أبعاد البطولة في شعر المقاومة العربية
تتعدد أبعاد البطولة في شعر المقاومة العربية المعاصرة، وذلك لتعدد الجبهات التي يناضل عليها الإنسان العربي. فالجبهة الفلسطينية مثلًا، ليست مجرد صراع بين العرب من ناحيةٍ والاستعمار الغربي من ناحيةٍ أخرى، إنها علاوةً على ذلك صراع مر بين «دولة» إسرائيل والشعب الفلسطيني. ليست إسرائيل مجرد «شكل» للصراع بين الشرق العربي والاستعمار الغربي، وإنما هي «مضمون» الصراع اليومي بين دولة عنصرية غاصبة وشعب مغلوب على أمره. من هذه النقطة نستطيع أن «نتفهم» شعر المعارضة العربية في الأرض المحتلة، هذا الشعر الذي لا يغض من قيمته على الإطلاق أنه لا يتصل بمعنى المقاومة إلا من قبيل المجاز، ولكنه يتصل أعمق الاتصال وأوثقه بمعنى المعارضة. هذا المعنى الذي يجمع في جبهةٍ عريضة كافة القوى الديمقراطية في إسرائيل، عربًا ويهودًا، ضد الكيان العنصري لدولة إسرائيل الدكتاتورية. وينبغي أن نكون منصفين للحقيقة ولا نظلم أنفسنا فنقول إن المقاومة الوطنية بمعنى تحرير الأرض من آثار الأجنبي لا تخطر على بال وتفكير الشعراء الفلسطينيين المقيمين في ظل الإرهاب الصهيوني. وإنما يتخذ التحرير عندهم معنًى آخر يتعايش في ظلاله العرب واليهود أخوةً أحرارًا من أي قيد عنصري، سواء كان قيدًا دينيًّا أو عرقيًّا أو حضاريًّا أو غير ذلك. فليس الدين والحضارة إلا أرديةً قديمة يرتديها آلهة البطش العنصري ليخفوا أنيابهم الحقيقية التي مزقت وتمزق كل دين وكل حضارة.
أردت أن أقول إن جوهر الشعر الفلسطيني المعارض، هو تحرير لا من اليهود وإنما من الصهيونية. وبالرغم من أن هذه القضية لا تلقى رواجًا عند المتطرفين هنا وهناك، إلا أنها ستظل مع ذلك العمود الفقري لنضالنا المشروع أمام الرأي العام العالمي. ولعل رد الفعل الهستيري الذي قوبلت به رحلة محمود درويش وسميح القاسم إلى مهرجان الشباب بصوفيا عام ١٩٦٨م كان نتيجةً حتمية لهذا الفهم المغلوط لأبعاد «البطولة» التي يقوم بها هذان الشاعران وغيرهما من شعراء الأرض المحتلة. لقد تصورنا في غمة الهزيمة الدامية وتألق نجم الشعر الفلسطيني أن هذا أو ذاك من الشعراء «معجزة المقاومة العربية» كتعويض لغياب المعجزة الحقيقية، معجزة المقاومة المسلحة. ونسينا أن شعر درويش والقاسم وزياد وجبران قد عرفته الأسماع قبل الهزيمة الأخيرة بسنوات. وأنه — وهذا هو المهم — لم يتغير بعدها تغيرًا نوعيًّا؛ ذلك أن هذا الشعر ومبدعيه الذين ساروا تحت العلم الإسرائيلي في مهرجان صوفيا فأثاروا رد الفعل الهستيري، لا تتحدد نقطة انطلاقهم من المقاومة التحريرية الشاملة للوجود اليهودي، وإنما من المعارضة التامة للدولة الصهيونية. وفرق كبير بين هذه النقطة وتلك في الانطلاق نحو تقييم شعرهم. وسوف تصادفنا كثيرًا لفظة «المقاومة» في هذا الشعر، كما أننا سوف نستخدم دومًا عبارة «الأرض المحتلة» لا لشيء إلا لأن عدوان يونيو ١٩٦٧م قد أثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن الدولة الراهنة في إسرائيل تملك مخططًا توسعيًّا بعيد المدى، وأن الاستمرار في هذا المخطط يثقل الوطأة على العرب المقيمين في الأرض المحتلة، وطأة الانتماء إلى العرب خارج الأسوار من ناحية، ووطأة الاضطهاد المتعاظم من جانب القوى المهيمنة على «دولة» إسرائيل. وفي حدود هذا المعنى للمقاومة لن نقع في اللبس الذي وقع فيه كثيرون حين اتهموا محمود درويش بالتحلل من الوجدان العربي في دفاعه عن الأكراد، واتهموا سميح القاسم بالذبذبة السياسية في انتمائه ومعارضته للحزب الشيوعي فضلًا عن أننا في هذه الحدود لن نتورط في اتهام هؤلاء الشعراء الكبار بالخيانة لمجرد أنهم اختاروا الحياة في ظل ظروف أسوأ من الموت.
وشعر المعارضة في أدب فلسطين المحتلة ليس تخصصًا من جانب الشعراء الفلسطينيين فهم يعالجون مختلف رؤى الشعر ومراميه جنبًا إلى جنب مع معارضتهم «السياسية» للنظام القائم. ففي قصيدة «إلى امرأة» يمزج الشاعر محمود درويش بين الصورة المركزة الموحية، وبين قالب المثل الشعبي القريب من الحكمة العربية القديمة دون أن تتمزق أوصال القصيدة إلى أبيات مكتفية بذاتها؛ بل هو يمدها بقيمة واحدة تتكرر في كل مقطع بصورةٍ جديدة تضيف إلى الفكرة الرئيسية بعدًا جديدًا، كما يمدها بإيقاعٍ موحد يتكامل من مقطع إلى آخر حتى يصل إلى «الذروة» التعبيرية في قوله:
وبهذه الخاتمة يكون قد نزع آخر «الأقنعة السبعة» عن وجه الشجر الذي كان جميلًا ثم ذبل في الخريف، ووجه المطر الذي كان وفيرًا ثم أصابه السأم في الشتاء، ووجه القمر الذي كان وسيمًا ولكنه لا يُغني عن جوع. وتكاد هذه القصيدة أن تشبه دقات المسرح التقليدية الثلاث السابقة على رفع الستار عن العالم التراجيدي الذي يصوغه شعرًا محمود درويش. هذا العالم الذي تتخلله نغمة اليأس الحزين الهادئ، اليأس القريب أحيانًا من المعنى الوجودي القائل بأن الحياة الإنسانية تبدأ عند الشاطئ الآخر من اليأس. ومن قاع اليأس، أي انعدام الرجاء في أية محصنات طبيعية للنصر، يرى الشاعر قضيته على حقيقتها، يراها في الأسلاف:
وليست القبور عند محمود درويش مجرد «جهة اختصاص» للماضي والأجداد؛ فقد أصبحت «بلادنا مقابر»:
ويتصور المرء أنه ما دامت هناك «ساعة حساب» فالأمل في النصر معقود في الأعين المسهدة، في رؤى أحلامها المكتظة بالرعب والحنين، الرؤى التي تجمع بين الأمل في حسابٍ غامض جنبًا إلى جنب مع يقين مفجوع:
إن محمود درويش في هذه القصائد وغيرها يقدم نموذجًا جديدًا لشاعر المعارضة لم يعرفه قط الشعر العربي الحديث، وهو الشاعر الذي لا ينطلق من وهم يعشش في المخيلة ولو كان وهم النصر، وإنما هو ينطلق من المعارضة ذاتها بكل تحدياتها ومنجزاتها السالبة والموجبة؛ بل ربما كان درويش بالذات يعمد إلى التركيز على التحديات فتبدو من ثَم الصورة قاتمةً، ولكنها القتامة الحقيقية غير المزيفة التي تحول اليأس فينا إلى كوةٍ مضيئة بنور الأمل. والسمة الثانية البارزة في شعر محمود درويش أنه يعيش حياته في شعره بلا تزوير ولا تنميق، حياته التي قد تهب عليها نسمة حب وتلفحه فيها نيران الهجر، وحياته التي قد تترسب على جدرانها قطرات الوحدة القاتلة فتشحن وجدانه بمرارة كالعلقم. إنه حين يكتب الشعر لا يخلع عن نفسه هذه الثياب الداخلية ويرتدي ردنجوت الشعر والبطولة والمقاومة؛ بل يأتينا هكذا إنسانًا يناضل الحياة من خلال نضاله للنظام العنصري.
