسكريين الذين تتفاوت رتبهم العسكرية، وجاسوسًا مدنيًّا واحدًا مهَّد لهم السبيل للغزو.
ولا يعمد جون شتاينبك إلى حدث روائي ضخم تدور من حوله بقية «التفاصيل»؛ لأنه يعمد أولًا وأخيرًا إلى هذه «التفاصيل» بعينها ليجعل منها الحدث الأكبر الذي يشغل بال الغزاة والمغزوِّين على السواء. وشتاينبك لا يؤسس بناءه الروائي على قطعةٍ نادرة من الصخر الأثري لأنه يبحث أولًا وأخيرًا عن المعدن العادي والمألوف في حياة البشر، قوتهم وضعفهم جنبًا إلى جنب، حتى ينتهي إلى أن «الطبيعة البشرية» في ذاتها ترفض الضيم، ولا يجب أن يقال إن هناك «طبيعة عبقرية» هي وحدها القادرة على مقاومة الأعداء تتمثل فيما نسميهم «أبطالًا» ينسج الخيال حولهم الأساطير. لقد حدد الكولونيل لانسر قائد الحملة موعدًا للقاء رئيس البلدية أوردين، ويستقبل جون شتاينبك هذا اللقاء بمزيج من «الإنسانية» التي تتبدى في قول الدكتور وينتر «نحن رائعون جدًّا. إن بلادنا تسقط في يد الغزاة، وبلدتنا قد احتُلَّت، ورئيس البلدية على وشك أن يقابل الفاتح، ومع ذلك فالسيدة زوجته تأخذ بخناق الرئيس المتملص من بين يديها وتنزع الشعر من أذنيه.» بينما يضيف في نفس الصفحة قليلًا من «الرمز» حين يدخل الغرفة أحد الجنود تمهيدًا لدخول القائد: «لقد بدا وكأن شيئًا من الضوء الدافئ قد فارق الغرفة، وحلت محله ظلمة طفيفة.» وقدم القائد إلى الرئيس أوردين كافة «الاحترامات» والمبررات التجارية والهندسية التي دعت إلى هذه «الزيارة» بصورةٍ يعتذر عما حدث في بدايتها من «مظاهر» مؤلمة؛ إذ قتل من جنود البلدة ستة وجرح ثلاثة وهرب الآخرون، إلى أن أضاف: «وهذه المسألة كلها مهمة هندسية أكثر منها غزوًا عسكريًّا.» ولهذا السبب يرى القائد الألماني الإبقاء على «السلطة المحلية» كما هي؛ لأن الشعب يثق فيها، وبالتعاون المتبادل يمكن أن تسير الأمور سيرًا حسنًا. ومن هنا يجيء الاقتراح بأن ينزل القائد وأركان حربه في قصر رئيس البلدية إمعانًا في كسب ثقة الشعب. وتذهب اعتراضات الرئيس أوردين أدراج الرياح: «ولكن شعبي قد انتخبني. لقد رفعوني إلى هذه المرتبة وفي استطاعتهم أن ينزلوني»، «إن شعبي لا يحب أن يفكر الآخرون له»، «البلدة هي صاحبة السلطة». ويصاب أهل البلدة بوقع المفاجأة فيما يشبه الذهول، ولكن القائد المحنك لا يستسلم لهذا الوجه السلبي الذي يستهين به بعض مساعديه، فهو يرى أن الهزيمة شيء مؤقت، لا تدوم، والاستماع إلى ما يتهامس به الأهالي خلف الأبواب أكثر جدوى. إنه يذكر الحرب الأولى وكيف أنه شاهد في بروكسل امرأةً عجوزًا أُعدم ابنها في حركة المقاومة «حتى إذا قتلناها آخر الأمر رميًا بالرصاص كانت قد قتلت اثني عشر رجلًا بدبوس قبعة طويل أسود». ولم تتوقف بعد إعدامها حوادث القتل «وحين انسحبنا آخر الأمر أهلك الشعب التائهين، وأحرق بعضهم، وفقأ أعين بعضهم، بل إن نفرًا آخرين صُلبوا صلبًا». ولم يكد يتم ذكرياته حتى قاطعه نبأ هزَّه من الأعماق؛ فقد قُتل الكابتن بانتيك، قتله أحد عمال المناجم. وهكذا — يقول لانسر — «تبدأ القصة من جديد. سوف نقتل هذا الرجل رميًا بالرصاص ونخلق عشرين عدوًّا جديدًا.» ولقد تكاثر الأعداء يومًا بعد يوم حتى فارقت الدهشة والذهول عيون الناس، وكانت «آني» زوجة جوزيف خادم الرئيس أوردين رائدة العداء للغزاة، وبدأت مقاومتها بإلقاء الماء المغلي على رءوس الجنود من النافذة. وكانت «مولي» زوجة ألكس العامل الذي أعدموه هي ثانية الرواد في مقاومة الغزاة، بدأت مقاومتها باغتيال الملازم توندر الذي ذهب إليها في خلوة بقصد «الحب»، كما بدأت المقاومة بتخصيص بيتها للاجتماعات السرية. وكان الرئيس أوردين هو أبرز شخصيات المقاومة التي ظلت في الظل طيلة أحداث الرواية — من قبيل الخداع الفني — حتى أعلنت النهاية أن هذا الرجل كان عقل الشعب وضميره، وما إن اكتشف الغزاة سره حتى قادوه إلى المصير المحتوم. جون شتاينبك إذن لم يركز الأضواء على فرد من الأفراد، وإنما وزَّعها بالتساوي بين الجميع؛ فقد شارك الشعب بأسره في مقاومة المحتل، كل فرد حسب موقعه من التخطيط الذي قاد المقاومة. ولربما يختلف دور الشعوب بعضها عن بعض كما يختلف دور الأفراد أثناء مقاومة أحد الغزاة، ولكن هذا يصنع «تمايزًا» بين شعب وشعب، أو بين فرد وفرد، وبالتالي — في رأي شتاينبك — لا مجال للبطولة الفردية أثناء حركة المقاومة لأنها بطبيعتها حركة جماعية. وتتحول البطولة — في أفول القمر — إلى بطولةٍ جماعية، بطولة الشعب المسالم الذي رفض أن يستسلم. ويرمز شتاينبك إلى هذه البطولة من عدة جوانب، لا عن طريق الأنماط النموذجية، وإنما عن طريق الشخصيات الحية التي تعيش المقاومة جنبًا إلى جنب مع حياتها الخاصة. أي أنه يميل إلى «أنسنة» النموذج البشري بدلًا من نمطيته ذات البعد الواحد. إننا نتابع جوزيف خادم الرئيس أوردين في حياته الخاصة مع زوجته آني، أي مع اللحظات العادية المألوفة، كما نتابعها في نفس الوقت باهتمام أكبر حين تثور، آني إذ يحكم العدو بالإعدام على ألكسندر عامل المنجم الذي قتل الضابط بانتيك، تقول لجوزيف: حسنًا، سترى. إذا مسوا ألكسندر بسوء فسوف يجن جنون الشعب، وسوف يجن جنوني. أنا لن أتسامح في ذلك.
فسألها جوزيف: ما الذي ستفعلينه؟
فقالت آني: سوف أقتل بعضهم بنفسي.
فقال جوزيف: وعندئذٍ يقتلونك رميًا بالرصاص.
– فليفعلوا. أقول لك يا جوزيف، في استطاعة الأشياء أن تذهب إلى بعيد جدًّا، أن يقضوا ساعات الليل كلها متجولين، قاتلين الناس رميًا بالرصاص.
ولم يكن جوزيف في كل تساؤلاته مجرد رجل يريد أن يعرف آراء زوجته بل كانت له هو أيضًا آراؤه الخاصة، تلك التي قذف بها دفعةً واحدة في وجه آني صارخًا: «الناس يتكتلون، إنهم لا يريدون أن تُغزى بلادهم. إن أشياء سوف تقع قريبًا. افتحي عينيك جيدًا. سوف تكون ثمة أشياء تقومين بها أنت.»
هذا هو الرمز الأول في الرواية، ولكي يؤكد شتاينبك أكثر فأكثر أنها بطولة الشعب بأجمعه، فإنه يصوغ موقف جوزيف وآني من خلال التشابك المعقد بينهما وبين إعدام ألكسندر وبطولة مولي زوجته التي اغتالت الملازم توندر. إننا لا نستطيع أن نعزل الخيط الذي ينسج به الكاتب شخصية ألكسندر عن الخيط الذي ينسج به شخصية جوزيف، كما أننا لا نستطيع أن نعزل هذين الخيطين عن خيطَي آني ومولي. إن هذه الخيوط الأربعة تشكل فيما بينها نسيجًا واحدًا يمكننا أن ندعوه بنسيج «الفئات الشعبية» المشاركة في المقاومة من موقعها الخاص في إطار الكفاح القومي ككل. أي أن هذا الرمز في «أفول القمر» هو البعد الاجتماعي في الرواية كما تصوره شتاينبك؛ إن هذه الفئة من فئات الشعب هي أكثرها صلابةً وقدرةً على الصمود، لأنهم أصحاب المصلحة الرئيسية في طرد الغزاة.
