شهادة الشعر الأمريكي
«عندما تدخل القصيدة عين أو أذن إنسان ما، فإنها تكف عن أن تكون نقاط حبر على قطعة ورق، وتلج وجودًا جديدًا في حياة الآخرين. هذا هو ما يحدث الآن في الولايات المتحدة.» بهذه الكلمات قدم ولتر لوينفيلز مجموعة الشعر الأمريكي المسماة «أين هي فيتنام» التي نقلَت عنها واختارت منها مجلة «شعر» اللبنانية عشرين قصيدة وصفها سركون بولص — الذي قام بالترجمة — وصفًا دقيقًا حين قال: «حرب فيتنام بالنسبة للشعر الأمريكي منقذٌ رسمي. فهنا الجرح البشري الأكبر الذي تصب فيه الآلام جمعاء.» والحق أن هذا الوصف الدقيق يكتسب معناه الحقيقي لدى المتابع الدءوب لتطور الشعر الأمريكي؛ ذلك أن هذا الشعر منذ نشأته الأولى — أي باستقلاله عن دوحة الشعر الإنجليزي — يعاني ولا يزال كثيرًا من العُقد، سواء في أبنيته الفنية أو أخيلته الفكرية. ويكاد يجمع النقاد ومؤرخو الأدب على ثلاث ملاحظات رئيسية في هذا الصدد: أولاها أن الولايات المتحدة أشبه ما تكون بقارة واسعة تتفاوت فيها من جزء إلى آخر طبيعة الحياة، وهي بذلك تتضمن مادةً غنية لا تنفد من الفن. وثانيها أن الولايات المتحدة أشبه ما تكون بنبات شيطاني من الناحية الحضارية، فهي لا تكاد تمد جذورها حتى تصطدم بالأصول الأوروبية التي تفرعت عنها أو بالأصول الزنجية التي سحقتها. والملاحظة الثالثة هي أن الولايات المتحدة بلد المتناقضات الحادة بين الثراء والفقر، والديمقراطية والدكتاتورية، ودعوات السلام والعنف الدموي، والنظام المتكامل والفوضى المخيفة. على أن الإشارة العاجلة إلى «العنف الدموي» لا تنال اهتمامًا يذكر من جانب المؤرخين والنقاد، وبخاصة الأمريكيون منهم، بينما يعد هذا العنصر في تقديري من أخطر العناصر التي كونت الوجدان الأمريكي على مر العصور والأجيال؛ ذلك أنه الجذر «الحضاري» الواضح المعالم في كيان الأمة الأمريكية، كما أنه المؤشر «الحضاري» الواضح المعالم لمعظم المآسي والكوارث التي سببتها لنفسها أو تسببت فيها للآخرين. ولا سبيل إلى تفسير العنف الأبيض أو العنف الأسود المضاد في الحياة الأمريكية إلا على أنه «الحصاد المر» للتراث الحزين، تراث الجماهير البروتستانتية المضطهدة في أوروبا وقد فرت إلى «العالم الجديد» تكتشف الذهب وتبحث عن الأمن وتفرغ عذابها في المطاردة الدموية لسكان الأرض الأصليين. هكذا كانت سنوات «الفتح» بمثابة البذرة الأولى لكابوس «الحرب العنصرية» التي رافقت التاريخ الأمريكي، جنبًا إلى جنب مع رد الفعل الطبيعي: النضال من أجل الديمقراطية.
وبينما استطاعت الرواية الأمريكية أن تحرز استقلالها القومي عن الإنجليزي، بأن عكست آلام الحضارة الوليدة وواكبت — مع المسرح — أحزانها؛ فقد ظل الشعر في أروع نماذجه معبرًا عن «أمريكية» الحضارة، سواء كان تعبيرًا ثوريًّا حرًّا كما هو الشأن في وولت ويتمان أو تراثيًّا أصيلًا كما هو الحال في روبرت فروست أو مناضلًا اجتماعيًّا كما هو الأمر مع هارت كرين وأودن أو مناضلًا روحيًّا كما نلاحظ على روبرت لويل. أولئك جميعًا كان شعرهم يتوسد التراب الأمريكي ويلتحف بالسماء الأمريكية؛ فقد كان الذي يعنيهم أولًا وقبل كل شيء أن يكونوا شعراء أمريكيين في القلب والروح، أن يحققوا الذات الأمريكية المستقلة عن الذوات الأوروبية الأخرى، وفي مقدمتها الذات الإنجليزية. ولقد نادى معظمهم بالمساواة بين البشر؛ بل وكان بعضهم ماركسيًّا، ولكنهم في غالبيتهم لم يصلوا بالشعر إلى مستوى الرواية — ومن بعدها المسرح — في تجسيد الجوهر الحزين الدامي للحضارة الأمريكية. هذا الجوهر الذي يطل بعينيه على طول التاريخ الأمريكي في حروب الجنوب العنصرية، في المكارثية، في إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناجازاكي، وأخيرًا في الحرب الفيتنامية عبر سلسلة طويلة من الحروب الاستعمارية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