ولعل قصيدة «يافا» لراشد حسين من أنجح القصائد التي تدل على أن السمة البارزة في شعر محمود درويش ليست حكرًا له، وإنما هي من العامة في الشعر الفلسطيني خلف الأسوار. وهي من الناحية الفنية تعد من قصائد الاتجاه السلفي في الشعر الحديث. ولكن الفنان الأصيل قد استطاع — متخيلًا مدينة يافا في ظل الاغتصاب الصهيوني — ألا يستخدم كلمةً تقريرية واحدة؛ بل يعتمد اعتمادًا كاملًا على الصورة المستوحاة من جزئيات الواقع القديم للمدينة في جديلةٍ واحدة مع جزئيات الواقع الجديد، وما تعكسه هذه الصورة المزدوجة من مفارقات ومقابلات لا نهاية لها:
وينقذ الشاعر قصيدته من هوة التكرار الموسيقي والرتابة الإيقاعية التي تصل في النماذج الرديئة من نفس النوع الشعري إلى درجة الإملال، فيقول:
وبالرغم من أن القصيدة تلتزم التفعيلة الواحدة إطارًا موسيقيًّا إلا أن صرامة البناء قد حالت في أحيان كثيرة دون المرونة التي تتصف بها «حداثة» هذا الشعر، وأفقدتها الحيوية الدافقة التي من شأنها أن تمس الأعماق أكثر مما استطاعت قصيدة «يافا» أن تفعل. على أن الاتجاه السلفي الجديد يصل منتهاه في قصائد الشاعر سميح القاسم، كما أن الرومانسية الاشتراكية تصل إلى ذروتها في شعر توفيق زياد. وهو الشاعر الذي تأرجحت بعض مراحله الفنية بين العويل النائح على ما مضى إلى الرثاء المكتوم للحاضر، إلى وميض الأمل الخابي وهو يطل من وراء الكلمات فيما يشبه «الوعيد»:
ويميل شعر توفيق زياد أكثر من غيره إلى «تحليل» أسباب الهزيمة وأبعادها ومستقبلها، ولكنه تحليل «شعري» في النهاية يفقد قيمته لما يموج فيه من ضباب يحرم الشعر مناخه الوجداني الخاص ولا يمنح بديلًا لذلك صورةً نظرية صحيحة. ويتحول هذا الضباب إلى سحابة رومانسية غائمة في شعر «ابن الجليل» الذي يقترب كثيرًا من رومانتيكية نزار قباني، يقتصر استخدامه الشعري على المناخ الرومانسي الذي يشيعه في القصيدة لا في مضمونها أو نسيجها الحي:
فحين يكتب الشاعر الفلسطيني المناضل في الأرض المحتلة هذه الكلمات تكتسب — بعد اللفظ الرقيق والأخيلة المجنحة — بعدًا سياسيًّا واضحًا تكتنفه هذه الغضبة الحائرة القلقة التي يهرب من هولها الخيال والشعر والقدرة على الخلق، وتهرب قبل ذلك كله: القدرة على النوم. أما محمد القيسي — الشاعر المقيم في الأردن — فإنه أكثر زملائه تأثرًا بالمدرسة المصرية في الشعر الحديث، فهو يستلهم المعجم الشعري لصلاح عبد الصبور وأحمد حجازي استلهامًا يتجاوز الحدود التي يتوقف عندها شعرهما لأنه يستمد من أسلوب «فروسية الكلمة» وتجسيد المجردات وموسيقى الأبحر الراقصة والحكايات الناعمة، ما هو أبعد غورًا في الأعماق العربية، يمزج الحس بالوجدان ليخرج منها بمركَّب جديد هو القلب الجريح في أهوائه المشروعة وكبريائه المخنوق:
وهكذا تتوحد الأحزان وتنسج الآلام نحيبًا واحدًا مشتركًا بين هوى الحياة وهوى الوطن فتندغم — من ثم — القضية العامة في التجربة الشخصية، ويمسيان معًا تجربة المأساة على أرض الفداء. وهي التجربة التي لا تتجاوز معنى «المعارضة» بأية حال — وربما كان هذا في ذاته وجهًا من وجوه المأساة — ولكن الوجه الذي نلتزم بسماته وملامحه عندما نتصدى لتصويره، لا أن نتخيل قناعًا من صنعنا.
•••
على أن شعر المعارضة الفلسطينية داخل الأرض المحتلة هو من زاويةٍ ما أحد عناصر الجبهة المعادية للصهيونية والاستعمار، وهو بالتالي المقاومة بصورةٍ غير مباشرة ويغذيها برافد من الواقع ويطور أبعادها بشهادة العيان، على النقيض من موجة شعر «التشفي» التي يعد نزار قباني أبرز وجوهها. ولست من الذين يحرمون فنانًا من قول كلمته باسم ماضيه الذي لا يتسق ولا يتفق مع الكلمة. فالأزمات الكبرى والمحن العظيمة قد تغير من جوهر الإنسان وقد تقلب الفنان رأسًا على عقب. ومن هنا يبطل عنصر «المفاجأة» كحيثيات مضادة لشعر نزار، فلربما استطاع أن يجد في «الحب والبترول» و«خبز وحشيش وقمر» و«رسالة إلى جندي في السويس» ما يقوم دليلًا على أنه كتب الشعر الوطني قبل الهزيمة، وبالتالي فأين موضع العجب فيما كتب بعدها؟ ولكن هذه السلسلة المحكمة من المغالطات سرعان ما يكتشف أمرها، لأن نزار قباني قبل الخامس من يونيو لا يمكن تقييمه على ضوء هذه «النتف» المعدودة من قصائد المناسبات. أما «أعماله الكاملة» فهي تلك الأعمال التي تخصصت في «المرأة» من وجهة نظر البرجوازي المرفه الجوَّاب بين عواصم العالم، شاعرًا ودبلوماسيًّا، ولا يختلف شعر نزار الجديد — بعد الهزيمة — عنه قبلها، فليست الهزيمة إلا إحدى «المناسبات» التي تملي على الشاعر أسلوبًا واحدًا في «النظم» كما أنها ليست إلا قناعًا عصريًّا أكثر ملاءمةً لنفي الوجه الذي طالعنا به الشاعر في كتاباته عن المرأة. والجديد هو أن نزار قباني يمس وترًا مشدودًا في القلب العربي فيعزف — وينزف — لحنًا جنائزيًّا يستهوي الأفئدة، ويحك جرحًا لم يلتئم يثير في النفوس الخدر.
لا تتصل «هوامش على دفتر النكسة» في كثير أو قليل بشعر المقاومة، ولم يتحول كاتبها بين غمضة عين وانتباهتها من شاعر الحب والحنين إلى شاعرٍ يكتب بالسكين، فأغلب الظن أن سكينه قد أخطأت مكان القلب من العدو الرابض فوق أرضنا إلى شغاف القلب من الإنسان العربي المهزوم. ولا تنطلي علينا هذه الخدعة البراقة التي يصدر بها نزار قباني قصيدته الأولى بعد ٥ يونيو، هذه الخدعة التي تبدو وكأنها نقد ذاتي لعقل هذه الأمة ووجدانها. بينما هي من لذاذاته في واقع الأمر نوع من السادية التي يتلذذ فيها صاحبها لذةً تلتقي مع السابقات في شعره الجنسي، فالنرجسية هناك تقابلها السادية هنا. وحتى هذه السادية ليست شعورًا مرضيًا صدق صاحبها في تشخيصه وعرضه، وإنما هي محاولة ينقصها الذكاء في إغلاق باب الإدانة دونه. ينقصها الذكاء، لأن نزار مهما كال الشتائم لنفسه على ماضيه، فإن هذا لن يحول دون رؤية الماضي مستمرًّا دافقًا حيًّا في حاضره الشعري، ولن يحول بالتالي من إدانة الماضي والحاضر معًا. وينقصها الصدق لأن فريقًا من الكتاب والفنانين العرب قد حاولوا — بقدر ما أتيح لهم من حرية الكلمة — أن ينبهوا إلى موطن الداء وأن يحذروا من أهوال الكارثة القادمة.
ولا يتوقف نزار قباني كثيرًا عند دلالة حرب يونيو الحقيقية، فليست العنتريات والطبلة والربابة إلا مظهرًا خارجيًّا لمسئولية حضارة كاملة، مسئولية «الجذور» قبل الفروع، ولكن الشاعر الذي لم يكن يرى في المرأة سوى فستانها وحلمة ثديها هو نفسه الذي يرى قشرة الحضارة فيظنها كل شيء وهي ليست شيئًا إذا قيس بما صدرت عنه من «أنظمة» اجتماعية لا يدينها بحرف؛ بل هو في شعره يقتات من فتات موائدها الفكرية. وإلا فما معنى أن يكون الإبحار إلى «بلاد الثلج والضباب» هو المنقذ من الضلال؟ وكيف يمكن أن يتحول النفط العربي إلى خنجر من لهيب ونار في صدر العدو ما دام «يراق تحت أرجل الجواري»؟ إن الشاعر لا يجيب، بالغم من أن «منطق» السؤال والجواب ذلك المنطق الرياضي البارد هو عماد القصيدة ولب لبابها، فلن يستطيع باسم حرارة التجربة الشعرية أن يدعي خروج هذه المهمة عن اختصاصه، فالوضوح والتقريرية والمباشرة هي النسيج «الفني» لأبياته المنظومة نظمًا. وليس هناك من ينكر السلبيات المريرة التي تخنق الكيان العربي قبل الهزيمة وبعدها، تخنقه إلى درجة الموت، تخنقه إلى حد تهديد هذه الأمة بالانقراض، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يتصور هذه السلبيات وقد اختزلت إلى همجية البعض منا وعبودية البعض الآخر؟ لا بد أن ثمة حلقةً مفقودة بين دكتاتورية الفرد وانسحاق الجموع، إذا لم يمسك بها الفنان فقد أعطانا المظهر دون الجوهر، وباعنا في سوق النخاسة بأرخص الأثمان. والحل الوحيد هو الحل المؤجل إلى أجل غير مسمًّى، فأطفالنا هم الذين سيحملون النير عنا «فنحن جيل القيء والزهري والسعال» وقد نسي الشاعر الحصيف أن الكروم الجيدة لا تثمر حصرمًا، والعكس أيضًا صحيح فالثعابين لن تلد أسماكًا عظيمة. وبالتالي فقد حكم بالموت مقدمًا على مستقبل هذه الأمة، وليس «حديثه» عن الأطفال الأنقياء إلا من قبيل الإيهام الكاذب. ولا زلت أومن بالمبدأ الفني القائل إن ما يمكن أن يُكتب شعرًا لا يمكن كتابته على أي نحو آخر. ولذلك أقول إن «هوامش على دفتر النكسة» سوف تسقط من ذاكرة التاريخ لأنه كان من الممكن كتابتها نثرًا، بصورةٍ أفضل.
