الفصل العاشر

رؤيا البطولة في شعر المقاومة المصرية

إذا كان الشعر هو «فن المقاومة» بشكلٍ عام، فإن هذا المعنى لا يتحدد في سرعة الاستجابة الشعورية من جانب الشعراء فحسب، وإنما يتحدد هذا المعنى كذلك في قدرة البناء الشعري على تمثل «الحدث الوطني» واستيعابه في صورة مركزة قادرة على الوفاء بتجسيد مشاعر الفنان وأفكاره. ولعلنا في تاريخ مصر الحديث نجد في العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦م أبرز مراحل «شعر المقاومة المصرية» وأكثرها ازدهارًا، فلقد تجاوز الشعراء المصريون — من ناحية الكم — بقية زملائهم الأدباء في التعبير عن «الحدث الوطني» وتمكن بعضهم من الوصول إلى درجات من النضج والاكتمال. ولقد جاءت معظم الأعمال الروائية والمسرحية التي صاغت من العدوان محورها الفني، متأخرة — في حساب الزمن — بما يقدر أحيانًا بعشر سنوات. ولم تكن هناك في الميدان — إلى جانب الشعر — سوى القصة القصيرة التي لم تصل في أحسن أحوالها إلى مستوى الشعر، من زاوية الكم على الأقل. وذلك باستثناء الأغنية التي تعد في نماذجها الطيبة فرعًا في دوحة الشعر.

والحق أن العلاقة بين الشعر والعدوان في ١٩٥٦م تستحق الالتفات لأكثر من سبب، فقد كانت «جبهة الشعر» إن جاز التعبير هي أعرض الجبهات الأدبية التي عرفتها المقاومة المصرية الحديثة؛ إذ بينما نستطيع أن نجعل من محمود سامي البارودي وعبد الله النديم لسانًا مباشرًا للثورة العرابية، كما نستطيع أن نجعل من سيد درويش وبيرم التونسي لسانًا ناطقًا باسم ثورة ١٩١٩م، فإننا نستطيع أن نرصد عشرات الأسماء التي نطقت شعرًا — بمختلف اللهجات والاتجاهات — إبان العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦م، ولا عبرة في هذا الصدد بما تواضع بعض المؤرخين والنقاد على تسميته ﺑ «شعر الثورة» الذي يبتعد في الكثير الكثير عن الثورة ويقترب في القليل القليل من الشعر. فالثورة في «شعر» هؤلاء وأولئك كانت في الأغلب الأعم إحدى «المناسبات» التي لا تزيد — في مضمونها العميق — عن مضمون التهاني بمولود سعيد أو ترقية أو مضمون التعازي والرثاء. أما شعر البارودي والنديم وألحان سيد درويش وأغانيه؛ فقد كانت هذه النماذج «قضية» يحياها أصحابها حتى النخاع، قضية هي الأصل وغيرها فروع، بينما كانت الثورة في حياة الذين تضم أسماءهم وبضعة أبيات من شعرهم مجلدات — قبل أصحابها أن يسموها ﺑ «شعر الثورة» — مجرد عابر سبيل وعرض زائل، لأن قضيتهم الرئيسية كانت شيئًا آخر هو السلطة الخديوية عند شوقي، وهو الجامعة الإسلامية عند أحمد محرم، وغير ذلك من الأهداف التي قد يختلف الناس حول تقييمها ومكانها من التاريخ، ولكنهم لا يختلفون عن كونها «موقفًا» بعيدًا خطوة أو خطوات عن مسار الثورة المصرية.

وإلى تيار البارودي والنديم وسيد درويش وبيرم التونسي، ينتمي الجيل المصري الجديد من الشعراء الذين واكبوا عدوان ١٩٥٦م في أعرض جبهة أدبية عرفها تاريخنا الحديث. وعندما أطلق كلمة «تيار» على شعراء الثورة العرابية وثورة ١٩١٩م فإنما أقصد به «المقاومة» فكرًا ووجدانًا وحملًا للسلاح تتفاوت درجة الانخراط في سلك هذا التيار من التوحد مع الثورة كما الحال مع عبد الله النديم، إلى النفي خارج البلاد كما هو الحال مع بيرم التونسي. إلى هذا التيار الذي يتخذ من المقاومة محورًا رئيسيًّا، ينتمي الجيل المصري الجديد الذي انبثق صوته الشعري مع إرهاصات الثورة وفي أتونها. أي أن هذا الجيل — من إحدى الزوايا — هو وريث أعرق التقاليد الثورية في الشعر المصري. ولكن هذا الجيل من زاوية أخرى هو «ثورة» على التقاليد الشعرية السابقة عليه، لقد وضعه التاريخ على تخوم مرحلة ثورية في المجتمع والشعر على السواء، فهو يأخذ حقًّا عن أسلافه أروع ما عندهم وهو تجسيد الثورة في أشخاصهم وفي شعرهم، ولكنه يتجاوز هذه الخطوة إلى ما هو أعمق، إلى التوحيد بين الثورة وشعرها؛ فقد تصادف أن ولدت حركة الشعر الحديث في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، أي إبان مرحلة الغليان المحتدم في باطن الأرض المصرية الحبلى بالثورة. ومن هنا حمل هذا الجيل أعباء ثورتين، ثورة الشعب وثورة الفن، وإن كان الكثيرون من رواد الثورتين يرونها ثورةً واحدة ذات شقَّين، فالشعب والفن وحدة واحدة، وليست ثورة الشعر الجديد إلا استجابةً عميقة لثورة الشعب في إطارها الجديد.

وكانت العامية المصرية أقدر قوالب التعبير اللغوي في التقاط الظاهرة الشعورية المضطرمة في قلوب المصريين، لا لأنها لغة التخاطب بين أوسع الجماهير؛ بل لأن تراثها الفني أعمق نفوذًا لدى الوجدان الشعبي من التراث العربي الفصيح. ويشهد التاريخ الوطني لهذا الشعب أن أغنيات سيد درويش قد عاشت بين جوانبه إلى الآن، بينما ترقد آيات شعر البارودي «نصوصًا» في كتب المحفوظات المدرسية، فالعيب هنا ليس كامنًا في شعراء الفصحى وإنما نستطيع القول بأن الوجدان المصري لا يزال وجدانًا «عاميًّا» — إن جاز التعبير — أي إنه يجيد استقبال العامية وتمثلها والتفاعل معها أكثر من إجادته لاستقبال الفصحى. ولعل ذيوع الأغنية الوطنية في تركيبها العامي لا يعدله ذيوعها في التركيب الفصيح بالرغم من وحدة اللحن الموسيقي وجهاز الإرسال لكلٍّ منهما؛ بل إن اللحن ومحطة الإذاعة قد أتاحا الفرصة كاملةً أمام أغنية ركيكة اللفظ والمعنى هي نشيد «الله أكبر» ومع هذا لم يترسب منها في الأعماق سوى اللحن بينما تبقت «والله زمان يا سلاحي» بكل ما تشعه من عواطف وأفكار.

على أن الأغنية المذاعة لا تدخل في مجال بحثنا، لأن الأغنية المصرية في عمومها وعلى وفرة ما بذل في الارتقاء بها من جهود لم ترتفع بعد إلى مستوى الشعر. وإنما نحن نتناول هنا تلك الظاهرة «الشعرية» التي تألقت في سماء الأدب المصري في أوائل الخمسينيات متخذةً من العامية أداة تعبيرية ومن مشكلات الشعب الكادح محورًا فكريًّا، حتى إذا دقت طبول الحرب الاستعمارية كانت هذه الظاهرة سباقة في التنبؤ بها والتنبه لها ومواكبتها وتأريخها. والحق أن العامية المصرية — كتركيبٍ لغوي — ليست معجمًا من الألفاظ المجردة، وإنما هي تحمل في كل حرف من حروفها تاريخ هذا الشعب — طبقاته الدنيا على وجهٍ خاص — مع القهر في مختلف ألوانه، حتى لحظات الفرح في هذا التاريخ لا تفلت أطيافها من روح الحزن. وليس من شك في أن اللغة — أية لغة — لا تدخل في عناصر البناء الفوقي للمجتمع، وهو الذي يضم الآداب والفنون والقانون والسياسة وما إليها من «انعكاسات علوية» لما يجري في البناء التحتي للمجتمع حيث تكويناته الاقتصادية وخطوطه الاجتماعية. اللغة — أية لغة — ليست عنصرًا من عناصر «القمة» في البناء الاجتماعي، وبالتالي فهي ليست — بالقطع — تعبيرًا طبقيًّا، وإنما هي — على وجه اليقين — تعبيرٌ قومي، أي إنه ليست هناك لغة للإقطاعيين وأخرى للفلاحين، وليست هناك لغة للبرجوازية وأخرى للطبقة العاملة، وإنما هناك لغة واحدة للمجتمع تتباين لهجاتها — ربما — باختلاف الإقليم الجغرافي، وتتطور — ربما — على مر العصور والأجيال.

وبالرغم من هذه القاعدة العلمية — إلى حد كبير — أقول إن العامية المصرية، كتركيب لغوي، ليست معجمًا من الألفاظ المجردة، وإنما هي تحمل في كل حرف من حروفها تاريخ شعبنا مع القهر. ومن هنا ظلت في العرف السائد «لغة العامة» وتصور الكثيرون أن العامية اشتقاق من هذا المعنى وإن جرت أمام أعينهم وآذانهم ألسنة جميع الطبقات بلغة «العوام» هذه. ولكن هذا التصور — لدى الكثيرين — لم يكن واهمًا على طول الخط، لأنه كان انعكاسًا لأزمان طويلة قسمت الأدب في بلادنا إلى أدب «رسمي»، يستمد بلاغته من التراث العربي القديم، ويستمد سلطته من أن العربية الفصحى هي لغة الكتابة الوحيدة المعترف بها، وأدب «شعبي» يستلهم تراثنا الشفهي غير المدون، وينزوي مستكينًا في المقاهي والحقول والمجلات الساخرة، حتى إن رائدًا من رواد العامية العظام هو بيرم التونسي اضطر يومًا إلى استنكار كتابته بالعامية. هذا الانفصام بين «لغة الشعب» كما يسمونها احتقارًا وهو تمجيد لها تستحقه، واللغة الرسمية، اتخذ في مصر مسارًا مختلفًا عن كونه انفصامًا بين لغة منطوقة وأخرى مكتوبة كما هو الحال في كثير من البلدان والحضارات، هذا المسار هو أن العامية التصقت أكثر فأكثر بمشكلات هذا الشعب وناضلت معه في كافة معاركه الوطنية والاجتماعية وأضحت بالفعل لغةً لها ظلال طبقية وإشعاعات حانية على الفئات المسحوقة من شعبنا، ولم تعد معجمًا من الألفاظ المجردة ولم تعد تعبيرًا قوميًّا فحسب. لقد ارتبطَت تاريخيًّا — بالمبدعين فيها — بكافة النوازل التي ألمت بهذا الشعب، كما ارتبطت بأكثر الأفكار وطنيةً وتقدمية، سواء انبثق الإبداع فيها والتفكير بها من الشاعر المجهول في القديم أو من الشاعر المعلوم في زماننا.

•••

ولم يكن تأميم قناة السويس — الذي أرهص بالعدوان وأذنابه — إلا عملًا وطنيًّا واجتماعيًّا في وقتٍ واحد. ومن ثم كان من الطبيعي أن يتقدم الركب الثوري شعراء العامية المصرية الذين أنجزوا حينذاك مهام الخطوة الأولى من خطوات مسيرتهم الثورية. وهي الخطوة التي حققت تغييرًا جوهريًّا في القصيدة العامية، وهي الخطوة التي تحققت على يدي فؤاد حداد ومن بعده صلاح جاهين، وهي أيضًا الخطوة التي مهدت لأكبر ثورات العامية المصرية على يدي الجيل الجديد من شعرائها وفي مقدمتهم عبد الرحمن الأبنودي وسيد حجاب.