أما الرمز الثاني فقد مثله رئيس البلدية أوردين والطبيب وينتر. إنهما من المواطنين الذين لا يفرطون في شبر واحد من أرض الوطن، ولكنهم يبذلون غاية الجهد للبحث عن «حلٍّ سلمي» يكفيهم عناء المقاومة المسلحة. أوردين يرفض أن يكون رئيسًا للمحكمة التي نطقت بالإعدام على ألكسندر، ولكنه يتساءل عن الطريق الذي ينبغي عليه أن يسلكه لتحرير البلدة من المحتل الأجنبي، وهو يكتفي في معظم الأحوال بكلمتين اثنتين «لست أدري». ويكاد الدكتور وينتر أن يصل إلى حافة اليأس حين يقول في صراحةٍ قاسية: «ليس أمام الشعب أية فرصة للقتال. وليس قتالًا أن يتصدى الإنسان للمَدافع الأوتوماتيكية.» إن وينتر بهذه الكلمات لا يرفع الراية البيضاء، وكذلك أوردين فإنه لا يستسلم، ولكنهما معًا يعبِّران عن هذه الشريحة الاجتماعية من الطبقة الوسطى، حيث تغزوها وقت الأزمات أفكار الشك وأحيانًا اليأس، ولكن هذه الشريحة بعينها حين تفاجأ بالواقع الذي يخلق من إرادة الشعب في المقاومة أسلحةً جديدة لم تخطر على بالهم من قبل، فإنهم لا يقفون من المشهد الجديد موقفًا سلبيًّا، بل هم يؤازرون حركة المقاومة ويتصدون أحيانًا كثيرةً لقيادتها. وهذا ما حدث بالفعل حين فوجئ «أوردين» ووينتر بأن غشاوة الذهول قد انجابت عن العيون وحل مكانها شيء كالغضب، وتكررت حوادث القتل السري والعلني لجنود الاحتلال، وتكررت حوادث التخريب للسكك الحديدية والمنشآت العسكرية، وتبلورت — وهذا هو الأهم — في وجوه البشر وعيونهم معانٍ جديدة لم تعرفها حياتهم السلمية فيما مضى. وحينئذٍ يتغير موقف أوردين من الكلمتين «لست أدري» إلى قوله في وداع ألكسندر: «ألكس، اذهب وأنت عالم أن هؤلاء الرجال لن ينعموا بالراحة. لا راحة لهم على الإطلاق حتى يذهبوا أو يموتوا.» وهكذا نتابعه وهو «يتحرك» في الظلام من بيت إلى بيت، ومن اجتماع إلى آخر، حتى زادت حوادث القتل وارتفعت نسبة التخريب المنظم، وتحددت وسائل المقاطعة التامة للغزاة الذين أدركوا الشكل الجديد للمقاومة، فراح بعضهم يهمس: «هذا الشعب المخيف، والبنات المثلجات.» حتى فقد أحد الضباط أعصابه واتهم نفسه بالهزيمة أمام هذا «الصمت» و«البغض» و«التجاهل» ثم انهارت الأعصاب تمامًا وأخذ في الصراخ القريب من الهذيان: «هذا هو. إن العدو في كل مكان. كل رجل، كل امرأة، وحتى الأطفال.» ويفكر لحظةً ويتأمل لحظاتٍ ويقهقه في هستيريا لأن التقارير الواردة من الخارج تقول إن الشعوب تهتف لزملائه، ولعل التقارير الصادرة من هنا إلى الخارج تردد نفس العبارات، أما الحقيقة فإنها شيء آخر، الحقيقة في عيون هؤلاء الناس المخيفين المتربصين في الثلج.
وهذا هو الرمز الثالث والأخير في قصة شتاينبك. الرمز الذي يشير به إلى التناقض الحاد بين إنسانية العدو والتزامه العسكري، بين عقله ووجدانه، ونحن نلتقط هذا الرمز من الكلمات التي تشبه المونولوج الداخلي على لسان القائد «صاحب الذكريات» ومن الكلمات التي تشبه الهذيان وتبلغ حد الهستيريا عند الضابط الذي يجاهر علانيةً برغبته في العودة إلى الوطن «ويكون في مقدوري أن أدير ظهري للناس من غير أن أخاف أذًى ما»، «فتحنا البلاد وها نحن أولاء خائفون، فتحنا البلاد وها نحن أولاء مطوقون». ويصرخ مشدوهًا بحلمٍ اجترأ على نومه رأى فيه «الزعيم» مجنونًا، ويرسم شتاينبك مفارقةً موحية إلى أبعد الحدود، فيكون نصيب هذا الضابط بالذات، القتل على يدي المرأة الجميلة التي أراد أن يحبها، ولم تكن سوى مولي زوجة ألكسندر.
ولا تنتهي القصة بانتصارٍ أو هزيمة؛ فقد آثر الكاتب أن يعلق أنفاسنا مع احتدام حركة المقاومة، وأوردين يردد: «لقد غُزِي شعبنا، ولكني لا أعتقد أنه قهر.» بالرغم من أن قوات الغزو تنبهت أخيرًا إلى «تحركات» أوردين وبالرغم من أنها قررت اعتقاله كرهينة لعلها تخفف من وطأة المقاومة. ولكن وينتر الطبيب — اليائس فيما مضى — هو الذي يعلق على الموقف كله قائلًا: «إنهم يظنون لمجرد أن لديهم زعيمًا واحدًا ورأسًا واحدًا أننا نحن أيضًا كذلك. إنهم يعلمون أن عشرة رءوس تقطع منهم خليقة بأن تحطمهم. ولكننا شعب حر. إن عندنا من الرءوس بقدر ما عندنا من الناس، وفي وقت الحاجة ينبع الزعماء بيننا كما ينبع نبات الفطر.» وأوردين يعلم — ونحن معه — أن المصير الوحيد الذي ينتظر الرهائن هو الإعدام، ولكنه يمضي في طريقه — حزينًا حقًّا وآسفًا على دنو الأجل بهذه السرعة — يمضي قائلًا إن رئيس البلدية «فكرة» في خاطر الرجال الأحرار، وليس في ميسور أحد أن يلقي القبض عليها «أنا رجل صغير، وهذه بلدة صغيرة، ولكن يجب أن تكون ثمة شرارة في الرجال الصغار يمكن أن تنفجر إلى لهب»، «الرجال الأحرار لا يستطيعون أن يبدءوا حربًا، ولكن ما إن تُشن الحرب حتى تتم لهم القدرة على القتال في غمرة الهزيمة.»
وتلك هي القيمة الكبرى، والرئيسية، والرئيسية، التي يجند لها شتاينبك رموزه الثلاثة، وهي القيمة التي تتجاوز بشمولها معركة إحدى بلاد النرويج، كما تتجاوز المعركة ضد النازي، ذلك أنها تستمر في خيال البشرية وتاريخها رمزًا أبديًّا لبطولة الإنسان في مقاومة القهر، وهو ليس رمزًا مجردًا، بل هو الرمز الشامل للرموز الثلاثة التي استخلصَتها رواية «أفول القمر» من أرض البشر وواقعهم. وهو ليس رمزًا لأحد الأبعاد التي نسجها شتاينبك بدقة وإتقان، وإنما هو رمز الأبعاد الثلاثة: الإنساني والقومي والاجتماعي، وإن بلغت عملية النسيج درجةً من المهارة لا تمنح بعدًا واحدًا فرصة الانفراد بالضوء المركز. والقصة — لهذه الأسباب — قد تكون روائيًّا هي قصة «المواكبة» لمقاومة أحد الشعوب، لا تمهد أو تتنبأ، كما أنها لا تسجل أو تؤرخ، ومع ذلك فإن قيمتها الكبيرة الباقية، أنها استطاعت بعد أداء دورها السابق الذي حكم على مؤلفها بالإعدام في حينها من أجله، أن تتجاوز الزمان والمكان وتمتلك القدرة على القيام بالأدوار الثلاثة في وقتٍ واحد؛ فهي ما تزال تمهد الطريق للثوار ضد الظلم بما تحمله في طياتها من خبرات نضالية، وهي تواكب مقاومة الشعوب ضد القهر الحديث كما واكبت مقاومة القهر القديم، وهي تؤرخ لإحدى المراحل الدامية في تاريخ الإنسان.