صدرت «الهوامش» بعد الهزيمة بأقل من شهرين تحك الجرح وتلعب على الوتر المشدود فلقيت رواجًا مذهلًا، سواء من المعارضين لها أو المؤيدين، ولكن مفعولها السحري اقتصر على اللحظة الأولى، لحظة الكرب العظيم والعذاب المروع، ثم بطل هذا المفعول لأن سحر الرقية قد انتزعته منها قصائد أخرى أبعد ما تكون عن التهريج والإثارة وأقرب ما تكون إلى النضال والمقاومة. توقفت التعويذة كأي نواح يسقط في هاوية التشفي، وأصبح شاعرنا «نجمًا» لامعًا يتفوق على النجم الذي كانه في القديم. واستمرأ اللعبة على نحوٍ مختلف بعض الاختلاف، فأقام حوارًا «شعراء الأرض المحتلة» و«القدس» و«فتح» على التوالي. هو حوار داخلي إن جاز التعبير عن «المونولوج» الذي أداره الشاعر بينه وبين نفسه، لأن الطرف الآخر المفترض لم يكن يومًا «على الخط» معه.
والحوار تقليد عريق في أدب المقاومة لأنه بطبيعته يميل إلى النزال الملحمي ولكن نزار قباني جعل من حواره مع شعراء الأرض المحتلة «مشجبًا» يعلق عليه خطاياه ويتفرج عليها. أي سادية، مرةً أخرى؟ ولكن لا، ليست ساديةً كما تظن لأول وهلة، وإنما تجديد الحك على ظهر الجرح الذي لم يندمل، يثيره فيهيج الأشجان ويستفز المشاعر إلى نوع من تمزيق النفس. ليس ندمًا ولكنه تشفٍّ أن يقول الشاعر في «أجمل» أبيات القصيدة:
إن الخطأ القاتل في هذه المعاني التي كررها نزار في كل قصائده التالية هو خطأ مزدوج. شقه الأول هو المبالغة في تضخيم دور الفكر والشعر في الهزيمة أو النصر، وتصدر هذه المبالغة عن نظرةٍ مثالية للدورة الجدلية بين الفكر والواقع. نظرة تصل في استقامتها إلى درجةٍ صوفية ترى الأفكار تعاويذ سحريةً والكلمات أحجبةً تحمل السر. والشق الثاني للخطأ هو تعميم الظاهرة الجزئية تعميمًا يتناقض تناقضًا جوهريًّا مع الصورة الشاملة. فشعراء الأمير في عصرنا ليسوا هم على وجه اليقين من يؤيدون وجهًا ثوريًّا للسلطة في هذه أو تلك من بلدان الوطن العربي. وإنما قد يكون شاعر الأمير جاريةً حسناء تجيد صنع الليالي الرشيدية في كلماتٍ منظومة. فليس بالهتاف وحده يحيا شاعر الأمير، وإنما بكل هزة بطنٍ وثنية جذع وحلمة ثدي يبرع الشاعر في وصفها وتجسيدها و«هدهدة» الأمير بها و«دغدغة» نظامه لها. ففي الوقت الذي كانت فيه أجساد النساء هي الديكور والأبطال في دواوين نزار قباني، كانت فلسطين بكل ما تحمله الكلمة من ظلال هي ديكور وأبطال شعر الأرض المحتلة. وتقوم أجساد النساء في شعر نزار بدور الهتاف لكل أمير ونظام متخلف، ولكنه الهتاف البارع المتحلل من قيود السياسة «الظاهرية» والمرتبط بأغلال «الجنس» الخارجية. إن قصيدة مدحٍ لأمير من الأمراء في عصرنا الحاضر لا تُؤتي أكُلها كما يُؤتيه هذا الشعر الناعم الطري الرخو، فإنه يستبدل «المدح» للأمير بتثبيت دعائم عرشه وحمايته من «ثورات الشعوب». والغريب حقًّا في حوار بين الشاعر وشعراء الأرض المحتلة أن يتصور الذي يوهمنا بأنه يتعلم منه شعرًا شيطانيًّا كشعره. ولو أنه «سمع» في وقتٍ مبكر عن شعرهم وتعلم في وقت مبكر من هذا الشعر لتغيرت نظرته إليهم وإلى الشعر. ولكنه فيما يقول لم يتعرف على الأرض المحتلة وشعرائها إلا مؤخرًا فجاء التعارف سطحيًّا هزيلًا يُسيء إلى قضية هؤلاء الشعراء، فحُرمات القدس انتُهكَت حقًّا، ولكن ما شأن «المقاومة» بهذه العبارة:
في مثل هذه الأسطر — وهي كثيرة — يتعرى نزار من قشرة «المناسبة» التي استغلها أبشع استغلال، ويعود إلى ديكوراته القديمة يستلهمها «مفردات العهر والهجاء والشتيمة» التي سبق له في الهوامش أن «نعاها» إلينا. ولعله من أسوأ الصور التي يتوق الصهاينة إلى التركيز عليها أمام الرأي العام العالمي هي هذه الصورة التي يتقدم بها نزار طواعيةً واختيارًا، صورتنا كمقاتلين بالعمامة فوق الرءوس والشيطان يعربد داخلنا؛ إذ كيف يستطيع أن يهضم الرأي العام العالمي — أو الإنسان في كل زمان ومكان — هذا الانشطار الحاد بين سخرية الشاعر بهذه «المقدسات» وحرصه عليها إذا دنستها ابنة دايان؟ وكيف يستطيع أن يهضم حماس الشاعر للحرية الشخصية والأخلاقية ودعوته الحارة إلى الأخذ بأسباب الحياة العصرية وتقاليدها في «بلاد الثلج والضباب»، ثم حماسه بنفس المقدار لأساليب العصور الوسطى وسلوك غوابر الأزمان وأهل الكهوف. وهو نفس التناقض الذي يواجهه المرء في قراءته لقصيدتَي «القدس» و«الاستجواب»، في الأولى يقول: «صليت حتى ذابت الشموع» وفي الثانية يقول:
ولا يفتأ الشاعر أن يكرر نفسه إلى حد الإملال، فقصيدته «الممثلون» هي أحدث طبعة للهوامش، نفس الأفكار، نفس المشاعر، نفس اللعب على الوتر المشدود، نفس الحك على الجرح: الفكر المهزوم والحريات المغتالة والخوف المعربد وانعدام القابلية والقدرة على تجاوز المحنة والقناعة بالماضي والحاضر بغير أحلام للمستقبل، والمقاطع تردد أصداء بعضها البعض، والقصائد قصيدة واحدة تفتتت في طريقها إلى المطبعة فأصبحت كتبًا براقةً لامعة على أحدث طراز. على أن هذا اليأس القاتل الذي يبثه نزار في القلوب بتلذذ غريب ينهار «فجأةً» أمام ظاهرة الكفاح المسلح لمنظمة فتح. وعندما أقول «فجأةً» لا أقصد أن الشاعر تغير، إنما أقصد إلى القول بأن «مفاجآته» هذه التي تبدأ بشعر الأرض المحتلة وتنتهي برصاصات فتح، تبدو في قصائده كالمعجزات الغيبية التي تهبط من السماء ولا يشارك في صنعها البشر، الأمر الذي يترتب عليه الشك العميق في إيمان الشاعر بانهيار المسرح ويأسه من إقامته من جديد. هذا هو التناقض الأكبر في قصيدة «فتح» وزميلاتها؛ بل هو الشرخ الذي يدب في البناء الشعري من أسفل عتبة المدخل حتى السطوح العلوية. هو القائل:
وهو أيضًا القائل:
وكأن طول القامة لأحد الشعوب يظل سرًّا منسيًّا مجهولًا يكتشفه الشاعر، «فجأةً» إذا عبر عن نفسه — فحسب — تعبيرًا عاصفًا مدويًّا. والمفروض أن وظيفة الشاعر تبدأ قبل فتح وبعدها، تبدأ باستكشاف الطاقات الحقيقية لهذا الشعب وتشحن — إذا أراد صاحبها أن يكون شاعرًا للمقاومة — العقول والأرواح بوقود لا ينفد من الأمل في تجاوز الهزيمة إذا كانت جذور النصر غائرةً في الأعماق حقًّا. فليست فتح وغيرها من المنظمات الفلسطينية المقاومة المسلحة، إلا «فروعًا» أثمرتها جذور الشعب العربي الغائرة في أرض الفداء. أما أن تبدو الأمور — دائمًا — كمعجزة، فإن ذلك ليس إلا قصورًا في الرؤية، وتقصيرًا في الفهم. وإلا فما معنى أن تكون جذورنا ميتةً وأرضنا ناضبةً من الماء والهواء والغذاء، ثم نتصور «فتح» فرعًا نضرًا وزهرةً جميلة نبتت من نفس الجذور الميتة وأثمرت من نفس التربة الخاوية الحدباء؟ ليس هذا — عند الشاعر — بمنطقي على الإطلاق، والحل الوحيد هو اعتبارها معجزةً من المعجزات. ولما كان الشاعر يبدي في كثير من هذه القصائد شكه في المعجزات ورفضه للمؤمنين بها فإننا لا نجد تبريرًا لمثل قصيدة «فتح» إلا بأنها ليست أكثر من مناسبة لا تختلف عن بقية المناسبات. هي مناسبة بكل ما تعنيه هذه اللفظة من فكر وفن. من الناحية الفكرية تسطيح مذهل لفكرة الثورة.