ولقد يعد تراث بيرم التونسي امتدادًا لأعمق ما في الفولكلور المصري من نغمات أصيلة، فهو من هذه الزاوية قد ارتفع بالزجل المتوارث إلى «روح» الشعر، ولكنه ظل في جوهره أسيرًا للأشكال الشعبية من أغاني العمل إلى البكائيات إلى الموال، ومن ثَم تصبح حركة التجديد الحقيقية التي قادها بيرم، ليست في نطاق الشكل، وإنما في إطار الرؤية الشعرية، فإذا كانت أغاني العمل في معظمها «من قالب المزدوجة فترتبط شطرتان أو أكثر — وفي أحيان كثيرة تكون من بحر الرجز — بقافية واحدة»، فإن غنائيات بيرم لا تخرج — في غالبيتها — على هذا النظام البسيط الذي يقوم على تقفية شطرتي البيت الواحد معًا أو تقفية جميع شطرات كل جزء من الأغنية. ولكن الفرق يبدأ بعد ذلك، بين أغنيات العمل التي تعتمد على الوصف السردي والحكمة البليغة المركزة والمبالغات المقصودة وأغنيات بيرم التي تعتمد على التجسيم بدلًا من الوصف وعلى الانسياب والتدفق بدلًا من الحكمة المركزة، وأيضًا على الحد من سلطان المبالغة الكاريكاتورية. يغني لمصر و«شجرة الحرية»:

من أصلها الأصل الغالي
لفرعها الفرع العالي
مضللة الناس عقبالي
ما أعيش وأموت تحت نداها

وهو يستلهم من البكائيات حوارها والحدوتة ويرفض مرةً أخرى المبالغة والحكمة:

عم إبراهيم راجع حزين من شغله،
ماشي على العكاز ورابط رجله،
وعيشه شايله تحت باطه وفجله،
يا رب تلطف بالغلابة وبيه.

وتبدو مهارته «البكائية» على وجهٍ خاص في مراثيه وفي مقدمتها مرثاته لسيد درويش. ويتأثر بيرم بالموال تأثرًا بالغًا، ولكنه يزاوج بينه كقالب «أغنية» وكقالب «قصة شعرية» ثم يطور الزجل والموشح تطويرًا عاليًا يتجاوز الأصل في كثير من الأحيان:

يا مصر تتحدث الأفلاك بجمالك
في وحي جبريل
من قبل فرعون وموسى الشمس ضحكالك
في صفحة الليل
حسنك لوحدك لا نسوانك ولا رجالك
من جيل ورا جيل

إن ما يسترعي الانتباه حقًّا في الحركة الشعرية التي قادها بيرم التونسي هو هذه الرؤية الجديدة التي انعكست بدورها في كثير من الأحيان على أبنيته الفنية فغيرت من شكلها ومحتواها، وإن حافظت على «النظام» الشعري الموروث، على جوهره بمعنًى أدق. ولكنه في «محافظته» كان منحازًا بصورة واضحة إلى جانب القيم الأكثر تقدمًا في التراث، قيم ابن عروس — على سبيل المثال — الذي ولد في أواخر القرن الثاني عشر فكان يترنم:

الليل ما هوش قصير
إلا على اللي ينامه
والشخص ما دام فقير
ما حد يسمع كلامه
لا بد من يوم معلوم
ترتد فيه المظالم
أبيض على كل مظلوم
أسود على كل ظالم

وهكذا الأمر في تراث عبد الله النديم الذي شارك بشخصه في دوامة الثورة العرابية وتراث سيد درويش في اللحن والأغنية إبان ثورة ١٩١٩م. هذا التراث الممتد من أعماق الأرض المصرية وشاعرها المجهول إلى بواكير العصر الحديث، هو الرصيد الفني العظيم الذي نهل منه فؤاد حداد وصلاح جاهين ومن بعدهما أبناء الجيل الجديد من شعراء العامية المصرية، نهلوا جميعًا هذه «الرؤية» الجديدة للحياة، وهي الرؤية التي لا تقتصر على الجانب الاجتماعي وحده، وإنما هي من الرحابة والعمق والثراء بحيث تجمع بين الأصول النفسية للشعب المصري ومصادر عذابه الأولى وجذور أفراحه المشوبة دائمًا بالحزن، نضاله مع النفس والغير، ومعاركه اليومية مع الطبيعة والتاريخ. ولقد كان فؤاد حداد رائد «المدرسة الجديدة» لشعر العامية المصرية، وإن واكبه وتجاوزه صلاح جاهين وبقية أبناء الجيل الجديد. ولعل ريادة فؤاد حداد هي أنه جمع بين المعرفة العميقة بأسرار اللغة العربية وتراثها الشعبي، وبين ثقافة عصرية تقدمية أتاحت له الحفاظ على همزة الوصل بينه وبين الوجدان الشعبي الأصيل، شكلًا ومضمونًا.

ولقد كان عدوان ١٩٥٦م من أهم الحوافز التي دفعت فؤاد حداد إلى تجديد الحياة في شعر العامية المصرية بعد سباتها الطويل بين أحضان الإذاعة وموتها الأكيد على ربابة المناسبات، فالإذاعة جمدت الأغنية المصرية في إطار الأبعاد المحدودة الأفق للعواطف السطحية العابرة، حتى إن بحثًا جامعيًّا أحصى عدد «الكلمات» المستخدمة في اللغة الرئيسية للأغنية المصرية مقررًا أنها لم تتجاوز ١٤ كلمة كما جاء في إحدى مقالات الدكتور حسين فوزي بالأهرام. وكذلك قامت بعض الفِرق الشعبية المتجولة، بانجذابها إلى دائرة الضوء الرسمية، بتزييف الكثير من النصوص الشعبية — بالحذف والتعديل والإضافة حسب مقتضيات الحال — نفاقًا رخيصًا منها أو من الذين جاءوا بها من أرضنا الطيبة مستغلين سذاجتها وفقرها. أقبل فؤاد حداد مناضلًا ثوريًّا وشاعرًا موهوبًا فأزاح بقوة واقتدار عن كاهل العامية المصرية أعباء الزيف والافتعال، ثم خطا بها خطوةً جديدة بعد بيرم التونسي فلم يكتفِ أن يبث في جوانحها «روح الشعر»؛ بل حاول جاهدًا أن «يجسد» هذه الروح تجسيدًا شعريًّا حقيقيًّا لا يكتفي بالرؤية الاجتماعية وحدها، ولا يكتفي بإنجازات الرواد العظام في تاريخ العامية وحدهم. وإنما حاول — وقد نجح في أغلب نماذجه — أن يصوغ من شعر العامية المصرية «رؤيا» حديثة للعالم وضع دعامتها الأولى في أساس البناء الشامخ الذي نطالع آياته الفنية اليوم بإعجاب كبير. وكان عدوان ١٩٥٦م على أثر تأميم قناة السويس من أهم المصادر التي شاركت بنصيب موفور في وضع هذه اللبنة الأولى؛ ذلك أن تأميم القناة لم يكن عملًا وطنيًّا فحسب؛ بل كان عملًا اجتماعيًّا في نفس الوقت، ولم يكن عملًا محليًّا طارئًا؛ بل كان نقطة تحول تاريخية. ولذلك كتب فؤاد حداد قصيدته: «يتيم في بورسعيد» مزاملًا ناظم حكمت في قصيدته «منصوري»، وليس غريبًا بعدئذٍ أن تتشابه «الرؤيا» بين الشاعرين لأن كليهما يصدران عن فلسفة اشتراكية واحدة، ولأن «الحدث» الشعري إن جاز التعبير ذو دلالة تاريخية تتجاوز حدود الأوطان. ولكن التشابه هنا تزكية للقصيدتين معًا وليس انتقاصًا لإحداهما، «فالصغير» الذي يرمز إلى المستقبل هنا وهناك هو نقطة بداية لا أكثر. و«المستقبل» هو الفكر المشترك بين فؤاد وناظم هو الضمير الذي يحرك الدماء في قلبيهما. أما بقية عناصر «الرؤيا» فتختلف بينهما بعد ذلك أعمق الاختلاف، تختلف بمعدل درجة الأصالة التي تفرق بين شاعر وشاعر.

ويغلب على قصيدة «يتيم في بورسعيد» طابع الموال كقصة شعرية يوحد أبياتها الوزن وتقفية جميع أشطر المقطع الواحد فيما عدا الشطرة الأخيرة في كل مقطع، فإنها تنتهي بقافية «مختلفة» عن القافية الموحدة بين الأشطر السابقة عليها في المقطع الواحد، ولكنها «مشتركة» مع الشطرة الأخيرة في بقية المقاطع. وتتألف «يتيم من بورسعيد» من أربعة مقاطع أولها مكون من ثمانية أبيات، سبعة منها مقفاة تقفية مشتركة. والمقطع الثاني مكون من ستة أبيات، خمسة منها مقفاة بقافية واحدة ولكنها مختلفة عن قافية المقطع الأول. والمقطع الثالث مكون من ستة أبيات خمسة منها مقفاة بقافية واحدة ولكنها مختلفة عن قافيتي المقطعين الأول والثاني. والمقطع الرابع والأخير مكون من خمسة أبيات، أربعة منها مقفاة بقافية واحدة ولكنها مختلفة عن قوافي المقاطع الثلاثة السابقة. أما قافية البيت الثامن من المقطع الأول، والبيت السادس من المقطع الثاني، والبيت السادس من المقطع الثالث، والبيت الخامس من المقطع الرابع والأخير فإنها قافية واحدة مشتركة.

والقصيدة على هذا النحو تميل إلى طابع الموال الصعيدي، وتقترب كثيرًا من «الفن الأحمر» المنبثق عن هذا الموال، وهو يختلف عن «الفن الأخضر» في كونه يتناول غرضًا حزينًا أو مريرًا. وهو يقترب أكثر من الموال الذي يتركب من «فرش» و«غطاء» و«قفلة» مع شيء غير قليل من التحوير والتطوير. وبالرغم من أن فؤاد حداد يستخدم عامية المدن إلا أن التركيب الشعري — ولا أقول اللغوي — لقصيدته يبتعد كثيرًا عن مواويل ريف الدلتا، وإنما هو يتأثر غاية التأثر بالموال الصعيدي «الذي يحفظ لنا تقاليد الإنشاء الشعبية لأنه هنا أكثر اتصالًا بأغنية العمل البدائية»، كما يقول رشدي صالح في الجزء الأول من كتابه الهام «فنون الأدب الشعبي».١ والنظام الشعري للموال الصعيدي «المقفول» يقوم غالبًا على سبعة أغصان ذات قافيتين، فالبداية والخاتمة معًا ثم الوسط، أي إنه لو فرضنا أن قافية الشطرة الأولى هي أ لكانت القافية في الموال على النظام التالي (أأ، ب ب ب، أ). وقفل الموال يتمثل في التخريج الصوتي للكلمة الأخيرة في الأشطر أ أ أ ثم الإدغام والتخريج في الكلمة الأخيرة من الشطرة الرابعة ب، وفي الخامسة ضمت حركة الرفع في الوسط هكذا:
مما جرالي دموع العين جورباتي «أي: قريبة إلي»
من سجم حالي عملت الكل جورباتي «أي: تقربت إلى الجميع»
لكن أنا شايف أساهم شبيه النبل جورباتي «أي: كتل من الطمي الحاف»
أنا كنت أنظر اللي أريده من بعيد بازل «أي: أستطيع أن أرى من بعيد»
وآدي كلمة الندل شبعتني عيوب بازل «أي: بالذل»
من بعد ركبي على المخزوم والبازل «المخزوم: الجمل العاتي، البازل هو الجمل الصغير»
أنا عدت أمشي على الأجدام جورباتي أسير خببًا على الأقدام»

هذا هو النظام الشعري لموال صعيدي مقفول وأحمر، فماذا فعل فؤاد حداد؟ كتب المقطع الأول من «يتيم بورسعيد» هكذا:

بعد الرصاص ما سكت كان الرصاص بيفوح،
الجو حابس آلامه والحجر مجروح،
الأولة آه على عيل يتيم بينوح،
والتانية آه فين أبوه وأمه وفين حيروح،
والثالثة آه كان لنا في الشمس بيت وسطوح،
يا قلبي دقت إيدين على بابك المفتوح،
عيل يتيم على تل من الحجر بينوح،
ويبص لك بعيون أوسع من الأجفان.