•••
على غير هذا النحو يعالج أندريه مالرو هذه القضية في روايته الملحمية «الوضع الإنساني» فهو إذا كان يشترك مع شتاينبك في اصطناع تلك المسافة الموضوعية التي تفصل الكاتب عن خامة التجربة — حيث تدور أحداث «الوضع الإنساني» في الصين، كما دارت من قبل أحداث «أفول القمر» في النرويج — فإن مالرو يعود فيختلف مع شتاينبك في أشياء كثيرة. هو حقًّا يوزع أضواءه بالتساوي على الأبعاد الثلاثة الكبرى: الإنسانية والقومية والاجتماعية، وهو حقًّا لا يصوغ على طول الرواية بطلًا فردًا يعيش وسط الأحداث كمحورٍ وحيد. ومع هذا فهو يتناول البعد الإنساني بمنظار جديد، لا يبحث من خلاله على ما هو مجرد وعام ومشترك بين البشر جميعًا، يتجاوز به الإنسان حدود الزمان وأسوار المكان، بل هو يبحث عن «إنسانية الإنسان» من خلال تجربة الفرد الموغلة في الذاتية والتخصيص. من هنا لا يميل مالرو إلى تحريك الجماعات بكاميرا سينمائية، وإنما يميل إلى التوقف عند فرد من الأفراد — لا يأتي بطولات خارقة عن العادي والمألوف — ويحاول جاهدًا أن يستكشف أعماق هذا الفرد بأن يضعه في «موقف»، وبمعنًى أدق في «تجربة». هكذا نراه يضع «تشن» في تجربة مع الموت، ويضع «كيو» في تجربة مع الحرية الشخصية، ويضع «جيسور» في تجربة مع الألم، بل إنني أذهب إلى بعيد وأقول إن مالرو لم يكتب «الوضع الإنساني» عن المقاومة الصينية، ولم يكتبها «للمقاومة»، وإنما كتبها «في» المقاومة، أي أن المقاومة عنده كانت «التجربة الشخصية» للأفراد، ولم تكن قط المادة الخام. كانت المقاومة هي «المرآة» التي وقفت عندها كل شخصية من شخصيات الرواية طويلًا، أو قليلًا، مباشرةً أو بصورةٍ غير مباشرة، على مسافة بعيدة أو قصيرة، من زاوية تظهر صفحة الوجه الجانبية أو من مواجهة أمامية تظهر الوجه كاملًا، إلى غير ذلك من الأوضاع التي اتخذها كل منهم تجاه المرآة وفق ظروف عديدة أسهمت في تكوينه وفي وقفته أمام المرآة. ولكنها مرآة من نوعٍ خاص، هذه التجربة التي يدعونها المقاومة، فهي لا تصور السطح الخارجي، وإنما تلتقط أدق الشعيرات الدموية الصانعة للكائن، والخالقة لمساره في هذا الوجود، وسرعان ما يتبين لنا أن هؤلاء الذين بدوا لنا في سلوكهم اليومي أفرادًا عاديين لا يأتون شيئًا غريبًا غير مألوف، يتبين لنا جوهر بطولتهم «الإنسانية» ومعدنهم النادر غير المألوف. ومالرو يقول لنا في هذا الصدد إن البطولة ليست امتيازًا لطائفة من الناس دون غيرها من البشر، ويردف أن البطولة في ذاتها ليست هدفًا يسعى الناس وراءه، وإنما البطولة هي التي تسعى وراء البشر، تلاحقهم في حياتهم وموتهم، في مختلف ألوان المتعة والألم، ولكن هذه الملاحقة لا تثمر في كل فرد، وفي كل لحظة، وفي كل تجربة، بطولةً من البطولات. وإنما يتعين أن تكون هناك مجموعة من الشروط الموضوعية التي تخلق البطولة، مهما تناقضت النتائج مع الأسباب، ومهما أدى هذا التناقض إلى خلق أبطال رغم أنوفهم، أو حرمان آخرين من بطولة يستحقونها. ومهما أدى هذا التناقض أيضًا في أحيانٍ كثيرة إلى تمزيق البطل والانتهاء بقصته إلى نوع من البطولات التراجيدية.
و«الوضع الإنساني» هي ملحمة النهاية التراجيدية الحادة للنضال الشيوعي في الصين إبان المرحلة التي انحرف فيها الحزب انحرافًا يساريًّا مدمرًا، وهي المرحلة التي يؤرخ لها بعام ١٩٢٧م. وكان مصدر هذا الانحراف هو الإصرار على تحقيق الثورة الاشتراكية في ظل مناخٍ سياسي واقتصادي واجتماعي لم يتهيأ بعدُ إلا للثورة الوطنية، وهي الثورة التي شارك فيها الشيوعيون، ولكنهم لم يكونوا وحدهم، وإنما شاركهم حزب تشانج كاي تشيك المعبر عن البرجوازية الصينية التي تناقضت مصالحها حينذاك مع مصالح الاستعمار. وحين أحس الحزب البرجوازي بأن الشيوعيين يهدفون إلى تصفية البرجوازية أثناء تصفية الاستعمار، باغتهم تشانج كاي تشيك بمذبحةٍ أسطورية في «شنغهاي» قضت عليهم جميعًا. ومالرو لا تعنيه تفاصيل هذه المذبحة في كثير أو قليل، وإنما يعنيه هذا التشابك المعقد الذي أدى إليها، وانعكاسات هذا التعقيد على وجدان الأفراد الذين وهبوا حياتهم من أجل «الصين» المستقلة، والاشتراكية في آنٍ واحد.
وعلى النقيض من «أفول القمر»، حيث يميل كاتبها إلى نوع من التبسيط يلجأ مالرو في «الوضع الإنساني» إلى نوع من التركيب، وبصورةٍ عامة يمكن أن يقال إن أحداث المقاومة البطولية في هذه الرواية تدور بين فريقين: الأول هو الكتل البشرية الرابضة خلف مصانع النسيج «أولئك الذين يعملون منذ طفولتهم ست عشرة ساعة يوميًّا، شعب من القروح والعاهات والبطون الجائعة»، ومع ذلك تألفت منها معظم قوات الثورة التي تنبض بانتفاضة شعب متربص، والفريق الثاني يتكون من الأحياء الغنية التي تحولت على أيدي رجال المال الفرنسيين واليابانيين «أخطارًا تهدد، وحواجز وجدران سجن ممتدة لا نوافذ فيها»، ومالرو لا يضع الفريقين في مقابل بعضهما البعض منذ البداية، بل هو لا يجعل المعركة الرئيسية في الرواية تدور بينهما؛ ذلك أنه يعالج المسألة القومية في مواجهة المسألة الاجتماعية، كما يعالج كليهما في إطار الجوهر الإنساني العميق للأفراد والجماعات التي تشكلت منها أنسجة البناء الدرامي في «الوضع الإنساني»، بل إن عنوان الرواية قد اختير بتمهلٍ عظيم وإمعان للفكر، لأنه يكاد أن يوجز العمل الفني في كلمتين فاصلتين، فالوضع الإنساني للشخصيات الرئيسية في جانب المقاومة هو الذي يحدد المسار التفصيلي للمأساة التي وقعت عام ١٩٢٧م. إن تشن وكيو وكاتوف يصوغ كل منهم مأساته الخاصة، التي لم تتناقض لحظةً واحدة مع المأساة الشاملة، ولا يتوقف مالرو عند شخصيةٍ بعينها توقفًا يريبك في أنها «قد تكون البطل»، كيو مثلًا هو المناضل الشيوعي الذي تعرف اللجنة المركزية تفاصيل خططه كلها، ولكن بالأرقام، أما هو فقد كان يحيا هذه التفاصيل، وكانت المدينة — شنغهاي — تسري مسرى الدماء في عروقه «وكأن مواطن ضعفها هي جروحه الخاصة». وتشن فقد إيمانه الذي فصله طويلًا عن الصين وعزله عن العالم، ثم فهم أن كل شيء يمكنه أن يمضي على نحوٍ يجعل هذه الفترة من حياته «مدخلًا إلى معنى البطولة»، فالعمل السياسي كان يبث في عزلته معنى جروحه و«إحساسه البطولي كان بالنسبة إليه بمثابة نظام يفرضه على نفسه لا تبريرًا للحياة». وكاتوف شارك في أحداث ١٩٠٥م في روسيا ثم أفلت بأعجوبة من المقصلة، ولم يرَ في وجوده أية دلالة إذا لم يستأنف نشاطه الثوري في بلد كالصين. ولم يضع الكاتب في مقابل هذه الشخصيات المناضلة جيشًا غازيًا يمكنك أن تتخذ منه موقفًا صارمًا محددًا منذ البداية، وإنما هو يؤثر أن يضع في طريقك وطريق هذه الشخصيات نموذجًا للرأسمالي التقليدي؛ هو «فيرال» السمسار الفرنسي لبنوك واتحادات المال. وهو الرجل الذي لا تعنيه الصين إلا في كونها «الحاضر» الذي يؤهله في «المستقبل» لكرسي الوزارة في باريس.