هذه الثورة «المفاجئة» في تصور الشاعر، يعود فيدينها — من الناحية الفنية — إدانةً صريحة، تقريرية، منظومةً ومباشرة:
ولم يسأل نفسه بصدق: أليس هو من الذين «يظنون» أن النصر وليمة إلهية؟ ولكن تفكك أوصال القصيدة هو الذي يصل بها في خاتمة المطاف إلى هذه الدرجة من التهرؤ المنهجي في بنائها وأفكارها. وليس صحيحًا أنه لا ينبغي محاسبة الشعر محاسبة البحث النظري، ما دام الشعر في جوهره لا يخضع للمنطق والأقيسة النظرية. ليس صحيحًا مرتين: الأولى لأن ما «نتصوره» نحن من تلقائية واضطراب في البنية الشعرية العظيمة، لا «يتحقق» فنيًّا إلا بحساب جمالي دقيق وهندسة صارمة للصوت والصورة، وتخطيط مسبق للحرف والكلمة، وفهم عميق للوزن والموسيقى. ولا يتم الإبداع بطبيعة الحال بآلة حاسبة أو عقل إلكتروني، ولكن هذه الأدوات التي أشرت إليها تترسب بالخبرة والتجربة والمعاناة في الطبقات اللاوعية من وجدان الفنان وعقله بحيث إنه لا يحتاج في عملية الخلق إلى درجة «الوعي الكامل». ولكن اللاوعي في حرارته وانسيابه وتدفقه لا يغفل لحظةً واحدة تلك الخبرات الثاوية في الأعماق، الخبرات التي تتفاعل مع الذهن الخالق على صورةٍ بالغة التعقيد تنعكس في إحكام البناء الفني وإن بدا لنا في النهاية تلقائيًّا أو مضطربًا. لا بد إذن من محاسبة الشاعر على الدعامات والأسس التي بنى عليها شعره، فلربما كانت أسسًا واهيةً قد تسببت في هذا الشرخ أو ذاك من شروخ العمل الشعري التي تختلف من حيث الدرجة والنوع عن العفوية والبراءة والتلقائية والاضطراب في البنية الشعرية العظيمة. فالتناقضات «المقصودة» في شعرٍ ما تختلف — بالقطع — عن التناقضات غير المحسوبة في شعرٍ آخر. وليس صحيحًا أن شعر نزار قباني يمكن معاملته — من هذه الزاوية — كأي شعر عظيم، لأنه في واقع الأمر أقرب إلى المنشورات الدعائية المنظومة منه إلى الشعر، فالعقلانية المسرفة والشعارات المكشوفة والكليشيهات المعدة سلفًا هي الخصائص البارزة فيه، وليس التدفق والحرارة والتلقائية، ولذلك يستوجب الحساب مرةً أخرى كنثر عادي لا سبيل إلى رد ما يموج فيه من تناقضات إلى طبيعة الشعر.
ولا ينفي ذلك أن نزار شاعر، وأنه شاعر كبير، ولكن خطأه الفادح أنه جعل من «الهزيمة» مجرد مناسبة يقال فيها الشعر وليست تجربةً عميقة الأغوار يعانيها حتى النخاع. وشعر المناسبات — مهما تنوعت ألوانه وصوره من السياسة إلى الجنس إلى الوفيات إلى المواليد — هو شعر المناسبات؛ أخطر سماته الفنية النظم البارد الذي يفضله النثر في معظم الأحيان، وأخطر سماته الفكرية السطحية المفرطة في التفاؤل أو التشاؤم، والمثالية، والجزئية، واقترانه بلحظةٍ سريعة الزوال لا يتجاوزها إلى ما هو أبعد منها. وتلك كلها صفات غاية في الوضوح عند النظرة المتأنية في شعر نزار الأخير. ولكنه — كما قلت — شاعر كبير، ولذلك تند عنه هنا وهناك نثرات صغيرة من الشعر المتألق بالحياة كالمقطع الثاني من قصيدة «فتح»:
أين هذه الكلمات من بقية مقاطع القصيدة، بل ومن بقية قصائده كلها التي كتبها بعد العدوان؟ هنا الإيمان العميق بالجذور «مهما تأخروا» والإيمان العميق بالوجود الحقيقي الشامل «الحنطة والليمون والرياح والغصون» والإيمان العميق بجدلية الحياة لا ثباتها «من الحزن والصخر ينبتون ويولدون». أي إيمان عميق هذا الذي يرى في أعماق اليأس أملًا، وفي قاع الحزن فرحًا؟ وأي شعر عظيم هذا الذي تشف فيه الكلمات وترق إلى حد الهمس، تختفي المباشرة والتقريرية، ويحل مكانها الرمز الهادئ والإيماءة الذكية، يتوارى العقل ويظهر القلب: كبيرًا كبر الحياة نابضًا بأدق العواطف وأعظمها على السواء في هذا المقطع وحده، تتسع «فتح» لتصبح رمزًا شاملًا يتجاوز اللحظة الموقوتة والمكان المحدد إلى آفاق إنسانية أكثر رحابةً وعمقًا.
ولكن ماذا يصنع هذا المقطع اليتيم وسط الضجيج اللاهث الذي افتعله شاعرنا، ضجيج الزفة التي صنعت منه على شعراء الأمراء، شاعرًا لكل أمير يبتغي التنفيس عن نفسه وعن نظامه وإلقاء التبعة كلها على «المفكرين المهزومين»؟ وماذا يصنع هذا المقطع اليتيم في غمرة الدفاع المجنون عن فوضوية متطرفة لم يسمع العالم بمثلها في زمن السلم، فلا يعقل أن تدق الأسماع بمثل هذا العنف القباني في زمن الحرب؟ وأخيرًا ماذا يصنع هذا المقطع اليتيم إذا كان الشاعر قد نصب لنا فخًّا غريبًا: أن نبحث عن هرة سوداء في غرفة مظلمة؟ إن شعر نزار في الهزيمة يقع في الطرف المقابل لشعر المقاومة، فهو شعر تمزيق النفس والتغني بالأشكال العجيبة التي ترسمها الدماء النازفة.
•••
وعلى غير هذا النحو كان هناك شعراء آخرون صدمتهم الهزيمة حقًّا، وأصابتهم بالدوار، ولكنه دوار المشاركة الحقيقية في العذاب، وليست مشاركة التشفي وإطفاء الغليل. وسوف أقتصر على نموذجين اثنين من بين عشرات التجارب الممتازة لأنهما يقدمان دلالتين مختلفتين فيما نحن بصدده من حديث، والنموذجان هما شعر فدوى طوقان وشعر معين بسيسو، بعد الهزيمة.
لم تكن فدوى طوقان بمعزل عن «الكارثة» قبل الخامس من يونيو، وإنما كانت المأساة في دمائها تصبغ جانبًا هامًّا من أشعارها بلونٍ أحمر قانٍ. فلم تكن قصائدها في فلسطين مجرد تصيد لمناسبة من المناسبات، وإنما كانت موضوعًا أساسيًّا من موضوعات فنها وملمحًا رئيسيًّا لا يكتمل وجهها الشعري بدونه. وقد عاشت فدوى فلسطينيةً على الضفة الغربية من نهر الأردن، أي أنها كانت أقرب ما تكون من «الأرض» وأبعد ما تكون عنها. ولذلك اختلف غناؤها عن غناء شعراء الأرض المقيمين فوقها، فبينما تحددت نظرة هؤلاء في نطاق المعارضة للنظام العنصري، تحددت نظرة فدوى في نطاق «الرفض» الرومانسي للواقع، إنها «لا تصدق» الهول الماثل وتكتفي بتصوره كابوسًا لا بد من زواله بيقظة النائم من نومه. على ذلك النحو جاءت قصائدها «الروض المستباح، بعد الكارثة، مع لاجئة في العيد، رقية» بديوانها «وحدي مع الأيام» وقصيدتها «إلى المغرد السجين» في ديوانها «أعطنا حبًّا». وبلغت ذروة رومانتيكيتها في قصيدة «نداء الأرض» بديوانها «وجدتها». وهي القصيدة التي جسدت فيها «البطل الرومانتيكي» أروع تجسيمٍ فكانت «العودة» لا المعارضة هي البذرة التراجيدية الكامنة في أعماقه، إلا أنها عودة حالمة مسلحة بحب الأرض خالية الوفاض من أي سلاح يعبر عن هذا الحب بلغةٍ لا يفهم العدو سواها. ولذلك حين يسقط البطل على أرض الفداء قد ترسم دماؤه كلمة الحرية ولكنها لا تروي أبدًا شجرتها، لأنه يسقط — للأسف — بلا ثمن.
وتبدأ «نداء الأرض» بفتًى عربي تشرد مع أهله فور وقوع الكارثة، تمثل يومًا هذه «الأرض» التي غذته من صدرها بالحنان، وتمثل ربيعها وقمحها وبرتقالها، وهاجت به فكرة العودة كلما استفزت دماءه تلك الأطياف الحبيبة، فقال:
تلك المقدمة هي التي استقامت على طول القصيدة مع خاتمتها، وقد كانت بغير شكٍّ مقدمةً رومانسية تمامًا، سواء في هبوط الفكرة من أعالي السماء كالمعجزة، أو في فرديتها المسرفة التي تكاد الأرض معها أن تكون ملكًا شخصيًّا للبطل أو في صورها الوارفة الظلال بالقمع والبرتقال أو في تنفيذها بعد سؤال وجواب كإجراءات شكلية لا بد منها لتبرير العودة. وعاد:
وكانت في انتظاره بالطبع — وهذه هي اللقطة الواقعية الوحيدة في القصيدة — رصاصتان أردَتاه شهيدًا على أرضه، وتحقق حلمه بأن يُدفن تحت ثراها؛ بل لقد نفذت هي أمره حين همس لها منذ اللحظة الأولى: «هيِّئي مرقدي.» فلفَّته بذارعين مشتاقتين.