والشاعر هنا على النقيض من غالبية الكثير من مطولاته الشعرية التي يلعب فيها بترادفات الكلمة الأخيرة من البيت ذات التركيب اللغوي الواحد والمتعددة المعاني وظلالها، لا يعمد هنا إلى لعبته هذه التي كانت تقترب به كثيرًا من النظام الشائع للموال الصعيدي. وإنما هو يطور اللعبة بالتركيز على القافية المشتركة بين الأبيات السبعة والتنويع في معانيها. وكذلك هو يطور القصة الشعرية فلا تصبح بدايتها في بيت أو بيتين ولا نهايتها في حجم مماثل، وإنما هو يخصص مقطعًا كاملًا لهذه البداية يكاد حجمه أن يصل إلى حجم الموال القديم. ولم يكن اتساع هذا الحيز اتساعًا كميًّا، أي أن الفرق بين مقطع من ثمانية أبيات في قصيدة حداد ومقدمة من بيتين في الموال القديم ليس فرقًا في «عدد» الأشطر وإنما في وظيفتها، ولقد جاء الكم أو العدد تعبيرًا عفويًّا عن الوظيفة الجديدة لمعنى المقدمة التي استخدمها الشاعر المعاصر. فالبداية لم تعد تقريرًا لحكمة، والقصة الشعرية لم تعد إيجازًا لعبرة، والخاتمة لم تعد نطقًا بحكم. وإنما تأتي مقدمة «يتيم في بورسعيد» تجسيدًا مخلصًا لعنوانها، وتعبيرًا مفصلًا عن هذا «اليتيم» النائح بعد أن فقد أبويه في العدوان، بعد أن «صمت» الرصاص و«فاحت» رائحته، وأصبح حتى هذا الحجر جريحًا يشارك اليتيم نواحه ونظرته المنطلقة من عيون أوسع من أجفانها. القصة الشعرية هنا تبدأ من نقطة أكثر تحديدًا من بداية الموال القديم، وأكثر قربًا من قصيدة شاعر حديث كناظم حكمت، يصدر حقًّا عن تقاليد فنية مختلفة، هي التراث التركي، ولكنه يشترك مع فؤاد حداد في هذه الإضافة الجديدة إلى الشعر بوجهٍ عام، وأعني بها «الرؤيا» الشعرية الحديثة للعالم. وهي الرؤيا التي تتخلص من ذاتية ضمير المتكلم في الموال القديم حيث يتحول أنين الفرد في أغلب الأحيان إلى «شكوى شخصية» لا تتمثل أنين المجموع، فاليتيم هنا في قصيدة حداد — كالطفل منصور في قصيدة ناظم حكمت — هو شخصية مفردة، ولكن ضمير الغائب الذي يعود عليه يباعد بينه وبين أن يكون نواحه جراحًا شخصية وإنما هو يتمثل— كشخصية فنية — روح الشعب بأسره، في بورسعيد كلها وفي مصر كلها؛ بل إن بناءه الفني المنحوت في ضميرنا يتسع لأحزان كافة الشعوب التي تعاني ويلات الحروب العدوانية. وهكذا تنجز القصيدة العامية الحديثة أضعاف ما كانت ترمي إليه الأغنية «الشعبية» القديمة. فبينما تنطلق القصيدة الحديثة من «الخاص» إلى «العام» كان الموال القديم ينطلق من «العام» في المشاعر والأفكار وإن تلبست ألفاظها ضمير المتكلم، ولكنها لا تصل إلى تخوم الآفاق «العامة» الرحبة وإن تلبست ضمير الجمع من المخاطبين أو الغائبين. إن شعبية الأغنية الموروثة أو الموال القديم كان مصدرها الأول — فيما أعتقد — هو عملية «الإسقاط» الجماعي التي يقوم بها كل فرد على انفراد بدافع من آلامه الشخصية لا بفاعلية القصيدة التي لم تهدف أبدًا إلا أن تكون، مونولوجًا داخليًّا مسموعًا، فالأواصر والوشائج بينها وبين ضمائر الآخرين المفردة — لا عقلها الجمعي — هي أواصر شخصية نتيجة إسقاطات المتلقين وليست نتيجة همزات وصل فنية بين الفرد القائل والجماعة المستمعة. ولربما يبدو غريبًا أن عصرنا الذي ازدادت فيه الفردية تفردًا هو العصر الذي يستطيع فيه الشاعر أن يكثف في كلمة واحدة كيانًا روحيًّا مشتركًا بين جماعات عريضة من القراء والمستمعين بغير مجهود «إسقاطي» من جانبهم؛ بل وأحيانًا بغير أن تكون القضية مشتركة بينهم إلا مجازًا وبطريق غير مباشر. فالقارئ الذي يعيش في بلد يتمتع بالاستقلال يهتز لقصيدة شاعر كتبها في بلد يرزح تحت نير الاستعمار، لا لأن ثمة ذكريات واحدة مشتركة بينهما فحسب؛ بل لأن عالمنا المعاصر بلغ من التقارب حدًّا يؤثر فيه نضال الوطن المستعمر على كيان الوطن المستقل، والعكس أيضًا صحيح فالأجزاء المستقلة من العالم تؤثر على أوضاع الأجزاء المستعمرة وهكذا. ليس ذلك إلا مثلًا واحدًا على إمكانية الجمع بين «فردية» الشاعر في العصر الحديث و«جماعية» قصيدته إن جاز التعبير. ويتوفر الشاعر على توظيف أدواته الفنية في خدمة هذا الغرض، فهو يستخدم «القصة» قالبًا شعريًّا و«المشهد» لوحةً تشكيلية، ويجند الطبيعة والإنسان في جزئياتهما الدقيقة في تجسيد «الصورة الشاملة». ويبدأ فؤاد حداد مقطعه الأول «بعد الرصاص ما سكت» أي أنه يختار لحظةً زمنية محددة هي اللحظة التالية مباشرةً للدمار الذي حدث. أي أننا لن نستعير عواطف التنبؤ بما سيكون، ولن نواكب حدثًا كائنًا، وإنما نحن في غيبوبة الكابوس بما تم وكان. هذه البداية لا تشد فينا أوتار اللهفة ورجم الغيب، ولا تحملق فينا أعصاب التوتر الملتهبة، وإنما هي تواجهنا بكلمة «الخاتمة» وحركة إسدال الستار. أي أن «البداية» في القصيدة هي «النهاية» في الواقع، نهاية عرفنا مقدماتها سلفًا قبل أن نلج عالم الشاعر. وتلك أصعب اللحظات في حياة الشعر، فماذا يستطيع أن يضيف؟ أم أنه يتردَّى في وهاد «التسجيل الوثائقي» الذي يحيطنا علمًا بما حدث وكأننا لم نعايشه بالدم وبذل النفس؟

ذلك هو التحدي الذي جابهه فؤاد حداد في قصيدته منذ اللحظة الأولى التي اختار فيها «بطلًا» من بين أنقاضٍ أكلت أبويه، وها هو ذا يجلس نائمًا على تل من الحجر تتملكه نظرة واسعة ثابتة على عيني الشاعر وقلبه. هذا إذن «الموقف الدرامي» الذي واجه به شاعرنا تحدي «الفعل الماضي» بسكونيته وأيلولته إلى دنيا الذكريات، وهو الموقف الذي أنقذ به الشاعر قصيدته — قصيدتنا نحن وقصيدة الناس أجمعين — من السقوط في هاوية التسجيل الفوتوغرافي الجامد. لقد رأى في العدوان موقفًا ممتدًّا لا ماضيًا محدودًا، ورأى في «يتيم بورسعيد» إحدى لحظات الحركة التي تعبر عن «روح الاستمرار» بدلًا من برودة التوثيق التاريخي وكأنها برودة الأكفان. و«اليتيم» في قصيدة فؤاد حداد كلقطة من إحدى الزوايا للزمان المتحرك هو نفسه «حركة» دائبة التطور، فلنتابع إذن هذه الحركة في المقطع الثاني:

ويبص للأرض يلقى الشيء ولا يلمه،
الطوبة دي كانت البيت اللي بيضمه،
والهدمة دي لسه فيها ريحة من أمه،
والرملة دي قايدة من عرقه ومن دمه،
كل المآسي اللي فوق الأرض بتهمه،
عيل يتيم على أطلال البلد سهران.

تلك إذن هي حركة الطفل اليتيم الذي اختاره الشاعر من بين بورسعيد فور توقف الرصاص عن الانفجار، إنه بلا حراك لا في غير مبالاة، فهو حين يرى آثار وجوده السابقة على العدوان في طوبة وهدمة ورملة يكتفي بالنظر إلى الأرض «يلقى الشيء ولا يلمه» ليست هذه «لامبالاة» عقيمة؛ فقد استدرك الشاعر بأن «كل المآسي فوق الأرض بتهمه» وأنه «على أطلال البلد سهران». أجل، إنه لا يبالي البرد والجوع كما يقول المقطع الثالث لأنه أصيب بالذهول وفقدان الوعي أو لأنه لم يعد على اتصال بمعاني الأشياء بعد أن فقدت جدواها، فها هو ذا:

جعان ولا يشتكي من الجوع ولا يقول آه،
بردان ولا يشتكي من البرد مهما سقاه،
بيسأل اليتيم كام عيل في سنه لقاه،
حتى الحجر انتفض من نظرته لشقاه،
وقف ولف المدينة كلها ورآه،
رأى الحنان في عيون الشعب كل حنان.

أي أن الشاعر وهو ينتقل من التفصيل إلى التعميم في المقطع الواحد، إنما يصوغ دقائق الحركة الواحدة لبطله؛ إذ هي تؤلف فيما بينها تحولًا كيفيًّا في موقفه الدرامي الفاجع من السلبية الكامنة في اليتيم والجوع والبرد والتشرد الذي «يستفز» الحجر كما يقال في اللغة الشعبية، إلى الإيجابية التي تدفعه لأن يلف المدينة ويرى رؤيا، إنها ليست حلمًا؛ بل رؤيا يستشفها وجدانه البصير في عيون الشعب المعتدى عليه. وكانت الرؤيا التي رآها هي «حنان» هذا الشعب. لم يلتقط الفنان من مئات الانفعالات المرتسمة على الوجوه المعذبة سوى هذه اللمسة من «الحنان» أي ما يفتقده هذا اليتيم الشريد الجائع البردان. وعندما يعثر الفرد على «مفتاح» حياته في قلوب الجموع فإنه يتوحد مع هذه الجموع توحدًا تلقائيًّا عميقًا وتستكمل رؤياه جوهرها الأعمق، فمن خلال «الحنان»:

رأى القلوب في جحيم المعركة ثابتة،
رأى الآمال على أطلال البلد نابتة،
رأى الحمام حط جنبه والتفت لفتة،
لا الأولة آه ولا التانية ولا التالتة،
مسح اليتيم دمعته واتحطم العدوان.