ويبدأ تشن حياته الروائية عند مالرو باغتيال أحد السماسرة في فندق، ليأخذ من جيبه تفويضًا بالحصول على أسلحة من سفينة راسية على الشاطئ ومحملة بالذخيرة، وذلك لاستخدامها في المقاومة المشتركة مع الكومنتانج، من أجل الحرب الوطنية. وينجح تشن في أول جريمة قتل ارتكبها في حياته، وتسري في أوصال الرواية كلها قشعريرة الشعور بالموت كلما تجسدت تفاصيل هذا «النجاح» القاتل، وأمست العلاقة بين تشن والموت، أشبه ما تكون بالعلاقة بين كائن وكائن، حتى إنه تعمد أن «يصادف» الموت أكثر من مرة فأخفق «كانت شرايين الدماء تصب كالقنوات في العاصمة حيث يتقرر مصير الصين». ومع هذا لم يمت. وحانت الفرصة كالمعجزة؛ إذ تناقض الشيوعيون مع الكومنتانج، واتخذ تشن قرارًا شخصيًّا لا رجعة فيه، أن يقتل تشانج كاي تشيك بالرغم من التقاليد الشيوعية المعادية للاغتيالات الفردية. لقد أحس في لحظةٍ أن القضية العامة تقاطعت مع قضيته الشخصية في نقطةٍ حادة لا يبلغها المرء إلا مرةً واحدة في حياته. لذلك اختار أن يلقي بنفسه تحت العربة التي تقل تشانج كاي تشيك، ويموت، ولكن دون أن يكون الجنرال في العربة، هذه المرة بالذات! وتلك هي المفارقة القاسية التي خطط لها مالرو — في رسم هذه الشخصية — المفارقة التي تحقق له النجاح في القتل حين لم يكن في حاجة إليه، ثم تحقق له الفشل في المرة الوحيدة التي كادت أن تعطي حياته معنًى. وهكذا تشيع في طول الرواية وعرضها رائحة «عدمية» تنسجم مع النهاية الفاجعة للثورة الصينية آنذاك؛ فقد انتهت حياة كيو انتحارًا في معسكر الاعتقال، كما انتهت حياة كاتوف رميًا بالرصاص في معسكر الإعدام، «ولم يكن من شكٍّ في أنهم هالكون جميعًا، غير أن الشيء الجوهري هو ألا يكون هلاكهم عبثًا». هذا هو المضمون الحقيقي للرواية؛ إذ إن خاتمتها ليست في تبدد إحدى الموجات الثورية وهلاك بعض الأشخاص، وإنما تكمن هذه الخاتمة في بقاء الصين شامخةً فوق كل النكسات، حتى إن مالرو يتنبأ عبر السنين بما ستكون عليه في المستقبل — الذي أصبحت عليه بالفعل — فيعقد مشهدًا للرأسماليين الفرنسيين في باريس بقيادة الوزير وفيرال، حيث يرجحون نهاية تشانج كاي تشيك وانتصار الاشتراكية، وبالتالي نهايتهم أيضًا. ويؤكد الكاتب هذا المعنى ثانيةً حين يدفع هماريش إلى القول: «في الماضي بدأت أحيا حين خرجت من المصنع، أما الآن فقد بدأت أحيا حين دخلته. وهذه هي المرة الأولى في حياتي التي أعمل فيها، وأنا أعرف لماذا أعمل، لا منتظرًا في صبرٍ أن أموت» كما كانت حالته في الماضي «ولقد مرت الثورة الآن بمرضٍ رهيب، ولكنها لم تمت»، كان مرض الطفولة اليساري الذي ندعوه بلغة السياسة «انحرافًا» ويراه مالرو تجسيدًا موضوعيًّا أمينًا «للوضع الإنساني» الذي كانت عليه الصين، حتى إن أحدهم كان يبرر ما قام به تشن قائلًا: «إن اغتيال الديكتاتور هو واجب الفرد نحو نفسه، وينبغي فصله عن العمل السياسي الذي تحدده القوى الجماعية.» فإذا كان الحزب يساريًّا، فقد كان تشن على يسار الحزب، ومعنى ذلك أن شيئًا ما أكبر من الانحراف الأيديولوجي — وهو عنوان هذه الرواية ورمز البطولة فيها — كان يؤدي دوره بمهارة بالغة حتى لتبدو للبعض وكأنها «القدر»، وللبعض الآخر وكأنها الحتمية، ولكن مالرو يراها «المصير» البشري الذي يتجذر في الفرد منذ مولده ونشأته وتطوره، إلى أن يموت. لهذا لم تكن البطولة في «الوضع الإنساني» بطولة الأفراد ولم تكن قط بطولة الجماهير — فقد انتكست الثورة — وإنما كانت بطولة الصين كحضارة، أو بصياغة مختلفة؛ كانت بطولة الروح صينية. ولعل رمز هذه البطولة لم يكن واحدًا من الذين ماتوا، من الذين قاوموا، وإنما كان واحدًا من الذين انزووا في سموات عليا من التجريد والتصوف؛ هو جيسور — والد كيو — الذي كان يقول لهؤلاء «الذين اختاروا فعلًا»: «إن الماركسية ليست مذهبًا ولكنها إرادة، ولا ينبغي أن تكونوا ماركسيين لكي تكونوا على حق، وإنما لكي تنتصروا دون خيانة لأنفسكم.» إن رمز البطولة في قصة المقاومة الصينية هو أيضًا ما تعبر عنه امرأة أحبت زوجها حتى الموت — هي زوجة كيو — في كلماتها إلى جيسور «وحتى الآن، بعد أن هزمنا سياسيًّا، وأوصدت مستشفياتنا، تتكون جماعات سرية في الأقاليم جميعًا، ولن ينسى رجالنا أبدًا أنهم يقاسون من أجل قضية بشر آخرين، لا بسبب حياتهم السابقة. وقد كنت أقول: لقد استيقظوا واثبين من نوم ران عليهم ثلاثين قرنًا، ولن يعودوا للنوم مرةً أخرى. وكنت أقول أيضًا إن أولئك الذين منحوا وعيهم بالثورة إلى ثلاثمائة مليون بائس، لم يكونوا ظلالًا كالبشر العابرين، ولو أصابتهم الهزيمة، أو التعذيب، ولو أصبحوا أمواتًا.» أجل إن الناس لا يساوون إلا ما أمكنهم أن يغيروه، على حد تعبير مالرو. وتنتهي رواية «الوضع الإنساني» بمشهدين كاملين، أولهما للرأسماليين الفرنسيين، وثانيهما لجيسور والد كيو وماي زوجته. وهما المشهدان اللذان يضعان الكلمة الأخيرة لمالرو. وهي الكلمة التي تقول إن التناقض الحقيقي في الصين حينذاك هو التناقض بين الشعب في مجموعه، والاستعمار الأجنبي. وإنه إذا كان الشيوعيون قد أخطَئوا برفع شعارات يسارية أثناء حربٍ وطنية، فإن تشانج كاي تشيك قد سلم بلاده للمستعمر حين سفك دماء الشيوعيين دون أن يتمكن من اغتيال الشيوعية. ويلمح مالرو إلى تسرب الدولار الأمريكي في إشارة واعية بما سيكون عليه الغد.
على أن رمز البطولة في «الوضع الإنساني» لا يقتصر على «شكل» المقاومة في خطوطها اليسارية والوطنية، وإنما يتجاوزه إلى المسألة الأكثر شمولًا وهي اللقاء الحميم بين القضية الشخصية والقضية العامة، مهما أدى هذا اللقاء — في المدى الطويل وخلال منحنيات الثورة ومنعطفاتها — إلى نهاية تراجيدية حادة هي انعكاس للمأساة الكبرى، ليس انعكاسًا تلقائيًّا، وإنما نتيجة التفاعل المعقد بين التجربة الشخصية في حياة تشن أو كيو أو كاتوف، وبين التجربة الثورية في حياة الصين. ولعل نفاذ البصيرة لدي مالرو ومقدرته الكبيرة على فهم الصين ومشاركته العملية في المقاومة الصينية هي التي رفعت روايته إلى مستوى النبوءة؛ فقد ولدت الصين الاشتراكية، وانطوى تشانج كاي تشيك نهائيًّا تحت جناح الاستعمار. كما أنها ارتفعت إلى مستوى التاريخ لأنها تُعد أخطر الوثائق الفنية عن تلك المرحلة الدامية في تاريخ الصين الحديث. وهي إذا كانت قد ركزت الأضواء على البعد القومي في المأساة، فإنها قد تناولت البعد الاجتماعي في صراعه البطولي بين إنسانية الأفراد، وصينية الصين، أو بين جوهر الإنسان الفرد، وبين روح الصين وحضارتها.
•••
تتشابه «أفول القمر» مع «الوضع الإنساني» في تلك المسافة الموضوعية التي يصطنعها الكاتب حين يستمد خامته الفنية من بيئةٍ غير بيئته الأصلية؛ فقد سجلت الأولى كفاح الشعب النرويجي ضد النازي، وسجلت الأخرى كفاح الشعب الصيني ضد الاستعمار، وكارثة الانقسام التي شرخت صفوف المقاومة. ويختلف هذا اللون من القصص عن الأعمال التي تتخذ من «الفرد» خامةً لها، وبخاصة إذا كان هذا الفرد ينتمي إلى نفس البيئة التي ينتمي إليها الكاتب. فالقصة التي تتناول موضوع المقاومة من خلال الجماهير، كما هو الحال عند شتاينبك ومالرو، تختلف عن القصة التي تتناول هذا الموضوع من خلال فرد من الأفراد. وقد عمدتُ إلى اختيار قصتين من أدبين مختلفين، لتوضيح هذا الخلاف من ناحية، ولاستكشاف رمز البطولة في هذا النوع من القصص من ناحيةٍ أخرى. والقصة الأولى للكاتب السوفييتي المعاصر ميخائيل شولوخوف صاحب «نهر الدون ينساب في هدوء» و«الأرض العذراء». وقصته هذه التي نتناولها بالتحليل تندرج في باب الرواية القصيرة، وهي قصة «مصير إنسان». يقدم لها شولوخوف بهذه الكلمات: «تهمني أقدار الناس العاديين في الحرب الماضية. وجنديُّنا قد أثبت في أيام الحرب الوطنية أنه بطل. إن العالم كله يعرف الجندي الروسي وبسالته وصفاته النضالية، ولكن هذه الحرب أظهرت جنديَّنا في ضوءٍ آخر تمامًا.»