هذا البطل الرومانتيكي الحالم بالعودة هو جنين الفدائي الفلسطيني في شعر فدوى طوقان الأخير، فالفرق بينهما هو المعادل الموضوعي للفرق بين الموقف قبل الخامس من يونيو والموقف بعده. إن رومانتيكية الشاعرة لم تكن سلبًا خالصًا، وإنما، وهي انعكاس لواقع سلبي يفرز الحلم ولا يواجه التحدي، قد استطاعت بعين زرقاء اليمامة أن ترى ما هو أبعد، أن ترى النور من بعيد رغم الظلمة الداجية، أن تتنبأ. والنبوءة في الشعر رؤيا غير واضحة وليست خريطةً سياسية مفصلة، تكفي فيها الإيماءة الحيية الغنية برمزيتها عن الإبانة المباشرة. ولئن كان البعد القومي هو البعد السائد على شعر فدوى، فإنها لا تغفل العنصر الاجتماعي في المأساة، ففي قصيدة لها بعنوان «مع لاجئة في العيد» تدمغ أهلها من الأغنياء وعشيرتها من المترفين، قائلة:
قصدت بذلك إلى القول إن ثمة حقائق أساسيةً في شعر فدوى طوقان تقودنا إلى وصفه — قبل الهزيمة وبعدها — بأنه شعر مقاومة: الحقيقة الأولى أنه يشكل تيارًا رئيسيًّا في إنتاجها لا مجرد مناسبة من المناسبات. وبالتالي فهو يتخلى فنيًّا عن النظم البارد لهتاف حماسي أجوف، ويتخذ نفس السمات الجمالية التي يتحلى بها شعرها الآخر، في الحب مثلًا. والحقيقة الثانية أن صورة البطولة في شعرها قبل يونيو ١٩٦٧م هي الجذر الوجداني لصورة هذه البطولة في شعرها اللاحق للهزيمة، صورة الشهيد بلا ثمن هي أم الشهيد الفادح الثمن. والحقيقة الثالثة التي رافقت الشاعرة في معظم إنتاجها السابق والتالي للهزيمة هي التركيز على الوجه القومي للبطولة بغير إغفال لوجهها الاجتماعي. ومن مجموع هذه الحقائق نفسر البون الشاسع بين فدوى طوقان ونزار قباني من ناحية، وبينها وبين محمود درويش وزملائه من ناحيةٍ أخرى، فهي شاعرة «مقاومة» لا تتوقف عند حدود المعارضة ولا تتردَّى في هاوية الاستسلام، وإنما هي في مرحلتها الجديدة «تواكب» المشهد الفدائي مواكبةً تكاد تكون تفصيلية، لا من موقع الفلسطينية المنفية التي كانتها، وإنما من موقع الفلسطينية الجديدة في ظل الاحتلال. هكذا ترفض فدوى رومانسيتها القديمة وفرديتها وبطولاتها التراجيدية وأحلامها الطوباوية وتوجه الخطاب إلى أشقائها شعراء الأرض المحتلة:
هكذا تابعت نفسها لحظةً بلحظة، من الوقوف على الأطلال إلى أن مسحت عن الجفون ضبابة الدمع الرمادية؛ فقد التقت بعد الهزيمة الأخيرة بوجهٍ آخر للمأساة، وجه «الشعب» في مجموعه لا وجوه الفرسان الفرادى التائهين في بيداء العواطف الجامحة بغير أن يركبوا الجواد الأكثر جموحًا. لقد عثر الفارس الأكبر — الشعب — على حصان جاوز كبوة الأمس، هكذا تقول مهللةً كالأطفال بالاكتشاف الجديد، وتبدأ في رسم خط سيرها من جديد:
إن أهمية هذه القصيدة، وعنوانها «لن أبكي» أنها تؤرخ لتطور رؤيا البطولة والمقاومة عند الشاعرة، فلم تعُد البطولة لفرد ثقل على وجدانه وطأة الذكريات، وإنما أضحت البطولة لشعب يرسف في الأغلال، ولم تعد المقاومة سيرًا على الأقدام إلى الموت انتحارًا عارضًا فوق الثرى المقدس، وإنما أمست معاناةً هائلة في درس لغة العدو ومقاومته بسلاحه، والموت — إن حدث — فهو جسر «الاضطرار» إلى الحرية وليس بذرةً سلبية كامنة في البطل التراجيدي؛ ذلك أن الصراع في جوهره صراع ملحمي. وتقدمت فدوى في صياغتها الجمالية تقدمًا واضحًا فالأقصوصة الشعرية يتماسك بناؤها على نحوٍ لا يسمح بهذه المعلبات والفجوات التي نسقط فيها ونهبط في قصائدها السابقة. إن «متابعتها» لنفسها لحظةً فلحظة لا تدع لها فرصة السرحان والتيه، وإنما هي تؤرخ لنفسها من خلال شعبها وتؤرخ لشعبها من خلال نفسها في محاذاة التطور الهائل للمقاومة الفلسطينية على أرض الفداء. اختفت نبرة النبوة، وظهرت نبرة المؤرخ، وهي النبرة التي تصوغ بطولة «الفدائي» الفلسطيني عبر الحوار معه من زاوية الفن، وجدلية الموت والحياة من زاوية الفكر. وفي هذه المرحلة الجديدة يظل التركيز واضحًا على البعد القومي، بينما يتوارى البعد الاجتماعي ليفسح الحلبة أمام بُعد جديد هو البعد الإنساني. في قصيدتها «مخاض» تقول:
كما واكبت الشاعرة نفسها وشعبها، تواكب هنا البطولة الجديدة البازغة بين الريح والدخان، وبين الصخور والمياه، وبين منحنى الدروب والنهار. وهي البطولة البعيدة عن «مفاجآت» نزار قباني لأنها تنبع كما قلت من جدلية الموت والحياة، فليس الموت وحده — كما كانت فدوى نفسها تقول قبل الهزيمة — بكافٍ لإثبات الوجود، وإنما تولد الحياة من باطنه إذا كان الهدف من الموت للبطل هو الحياة لشعبه. أما الموت في ذاته، ومن أجل أن نوسد الثرى المقدس فإنه قيمة رومانتيكية حالمة. تواكب الشاعرة المقاومة الفدائية — بانتصاراتها وانكساراتها — مواكبةً حية دافقة بالصدق والواقعية، وليس «النهار» المنتظر في رحابة المدى إلا إيمانها ويقينها بصحة «الطريق» الجديد، المفضي في نظرها، إلى الحياة، ولو كان الموت — لأفرادٍ اختاروه اضطرارًا — ثمنًا لها. ثمة نهر يركض إلى مصبه، مهما عاقته الصخور والجنادل، هذا النهر العظيم هو الشعب الفلسطيني. والريح التي تجدل الدخان في الجبال هي ريح الفدائية. والنهار المنتظر هو مستقبل هذا الشعب وتلك المقاومة. هكذا تنهض الصياغة الجمالية للقصيدة على ساقين راسختين من الرمز الشفاف والصورة الكثيفة، من النغم المعبر عن التوتر وإن تمزقت أوصال القصيدة إلى مقاطع، إلى أشطر، المقاومة إلى كلمات، إلى أحرف، وهكذا ترتفع قامة الشعر في إنتاج فدوى الأخير. لأن الشعر في حياتها الجديدة هو امتداد لحياتها القديمة، جزء من هذه الحياة لا يتجزأ من نسيجها العام ولا ينفصل عن تفاصيلها الدقيقة. ولأن فلسطين قضية حقيقية في كيان فدوى جاء شعرها لا «عن» فلسطين ولا «عن» المقاومة، وإنما جاء شعرًا فلسطينيًّا مقاومًا. على النقيض من الذين اتخذوا من فلسطين — كالمرأة سابقًا — مجرد مناسبة يتغزلون في عريها أو ينوحون على آلامها، فالمعنيان سواء. وعندما تصبح فلسطين وجدانًا داميًا في كيان الشاعرة يصبح شعرها أيضًا وجدانًا داميًا بغير تعسف أو افتعال، يصرخ صاحبه لأن أحدًا لا يصدقه، ويقرر، لأنه لا يثق في نفسه، ويهتف لأن الأرض لا تسمعه. ويتقدم شعر فدوى ويتخلف شعر الآخرين، يتقدم شعرها بتماسكه الذي يعكس صدقه وأصالته، ويتخلف شعرهم بتفككه الذي يعكس كذبه وسطحيته.