فإذا كان الشاعر ينتقل من التفصيل إلى التعميم في المقطع الواحد، فإن هذا بالضبط هو منهجه في بناء القصيدة العام، أي أنه كذلك يبدأ من التفصيل وينتهي إلى التعميم على طول المقاطع كلها؛ الهيكل الشامل للقصيدة. وإذا كانت «الحركة» هي الوحدة السائدة على جزئيات المقطع الواحد، فإنها أيضًا هي العمود الفقري للقصيدة كلها، هي «الرؤيا» التي يبلغها الشاعر — ونحن معه — بعد تلقينا لآخر كلمة في القصيدة. وذلك هو الفرق الجذري بين القصيدة الحديثة والموال القديم، فالتعميم وضمير المتكلم والحكمة البليغة لا تؤدي إلى «تحرك» بناء الموال، وإنما هي تؤدي إلى نوع من السكون وثبات الحال، بينما الصور الفنية وضمير الغائب والالتحام بين الفرد والمجموع تؤدي إلى هذا النوع من الحركة الذي ينقل المشاعر «الخاصة» إلى درجة ناضجة من المشاعر «العامة» وينقل الموقف «الفردي» إلى المستوى «الاجتماعي» ويتحول يتيم بورسعيد الجائع الشريد، إلى شعب كامل يمتلئ حنانًا وثباتًا وآمالًا تحطم العدوان وتمسح عيني اليتيم. وهكذا تنجو بطولة «يتيم في بورسعيد» من برودة التسجيل الفوتوغرافي، وسكونية التوثيق التاريخي لترتفع فوق مستوى الواقع والتاريخ، إلى سماء الأسطورة والشهادة، فليس بالتقريرية والمباشرة وحدها يهتف الشاعر للحرية، وإنما بكل «صورة شعرية» انبثقت عنها رؤيا فؤاد حداد تجسدت المقاومة الوطنية في بورسعيد عملًا وطنيًّا واجتماعيًّا في آن، يقوم ببطولته طفل صغير صادف الشاعر يومًا يجلس على تل من حجر وينظر إليه بعيون أوسع من أجفانها.

•••

إني إذا كنت قد ركزت على «يتيم في بورسعيد» من بين أعمال فؤاد حداد الكثيرة، فإنني لا أنسى هذه الأعمال العظيمة حين أقول إن الدور الذي قام به فؤاد حداد في تاريخ العامية المصرية يشبه إلى حد كبير ذلك الدور الذي قام به البارودي في تاريخ الشعر العربي مع اختلاف العصر وبقية الفوارق بين الشاعرَين. أردت أن أقول إن فؤاد حداد هو رائد حركة «البعث» في حياة العامية المصرية الحديثة بعد أن كانت قد آلت — أو كادت أن تئول — إلى بوار وجمود. بارت العامية وجمدت بعد أن أصبحت مجموعةً من الكليشيهات المعدة سلفًا، وأقبل فؤاد حداد ليبعثها من مرقدها ويرد إليها الحياة. وعلى غير هذا النحو أتصور الدور الذي قام به صلاح جاهين، فالمسافة بينه وبين فؤاد حداد — إذا تجاهلنا المدلول الزمني لهذه الكلمة — تكاد أن تكون هي بعينها المسافة بين شعر البارودي وشعر بدر شاكر السياب؛ ذلك أن الرؤيا الحديثة في شعر حداد ظلت تعاني تناقضًا حادًّا بين شكلها ومحتواها، بين الموروث والجديد، حتى كان ديوان «كلمة سلام» لصلاح جاهين عام ١٩٥٥م فخطا بالعامية المصرية خطوتها الثورية الباهرة التي رافقت الشعر العربي الحديث في ضربته التي وجهها للعمود الخليلي باعتماده على التفعيلة الواحدة كمصطلح نغمي. واختفت تدريجيًّا أسباب التناقض الذي كانت تعانيه القصيدة العامية «الحديثة» أو رؤياها بمعنًى أدق. جرؤ صلاح جاهين على أن يؤازر الشعر العربي الحديث في ضربته للنظام العمودي، ولكنه لم يشأ أن يحسم الموقف الفني كما فعل رواد الحداثة في الفصحى، فراح يجرب التفعيلة الواحدة جنبًا إلى جنب «عمود» العامية. وكان «موال عشان القنال» من أروع الآثار التي خلفتها تلك المرحلة المزدوجة من مراحل تطوره الشعري؛ فقد كتبها في أغسطس ١٩٥٦م أي قبيل العدوان بأشهر ثلاثة. وفيها يتضح مبلغ حيرته وتمزقه ومعاناته التي أرقت وجدانه وشفت به إلى درجة النبوءة.

وينقسم «موال عشان القنال» من الناحية الفنية إلى ثلاثة أقسام، لا تخرج في إطارها العام عن الموال الشعبي، ولكنها تضيف إليه أبعادًا جديدة لم يعرفها من قبل. والقسم الأول يكاد أن يكون مقدمةً عن الشعر والوطن يتقمص فيها الفنان روح الشعر الثوري على مر العصور، الشعر القادر على تغذية ما هو مشرق وإيجابي في نفس الإنسان بحيث يدفعه إلى اتخاذ موقف عملي من الأحداث المحيطة به. وفي هذه المقدمة يخرج صلاح جاهين عن الموقف التأملي لكثير من مقدمات الشعر الشعبي التقليدي أو الموقف التسجيلي الذي يوجز خبرة الأسلاف في حكمة أو عظة كنذير لما ستجيء به بقية الموال من أحداث «عظام». لذلك تخلو هذه المقدمة من روح الندب والنواح والأنين جنبًا إلى جنب مع خلوها من السرحان في ملكوت الخيال. على هذا فالقسم الأول من الموال رغم قيوده الشعبية الأصيلة من القافية المتواترة في خمسة أشطر (تستثنى منها الشطرة قبل الأخيرة) إلا أنه يعود فيتحرر من هذه القيود بابتعاده عن التعميم والتأمل والتسجيل، ودخوله مباشرةً إلى جزئيات التجربة وتفاصيلها الدقيقة، فالشاعر يتصل بالقديم أوثق الاتصال حين يفتتح «الربابة» بقوله:

يجعل كلامي فانوس وسط الفرح قايد،
يجعل كلامي على السامعين بفوايد.

ثم يستدرجك بنفس الوشيجة النغمية بقوله «يجعل كلامي ولا ناقص ولا زايد.» حتى يصل ما بين القديم والجديد، بين التعميم والتخصيص هكذا:

إحنا في وقت البنا ماحناش في وقت كلام،
يجعل كلامي حجارة ومونة وحدايد.

وكأن البيت الثالث هو همزة الوصل بين البيتين الأولين اللذين يسلك فيهما الشاعر مسلك الشاعر الشعبي المجهول أو «الزجال» المعاصر، أي ذلك الشاعر الذي يمتطي صهوة القديم دون أن يضيف شيئًا فتأسره الشكلية المفرغة من روح العصر، وبين البيتين الآخرين وفيهما يلتقي الشاعر مباشرةً — بإيجاز وتركيز آسرين — بهذه الروح التي اجتاحت الوجدان المصري الحديث في احتدام التناقض بينه وبين السيطرة الأجنبية التي تلونت مخالبها بشتى المغريات و«التحالفات»، ولا يزال الشاعر في «المقدمة» وهو يبحث عن الكلام «اللي زي الورد والحنة» ليلقيه سلامًا وتحية:

على شباب انقتل في حب أوطاننا،
شال السلاح في يمينه وقال يا بلدي،
ندْرنْ عليَّا لاخليكي ولا الجنة.

وهكذا يستعير صلاح جاهين مفرداته اللغوية ذات الظلال الشعبية الغائرة في الوجدان المصري، وهكذا أيضًا يشحذ الذاكرة الغنية بمعارك النضال من أجل الحرية، وهكذا أخيرًا يمزج — في وقت مبكر — بين المعركة الوطنية والثورة الاجتماعية، لأنهما في مثل بلادنا عملة واحدة ذات وجهين. ثم يجوب الشاعر مصره الغالية برفقة الشباب المناضل — بحاروة وصعايدة — من السواحل إلى الصحاري إلى قلب الوادي «واخلي قلبي حديد واهدي الصنايعية.» بذلك يمتد الخيال الشعبي الأصيل من سيد درويش إلى شاعرنا المعاصر لا يكتفي بالطابع الاجتماعي للثورة، وإنما يضع النقط على الحروف ويخاطب الفئات الاجتماعية صاحبة المصلحة الأولى فيها. وفي كلمات قليلة سريعة، خاطفة كطلقات الرصاص، يجول بنا الشاعر مهرجان الدم والحرية في مصر من عرابي إلى دنشواي إلى فجر ٢٣ يوليو، فالعلاقة بين الإنسان والسلاح في بلادنا هي علاقة الإنسان بالحرية وليست سبيلًا مزينًا بالدم للعدوان، ومن هنا ينطلق الرمز العالمي للسلام من بين شفتي الشاعر مغنيًا:

يا حمام البر سقَّف،
طير وهفهف،
حوم ورفرف،
على كتف الحر وقَّف،
والْقُط الغلة.

على أنه إذا كان الحمام رمزًا عالميًّا للسلام، فهو بنفس المقدار وأكثر رمز محلي غائر العمق في وجداننا منذ كارثة دنشواي. ولهذا لا تفوت الشاعر هذه الذكرى الدرامية، ولكنها لا تطفو على السطح في لفظ مباشر، وإنما هو يضمنها أغنيته ذات الهديل فيحث الحمام على أن يفرد أجنحته على آخرها «فإن أحدًا لن يصيبه ببنادق الصيد الإنجليزية!» فالجو أصبح خاليًا لأن الدم، بطبيعة الحال، كان غاليًا. وها هو ذا يطلب من أم صابر — بطلة المقاومة المصرية عام ١٩٥١م — أن تطل على الجسر الذي لم يعد يحمل قدمي غادرٍ يمشي متسليًا:

ما بقاش على التل غيرنا،
والحبايب
بتناصرنا،
يا حمام انزل في خيرنا،
والْقُط الغلة.