والقصة التي تكاد في بعض مقاطعها أن تتحول إلى قصيدة، هي هذا «الضوء الآخر» الذي أبرز الإنسان السوفييتي — لا الجندي وحده — في صورةٍ جديدة تمامًا. كان أندريه سوكولوف مجرد سائق بسيط أحب فتاةً وتزوجها وأنجب منها فتًى وبنتين، حتى أقبلت نيران الفاشية فطُلب للتجنيد، وظل يقاتل في الجبهة حتى مايو من عام ١٩٤٢م، حيث تم أسره في لحظة لم يتوقع فيها أن يؤسر؛ فقد نفدت الذخيرة فجأةً من بطارية المدفعية التي يتبعها، فطلب منه قائد السرية أن يسرع به حتى يصل إلى مقرٍّ مجاور للفرقة، وصنع أندريه المستحيل، ولكنه أُسر بدلًا من أن يصل. وسيق مع الآلاف المؤلفة من الروس إلى معسكرات العمل والتعذيب في ألمانيا. وفي المعتقل بدر منه احتجاج على الحيز الذي يقوم بحفره الفرد الواحد كمقبرة لزميله حين يموت. ونادى عليه الضابط الألماني: «أندريه سوكولوف الأسير رقم ٣٣١ انتهت آلامك.» وعقد العزم على أنه سيموت. ومرت به نفس اللحظات التي عاشها حين أسر؛ فقد ظن نفسه حينذاك من الهالكين. تذكر زوجته التي دفع بها لحظة الوداع؛ فقد تشبثت بأهدابه وراحت تولول صارخةً أنها لن تراه ثانية. وتذكر الأطفال الصغار وهم واجمون لا يفهمون شيئًا مما يجري من حولهم. وتذكر الجيران. وتوقفت ذكرياته فجأةً عندما تنبه إلى أن الضابط الألماني يساومه على شرفه العسكري، ويطلب منه أن يشرب معه نخب انتصار النازي. وتصلبت نظرات أندريه على الضابط العدو في كلمةٍ واحدة ترادف الموت؛ هي: كلا. رفض سوكولوف أن يركع، أن يساوم، أن يحيا بلا كرامة، لأن كرامته توحدت بالدم مع كرامة وطنه. ومن قبيل السخرية «كافأه» الضابط الألماني بالخبز والخمر، فأخذه ووزعه على زملائه الأسرى. واستُدعي ذات يوم ليعمل سائقًا بين برلين وبوتسدام يحمل في عربته أحد الضباط الألمان: «ونصل إلى مدينة بولتسك فأسمع مع الفجر مدفعيتنا، هذه أول مرة منذ عامين أسمع فيها موسيقاها، هل تعلم يا أخي أن قلبي خفق لها؛ أيام كنت أعزب، حينما كنت أذهب لأغازل إيرينا، لم يكن قلبي يخفق في مثل هذه القوة.» لقد واتته فرصة الهرب إذن، ولكن هل يهرب وحده؟ واستطاع بعد جهد وتخطيط محكم أن يصل إلى حدود الجبهة الروسية ومعه هذه «الهدية» الثمينة؛ الضابط الألماني الذي كان يعمل معه، مقيدًا في حالة إغماء وقد جرده من سلاحه. وحصل أندريه على وعد من الكولونيل بوسامٍ تكريمًا له على بطولته. ولكن القصة لم تنتهِ بعد. لقد كان الوسام الأكبر أن يعود بعد غيبة سنوات طويلة إلى زوجته وأولاده، فلم تكن قد فارقت عيناه بعدُ صورتهم لحظة الوداع. غير أن الحرب إذا كانت قد منحته وسام البطولة فإنها قد ضنت عليه بالوسام الآخر. ذلك أن «الألمان قد قصفوا في يونيو من عام ١٩٤٢م مصنع الطائرات، وأن قنبلةً كبيرة سقطت على منزلي، وكانت إيرينا والبنتان فيه، وانفغرت في موضع المنزل هوة ضخمة.» أما ابنه أناطولي؛ فقد كان في المدينة أثناء الغارة الجوية، وعاد في المساء فنظر إلى الهوة ورحل على الفور، «وقبل أن ينصرف قال للجار إنه سيذهب للتطوع في الجبهة.» وهكذا — يقول أندريه سوكولوف — «كان لي أسرة وبيت، وأنفقت السنوات الطويلة حتى جمعتهما، وإذا هما يتلاشيان في ثانيةٍ وأُصبح وحيدًا.» ذلك أنه في المعتقل كان يتوجه كل مساء إلى إيرينا والأولاد في حديث طويل يقول لهم فيه إنه سيعود لأنه صلْب العود وقادر على التحمل «إذن؛ فقد كنت أتكلم طوال هذين العامين مع أموات.» ولا يختتم شولوخوف — عند هذا الحد — قصته بل قصيدته، وإنما يجسد لعيوننا مشهدين: أحدهما للمكان الذي عاشت فيه أسرة سوكولوف، حفرة هائلة يملؤها ماء صدئ، تحف بها حشائش سيئة، ويرين عليها صمت كصمت المقابر «لم أستطع البقاء هناك ساعةً واحدة وأخذت القطار في اليوم ذاته عائدًا إلى فرقتي.» أي أنه كان صورةً ثانية للابن الذي نظر إلى الحفرة وأسرع إلى الجبهة. أما المشهد الثاني فلم يكن مشهدًا بشريًّا، وإنما كانت الغيوم لا تزال تتابع طوافها وأشرعتها البيضاء «ومع ذلك ففي تلك اللحظات من الصمت الحزين بدت لي بغير الصورة التي كانت تبدو لي فيها من قبل، تلك الدنيا الشاسعة الأرجاء المتهيئة لإنجازات الربيع العظيمة، لانتصار الحياة الأبدي على الموت.» هذان المشهدان يلخصان «مصير الإنسان» من وجهة نظر شولوخوف، من وجهة نظر «تضاد الحياة» وصراعاتها اللانهائية. لهذا السبب تكاد تنتهي القصة حين وصلَت إلى أندريه رسالة من الجبهة، من ابنه «الرائد أناطولي» ولكن اللقاء لا يتم، والقصة أيضًا لا تنتهي؛ فقد لقي الضابط الشاب مصرعه ذلك الصباح في مركز بطاريته «كانت آخر فرحة لي وآخر أمل.» تلك هي صيحة الأب سوكولوف قبيل الخاتمة بقليل، ذلك أن الفرصة لم تضِع، والأمل لم يذهب، الأمل هو ذلك الطفل الذي التقى به عند باب أحد المطاعم، مرةً واثنتين وثلاثًا، وأخيرًا جرؤ على أن يحمل الطفل من فوق الرصيف ويأخذه إلى البيت، إلى الصحبة التي اختارها من بين الناس جميعًا: جاره وزوجته التي لم تنجب «كان الولد كثير الحركة ولكنه في بعض الأحيان يهدأ فجأةً ويغرق في التفكير، ثم ينظر إلي من خلال أهدابه الطويلة المنثنية إلى أعلى، ويتنهد. أمِثل هذا العصفور الصغير يعرف التنهد؟ أهذه أشياء لمثل سنه؟ وأسأله: أين أبوك يا فانيا؟ فيهمس: قُتل في الحرب. وأمك؟ قتلتها قنبلة في القطار ونحن فيه.» نفس القصة التي كان يمكن لأناطولي أن يحكيها لو أنه عاش، وأبوه هو الذي مات، ولكن شولوخوف أراد أن ينسج قصةً مغايرة، أراد أن يجسد رمزًا جديدًا للبطولة في قصة المقاومة الروسية، الرمز القائل بأن «مصير إنسان» ما لا تحدده المقدمات المعروفة سلفًا، فلم يمُت أندريه رغم وجوده في خط النار، وماتت أسرته وهي في بيتها آمنة، ومات أناطولي والقوات الروسية تدق على أبواب برلين أجراس النصر، والتقى أندريه سوكولوف بالطفل الصغير، والغيوم السوداء تظلل عينيه بلون الحفرة الجهنمية التي تسكن في قاعها إيرينا والبنتان، التقى برمز البطولة في المقاومة السوفييتية، وهو «الاستمرار» الذي يتولد من الحياة والموت معًا، من اصطراع ما هو سلبي، وما هو إيجابي في حلبةٍ واحدة هي الوجود، هذا الرمز أيضًا هو الإجابة على كلمات شولوخوف الأخيرة «يتيمان، حبَّتان من رملٍ قذفتهما زوبعة الحرب بقوةٍ لا مثيل لها إلى الغربة، ماذا يخبئ لهما الغد؟» وهكذا لم تنتهِ قصة — بل قصيدة — «مصير إنسان» بحياة أو موت، لا بماضٍ أو بمستقبل، وإنما «بالاستمرار»، كانت هناك بغير شكٍّ نهايات عديدة مغرية للكاتب أن يختتم بها عمله الفني، أن ينتهي مثلًا بعودة أندريه بطلًا من الأسر النازي «فنصفق للبطولة»، أو أن ينتهي بمقتل زوجته وطفلتيه «فنتطهر بالمأساة»، أو أن ينتهي بذهاب ابنه إلى الجبهة «فنصفق للجيل الجديد»، أو أن ينتهي بموت هذا الابن على أبواب النصر «فننعى الفرد ونهتف للقضية العامة»، لم يرِد شولوخوف أن ينتهي بالقصة باستقرار أحد طرفي الصراع «الحياة أو الموت» وإنما شاء أن يجمع الشيخ بالطفل في دوامة البحث عما يخبئه الغد، أو في غمرة العلاقة الدينامية بين أطراف الوجود، في غمرة «الاستمرار» وهو السمة البارزة في المقاومة السوفييتية، ورمز البطولة فيها.