ولنقارن مثلًا بين الحوار الذي يقيمه نزار مع الفدائي الفلسطيني في «فتح» والفدائي عند فدوى في «الفدائي والأرض» و«حمزة». في قصيدة «فتح» يكتفي الشاعر بالتعبد في محراب المعجزة واستمطار اللعنات على جيلنا، واستجداء الرحمة من أجيالنا القادمة. اليأس في القصيدة بلا مبرر، والأمل أيضًا بلا مبرر. ومرد ذلك انعدام الصدق في الحالتين. أما فدوى في «الفدائي والأرض» فتبدأ يأسها من أرض الواقع، من مفكرة الشهيد مازن جودت أبو غزالة:
ولكن الواقع نفسه — نقطة انطلاق فدوى وليست الذات السادية المتعالية عند نزار — يجيب اليأس بالتحدي، فهذه الكلمات التي ورثناها مع الشاعرة من مفكرة الشهيد هي نفسها التي دفعته — في الواقع والقصيدة معًا — إلى أن يحمل هم شعبه وأرضه وكل أشتات المنى المبعثرة على نحو يختلف أشد الاختلاف عن «نداء الأرض» القصيدة القديمة لنفس الشاعرة وبطلها الوحيد المغترب بلا سلاح سوى الذكريات. هنا تتحول الذكريات إلى حوار عميق مع الأم فتسلحه بالإيمان. ويسلح نفسه بالسلاح الذي يفهمه عدوه ولا يذهب وحيدًا كدون كيشوت العصور الوسطى، وإنما برفقة الرفاق يقاتل، فلا ترسم دماؤه على الأرض شاهد قبره، وإنما ترسم علامة الشوط الذي قطعته رحلة الفارس الأكبر — الشعب — نحو هدفه العظيم. عندئذٍ لا تحتاج الشاعرة لأن تصرخ «يا أطفالنا» وإنما تهمس لنا «يا جيلنا» بغير أن يتحول الهمس إلى لفظ، فأبو غزالة ابن جيلنا الذي تظل دماؤه من بعده دليلًا هاديًا للأجيال القادمة فهذه الأجيال لا تولد في فراغ الهزيمة الذي تعلق فيه نزار، وإنما تولد من خلال المقاومة التي لم ينزل إليها ولم يتعرف عليها ولم يفهم أبعادها. هذه الأبعاد التي تدرجت بالشاعرة من اليأس إلى الأمل بغير انزلاق على جليد المعجزات:
وإذا كان أبو غزالة قد استشهد فإن هذا لا يعني بالضرورة أن يكون «الفدائي» عند فدوى مرادفًا للشهيد، فالفدائي لديها «مقاوم» يصادفه الموت أحيانًا وتكتب له الحياة أحيانًا أخرى كما في قصيدة «حمزة». ذلك أن هذا الشعب في شِعر فدوى كُتب عليه القتال ولم يكتب عليه الموت كما في شعر نزار. الموت في حياتنا معبرٌ نمر عليه إلى الحياة، وليس العكس، لأنه إذا كان الموت موتًا فحسب، لكان السكون الأبدي هو منطلق الحياة، والاستسلام هو النتيجة العملية لهذا المنطق. أما إذا كانت:
كما تقول فدوى في قصيدتها «حمزة» فإن منطق الحياة هنا يصبح جدلها وديناميتها، ويصبح تحدي الواقع وتجاوزه باختراقه لا بالتعالي عليه هو النتيجة العملية لهذا المنطق؛ بل وتلجأ الشاعرة في بناء قصيدتها إلى هذا الرمز البسيط، فينسف الأعداء بيت حمزة وتهوي غرف الدار الشهيدة، ويصرخ حمزة صرخة الحياة لفلسطين فتجوب بدويها الآفاق مجددةً صنع الحياة، ولا يزال حمزة مرفوع الجبين.
ولا تلجأ فدوى إلى «تعميم» خبرتها النضالية في شعارات وكليشيهات، وإنما هي تبسط أدق التفاصيل الصغيرة في صور تشعرك بألفتها، وتواكب المقاومة البطولية لهذا الشعب من أكثر مواقعها تواضعًا كهذا الانتظار المرير أمام شباك التصاريح عند جسر اللنبي:
هذا التوقف المتأني والالتفات المتمعن في أصغر وقائع الصراع اليومي وأدقها، الخامة الشعرية في «آهات» فدوى، فليست المقاومة المسلحة إلا أكثر التعبيرات صراخًا، ولكن هناك أيضًا مقاومة أخرى يسقط فيها عرق البسطاء ملحًا في جفونهم تستحق من شاعر المقاومة متابعتها — كما تفعل شاعرتنا — لأن هذا العرق المالح في الجفون هو القاعدة الفسيحة التي تتصاعد فوقها المقاومة البطولية حتى تصل ذروتها الهرمية في الكفاح المسلح. هذا الكفاح الملحمي الذي تتبادل فيه الحياة مع الموت مراكز الوجود، وتظل «الحرية» هي سدنة الصراع ولحمته، وهي ليست حرية الفرد الحالم برائحة الحنطة والبرتقال، وإنما «حرية الشعب» كما دعت فدوى قصيدتها القائلة:
هكذا لا تصبح الحرية مجرد نداءٍ فوضوي أجوف، ليست ليبراليةً عاجزة عن استيعاب قضية الشعب بكافة أبعادها، ليست قرارًا أو فرمانًا يمنحه السلطان لرعاياه، وإنما هي نضال دامٍ ومقاومة بطولية تحقق للإنسان وجودًا إنسانيًّا، وتحقق للإنسان الفلسطيني وجودًا فلسطينيًّا. تلك هي القضية-المحور، في شعر فدوى طوقان الجديد، وهو شعر يختلف عن شعرها السابق على الهزيمة، ولكنه امتداد له كامتداد الرجل الناضج من جنين في الرحم غض الإهاب والملامح. وهي ترث الكثير من صياغتها الشعرية القديمة، ولكنها تضيف الكثير من وحي تجربتها الجديدة. ويظل الفرق بين المرحلتين واضحًا غاية الوضوح، هو الفرق بين الشاعرة المنفية والشاعرة في ظل الاحتلال، وهو أيضًا الفرق بين الموقف الفلسطيني — ولا أقول العربي — عشية العدوان وصبيحته. ولقد كانت شاعرة مقاومة في كلتا المرحلتين، ولكن مقاومتها الأولى ظلت محصورةً في نطاقٍ ضيق صيغ من مادة الحلم، أما مقاومتها الأخيرة؛ فقد اتسعت دائرة الرؤية فيها حتى لتشمل الواقع الدامي بكل قسوته وكثافته وتعقيده. ولئن كانت فدوى في مرحلتها الأولى أقرب إلى روح الأنبياء منها إلى المؤرخين، فهي تعكس الحال في مرحلتها الجديدة وتقترب من روح التاريخ وإن لم تتخلَّ عن واجب النبوءة، وبالرغم من أن نبوءتها هذه المرة من صلب الواقع ومرارته وليست من وحي الحلم والخيال، إلا أنها تظل مع ذلك محتفظةً بالسمات العامة لكل التنبؤات، وأعني بها الرؤيا ذات الألوان والضياء والظلال، الخالية من تفاصيل خرائط العلماء.
•••
إذا كانت المقاومة في شعر فدوى طوقان تشكل تيارًا رئيسيًّا، فإنها في شعر «معين بسيسو» تشكل الجوهر الشامل لهذا الشعر، فمنذ أن عرف هذا الشاعر منفاه عام الكارثة ١٩٤٨م لم يتقاعد في خيمة من الخيام؛ بل ربط مصيره ربطًا عميقًا بمصير الوطن الأكبر من ناحية، ومصير الثورة الكبرى من ناحيةٍ أخرى، أي أن معين بسيسو في وقتٍ مبكر قد وحَّد جرحه القومي في فلسطين بالجراح القومية في الوطن العربي بأسره، ثم وحَّد نضاله من أجل التحرير بنضاله من أجل الاشتراكية. ولم يعُد معين بذلك شاعر «المنفى» كما هو الحال بالنسبة للكثيرين من الشعراء الفلسطينيين الذين جعلوا من القضية ما يشبه المؤسسة الإعلامية؛ بل قرر هذا الشاعر منذ البداية أن يكون شاعر المقاومة على المستويين القومي والاجتماعي، فجاءت ثورته — من ثَم — أشمل من ثورة زملائه في الوطن المحتل وأعمق وأغنى من ثورة زملائه في المنفى. توحدت إذن ثورته الفلسطينية بثورة الشعوب العربية كلها على النير الاستعماري من ناحية، والقهر الاجتماعي من الناحية الأخرى. فلم تكن مصر التي قضى بها زهرة شبابه وطنًا ثانيًا؛ بل جزءًا لا ينفصل عن الوطن الواحد الكبير. ولذلك غنى لها أغنياته الفلسطينية، كما غنى لفلسطين أغنياته لها، ففي دواوينه الأولى الثلاثة «المعركة»، «الأردن على الصليب»، «مارد من السنابل» لن نستطيع أن نعزل نبضة قلبه مع الفدائيين في القنال عن النبضة التالية للمناضلين في الخيام، لن نستطيع أن نفصل بين خفقة روحه مع بورسعيد والخفقة التالية مع غزة. وهكذا لم «يتخصص» معين بسيسو في مأساة فلسطين؛ بل جعل منها نقطة الارتكاز والانطلاق إلى جميع المآسي التي تقبض على عنقه النحيل في الأرض العربية كلها. ولم يتخصص معين مرةً ثانيةً في الجرح القومي الدامي؛ بل زاوج بينه وبين مأساة الكادحين في كافة أرجاء الوطن العربي بحيث كانت قضيته ولا تزال على نحوٍ غاية في التركيب لا انفصام فيها بين قهر وقهر، لأن الجوهر العميق المسئول عن كل قهر واحد لا يتغير. ولكن يظل التحرر القومي في شعر معين بسيسو هو المقدمة الأولى والضرورية لكل تحرر آخر، سواء كان تحررًا سياسيًّا أو اقتصاديًّا أو اجتماعيًّّا أو نفسيًّا، فالقهر الأجنبي يوصد بابًا ضخمًا في وجه أية حرياتٍ أخرى يمكن النضال من أجلها إذا غاب عن الحلبة وجهه القبيح.