ويراوح صلاح جاهين بين نظام الموال ونظام الأغنية مراوحةً تشي ببناءٍ درامي حقيقي، تمتص جزئيات منه ما نتمكن بواسطته من التعبير عن رؤيا البطولة، وتمتص جزئيات أخرى ما يمكنها من حمل أعباء المقاومة. والبناء في «موال عشان القنال» يعتمد الأقصوصة الشعرية أساسًا فنيًّا، ولكنه يزاوج بينها وبين الحوار الذي أقامه بين «ممثلي» الشعب المصري و«ممثل» الاستعمار الإنجليزي مزاوجةً تنتهي بنفس المقدمة الفكرية التي «فرش» بها القصيدة. ولكن الحكاية والحوار مجرد هيكل، أما الموال والأغنية فهما الأدوات القادرة على الصياغة التفصيلية لهذا الهيكل. ولقد ساعد صلاح جاهين في مواله العظيم أنه لم يتكئ على بطولة فردية بعينها أو بطولة نموذجية، وإنما استقطع من الخيال الشعبي بعضًا من شرائحه، كما استقطع من الواقع النضالي بعضًا من نماذجه. وبين الواقع والخيال امتد هذا النسيج الدرامي الرائد. امتدت في وعينا الصورة المصرية الجديدة المضيئة بالثورة وإشراقاتها في المصانع والحقول والسدود، وامتدت من خلفها أو تحتها — في ظل الشفافية الرقيقة التي يمر بها الشريط السحري — الصورة القديمة المعتمة للمرض والجوع والخوف والجهل والعبودية. تمر الصورتان معًا وفي وقت واحد، ولكن إحداهما تمر كالحلم والأخرى تدب في شراييننا واقعًا عميق الأثر متين البنيان. وبين الواقع والحلم تتسع فجوة لها تاريخ في وعي الشاعر والشعب الذي ينتمي إليه. الفجوة التي اتخذت من «القنال» رمزًا لها يتصادف بتراب الأرض فيصبح الرمز والمرموز إليه شيئًا واحدًا. فالحدث الواقعي الذي تدور من حوله الدراما الشعرية في القصيدة هو «تأميم القناة»، لذلك تتداعى إلى المخيلة تلقائيًّا سيول التاريخ القديم، التاريخ الدامي المعذب لآلاف السواعد والقلوب المصرية التي دُفنت أشلاؤها عبر القناة فدُشنت ماؤها بالدماء المصرية، حتى إن عودتها إلى حفدة هذه الدماء المسفوكة يحمل معنًى تراجيديًّا عنيفًا لا سبيل إلى وصفه إلا بالإنصات إلى وقعه في رؤيا البطولة عند المعاصرين:

بحر القنال يا كترها رماله،
وجدِّنا فوق الكتاف شاله،
بحر القنال اتبدلت حاله،
وجدِّنا متهنِّي بعياله.

لا سبيل لردم الهوة المستعصية على التاريخ الوجداني للشعب إلا بهذه الرؤيا الطموح المتفائلة التي ترى الأجداد سعداء بما حصل عليه الأحفاد، وكأنها تفرح بنوع «الثمن» الذي دفعوه فيما مضى، فهاهم الأبناء يثأرون لأرواحهم التي ظلت تحوم فوق المياه الدامية آمادًا من الزمن، يكويها القلق ولا تعرف الاستقرار. ولكن هذه الأرواح بدأت تعرف الهدوء والاطمئنان عندما أحست بحفدتها «ينتقمون» لها انتقامًا مدويًا فيستردون الدماء الطافية على سطح المياه و«ينازلون» الغاصب نزالًا مروعًا حصلوا بعده على الحق الضائع. ولم تكن هذه الميثولوجيا في وعي الشاعر أثناء كتابته للقصيدة، وإنما نحن نستطيع أن نستشف أغوارها من عمق الشعر وكثافته فنلتقط لمحة هنا ولمحة هناك، ومن جماع هذه الملامح يتشكل لنا — في معاناة صادقة أمينة مع التلقي — ذلك الوجه الغائب الحاضر، الوجه الماضي والحالِّ، الوجه القديم الجديد، وجه التاريخ والشعب صانعه الأول.

تلك هي مقدمة «الرؤيا» التي بلورها صلاح جاهين في كيان المتذوق لهذه العلامة-القصيدة، من علامات شعر المقاومة المصرية الحديثة. أما القسم الثاني «موال عشان القنال» فهو ذلك الحوار بين «إيدن» من ناحية، وشعبان وعوضين وجابر ومحمود من الناحية الأخرى. وهو الحوار الذي تركزت فيه السمات الاجتماعية للمعركة الوطنية. ولا يتقيد الشاعر هنا بعدد محدد من الأبيات ولا بنظام معين من القافية وحرف الروي، أي أنه لا يتقيد بالنظام التفصيلي للموال، وإنما هو يتلاعب بأقصوصته وحواره تلاعبًا وزنيًّا غريبًا على الموروث متسقًا إلى حد كبير مع طبيعة المحتوى الشعري، فالحوار بين الاستقلال المصري والاستعمار البريطاني ليس «حوارًا» إلا بالمعنى اللغوي، ولكنه «قطيعة» وانفصال بالمعنى الفكري والسياسي. ولذلك جاء الديالوج أقرب ما يكون إلى روح المونولوج وإن تعددت الأصوات. فشعبان حين يتساءل: «مين اللي شال بالغلق على كتفه؟ مش جدي؟» لا يمكن أن يكون هذا طرفًا في حوار مع اليد القابضة على المصير الوطني عن طريق القوة. وإنما هو «حوار مع النفس» يسوقه الشاعر لنقتنع نحن — وجدانيًّا — بجوهر القضية. وكذلك إيدن حين يجيب: «لكن دي شريان مهم عشان بريطانيا.» فإن المتلقي بصورةٍ عفوية يشعر حتى النخاع أن هذا الجواب العقلاني لا يمكن أن يكون طرفًا في حوار «صاحب الحق المصري» وإنما هو نوع من الحوار مع النفس ضل طريقه إلى العقل. ولذلك فإن التداعي اللفظي وحده هو الذي ربط بين إجابة إيدن واحتجاج عوضين الجزار بأن خبرته الطويلة مع أعضاء الحيوان تجعله يؤمن بأن «كل البهايم عروقها جوة جتتها» هنا يتحلل المنطق بطبيعة الحال، ويلتهم جرح الشعر العاطفي، فالعقلانية الصارخة في المقطع السابق لإيدن، تذبحها العشوائية المتداعية في المقطع اللاحق لعوضين، والمفارقة بينهما لا تصوغ حوارًا بين طرفين، وإنما مونولوجًا بين كل نفس وصاحبها يتم في معزل عن المونولوج الآخر وصاحبه، وكأن جدارًا منتصبًا على خشبة المسرح يقسمه إلى نصفين؛ في كل منهما ممثل يقوم بدور مشترك مع الممثل الآخر، ولكن الدور يشترط الحديث فيتكلمان دون أن يسمع أحدهما الآخر. ولا يصل صلاح جاهين بالطبع إلى درجة تدفعهما إلى التحدث في وقت واحد، فليس من طبيعة تجربته الشعرية أن يصل إلى هذه الدرجة من التشابك والتعقيد، وعندما يختتم محمود هذا الحوار الجماعي مع إيدن برفضه للمؤتمرات التي اقترحها الاستعمار لحل المشكلة قائلًا:

دي مؤامرة مش مؤتمر، واحنا ما نقبلهاش،
واحنا ما نعرفش مؤتمرات ترللي.

يصل بنا الشاعر خاتمة المطاف بهذه النبوءة المجلجلة التي تتمثل حصيلة الصراع المصري مع الاستعمار، فنعلم يقينًا بأنه لن يقف مكتوف اليدين إزاء استردادنا لحقوقنا وإنما هو سوف يستخدم هاتين اليدين بكل ما ينبض فيهما من دماء سرقت أقواتنا على مر التاريخ القديم والحديث. ويوظف الشاعر خاتمته للموال بأغنية أولاد حارتنا «توت» التي يستوعب فيها الظلال الفولكلورية والإيماءات الحية في وجداننا الشعبي. وكالمقدمة التي افترش بها القصيدة، فينتهي إلى هذا اللون المركب من التعميم والتخصيص، من الكل والجزء، من النبوت القادر على حماية القنال إلى هديل الحمام والسلام:

يا مصر يا وردة،
شال الحمام،
حط الحمام،
على كل إيد فردة.

وليس النبوت هنا نوعًا من المبالغة بل هو نوع من الواقعية، فنحن لن نناطح الاستعمار بنفس «القوى» التي يملكها، ونحن نمسك النبوت في يد والحمام على اليد الأخرى، القوة التي نستطيعها والسلام الذي نطلبه. و«القوة» المصرية في موال صلاح جاهين ليست مجرد القنابل والطائرات والمدافع والدبابات، وإنما تكمن قوة الشعوب الصغيرة الحديثة الاستقلال في اعتماد أبنائها على إيمانهم بحقهم أولًا، وباستنادهم المشروع على أصدقاء الحق في كل مكان:

يا ميت حلاوة عليك يا أخ يا عربي
دقيت طبولك وقلبك دق بالعربي

•••

يا اللي بدعتو السلام على شط نهر السند
يا اللي انتو ويانا إيد على إيد وزند في زند

•••

وحتى في إنجلترا سمعت ناس أشراف
واقفين لإيدن يقولوا كفاية يا خطاف

•••

وسمعت صوتي بيتكلم فرنساوي
والحق له ناس بتتكلم فرنساوي

•••

إيدنا في إيد كل من طلق الحمام في سماه
واللي وراه الشعوب يا فرحته وهناه

•••

فين الكلام اللي زي الدم لما يسيل
من قلبي يفضل يدوي في شمع جيل ورا جيل
لحد آخر الزمان يجري في موج النيل
ويطير حمامة السلام على مصر والدنيا
يروي حكاية بلدنا وينشد المواويل

وقد كتب صلاح جاهين الكلمة الأخيرة في «موال عشان القنال» في أغسطس ١٩٥٦م أي قبل أن يبدأ العدوان بثلاثة أشهر فكان بذلك مؤرخًا ونبيًّا معًا، مؤرخًا لتلك الإرهاصات التي تلت تأميم قناة السويس وسبقت الهجوم الثلاثي، ونبيًّا بما كان. وهو في تأريخه ونبوءته لم يسجل ولم يقرر ولم يهتف ولم يتأمل، بالرغم من استخدامه للفظة المباشرة؛ بل لقد جعل صلاح من المباشرة فنًّا أصيلًا، فالمباشرة عنده ليست إلا الإطار العام للأغنية، الإطار الذي يصل بينه وبين أوسع رقعة من الجماهير، ولكن إيجازه وتركيزه يخلصان اللفظ المباشر من السطحية والغثاثة ويمنحانه أخيلة التاريخ والحلم وسراديب الواقع الخفية. والموروث الشعبي يمده برصيد حي لا ينفد من الدلالات والظلال. وكل ذلك قد أسهم في تطوير الموال الشعبي على يدي صلاح جاهين تطويرًا يتجاوز الخطوة التي أنجزها فؤاد حداد، الخطوة التي أثمرت المزاوجة بين الموال والأغنية، وبين الأقصوصة والحوار، وبين القافية وحرف الروي بحيث إن المدرسة الجديدة في شعر العامة المصرية — بهذا الموال — تكون قد أحرزت النجاح الأول في تهيئة الأذهان لقبول تجربتها الثورية. ولم يجنح موال صلاح جاهين إلى «البطل الفرد» الذي يؤرخ للمعركة أو يتنبأ بها، وإنما هو قد توصل إلى حل وسط بين صورة «الزعيم» المعلقة طيلة القصيدة في قلب الشعب ووجدانه، وبين صورة «الشعب» المعلقة طيلة السياق الدرامي لها في أخاديد الكفاح اليومي للإنسان المصري المعاصر. ولعل التركيز على الوجه الاجتماعي للثورة الوطنية هو أبرز العلامات التي حددتها هذه القصيدة المجيدة، فبالرغم من أن معركة التأميم قد اتخذت شكل التدخل الأجنبي السافر الذي يستفز بدوره أعرض جبهة وطنية للدفاع عن العرض والأرض، فإن الفئات الأكثر ارتباطًا بهذه الأرض من عمال وفلاحين هي التي توجه إليها الشاعر بالخطاب. وكان الضمير الاجتماعي المخاطب هو انعكاسًا للضمير الوطني المتكلم، وكلاهما يصوغان الشكل والمضمون في «موال عشان القنال». وكلاهما مرةً أخرى يصوغان رؤيا البطولة في أولى خطوات شعر المقاومة المصرية في ردائها الشعبي الخالص، رداء العامية المنحوتة في عمق من تاريخنا وتراثنا وواقعنا المتعدد الأبعاد والروافد.