أما القصة الثانية التي تلتقي مع قصة شولوخوف من حيث اعتمادها على «الفرد» كخامةٍ فنية — دون أن ترمز إلى بطولة فردية بعينها — في حيز ضيق يدعوه النقاد بالرواية القصيرة، فهي قصة «صمت البحر» التي يراها البعض أشبه ما تكون «بقصة قصيرة» طويلة، منها إلى «رواية» قصيرة. وهي القصة التي كتبها رسام فرنسي اتخذ لنفسه اسمًا مستعارًا أثناء المقاومة الفرنسية هو «فيركور» وقد كتبها في أكتوبر عام ١٩٤١م، ولكنها نشرت في مطبوعات «منتصف الليل» السرية بباريس في العام الذي يليه. والقصة تناقش «مصير الإنسان» الذي سبق أن ناقشه شولوخوف، ولكن من وجهة نظر «فرنسية». وقد تعمدت أن أقول من وجهة نظرٍ فرنسية لا من وجهة نظر فيركور، لأني أكاد أراها ظاهرةً مشتركة بين كُتاب وشعراء المقاومة الفرنسية ضد النازي في الحرب العالمية الثانية، وهي ظاهرة الدفاع عن «الروح الفرنسية» التي نلحظها في وضوحٍ كاف في أشعار أراجون، وربما هي التي دفعت كاتبًا كمالرو أن يجعل من ملحمته الروائية دفاعًا عن «الروح» الصينية. أي أن خط الدفاع الأول في جبهة المقاومة عند الفرنسيين هو ما اصطُلح على تسميته بالروح، أو الفكر، أو الوجدان، وهو أيضًا ما يميل بعض النقاد إلى تسميته بجوهر الحضارة والإنسان والتاريخ. الدفاع عن هذا الجوهر هو النغمة الرئيسية في كتابات المقاومة عند الفرنسيين، سواء كتبوا عن مقاومتهم هم كما فعل فيركور في «صمت البحر»، أو كتبوا عن مقاومة الآخرين كما فعل مالرو في «الوضع الإنساني».
وفيركور على النقيض من شولوخوف لا يركز الأضواء على إحدى شخصيات المقاومة كالجندي أندريه سوكولوف، وإنما يركز هذه الأضواء على إحدى شخصيات العدو، وهو ضابط من قوات النازي نزل ضيفًا على أسرة فرنسية، وفق النظام الذي فرضه الألمان على بعض الأماكن التي قاموا باحتلالها واشتدت فيها حاجتهم إلى مساكن معقولة للضباط. ولا يختار فيركور شخصيته الرئيسية من صفوف الأعداء فحسب، بل هو يختارها شخصيةً محببة جديرة بالتعاطف، فالضابط شاب وسيم ومهذب ومثقف ويهوى الموسيقى، بل يؤلف فيها، لا يثقل على الأسرة التي «استضافته» بما يشعرها أنها في حالة «غزو»، بل حاول جاهدًا أن يبدو في ثياب الضيف العابر. وكانت الأسرة مكونةً من شيخٍ قارب النهاية وابنة أخته الشابة التي لا تتوقف عن شغل الصوف. ظل فرنر فون أبرناك كل مساء يحكي لهما شطرًا من قصة حياته دون أن تبدر منهما أية بادرة تشير إلى أنهما يسمعانه. كان يحب فرنسا منذ الصغر، وكان يؤمن بأن الحرب بين البلدين ستنتهي إلى أن تمنح ألمانيا فرنسا حريتها، وأن تمنح فرنسا ألمانيا رقتها وعذوبتها، وأن يتصادق الشعبان، وتتدعم بينهما أواصر الثقة والتعاون المشترك. ولكن الشيخ والفتاة لم يُعيراه أدنى التفات، فكان يغادر الصالة التي يجلسان فيها إلى جانب المدفأة بالعبارة التقليدية: «أتمنى لكما ليلةً سعيدة.» ويتوجه إلى غرفته في صمت و«تطاول الصمت، وتحول شيئًا فشيئًا إلى صمتٍ كثيف مثل ضباب الصباح، صمت كثيف وراسخ، فسكون ابنة أخي وسكوني أنا أيضًا بلا ريب، كانا يثقلان هذا الصمت، ويحولانه إلى رصاص.» كما يقول الشيخ في روايته للقصة. وبدأت الدلائل تقول إن هذا الصمت يتبلور في موقفٍ صارخ يشعر نحوه الضابط بالاحترام، ولكنه لا يملك في نفس الوقت أن يترك نفسه يموت في صمت البحر الغاضب المخيف، تلك هي الروح الفرنسية التي اكتشفها من قبلُ في عشرات الكتب واللوحات، والأنغام، تلك هي الروح التي تعبر عن صمودها الشامخ بالصمت القاتل. واضطر لأن يعترف لهما جهارًا: «لا يمكن لفرنسا أن تسقط بإرادتها بين ذراعينا المفتوحتين دون أن تحس بأنها قد أضاعت كبرياءها الخاص.» ولم تذُب كرات الصمت الجليدية، واستأذن منهما في السفر إلى باريس لمدة أسبوعين، شعرا خلال هذه الفترة القصيرة — وبصورةٍ مفاجئة — أنهما يتحاشيان الاعتراف الشجاع بمودة عميقة تجاه هذا الرجل الغريب. ولكنه عاد، عاد أكثر غرابةً مما كان عليه فيما مضى، عاد محزونًا معصور الفؤاد. وبعد أن كان الشيخ والفتاة يخفضان بصرهما كلما شاهداه، بدا هو منذ أن عاد «يخفض بصره إلى الأرض». لقد اجتمع بزملائه في باريس، ومن بينهم أخوه الذي كان يكتب الشعر فتحول على يدَي النازية إلى وحش «مخلص ومقتنع» وهذه هي المأساة في رأي فرنر. لقد قالوا له في باريس: هل تتصور أننا سنترك فرنسا «تنهض» على حدودنا مرةً أخرى؟ كلا «نحن لسنا موسيقيين»، «إن السياسة ليست حلم شاعر. لماذا ترانا أشعلنا الحرب في اعتقادك؟ من أجل ماريشالهم العجوز؟ وضحكوا أيضًا: نحن لسنا مجانين ولا معتوهين، إن الفرصة أمامنا للقضاء على فرنسا، وسنقضي عليها. لا على قوتها فحسب، ولكن على روحها أيضًا. وعلى روحها بنوعٍ خاص. ففي روحها يكمن الخطر كل الخطر. وتلك هي مهمتنا في هذه اللحظة فلا تخدع نفسك عنها يا عزيزي، سنغرر بها عن طريق الابتسامات والملاطفات. سوف نجعل منها كلبةً زاحفة.»
وهذا هو الرمز العميق الدلالة في قصة فيركور، أن تتجسد الروح الفرنسية المنتصرة في قلب ضابط من قوات الغزو فتهز أعماقه هذه الروح وتنطق على لسانه: «إنهم سوف يخمدون الشعلة إلى الأبد»؛ ذلك أنهم يظنون أنهم يستطيعون أن يبيع الفرنسيون أرواحهم «في مقابل طبق من العدس» كلا. إن هذه الروح العظيمة هي التي أغرقته في صمت البحر، وهي نفسها التي انتشلته حين فاض قلبه بالصدق، حين تلبسته روح فرنسا وكشفت له أنه في ركاب النازية «يغوص في ظلمات عفنة لغابة كئيبة»، وإذا كانت نقطة التقاطع في حياة تشن برواية مالرو لم تحدث إلا مرةً واحدة في حياته، بعدها كان الموت، فإن هذه النقطة مرت الآن في حياة فرنر، أيضًا مرةً واحدة، بعدها «إلى الجحيم» نحو تلك السهول المترامية التي ستتغذى فيها الحنطة في المستقبل من الجثث. ذلك أنه حين استطاع أن يذيب جليد الصمت بينه وبين الأسرة المضيفة، كان قد وصل في نفس الوقت إلى تلك اليقظة المفاجئة على حقيقة وجوده في هذا المكان، إنه لم يجِئ إلى هنا «لينقذ» فرنسا، بل ليدمرها. وحين كانت الغشاوة تحجب بصيرته كان الصمت بينه وبين الآخرين هو سيد الموقف، وحين انجابت هذه الغشاوة عن عينيه رأى نفسه واقفًا على حافة الهاوية، فلم يشعر بجدوى ذوبان جليد الصمت؛ بل أحس أن الشجاعة الحقيقية أن يلقي بنفسه في قاع الجحيم، أن يعود إلى الجبهة ويموت. لقد خدعه الآخرون، وخدع هو الآخرين، ولا شفاء من الخديعة المزدوجة إلا بالانتحار. وهذا هو — مرةً أخرى — الرمز العميق الدلالة، رمز البطولة في مقاومة الشيخ والفتاة أن مسَّت «روح فرنسا» بصمت البحر هذا الضمير الذي سيعيش طويلًا في أتون العذاب، حتى إذا مات، تبقى قصته في ضمير الأجيال أنينًا أبديًّا لا تعلو عليه موجات البحر الغاضب.