وإذا كانت المقاومة في شعر معين تشكل الجوهر الشامل لهذا الشعر، لا مجرد تيار ضمن بقية التيارات كما هو الحال في شعر فدوى، فذلك لأن الشعر والحياة قد توحدتا في شخص معين وفنه توحدًا لا سبيل إلى فصم عراه. هو نفسه «مقاوم» يحكي قصته بضمير المتكلم:
حين كانت الجماهير المصرية تردد هذه الأبيات وغيرها لمعين بسيسو عام ١٩٥١م والحركة الفدائية على شاطئ القنال يتعاظم نموها، لم يكن الشاعر «يكتب» لها بقدر ما كان يعيش معها نضالها لحظةً فلحظة: بندقيته في يد، وشعره في اليد الأخرى. ولذلك جاء هذا الشعر خطابًا ثوريًّا لا قصةً تروى، ولذلك أيضًا كان النظم الكلاسيكي هو سبيله إلى الأسماع والشفاه. وإذا كان الشاعر قد رفع السلاح للذود عن مصر، فإنما كان يرفعه في نفس الوقت دفاعًا عن وطنه السليب:
هكذا يفتتح قصيدته «المدينة المحاصرة» في ديوان «المعركة» فور انتهائه من قصيدة «المعركة» عن القنال. هذه عن مصر وتلك عن غزة ولا فرق في النسيج والمشاعر المتلاطمة والشحنات المتوهجة بالدم والأمل. إنه لا يقدم صورةً وردية عن غزة السجينة، ولا يحتمل التهويم المضلل حول أسوارها؛ بل هو يلتقط نقطة السواد في قلبها ليحل مكانها لؤلؤة حمراء اسمها الثورة:
فهو لا يدعو شعبه إلى الثورة كمتفرج خارجي، ولكنه يرى المصير وقد كتبه الجلاد نفسه بالسياط على الظهور، فالثورة قدر هذا الشعب، حتى ولو هددته الكوارث التي صور جانبًا منها في قصيدة «السيول»، فالموت قد يحفر أخدودًا في عين ميتة، ولكنه يرسم صرخة ثأر في شفة لم تمُت بعد:
وقد عانى معين بسيسو إبان السنوات الأولى من الخمسينيات معاناةً هائلة، تجربة الشكل والمضمون في القصيدة الحديثة. كان خطابه المباشر إلى الجماهير، نتيجة انخراطه الواقعي في سلك المقاومة الوطنية والشعبية، يستلزم منه — إخلاصًا للتجربة وصدقًا مع النفس — ألا يتجاوز ضمير المتكلم إلى حدود أخرى. وهذا الضمير يجد مبتغاه في الصياغة الكلاسيكية كأروع ما تكون الصياغة في عمودها الخليلي الصارم بقوافيه وحروف رويه. ولا ريب أن كافة العيوب المأخوذة على البناء التقليدي قد رافقت شعر معين، ولكن تجربته الذاتية الزاخرة بالصدق والعناء قد أمدت هذا الشعر بعناصر الحياة بعد موت اللحظة العابرة، فكان يجهد غاية الجهد في البحث عن دروب جديدة، كما نلاحظ في قصيدته «إلى عيني غزة في منتصف ليل الاحتلال الإسرائيلي» بديوان «الأردن على الصليب». يقول في خاتمتها:
حاول هنا أن يخرج في القليل عن الضجيج الموسيقي الصاخب، وأن يترك مكان الصدارة للصورة الشعرية، ولكنه لم يخرج عن «ذاتية» الشكل، حتى إنه حين يقول: «إننا سوف نعود.» تبدو الكلمات كعبارةٍ إنشائية باهتة، لا كحلقة في سلسلة مترابطة الحلقات. وفي «فلسطين في القلب» يجرب المحاولة من جديد فيمنح التفعيلة الواحدة حريتها في التلاعب بالوزن، ويمسي النغم أقرب ما يكون إلى الهمس بين أربعة جدران — رغم توجيه الخطاب إلى بلاده — منه إلى توجيه الخطاب في جماهير محتشدة بأحد الميادين العامة:
لا تتعدد الأصوات في شعر معين بسيسو السابق على الهزيمة الأخيرة، إلا بقصيدته «إله أورشليم». وبتعدد الأصوات تزداد درامية القصيدة ثقلًا وكثافة، وتخف وطأة الذاتية التي تعانق الشكل الشعري فيما يشبه الحتمية الموسيقية الرتيبة، وتتسلل نسمة من الموضوعية والاتساع والشمول. في «إله أورشليم» يتمثل الشاعر — ربما لأول مرة في شعره — نغمةً عبرية في مزامير داود يُقسِم فيها اليهودي بأنه ينسى يمينه لو أنه نسي صهيون. هذه الاستعارة الخارجية هي النسيج الشكلي للحوار بين الشاعر وإله أورشليم. وهي تحقق له ككل أسطورة أو موروث شعبي في الشعر، سعةً موضوعية تضم قضيته برحابةٍ إنسانية. يقسم الشاعر إذن أنه سينسى يمينه وعيني حبيبته وأخيه وصديقه الوحيد:
لأول مرة في هذه القصيدة التي نُشرت في ديوان «الأردن على الصليب» عام ١٩٥٧م تتحقق لشعر المقاومة عند معين بسيسو هذه الوحدة العضوية بين أجزاء القصيدة، فلا ضمور لعضو وتورم لآخر، ولا صدأ في هذه المفصلة أو تلك التي تربط بين الأعضاء جميعًا، ولا شحوب أو هزال ولا طراوة أو ارتخاء فيما يحيط هذه الأعضاء من لحم ودم وعظم. إنها الوحدة الدينامية العميقة التي حققها الابتعاد عن غلو الذاتية الشكلية والاقتراب من الموضوعية والدرامية. وهي السمة البارزة في إنتاج معين التالي للهزيمة، فلقد تحققت له منذ ذلك اليوم القاصم للظهور، نقطة تحول حاسمةً في بنائه الشعري تؤكد ماضيه وتدعمه ولكنها تتجاوزه وتتطور به تطورًا كيفيًّا عميقًا. فإذا كان الماضي الشعري لفدوى طوقان قد برر لها تطوير رافد المقاومة من بين الروافد العديدة في إنتاجها، فإن هذا الماضي في حياة معين بسيسو وفنه يتخذ لنفسه أهميةً قصوى، فما كان مجرد رافد عند غيره كان عنده هو النهر منبعًا ومصبًّا. ولذلك فإذا كان غيره قد تطور فكرًا وفنًّا في اتجاهٍ مضاد لنزار قباني مثلًا، فإنه هو يقف على الطرف النقيض من الشعر النزاري شكلًا ومضمونًا، بغير مواربة وفي منتهى الحسم.
يعتمد الشاعر في مرحلته الجديدة اعتمادًا كاملًا على الأسطورة بناءً شعريًّا، سواء كانت الأسطورة الموروثة فولكلوريًّا أو الأسطورة التي يبنيها بنفسه من وحي العصر والتاريخ. اختفت إذن ملامح الضمير المنفرد بالنسيج الشعري، وتعددت خيوط هذا النسيج وألوانه. على أن السمة البارزة في إنتاج معين الأخير أن المقاومة لديه لم تعد المواكبة الواقعية المباشرة للحركة الفدائية في فلسطين، وإنما اتخذت وجهًا عامًّا شاملًا لمعنى المقاومة الوطنية. فلسطين كامنة في الخلفية، وبين السطور، بينما تحتل اللوحة الرئيسية صور أخرى لسمرقند ويوليوس قيصر ورامبو. هكذا تقل شفافية الرمز وتكثف دلالاته ويثقل وزنه، ويحتاج التلقي إلى معاناة الكشف الأول لطريق مجهول. يستلهم معين في «أغنية إلى سمرقند» تلك الحكاية التي تقول إنه بينما تيمور لنك في إحدى غزواته بعيدًا عن سمرقند دعت «الهانم» — امرأته — كل مهندسي سمرقند، لكي يقيموا معها معبدًا ضخمًا تفاجئ به تيمور، ويكون هديتها له، وأن يقام المعبد في بضعة أيام ولم يقبل هذا العرض غير مهندس شاب تعهد بالقيام بمهمة بناء المعبد لقاء شيء واحد، لقاء قبلة يطبعها على شفتي «الهانم»، وترددت الهانم طويلًا وحاولت إغراء المهندس الشاب بكل الوسائل ولكنه صمد ورفض الذهب وتمسك بالقبلة، وأخيرًا وضعت الهانم كفها فوق خدها وقبلها فوق الكف الراعشة على الخد وتم بناء المعبد، وشاعت الحكاية، وحينما عاد تيمور لنك وأراد الفتك بالمهندس كان قد اختفى، ويتقمص الشاعر شخصية العاشق فيخاطب مولاته:
رويدًا رويدًا تتضح لنا «فلسطين» تحت رداء المحبوبة، وليس القيصر زوجها إلا «الدولة» العنصرية الغاصبة، وليس المهندس العاشق إلا المواطن الفلسطيني الذي لا يملك في عالم بغير معجزات إلا معجزة الحب، ومعجزة الدم؛ بل إن الحب والدم يتحولان إلى رمز واحد هو ذلك الشريان واليد التي تمتد إلى الشمس: الشريان هو رابطة الدم التي تربطه بالأرض، والحب هو الذي يدفع أحلامه لتُطاول أعالي السماء:
يتبادل العاشق في القصة الأصلية ثياب الحب والموت مع الشاعر، كما تتبادل فلسطين والحبيبة الفاتنة ثياب زوجة القيصر. هكذا يتخفف معين من أعباء الذاتية الشكلية وإن لم يتخلَّ تمامًا عن ضمير المتكلم ليسهم مع المتلقي في اكتشاف هوية الضمائر الأخرى، المخاطبة والغائبة. وهكذا أيضًا البناء الدرامي للقصيدة حتى ليشمل كافة التوترات النغمية التي تختلج بها شفتاه:
هذه القصيدة في تصوري هي أعمق كلمات معين بسيسو غداة الهزيمة وهي في المقدمة من شعر المقاومة العربية المعاصرة؛ ذلك أن بعدها الإنساني الخصب والمتعدد الزوايا ينقل «القضية» من محورها الذاتي الضيق، إلى مستواها البشري العام. هي بذلك تخاطب الوجدان القومي الجريح على أرض الفداء الفلسطينية، كما تخاطب كل وجدان جريح على ظهر الأرض في مختلف أرجاء المعمورة. وهي لا تنطلق من محاجاة عقلية باردة ولا من شعارات سطحية عابرة، وإنما تنطلق «أغنية إلى سمرقند» من معاناة حارة لاهبة تتشكل من جزئيات مغرقة في البساطة هي جزئيات الحكاية الشعرية التي أسس عليها الشاعر بناءه. لا ترد كلمة فلسطين حقًّا، ولا صورة الفدائي، ولكن الكيان الجديد الذي استحدثه الشاعر من أعماق الواقع والأسطورة معًا، هو الذي يصوغ هذه الضفيرة المتماسكة من فلسطين وزوجة القيصر، من الفدائي والعاشق، من الحكم الصهيوني وتيمور لنك. ولا تبهت معالم الوجه الاجتماعي لثورة الشاعر في هذه القصيدة «المركبة»، فالعاشق لم يكن أميرًا من أمراء القصر، وإنما تكمن أهميته البالغة في كونه أحد أفراد الشعب، وتكمن أهميته في أنه «البطل» و«الفارس» الشجاع الذي تغلب على المغريات ذات الرنين الذهبي وفضل «الحب» على كل ما عداه، حتى ولو كان السيف القيصري في انتظاره. والقصيدة تلوح في كامل بهائها ضمن ديكور قاتم يحوطه الجزع من كل جانب وتعشش داخله الكارثة. فما أشقى العالم — يقول الشاعر — حين يطالعنا بوجه العصفور وقلب التنين. والقصيدة أخيرًا لا تسجل «الحدث» الوطني ولا تواكبه، ولا تتنبأ به، وإنما هي تحتوي ذلك كله تحت جناحين من النذير والبشارة. فالشاعر هنا ينذر القيصر بأن خيانة زوجته له ليست على وجهٍ آخر إلا حبًّا عارمًا لعاشقها. فالحب والخيانة وجهان لعملية واحدة، ولكن الحب يبقى والخيانة تزول. والشاعر هنا يبشر القيصرة — كبشارة الملاك إلى العذراء — بأنها ستحبل بالروح القدس وتلد ابنًا ويسمونه يسوع، يخلص الناس من خطاياهم. وحركة الفداء من قبل ومن بعد هي لب اللقاح الفلسطيني لشجرة الحرية التي تظل في خصوبتها تثمر وتزدهر، على النقيض من شجرة العبودية التي تأخذ في العقم والجدب والبوار، والمسيح الجديد إذن هو الإنسان عند معين بسيسو الفلسطيني الذي يمحو بقيامته من بين الأموات عار الصلب. وهو في هذه المرة، لن يصعد إلى السماء، وإنما سيبقى معنا على الأرض. وهو في هذه المرة لن يصنع المعجزات لنؤمن به، وإنما هو قد آمن بنا لأننا نحن الذين نصنع المعجزات. يقول معين في «أغنية الرجل والجواد»:
ولأن الشاعر قد اختار صليب المقاومة ومضى خلف يسوع، فإنه قد اختار في نفس اللحظة صليب المنفى، فتعبيره الشعري يوجز البندقية ولا يلخص البرلمان، لقد ابتعد عن المعارضة خطوة، وعن المقاطعة خطوتين، ولما وصل أعتاب المقاومة كان المنفى نهاية الطريق. وهو ليس بالطريق المسدود رغم مرارة النفي وعذابات الغربة، ورغم الرفض القاطع — والمنطقي من موقع المقاومة — للسير تحت الساريات كما يقول في «القدر المحنط»:
على هذا النحو يختلف معين بسيسو — حسب موقعه الذي اختاره لنفسه — عن شعراء الأرض المحتلة ومواقعهم التي اختاروها لأنفسهم. إنهم وقد اختاروا «البقاء» في الأرض لم يكن في حوزتهم إلا أقصى درجات المعارضة للنظام القائم في إسرائيل. والمعارضة في أشد حالاتها عنفًا لا تعني المقاطعة فضلًا عن المقاومة المسلحة؛ بل تعني الحوار المتعدد الأطراف: بينهم وبين الشعب — من مختلف الأجناس والأديان والأيديولوجيات — وبينهم وبين الرأي العام العالمي، وبينهم وبين الدولة. وهم يعانون من أجل قيام هذا الحوار وتدعيمه وتطويره والحصول على ثمراته، معاناةً هائلة تبدأ من المصادرة الفكرية وتنتهي إلى المصادرة الجسدية. ولكن موقعهم يفرض عليهم هذا الأسلوب دون غيره من أساليب الصراع العربي الإسرائيلي. وهو أسلوب نضالي لا شك فيه يحرز من المكاسب السياسية ما يحمي جبهة القتال من انهيار ظهرها المعنوي في الداخل والخارج. على ذلك، فمهما استخدم الشاعر المقيم في الأرض المحتلة من تعبيرات كالقذائف، فإنها عند التحليل الدقيق لا تصوغ «البندقية» سلاحًا في المعركة، وإنما تصوغ «الحوار» وهو سلاح يستكمل مقوماتها ولا بديل له ولا فضل لآخر عليه.
أما شاعر المقاومة؛ فقد كان «المنفى» موقعه الذي اختاره أو اختير له. وهو لم يكن يمتلك في حقيقة الأمر إلا أن «يقاوم» فالمعارضة لا مكان لها في موقعه. وهو في جملته يعبر عن «البندقية» حتى من قبل أن تصبح واقعًا حقيقيًّا ولا يعرف عن «الحوار» السياسي شيئًا. وبندقيته ذات اتجاه واحد هو قلب العدو، وجنوده هم الشعب العربي الفلسطيني داخل «إسرائيل» وخارجها. ولكن «الخارج» هو الذي يحظى باهتمامه، لأنه واقعه الوحيد الممكن. وقد كان الخامس من يونيو نقطة تحول حاسمةً في تاريخ شعر المقاومة الفلسطينية، فقبله كان «الحلم» هو الديكور الرئيسي للبطولة، ومن بعده أصبح «الواقع» هو الديكور والأبطال جميعًا. وبين العلم والواقع مسافة هائلة قطعتها فدوى طوقان — مثلًا — بتحول موطنها إلى جزء من الأرض المحتلة. ولم يستطع آخرون قطع هذه المسافة بفاعلية شوفينيتهم العمياء. وهم يلتقون في تطرفهم القومي الحالم مع أقصى درجات الاستسلام للأمر الواقع في شعر نزار قباني مثلًا. فالبندقية في شعرهم أقرب ما تكون إلى شعار الحرب للحرب، وليست الحرب للسلام، من هنا يتخذ اللون القاني في قصائدهم معنًى عنصريًّا داميًا لا علاقة له بالحرية أو الوطنية أو الحضارة. وإذا كانوا هم يبالغون في حجم البندقية التي في أيديهم ويتخيلون العدو أعزل من السلاح بينما هم يمسكون سيوفًا من خشب، فإن نزار قباني يتخيل العكس؛ إذ يرى الأشياء كلها بمنطق الهزيمة ولون الليل.
معين بسيسو وقلة نادرة معه هي التي لم تقطع المسافة بين الحلم والواقع، الحلم لم يكن له مكان في واقعهم منذ توحدت في عيونهم قضية فلسطين بقضية الوطن، ومنذ اندمجت مأساة الشعب الفلسطيني عندهم في مأساة الشعب العربي. من ذلك الوقت انخرطوا في سلك المقاومة العربية أينما كانت، هنا أو هناك في مختلف أنحاء الأرض العربية. ولما جاءت الهزيمة لم تنحرف المفاجأة بهم إلى رد فعل من أي نوع، بل تأكدت لهم صحة الطريق الذي ساروا فيه، وازدادت خطواتهم على الدرب ثباتًا.
ولقد يدهش المرء حين يتسع ضجيج الانفجارات المسلحة في قصائد الاستسلام للأمر الواقع، بينما يتخذ شعر المقاومة الحقيقي والأصيل مادته من:
كما يقول معين بسيسو في قصيدة «أغنية الرجل والجواد» أو كما يقول في «القمر المحنط»:
ثم تختفي الدهشة من هذا «التناقض» الذي نعرف سره في مزايدة المزايدين، ومقاومة المناضلين. فشاعر المقاومة الحقيقي يعلم يقينًا أن «الكلمة» في بساطتها وتواضعها هي سلاحه، ولكن هذه «الكلمة» بعينها في نقائها وثوريتها وصدقها سلاح فعال، بينما لا تخرج مفرقعات النزاريين عن كونها أسلحةً فاسدة، عثرت في مناخ الهزيمة على سوقٍ رائجة: تحك فيها الجرح الملتهب فتهتاج الأشجان وتثور الإحَن، وتمس الوتر المشدود في القلب الكسير فيعزف دمًا.