•••

هذا الواقع المتعدد الأبعاد والروافد هو الذي ضم بجناحيه تجارب العامية المصرية في شعر المقاومة جنبًا إلى جنب مع تجارب اللغة الفصحى التي كانت — من زاوية الشعر — تجتاز أخطر تجاربها الفنية في التحول عن العمود الخليلي ووحدة البيت إلى بعض أوزانه ووحدة التفعيلة، ولئن كانت شاعرة في العراق تنازع زميلًا لها تاريخ الخطوة الأولى في الطريق الجديد، فإننا في هذا الصدد نقول إن الحركة الحديثة في الشعر العربي تتميز أولًا وأخيرًا بأنها حركة جيل وليست حركة فرد من الأفراد على خلاف المسار التقليدي للشعر العربي حيث كان «يتزعم» التجديد هذا الشاعر «الفحل» أو ذاك. وإذا كنا نقول بأن الحركة الحديثة هي حركة «جيل» فإننا نقرن هذه الصفة «الحضارية» الشاملة بصفة «اجتماعية» خاصة هي أن هذه الحركة في جوهرها كانت في نشأتها ولا تزال في تطورها هي حركة «ثورة»؛ فقد كانت حركة التحرر الوطني والاجتماعي بمثابة «إصبع الديناميت» الذي تفجر فنيًّا في هذا الشعر الحديث. ونحن نستطيع — في غير تلفيق لغوي — أن نجمع بين الصفتين لهذه الحركة الجديدة ونقول إنها حركة «جيل الثورة». وليس المقصود بأية صورة من الصور أن الثورة تعني الانفجارات السياسية وحدها في هذا البلد أو ذاك من أقطار الوطن العربي، ولكنها تعني فكرة التغيير الجذري لأوضاع هذا الوطن، حضاريًّا.

ولئن كان النقاد يختلفون مع شاعرة العراق في منازعتها هذا الشاعر أو ذاك شرف الريادة للطريق المجهول، فإننا في مصر نتفق فيها يشبه الإجماع على أن عبد الرحمن الشرقاوي هو رائد الحركة الحديثة في الشعر المصري، دون أن نتجاهل للحظة واحدة الطابع العربي العام للحركة التي لا ينفرد بها هذا أو ذاك من الشعراء. فعبد الرحمن الشرقاوي هو أول من ثار على العَروض التقليدي في مصر ثورةً عميقة الجذور مستمرة التدفق نامية الأغصان والفروع، وعبد الرحمن الشرقاوي هو الشاعر الذي لم تنفصل ثورته في مجال الفن عن ثورته في مجال الفكر؛ بل كانت الأولى انعكاسًا عميقًا ومسئولًا للأخيرة. وعبد الرحمن الشرقاوي أخيرًا هو الفنان الدائب الفتح والريادة؛ فقد حاول القصيدة الملحمية في وقت مبكر، كما حاول المسرح الشعري، وذلك في إطار التجديد الحديث للشعر. وربما يختلف النقاد فيما بينهم حول مجموعة القيم الفنية التي أرساها هذا الشاعر الرائد في مختلف المجالات، ولكنهم لا يختلفون مطلقًا حول ريادته الفنية والفكرية. وهذا ما يدفع الباحث في رؤيا البطولة لشعر المقاومة المصرية أن يختار قصيدة «رسالة إلى زوجتي» التي كتبها عبد الرحمن الشرقاوي في بيروت مرغمًا لانقطاع المواصلات بينه وبين مصر أثناء عودته من أحد المؤتمرات الأدبية في الاتحاد السوفييتي. نختار هذه القصيدة لأنها تعبر عن لحظة احتدام في وجدان الشاعر، ولأنها تعبر عن مرحلة تالية لقصيدته الطويلة «من أب مصري» ولأنها تصوغ تجربةً فريدة هي تجربة المواطن البعيد عن وطنه إبان محنة دامية هي محنة الغزو المسلح لأرض هذا الوطن. وكان من الطبيعي أن يكتب الشاعر قصيدته في شكل «رسالة» وإن اختلف بناؤها في الكثير عن رسالته إلى الرئيس ترومان.

والرسالة الشعرية من «الغائب المضطر» عن ميدان القتال، لن تؤرخ للحدث الوطني ولن تتنبأ به، وإنما هي تواكبه منذ لحظة المفاجأة إلى لحظة العطاء غير المباشر عن طريق امتدادات الشاعر على أرض الوطن من زوجة وأبناء. والمواكبة عن قرب تختلف عنها من بعد، لأن مشاركة «الحاضر» تتضمن قدرًا كبيرًا من الاتساق والرضا، بينما مشاركة «الغائب» تتضمن قدرًا كبيرًا من التمزق والقلق والتوتر. فهي مشاركة بالقلب، لذلك كان نبضه الخافق بين الضلوع هو كل ما يملكه— ولا يملكه — الشاعر. أما المشاركة بالقلب والساعد على أرض الفداء، فإنها تكمل الدورة الناقصة وتستوعب اللهاث المرتاع. هذا اللهاث الذي يتدفق في البداية بروح اليأس المرير:

الليل يهبط من جديد،
بالرعب والظلمات والفوضى وسلطان الذئاب،
والخراب،
وتسيل من هذا الظلام،
جميع أشباح الظلام،
بكل أهوال الظلام.

في شطرةٍ واحدة أوجز الشاعر تاريخًا داميًا للاستعمار؛ بل في كلمةٍ واحدة هي «الليل» البعيد كل البعد عن القمريات الرومانسية، والقريب كل القرب من الرعب والدمار والظلام. وعندما يقول: «يهبط من جديد» تتداعى إلى المخيلة هذه الدورة الفلكية لليل والنهار، وكأن مجيء الليل هنا «قدر» لا مفر منه، فما أعمق لجة اليأس التي سقط فيها قلب الفنان الغائب. ولكن «الليل يهبط من جديد» لا تعني فحسب هذه الدورة القدرية وإنما تعني هذه الذكرى القريبة للاستعمار في بلادنا، فما كاد النهار يبزغ بضيائه على وادينا بجلاء المحتل عنه حتى عاودت قوى الظلام مطاردتها لأشعة الشمس، وها هو الليل يجثم «من جديد». وهو ليس ليلًا رومانتيكيًّا كما قلت، لذلك يؤكد الشاعر على كلمة «الظلام» تأكيدًا ملحاحًا يخرج بها عن نطاق اللفظة المباشرة إلى حدود الديكور العام للقصيدة. والملاحظة الأولى على بناء هذه الأبيات الستة أن التوتر الكامن وراءها قد انعكس على تكوينها انعكاسًا حادًّا مباشرًا، فالتفعيلة الواحدة هنا لا تتلكأ في التعبير عن نفسها كما هو الحال في «من أب مصري» وإنما هي تحسم موقفها النغمي حسمًا باتًّا في تآزر وثيق مع القافية المستبعدة وحرف الروي غير المنتظم والصورة التي تتكامل جزئياتها شطرةً بعد أخرى بحيث يصبح الجحيم وسعار الزبانية هو الصوت والصورة جميعًا، الصوت المبحوح المتوتر والصورة الضبابية الغائمة. ولكنه التوتر الخلاق الذي لا يشي بالتفكك وإنما يعكس الحالة النفسية المريرة، فهو ليس تمزقًا في الحبال الصوتية وإنما هو عزف لاهث عليها والشاعر حين يتوجه بعدئذٍ بالحديث إلى بورسعيد، فإنما ليوجه الحديث إلى نفسه، متخيلًا «أقصى حد» لعدوان آلهة الشر، متسلحًا «بأقصى مدًى» يستطيعون الوصول إليه ليدعو بأطول نفس وإن تمزق إلى مقاومة التتار الجدد:

سطت الذئاب،
مجدولة الأظافر يلهبها السعار إلى الدمار،
هوجاء يضرمها الجنون،
جاءت كما تأتي المسوخ من الجحيم.

وليست هذه كلها سوى «المقدمة» التقليدية في رسالة الشاعر الغائب، أما الرسالة نفسها فهي مجموعة «الذكريات» التي تربط بينه وبين زوجته «على شط القناة» حيث قبور أجداده — نفس النغمة في موال صلاح جاهين وبالتالي فهي أقرب إلى الميثولوجيا الشعرية — غير أن عبد الرحمن الشرقاوي يصل ما بين الماضي والحاضر في قالب من التجربة الخاصة، تجربة الارتباط العاطفي بحبيبته وزوجته فهي المرادف لارتباطه بالأرض والأجداد:

هبطوا على مهد الغرام يلوِّثون الذكريات،
وقبور أجدادي هناك، هناك في مجرى القناة.

وتتحول الزوجة والفراش إلى رمز الشرف الوطني، كما تحولت قبور الأجداد إلى رمز التاريخ الوطني، ولذلك كان دفاع الزوجة عن شرفها هو التعويض الرمزي لغياب زوجها وغياب مقاومته، فمقاومتها الغزو — بشتى مستوياته — جزء لا ينفصل عن مقاومة الوجه الغائب، فهما لا يصبحان في القصيدة مجرد رجل وامرأة، وإنما هما روح مصر المناضلة بالقلب حينًا وبالساعدين أحيانًا، وبالحق المشروع في السلام والعدل في جميع الأحيان:

فقفي بكل قوى الأمومة دونهم،
وتقدمي،
ودافعيهم بالسلاح،
بجميع أنواع السلاح،
وقاومي،
بعظام آبائي إذا عز السلاح.

•••

لن يقهروكِ فقاومي،
الموتُ أن تستسلمي.

وتتبادل الزوجة ومدينة بورسعيد صورة البطولة في رسالة الشرقاوي إلى الشعب التي اختار لها عنوانًا «رسالة إلى زوجتي» ففي هذه القصيدة تندمج التجربة الخاصة، تجربة الحب عبر القنال، بتجربة التاريخ حيث قبور الأجداد تتوسد قاع القناة، بتجربة الوطن الذي هبط الليل عليه من جديد. وباندماج التجربة الشخصية بالتجربة العامة تنجو القصيدة من كل هتاف وتقرير؛ بل ومن كل لمحة رومانسية يمكن أن تستشفها من رقة الكلمات ورشاقة الصور. فكما أن الليل ليس هو بليل القمر، وكما أن ذكريات الحب تتشح بالسواد والألم، فكذلك يتمدد الظلام والعذاب بقية بناء القصيدة تمددًا يجعل منها إحدى علامات الطريق إلى الشعر الواقعي، ولكن في شريحته الوطنية وأشعته الإنسانية. فالحق أن هذه الرسالة الشعرية تلتقي مع رسالة الشاعر السابقة إلى الرئيس ترومان في ذلك البعد الإنساني المتألق في شرايين «عزة» ابنة الشاعر وبنات جميع بني الإنسان، وفي عروق «الزوجة» وزوجات الرجال جميعًا. ويركز الشرقاوي — كصلاح جاهين — على دور الشعوب المحبة للسلام في حماية السلام على أرض مصر، ولكنه يختلف عنه وعن صاحب الرسالة السابقة إلى الرئيس ترومان. في أنه لا يعير البعد الاجتماعي التفاتًا عميقًا. وإنما كان البعد القومي والبعد الإنساني هما المحور الدرامي في القصيدة كلها. وكذلك فالشاعر لم يحاول التأريخ لما حدث لأنه كان بعيدًا عنه ولم يتمكن من التنبؤ لأن ما حدث فاجأه. وإنما اكتفى بالمواكبة عن بعدٍ يتلمس مختلف الوشائج التي تربطه بالماضي والحاضر والمستقبل، ولهذا كانت الضمائر الثلاثة هي أدوات التعبير الرئيسية في البناء الشعري.