•••
ثمة وشيجة أساسية تجمع بين «أفول القمر» و«الوضع الإنساني» و«مصير إنسان» و«صمت البحر»، هي ما يمكن أن نطلق عليه «بطولة الإنسان العادي»، سواء تجسدت هذه البطولة في رموز المقاومة «الشعبية»، أو «القومية» أو «الإنسانية» العامة، وسواء تجسدت المقاومة في الدفاع عن «الروح» الصينية، أو الفرنسية كما هو الحال عند مالرو وفيركور، أو تجسدت في «الحياة اليومية للبشر» كما هو الحال عند شتاينبك وشولوخوف. على أن بطولات المقاومة الوطنية لا تتوقف عند حدود النسيج البشري للحياة، فلربما اتخذ بعض الكتاب خامتهم الفنية ورموزهم من نسيج مختلف، كما فعل الكثيرون منهم حين اتخذوا «شارعًا»، أو «مدينة»، أو «مبنى» إذا كانت المادة الروائية «مكانًا» ما، وقد اتخذوا أحيانًا «عصرًا» من العصور، حين كانت هذه المادة هي «الزمان». ولعل الملحمة الروائية التي كتبها الروائي اليوغوسلافي إيفو أندريتش تحت عنوان «جسر على نهر درينا» من هذه الأعمال القليلة في تاريخ الأدب من حيث إنها كانت نسيجًا مركبًا من الزمان والمكان. والحق أنني أصف هذه الرواية، كما سبق لي أن وصفت رواية مالرو، بأنها ملحمة روائية، لا من قبيل المجاز اللفظي وإنما من قبيل التشخيص الموضوعي للعمل الفني. وربما كانت «جسر على نهر درينا» أكثر وضوحًا من «الوضع الإنساني» في اكتساب هذه التسمية، «أكثر وضوحًا لا أكثر استحقاقًا»؛ ذلك لأن اكتسابها لوحدتي الزمان والمكان جاء على نحوٍ ملحمي صارخ من ناحية الاتساع الدرامي لكلٍّ منهما على حدة، ومن ناحية الصراع «المبسط تبسيطًا شديدًا» بين خير وشر، ومن ناحية الانتصار الحتمي للخير بالرغم من كل الويلات والظلمات، ومن ناحية قالب الحدوتة التي ما تزال رابضةً في جوف الرواية تؤكد أصلها الملحمي. والمقاومة كموضوع، والبطولة كرمز لها، من أكثر الخامات الفنية قدرةً على التجسيد الملحمي.
قلت إن «المكان» و«الزمان» في الأدب الروائي من الرموز الكبيرة التي ينسج منها بعض الروائيين بطولاتهم، وليست «نهر الدون ينساب في هدوء» لشولوخوف، أو «البحث عن الزمان الضائع» لمارسيل بروست — بالرغم من الاختلاف العميق بين الروايتين — إلا دليلًا حاسمًا على الإمكانيات الهائلة لكلٍّ من الزمان والمكان على «تجسيم» الرمز الذي يقصد إليه الكاتب. يختلف بطبيعة الحال الروائي عن الآخر، بتصوراته الفكرية والفنية عن معنى الزمان ومعنى المكان. وفي رواية «جسر على نهر درينا» تصور إيفو أندريتش هذا المعنى المزدوج كرمز للصراع «الإنساني» مع الطبيعة والمجتمع من خلال «بطولة قومية» تناقلتها أخيِلة الشعب جيلًا بعد جيل، أربعة قرون من الزمان والناس يتوارثون الأساطير والحكايات والحواديت والمعجزات التي صاغها «الجسر» من دماء البشر وحياتهم وصراعاتهم التي لا تنتهي. لقد توارت مع «الجسر» وبقيت من بعده عشرات البطولات والأحداث على مر الزمان، مهما تفنن الخيال الشعبي في تحويرها، فإنها تستند بغير شكٍّ على ركيزةٍ قوية من الواقع، فهل يعد «الجسر» هو بطل رواية أندريتش؟ إنه كذلك بمعنى من المعاني، أي بمقدار ما ترمز إليه بطولته من معانٍ «بشرية» فهو لم ينفصل قط عن «حياة البشر» في ذلك المكان، ولم ينعزل قط عن هذه الحياة عبر الزمان؛ بل إن الجسر في واقع الأمر هو «قصة البشر» في ذلك المكان الذي شُيد فوقه ومن حوله، وتلك الأزمان التي عاشها منذ تم بناؤه إلى أن نُسف.
وفي تقديري أن قصة بنائه هي الدعامة الرئيسية لكل ما يرمز إليه، أو هي الرمز الأكبر والجوهر الشامل للعمل الروائي، فالرواية بعد ذلك هي تأكيد وإلحاح على المعنى الأول الذي يجبهك مع أحداث الصفحات الأولى من الكتاب، ولكنه تأكيد وإلحاح بغير تكرار وإملال، وإنما على نحوٍ فريد للغاية يضيف جديدًا يغني الجوهر ولا يلغيه، يدعم الرمز ولا ينفيه. فإذا كانت القصة قد بدأت في ظلال الإمبراطورية العثمانية ليربط هذا الجسر بين البوسنة والصرب إبان القرن السادس عشر، فإن هذه القصة تستمر مع الاحتلال النمسوي المجري إلى نشوب الحرب بين الصرب والنمسا والمجر، وظهور الأجيال الثورية الجديدة، ومقتل الأرشيدوق فرانتس فرديناند عام ١٩١٤م. وتكاد أن تكون كوارث الطوفان وأحداث العصيان والأوبئة والحركات الاجتماعية والحروب البلقانية وغيرها هي امتداد في خطٍّ رئيسي متعرج ينبع من نقطة انطلاق واحدة هي تلك «القصة الأولى» قصة «خلق» الجسر التي تترسب في أعماق ضمير الشعب، يثيرها من مكمنها كل حدث جديد وإن اتخذ هذا الحدث شكلًا مغايرًا.
والشكل الأول الذي اتخذته هذه القصة يبدو تفسيرًا لأسطورة تناقلتها الأجيال عن مقبرة مجاورة للجسر، على ضفته اليمنى، تشع منها في ليالٍ مجهولة أضواء ساطعة كأن آلاف الشموع تنبثق فجأةً من القبر فتغمر المكان بنورٍ باهر سرعان ما يزول. والقبر لشهيد أو قديس، دعاه الأولون والآخرون «راديسلاف» وصفَته الأسطورة الشعبية بأنه «رجل ضد الموت» قاوم بناء الجسر ليلًا ونهارًا دون أن يمسك به الوزير أو الحراس، ولو أنهم أمسكوا به لما استطاعوا أن يفعلوا به شيئًا. إلى أن تمكنوا ذات ليلة من رشوة صديقه الوحيد الذي يخلو به فذبحه وهو نائم بعد أن أوثقه بحبال من حرير، لأن الحرير هو المادة الوحيدة التي لم يكن يستطيع أن يتخلص من شباكها. تلك هي الأسطورة التي تبدو كقصة شمشون. يكملها من جانبٍ آخر ما تناقله الرواة من أن شبحًا أسود يظهر في العمود المركزي الذي أقيمت عليه «كابيا» تتوسط الجسر، ومن يرسم له سوء طالعه أن يرى الشبح يصرعه على الفور. ويحاول إيفو أندريتش أن يعيد صياغة الأسطورة على نحوٍ لا يخدش العقل الحديث، (كما صنع نجيب محفوظ في أدبنا العربي في قصة «أولاد حارتنا») فهو يذكر لنا أنه ذات صباح من عام ١٥١٦م، وكان الأتراك يحصلون على «ضريبة الدم» من المسيحيين أهل المنطقة، سيق معهم طفل في العاشرة إلى إسطنبول كُتب له فيما بعد أن يكون قائدًا كبيرًا ووزيرًا، هو «محمد باشا» الذي أمر ببناء هذا الجسر ليربط بين البوسنة والصرب، وليخلص أهله وذويه من عذاب الإبحار في مركب «ياماك» المتهالكة كلما أرادوا العبور من ضفة إلى أخرى. وأرسل الوزير فرقةً للعمل يرأسها رجل متوحش يدعى عابد أغا ويرافقها مهندس يقال له طوسون أفندي. واستحالت المدينة — فيشجراد الواقعة عند ملتقى درينا ورزاف — إلى جحيم؛ إلى حركة مجنونة: أعمال لا تُفهم، ودخان، وغبار، وصياح، وجلبة «وتمضي السنون، والأعمال تتسع وترتفع، ولكن المرء لا يرى لها نهاية، ولا يفهم لها معنًى. إن هذا كله يشبه كل شيء إلا أن يكون جسرًا»، ولقد بدا الجسر خلال السنوات الأولى من بنائه مصدر بلاء لا يرحم أهل المنطقة، وخاصةً أنه اقترن بالقهر التركي من ناحية، واستبداد عابد أغا رسول الوزير من ناحية أخرى. لذلك أنَّت القلوب وأعولت الألسن، همسًا في بداية الأمر، ثم غناءً شعبيًّا حزينًا انتقل من بيت إلى بيت. ومن بين هذه البيوت ظهر فلاح ممن يعملون بالسخرة في بناء الجسر يدعى «راديسلاف»، انسل في صفوف الفلاحين يهمس في آذانهم مرةً ومرتين وعديدًا من المرات، في العمل والسوق والبيوت، في اليقظة وفي الأحلام «أيها الإخوة، كفى كفى، يجب أن ندافع عن أنفسنا. إنكم لترون أن هذا البناء سيدفننا، سيلتهمنا. أولادنا أيضًا سيتعبون من العمل فيه سخرة، إذا بقي بعضنا. إنما تهيأ لنا هنا الإبادة، لا شيء آخر. إن الحفاة والمسيحيين ليسوا في حاجة إلى جسر. الأتراك هم الذين يريدون الجسر. نحن لا نسرق قطعانًا من الماشية ولا نقوم بتجارة واسعة، والمركب يكفينا؛ بل يزيد على حاجتنا. لذلك اتفق نفر منا على أن نذهب في الليل تحت جنح الظلام نقلب ما بُني وشُيد ونحطمه ما وسعنا التحطيم، وعلى أن نروج بين الناس أن الجن هي التي تهدم البناء وأنها لن تسمح بإقامة جسر على نهر درينا.»
وتوالت أعمال التخريب المتقن لكل ما يقوم به العمال أثناء النهار، فهدد عابد أغا المأمور المكلف بالحراسة بقطع رأسه إذا لم تقف أعمال التخريب ويقبض على الجناة، وأمهله ثلاثة أيام تمكن المأمور في آخرها من القبض على «راديسلاف»، وصمم على إعدامه بالموت البطيء فوق الخازوق ليرفعه عابد أغا على قمة الجسر ويشاهده جميع أفراد الشعب، حتى لا يجول بمخيلة أحدهم أن يقترف فعلًا مشابهًا للعمل الذي كان يقوم به راديسلاف وجماعته. ويستعير إيفو أندريتش بعض المشاهد من قصة صلب المسيح، فيصور راديسلاف في موكب الإعدام كما سار المسيح في موكب الصلب، ثم يصور عملية ثقبه من أسفل وإدخال الخازوق ونفاذه من قمة كتفه قريبًا من الأذن، حتى يتفادى تمزيق الأحشاء والأعضاء الحيوية ليبقى عليه «حيًّا» أطول فترة ممكنة من العذاب، تمامًا كعملية ثقب أرجل المسيح وتثبيتها مع يديه بالمسامير على خشبة الصليب، وتضفير إكليل من الشوك ووضعه فوق رأسه، ثم تركه الجلاد فوق هذه القمة العالية، كما رفع المسيح أيضًا على الجلجثة إلى غروب الشمس. و«كان يسيل على الخازوق خيط نحيل من دم. أما الرجل فما يزال حيًّا ولم يغمَ عليه؛ جنباه يرتفعان ويهبطان، وشرايينه تخفق على رقبته، وعيناه تستديران ببطء، لكنهما لا تثبتان، ومن بين أسنانه الملزوزة تخرج دمدمة يميز سامعها في شيء من العناء كلمات متقطعة: أتراك، أتراك، أتراك على الجسر، افطسوا كالكلاب، موتوا كالكلاب.» وكانت هذه آخر كلماته في الحياة؛ فقد لفظ بعدها أنفاسه الأخيرة، واشترى بعض رفاقه الجثة من الحارس ودفنوها في مكانٍ غير ظاهر حتى لا يتعرض أحد منهم لعقاب عابد أغا الذي أمر بترك الجثة للكلاب.
حين قلت إن إيفو أندريتش استعار بعض المشاهد من قصة صلب المسيح، لم أكن أعني فحسب المشاهد في تركيبتها المادية الصرفة، وإنما كنت أقصد ذلك الخيال الأسطوري الذي تفننت الأجيال في نسجه، وراح الكاتب يحاول تفسيره حقًّا، ولكنه خضع — من الناحية الفنية البحتة — لسيطرة هذا الخيال الشعبي، حتى إنه يصف من شاهدوا الجثة المعلقة فوق أعلى الجسر على خازوق أخذوا يشبهونها «تمثالًا فوق ذروة، باقيًا لا يفنى، سيظل هناك إلى الأبد»، ويتهامس بعضهم «إنهم يدركون الآن مدى ما ارتفع إليه من امتياز وعظمة.» وهي عبارات تكاد ترادف حرفيًّا بعض آيات الإنجيل عن صلب المسيح. و«في تلك الليلة التي هبط ظلامها فجأةً، حدث في صفوف العمال هيجان واضطراب غريبان لا يُفهمان، حتى إن أولئك الذين كانوا قبل ذلك لا يحبون أن يسمعوا شيئًا عن التخريب والمقاومة أصبحوا الآن على استعدادٍ لتقديم أكبر التضحيات.» وكان استشهاد راديسلاف هو بداية «الدعوة الجديدة» للمقاومة، هو رمزها، وبطلها الميت الحي على الدوام. هذا «الخيال الشعبي» السائد على قصة بناء الجسر لم يتخفف الكاتب من جموحه إلا في الأجزاء الأخيرة، التي يمتزج فيها الواقع بالتاريخ بالخيال. على أن هذا الخيال الشعبي هو الدعامة الرئيسية في بناء «جسر على نهر درينا»، ولذلك تم تشييد البناء في صورة الحواديت التي لا يربط بينها سوى الجسر، وهي الحواديت التي لا تختلف من حيث الجوهر عن الحدوتة الأولى، فجاءت القصة أشبه ما تكون بملحمة روائية أقرب منها إلى الرواية النثرية المألوفة.
ولعل طغيان الخيال الشعبي على خيال الكاتب هو الذي دفعه لأن يستسلم لرمز البطولة الكامن في الصراع بين الشعب والجسر، ولكنها تتخذ شكل البطولة الفردية التقليدية في الملاحم الشعبية؛ هذا هو البطل الخارق لكل ما هو عادي ومألوف، البطل الساحر بكلماته وأفعاله، بحياته وموته. وهو البطل الذي لا يموت بموته، وإنما تستمر «دعوته»، أو «مقاومته»، في ضمير العصور والأجيال، تنتقل من نصر إلى نصر ومن فداء إلى فداء في حركة ملحمية لا نهاية لها. هذا المعنى للبطولة لا نجده إلا في التراث الفولكلوري لمختلف الشعوب، ولقد تأثر به الكاتب اليوغوسلافي تأثرًا كبيرًا. فالمأمور الذي قبض على راديسلاف أصابه الجنون، وعابد أغا عُزل من وظيفته بتهمة اختلاس الأموال، ومحمد باشا الوزير نفسه مات صريعًا بطعنةٍ دامية على باب المسجد. وكان راديسلاف في قبره يملك أن يطيح بأعناق قاتليه، الواحد بعد الآخر، هذه القدرة الخارقة لميت، ليست إلا صفة من صفات البطل الفولكلوري.
وهكذا نعثر على أوجه التشابه التي تزداد في طريقنا كلما تصفحنا «جسر على نهر درينا» و«أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ. كلاهما صياغة حديثة للتاريخ، وكلاهما يسيطر عليه الخيال الشعبي المعجز، وكلاهما يصور الصراع الأبدي بين الإنسان والوجود. إلا أنه بينما تغرق «أولاد حارتنا» في بحار التجريد للدرجة التي تبهت معها معالم الصراع التاريخي وتصبح كل مرحلة تاريخية صورةً مكررة تدعو للإملال، ينتشل إيفو أندريتش روايته من هذا المزلق الفني الخطير بأن يبني جسره «على نهر درينا» لا في أي مكان آخر، ومنذ بداية القرن السادس عشر إلى بداية القرن العشرين، لا في أي زمان آخر مجرد. هذا الحيز من المكان، وذاك الحيز من الزمان في «جسر على نهر درينا» أتاح تفاعلهما الخصب الخلاق أن يثمر رمزًا غير قابل للفناء، رمزًا شاملًا للبعد الإنساني والقومي والاجتماعي، ولكنه — عند آخر سطر من الرواية — هو رمز البطولة الإنسانية في مقاومة الزمان والمكان.