فلتقذفي في وجههم بجميع ما تجدينه حتى التراب،
وقاومي،
بتراب موتانا اقذفيه على العيون؛
كي لا يمروا.

•••

بل لن يمروا،
لن يقرعوا بحذائهم أرض الوطن.

•••

يا حارقي جان دارك يا أبطال فيشي لن تمروا.

وعلى هذا النحو تصبح «رسالة إلى زوجتي» للشاعر عبد الرحمن الشرقاوي في مقدمة شعر المقاومة المصرية إبان عدوان ١٩٥٦م وإن تغيب المقاتل عن ميدان القتال.

•••

وتلتقي قصيدة «سأقتلك» لصلاح عبد الصبور مع قصيدة الشرقاوي وتفترق. تلتقي معها في عنصر مواكبة الحدث الوطني بعيدًا عن التنبؤ به والتأريخ له، ثم تفترق عنها في أن الشاعر لم يحُل بينه وبين القتال «قطاع الطرق» فأمسك بسلاحه ونزل إلى المعركة. والحق أن غيبة اليقين عن «رسالة إلى زوجتي» قد منحتها هذه الروح المتوترة السائدة على نسيج القصيدة، أما حضور اليقين في قصيدة «سأقتلك» فهو الذي منحها درجةً عالية من الصلابة والتماسك والاتساق. وحين يتذكر صلاح عبد الصبور فكرة «الأجداد» فإنه — مثلًا — لا يتذكر معها القبور، وإنما يتذكر:

سنابك الحدود وقعها المهيب لا يزال
يموج في ذاكرة الأيام،
ونورهم يختال فوق مفرق التاريخ.

فمنذ البداية يتبدد اليأس من مشاعر الفنان، وتقترن مشاعره مباشرةً بفكرة الحضارة التي توقف الشرقاوي عندها ولكن من زاوية «الخوف» عليها من برابرة القرن العشرين. أما صلاح فيتوقف عندها من زاوية «الأمل» في قدرتها على الصمود. وإذا كان الشرقاوي قد أوجز «الحضارة والسلام» في لفظتين متجاورتين، فإن صلاح عبد الصبور «يصورهما»:

فمنهم الذي بنى حجارة الأهرام.

•••

ومنهم الذي بنى منارة الإسلام.

•••

ونحن في حاضرنا المجيد نصنع السلام.

•••

أقسمت بالأهرام والإسلام والسلام
سأقتلك،
بكل ما سُقيت من مرارة الأيام
أغوص في دمك.

هكذا يربط الشاعر بين القديم والجديد، بين الماضي والحاضر، لا من خلال الأزمنة الثلاثة بضمائرها وإنما من خلال الصور الثلاث بجوهرها الواحد: الإنسان. يمزج الشاعر بين التجربة الخاصة والتجربة العامة مزجًا حيًّا عميقًا، لعله أكثر التحامًا برؤيا البطولة من رسالة الشاعر الغائب، فبين صاحب «سأقتلك» وأعداء الحضارة والسلام ثأر شخصي هو في نفس الوقت ثأر الوطن منذ مات أخوه على تراب «غزة» البيضاء بطائرته المحترقة. إن مصرع «نبيل» في الواقع والقصيدة هو نوع من «اليقين» الوجداني والفني الذي يجعل من المقاومة في قصيدة «سأقتلك» واقعًا مضاعفًا: الواقع الأول الذي يواجهه الشاعر أمام عينيه في صورة الجحافل القادمة لتلوث الأرض والتاريخ، والواقع الثاني الذي تواجهه ذاكرة الشاعر وقلبه في صورة الشقيق الشهيد. وهما صورتان تختلفان كيفيًّا عن الصورتين الأساسيتين في «رسالة إلى زوجتي»، فالواقع الأول في قصيدة الشرقاوي هو غيابه الاضطراري عن أرض المعركة، والواقع الثاني هو الذكريات التي تجمع ما بينه وبين زوجته على شاطئ القناة. الواقعان هنا يمزقان الشاعر حقًّا، ولكنهما يخففان من روح المقاومة في القصيدة، وتبهت رؤيا البطولة فيها. أما في قصيدة «سأقتلك» فالواقع يتضاعف بحضور الشاعر استشهاد أقرب الناس إليه في وقت واحد:

من أجله سأقتلك،
لأجل ثأره سأغوص في دمك.

ولقد تخصصت معظم قصائد «الناس في بلادي» في تصوير السمات الدقيقة للشعب المصري. وفي قصيدته المسماة بهذا الاسم يقول:

الناس في بلادي جارحون كالصقور.

•••

لكنهم بشر،
وطيبون حين يملكون قبضتَي نقود،
ومؤمنون بالقدر.

فهل تتناقض هذه الأبيات مع السمات التي وصف بها هذا الشعب في قصيدته «المقاتلة»؟ لنستمع إليه يقول:

أهل بلادي يصنعون الحب،
كلامهم أنغام،
ولغوهم بسام،
وحين يسغبون يشبعون من صفاء القلب،
وحين يظمَئون يشربون نهلةً من حب،
ويلغطون حين يلتقون بالسلام،
– عليكم السلام،
– عليكم السلام.

أبدًا لا تتناقض أبيات الشاعر في هذه القصيدة العظيمة مع أبيات قصيدته الأخرى؛ بل هي تعمق من سمات الشعب المصري باختراقها جلده الخارجي إلى عظامه ودمه. فالسلام هو «حياة» هذا الشعب الذي لا يتحول إلى صقر جارح إلا حين تهدده قوى الشر، تهدد حياته وسلامه، لتغير من طبيعته وتهدم حضارته. لذلك ينتفض هذا الفقير النقي من أوشاب الحرب والعدوان، انتفاضة القاتل المقتول صارخًا:

لكنني سأقتلك،
من قبل أن تقتلني أغوص في دمك.

ولا ريب أن هذه القصيدة أكثر تكاملًا واتساقًا من قصيدة الشرقاوي، لا لامتلائها باليقين وإنما لانعكاس هذا اليقين على بناء القصيدة بكثافتها وشفافيتها معًا، فلقد تخلص الشاعر فيها من الحواشي والذيول التي لم يُجِد صاحب «رسالة إلى زوجتي» التخلص منها مما باعد بين قصيدته وبين القوام الشعري الموحد؛ فقد تعددت مستوياتها الفنية وتهرأت بعض مقاطعها، بينما نلاحظ على «سأقتلك» وحدة النسيج وصلابته، على الرغم من استخدام الشاعرين للتفعيلة الواحدة، والحكاية الداخلية التي تقع بين المقدمة والخاتمة، أي على الرغم من تشابه الهيكل العام هنا وهناك. هذا الهيكل الذي تأسس بناؤه من دعامة محددة هي «مواكبة» الحدث الوطني من بُعده القومي في ناحية، وبعده الإنساني في الناحية الأخرى. والملاحظ على هاتين القصيدتين معًا، أنهما لا يستمدان عصارة الحياة من التراث الشعري الوطني مهما تألقت صورة الأسلاف في قبور أجدادنا على شاطئ القنال ضمن ذكريات الشرقاوي، ومهما تألقت هذه الصورة في بناء الأهرام ومآذن الإسلام عند صلاح عبد الصبور. في هذه النقطة بالذات، تختلف القصيدة الرائدة لصاحب «رسالة إلى زوجتي» والقصيدة العظيمة لصاحب «سأقتلك» عن قصيدتي فؤاد حداد وصلاح جاهين اختلافًا عميقًا. فالعامية المصرية لها تراثها الوطني الذي يسهم بصورةٍ أو بأخرى في إنجازات شعر العامية المصرية الجديدة، سواء عن طريق القوالب الفنية أو عن طريق الوجدان الشعبي للتراث ولعل عبد الله النديم وسيد درويش وبيرم التونسي هم أقرب الجذور للقصيدة العامية الحديثة — شكلًا ومضمونًا — ولكن الشاعر الشعبي المجهول مهما تمردوا عليه هو الأب الشرعي لرؤيا البطولة في شعر المقاومة، بالعامية المصرية. والأمر يختلف في ظني اختلافًا كبيرًا بالنسبة للشرقاوي وعبد الصبور، فهما لم ينهلا ثورتهما الوزنية الجديدة بكل ما تنطوي عليه من رؤًى جديدة للفن والحياة من التراث العربي الفصيح، وإنما كان هذا التراث رافدًا من الروافد هو الرافد القومي. أما الرافد الإنساني؛ فقد كان إحدى ثمار الثورة الأدبية الجديدة التي اتخذت في الشعر صورة التفعيلة الواحدة بدلًا من العمود الخليلي الصارم بقوافيه وحروف رويِّه. وربما كان غياب الطابع الاجتماعي للمعركة الوطنية في القصائد الرائدة للشعر الحديث، مرجعه الأساسي هذا الانقطاع المزدوج عن التراث الشعبي والرسمي.

•••

هذا الانقطاع الذي يبلغ درجته القصوى في تجربتين للشاعر كامل أيوب، التجربة الأولى في قصيدته «الطوفان والمدينة السمراء» وقد دعا باسمها ديوانه الذي نأخذ عنه التجربة الثانية في قصيدته «الجندي الأخير». والقصيدة الأولى تلتقي في الكثير مع قصيدتي الشرقاوي وعبد الصبور، فهي تواكب الحدث الوطني من موقع «المقاتل» الذي رأى الليل يهبط من جديد، ولكنه لم يقُل ذلك، وإنما قال:

هذا طوفان النار،
يتدفق صوب مدينتنا بالويل،
لا تقعد مهمومًا معقود الكفَّين،
لا ترفع رأسك نحو الله،
وتعالَ معي نعمل شيئًا لمدينتنا،
لن ننتظر الموت هنا.

بالطبع تختلف الصورة هنا عن صورة الشاعر الغائب الذي رأى الليل والدمار وحدهما، وهي أيضًا تختلف عن صورة الشاعر المقاتل الذي يصفي حسابه الغازي بصيغة المخاطب. وإنما الصورة هنا للشاعر وصاحبه — المواطن المصري في أي مكان — هي إذن حوار مع الذات وإن اتخذ شكل الديالوج. الشاعر هنا يخاطب نفسه لا من خلال الغياب الذي يحول دون الساعد والسلاح وإنما من خلال التفرد بالنفس حتى أعمق طبقاتها الخافية. ويداعب كامل أيوب الوجه الاجتماعي للمدينة، عبر حقول الحنطة والقطن والشط الأخضر، ثم يتوحد صوته توحدًا عميق الدلالة مع أصوات الجموع الهادرة:

سبقونا كي يقفوا في وجه الطوفان.

•••

قد نحجب عن قلب مدينتنا السيل،
ولتذكر أنَّا ما جئنا لنموت؛
بل لنرد الموت.

هنا تصبح المقاومة «رؤيا» شاملةً للحياة، فضريبة الدم التي ندعوها الفداء ضريبة يهون وقعها على قلب الشاعر ما دام الموت الصغير هو السور العالي الذي يقينا شر الموت الأكبر. فالموت هنا — بغير حذلقة لفظية — هو باب الحياة. في أسطر قليلة تصهر النيران الهمجية تمثالًا من ذهبٍ لشعبٍ أبى إلا أن يموت بعض أفراده من أجل أن تحيا أمة كاملة. ولا تعني البطولة عند الشاعر أن يموت المقاتل بضمير المتكلم، فلقد جرح صاحبه حقًّا وعاش هو أيضًا وعادا معًا، بالرغم من أن الكثيرين ماتوا تحت السيل «سنوسدهم بمعابدنا» فالبطولة عند كامل أيوب في هذه القصيدة للشعب في مجموعته. وقصيدة المقاومة — كهذه — ليست أبيات أحد الشهداء؛ إذ إن الشاعر من البساطة والصدق حتى إنه يقول لنا: المقاومة لا تعني الموت مرةً أخرى، فكم من المقاتلين عادوا إلى زوجاتهم وأبنائهم دون موت. إن صانع الحياة لا يموت بالضرورة.

ولكني أعتذر لاستخدام أفعل التفضيل إذا قلت إن قصيدة «الجندي الأخير» لكامل أيوب تُعد في تقديري أعظم ما كتب من شعر المقاومة المصرية إبان هذه الفترة. في هذه القصة-القصيدة، يؤرخ الشاعر لبطولة الرمز في كل مقاومة، بطولة الجندي المقاتل حتى آخر نسمة في حياته بعد أن لقي رفاقه في السلاح مصرعهم جميعًا. ولكن بناء القصة-القصيدة هو الذي يستحق منا لفتةً أكثر انتباهًا واهتمامًا. فالمقدمة هي إيجاز مركز لقصة ذلك البطل التي أعلنها للخافقين «على القلعة» وهو يرفرف محتضنًا طيف نهار غابا معًا في عناق القبلة المنتصرة. هذه المقدمة الموجزة التي تبدو كتمهيدٍ موسيقي، هي نفسها التي يتناول الشاعر جزئياتها فيما يلي من مقاطع. لم يكن هذا الجندي البطل في بداية المقطع التالي للمقدمة إلا جنديًّا كبقية المقاتلين الذين تدافعوا في إثر بعضهم البعض يصنعون جدارًا بشريًّا يحول بيننا وبين العار. وكان العدو قد حشد لقلعتهم أبرع القواد وأعتى الأشرار، فسقطت داخل قلعتنا آخر فرقة لم يبقَ منها على قيد الحياة سوى جنديَّين. أحدهما أشار بحيلة ذكية على رفيقه أن يضرب من كل الجهات حتى يوهم العدو — وقد بانت عليه تباشير اليأس من انهيار القلعة — أن لا أمل في الغزو. نجحت الخطة التي أملاها اليأس، ولكن أحد الجنديين مات قبل الظهر. وبقي الجندي الأخير يطلق من نيران مدفعه ما أسفر عن رحيل التتر، ولكن بعد أن مات هذا الجندي الأخير وهو يكتب للعالم قصة، ويكتب للآتين من بعده أن الصبر قد يكون بالفعل مفتاح الفرج، وإن عنى بالصبر شيئًا مختلفًا في الكثير عن صبر أيوب. الصبر مع النضال يقصد لا الصبر في انتظار الموت.

ولقد آثرت أن أقص هذه القصيدة الرائعة نثرًا لأقول إن الحكاية الشعرية فيها تبدأ من السطر الأول وتنتهي عند السطر الأخير. وهي حكاية لا ينقصها عنصر واحد من عناصر القص النثري. ولكن الشاعر لم «ينظمها»؛ بل أبدعها شعرًا أولًا وقبل كل شيء، ولعل هذا هو لقاؤه الوحيد مع قصيدة فؤاد حداد حيث تستغرق الأقصوصة الشعرية بناء القصيدة كلها، أما قصة الشرقاوي مع حبه على شاطئ القناة وقصة عبد الصبور مع شقيقه على تراب غزة، فليست إلا همزة وصل بين التجربة الخاصة والقضية العامة. أما «القصة» في قصيدة كامل أيوب فهي مقصودة لذاتها من ناحية البناء، تمامًا كقصد الشاعر أن يكتبها شعرًا أولًا وقبل كل شيء، مرةً ثانية.

على النقيض من لحظة اليأس أو التوتر؛ بل من لحظة اليقين الممتلئ حياةً تجيء الخاتمة في مقدمة القصيدة:

صمدوا حتى آخر مدفع،
حتى آخر جندي في آخر فرقة.

هذه «النهاية» هي التي يعمد الشاعر إلى أن يبدأ بها وينتهي إليها، فالصمود حتى آخر رمق هو بذرة النصر ولو ماتت الفرقة كلها. فالقتال ذاته هو انتصار على النفس، والانتصار على الذات هو المقدمة الحقيقية للانتصار على العدو والملاحظة الأولى على الفرق بين هذه القصيدة والقصيدة السابقة أن الموت هنا كان الديكور الشامل للمعركة، حتى الجندي الأخير لقي حتفه في اللحظة الأخيرة. غير أن القصيدتَين كلتَيهما لا يعقدان لواء البطولة لهذا الفرد أو ذاك، وإنما للمدينة كلها، وللقلعة كلها، وللفرقة كلها. وليس الجندي الأخير أو الشاعر إلا «شاهد القبر المقدس» وهو بذلك يختلف عن فؤاد حداد الذي يؤرخ لنفس اللحظة بمنطق الحزن المرير على الذي ضاع، ولذلك يكتسب التاريخ في قصيدة كامل أيوب نبرة النبوءة، فالقصيدة ليست تسجيلًا تقريريًّا «أمينًا للواقع» وإنما تغلب عليها روح التنبؤ:

ذات صباح جاء الجند،
أرسلهم ملكٌ مجنون خلف البحر،
ليعودوا بغنائم من جزر الخيرات.
… … … …
قائدهم تتري لم يُقهر في حرب،
لم يُجرح في سبعين قتال.
… … … …
يوم — يومان — ثلاثة أيام،
والقلعة يمطرها الموت فلا تنهار،
تتلقف بالنار النار،
وتردد في بحَّة مدفعها لن أستسلم،
بركان لا ينضب منه الجمر،
«دكوها ونمرُّ على القبر،
دكوها دكوها.»

هكذا يتداخل صوت الراوي مع صوت القائد التتري، فالتتر يحومون حول أسوار القلعة ولا يقتحمونها، وإنما يقتحم السياق الشعري صوتٌ ثالث بعد ما سقطت خلف جدار القلعة آخر فرقة إلا جنديَّين التقيا محنيَّين واتفقا في نظرة عين:

لا تضرب من ركنٍ واحد،
ولتتنقل في أمكنة الجند،
إن الرخ يكاد يلم جناحيه،
ثم يعود بدون الصيد.

فإذا كانت القصيدة في أساسها الشعري من قصائد «التاريخ» ولكنها في إحدى نغماتها هي نبرة «نبوة»، فإنها في نغمةٍ أخرى هي نبرة «مواكبة»، وكأن الشاعر يستخدم الفلاش باك السينمائي ليشمل الغياب بالحضور، والماضي بالحاضر؛ ذلك أن الأصوات الثلاثة الرئيسية في القصيدة تحيطها بهذا الديكور السحري المركَّب من واقع الأمس وانشطار اليوم وحلم الغد؛ بل في المقطع الواحد يجتمع الغائب والحاضر أو التاريخ والمواكبة على هذا النحو:

مات الذعر،
سقط الأول عند الظهر،
لكنَّ القلعة ما زالت تضرب تضرب،
ما زالت تنذر بأتونٍ إثر أتون،
وأتى المغرب،
«عجبًا إن الرخ يلم جناحيه،
التتر يعودون!»

ثم يجتمع اليوم والغد على نحوٍ آخر، فقد رفع الجندي الأخير وهو يلفظ أنفاسه علم القلعة، ومال عليها يكتب كلمة:

للآتِين غدًا،
كل يد تقدر تضرب،
قد تنصركم غمضة عين صبر،
يكتبها آخر جندي وهو يموت.
… … … …
ثم انداح سكون الليل،
ثم احتضن القلعة طيف نهار،
قبَّلها ألفًا وامتد،
ليعانق في رفق علم القلعة،
ولينقل للعالم قصة.

وتلك هي الخاتمة المقدمة، في قصيدة كامل أيوب، الدرامية حقًّا، فالحكاية فيها لا تتجمد في إطار القص النثري المنظوم، وإنما تتحرك وتحيا في إطار الشعر الحديث بقدرته على ازدواج الأصوات وتثليثها، على تعاقب الأزمنة، على توظيف الضمائر الثلاثة توظيفًا عميقًا يثب بالمخيلة إلى الماضي والمستقبل على جسرٍ راسخ العمد في أعمق الأعماق. ولذلك تتفرد هذه القصيدة العظيمة بمجموعة الخصائص الفنية التي أشرت إليها، والتي تنعكس بدورها في قدرة بنائها على التأريخ للحدث الوطني ومواكبته والتنبؤ به في وقتٍ واحد. ومن هنا كانت جديرةً حقًّا بأن تحتل مكانها في الطليعة من شعر المقاومة المصرية الحديثة. لولا أن ثمة خطأً في تصميمها الفكري قارب بينها وبين «المقولات المجردة» هذا الخطأ هو التركيز على الوجه القومي للمقاومة تركيزًا شديدًا، حتى إن الوجه الإنساني قد شحب كثيرًا، أما وجهها الاجتماعي؛ فقد ضاع تمامًا. إنها أقرب ما تكون إلى الكتلة والفراغ في فن النحت، واللون والخط في فن التصوير، ولكنها أبعد ما تكون عن «الفكر» القابع في الكتلة والفراغ الكامن في الخط واللون، ولأن المقاومة الوطنية أوثق ارتباطًا بالأرض من أية مقاومةٍ أخرى في تاريخ الأدب، فإن تجسيد هذه الأرض في العمل الفني — إيماءً ورمزًا لا إبانةً وتقريرًا — هو مطلب عادل ومشروع يحقق التوازن بين «قومية» الشكل و«قومية» المضمون إن جاز التعبير. فالقلعة في قصيدة كامل أيوب لا تدل على أرض بعينها فضلًا عن أنها لا تدل إطلاقًا على نوع هذه الأرض ومناخها. وربما كانت إحدى الفضائل في الشعر الحديث أن «يجرد» القصيدة من الحشو المفتعل، ولكن التجريد لا يعني في خاتمة المطاف خلو العمل الفني من نبضه الاجتماعي الخافق. وربما كانت إحدى الفضائل في الفن «الإنساني» أنه يصلح لكل زمان ومكان ولكن التجربة الإنسانية ليست كائنًا ميتافيزيقيًّا معلقًا في الفضاء، وإنما هي في المقاومة الوطنية، تجربة خاصة تعطي للإنسانية كل عطاياها من كونها تجربة شعب محدد وأرض محددة. فالتجربة الإنسانية العامة هي جماع الخبرات الجزئية لمختلف الأوطان. ولست أعلم بماذا كانت هذه الفكرة تنعكس على قصيدة «الجندي الأخير» ولكن مقدرة الشاعر كامل أيوب تدعني أتصور أنها كانت ستمدها بألوان وظلال تزيدها عمقًا وثراءً. إلا أن هذه القصيدة لا تزال في اعتقادي أهم الأعمال الشعرية التي قدمها الجيل الحديث في الميدان الأدبي للمقاومة المصرية. هذه الأعمال التي تصوغ فيما بينها أعرض جبهة أدبية عرفها تاريخنا المعاصر.

١  يعتمد عن الباحث هذا الكتاب الرائد في إيضاح الجانب التكنيكي للنقطة موضع البحث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