ولكن فيتنام من بينها جميعًا تبرز فعلًا «كمنقذٍ رسمي» للشعر الأمريكي من حالة العقم والبوار التي كاد أن يتردَّى فيها بعد الحرب العالمية الثانية: ها هي ذي أمريكا تلطخ بالوحل والعار كافة «الانتصارات» التي تغنى بها الشعراء من القرن الماضي لإثبات «أمريكية» الولايات المتحدة. ولكن الوجود الأمريكي لم يعد في حاجة إلى براهين، والكينونة الأمريكية لم تعد بحاجة إلى بطاقة هوية. وإنما أضحت القضية المطروحة للبحث هي «التقييم». وجاءت الحرب في فيتنام معيارًا ناضجًا لهذا التقييم «الشعري» الذي تجيء مجموعة قصائد «أين هي فيتنام» أروع تسجيل له. والشاعر الأمريكي يجد نفسه حقًّا في موقف حرج إزاء فيتنام. أكثر حرجًا من الموقف إزاء مأساة الزنوج أو المكارثية «داخل» الولايات المتحدة أو القنبلة الذرية الأولى «خارجها»؛ ذلك أن التراث الأمريكي — وإن لم يكن شعرًا — قد حفل بالأعمال المعادية للحرب العنصرية ضد السود والأعمال الحانية على ملايين الضحايا من اليابانيين. ولكن هذا التراث خلا بغير شكٍّ — شعرًا ونثرًا — من متابعة العنصرية الأمريكية، متابعة الجذور الغائرة في الأعماق الدامية منذ الفتوحات الوحشية للأرض الجديدة. فالحق أن هذا «المركب» الحضاري من أهم العوامل المؤثرة في تفسير الفتوحات الأمريكية الجديدة للأراضي القديمة، الصفراء والسوداء. ولكن فيتنام أفلتت من الحصار الدعائي للمخابرات المركزية واحتلت مركز الضوء من اهتمام — وهموم — الإنسان المعاصر في كل بقعة من عالمنا. وأصبح الضمير الأمريكي مهددًا بالضياع والانهيار إذا تخلف عن التقاط الصدى المروع لصوت الضمير الإنساني العام. ولم يعد كتاب مثل «أمة من غنم» أو «الأمريكي القبيح» بكافٍ أن يعد في نظر البشرية المعاصرة مرآةً حقيقية للضمير الأمريكي المعذب. لقد أمست فيتنام خامةً فكرية وفنية لعديد من الأعمال الأدبية العظيمة في التاريخ الحديث، كتبها شعراء وروائيون ومسرحيون من شتى الأمم والأجناس. ولكن فيتنام في الأدب الأمريكي لا ينبغي لها أن تكون هي نفسها فيتنام في الآداب العالمية الأخرى؛ ذلك أن أمريكا طرف في المأساة. ومن هنا يزداد موقف الشاعر الأمريكي حرجًا لأنه يعبر في النهاية بلسان الطرف العدواني. ولا أعني باللسان موقف السلطة السياسية، وإنما قصدت به ذلك التاريخ الطويل من الوعي واللاوعي الرابض في أدغال النفس والمترسب في حنايا الضمير. أي أننا لا ينبغي أن نتوقع من الشعر الأمريكي — وسط هذه الظروف مجتمعةً — أن يتخذ موقف المقاتل الفيتنامي، ولا حتى موقف الإنسان العادي في أي مكان. هذا الشعر الذي انشغل طويلًا بتحقيق الذات الأمريكية، يصل إلى أعنف درجات المعارضة بالتحقيق مع هذه الذات. ولكن هذا التحقيق — حتى لا نفاجأ — ينتهي بتعليق الحكم إلى أجل غير مسمًّى، وإذا أفلت الحكم من شاعر فإنه يصدر غير مشمول بالنفاذ. أقول ذلك مقدمًا لأضم صوتي مع المتسائلين: إلى أي مدًى يمكن أن ندرج هذا الشعر في أدب المقاومة؟ ولكني أجيب نفسي أحيانًا بأن «أمريكا في قفص الاتهام» الأمريكي أمر له قيمته في شحن أسلحة النضال الفيتنامي أمام الرأي العام العالمي، فلا ريب أن الاتهام في ذاته «اعتراف» بأن ثمة خطأً جوهريًّا في تمثال الحرية القابع عند مدخل نيويورك. أي أن يقظة الشاعر الأمريكي المفاجئة من سبات الإلحاح على الذات الأمريكية التي تضخمت للدرجة التي تهدد ذوات الآخرين هي الحد الأقصى لما يمكن أن تصل إليه صرخة الشعر في الولايات المتحدة. إن هؤلاء الشعراء يصوغون التعبير الفني الأمثل عن مظاهرات الاحتجاج الدامية وتمزيق بطاقات التجنيد، ولا تتجاوز هذه الخطوة إلى ما هو أبعد منها، خطوة «التظاهر» ورفض «المنطق العسكري»، ولا ريب أنها خطوة هامة من أجل السلام، تندرج في باب المقاومة الذاتية، كبديل للحرب في حل المشكلات الدولية. وهي الوجه الآخر للحرب في حل المشكلات الداخلية، سواء كانت حربًا طبقية أو حربًا عنصرية.
لذلك يحتفل الأدب «الإنساني» بهذه الباقة من الشعر الأمريكي «أين هي فيتنام» فإنسانيتها لا تقف عند حدود هارييت بيتشر ستو في «كوخ العم توم» ولا حدود إيثيل مانين في «الطريق إلى بئر سبع»، فليست القضية هنا أن كاتبةً بيضاء تدافع عن السود أو أن كاتبةً إنجليزية تدافع عن العرب، وإنما القضية هنا هي الدفاع عن أمريكا ضد أمريكا من ناحية، والدفاع عن الإنسان ضد الإنسان من ناحيةٍ أخرى. لهذا تكاد تتحدد اتجاهات هذه المجموعة من القصائد في الشعور بالذنب وخيبة الأمل وتصوير الوجه الآخر لأمريكا واعتبار المشهد الخارجي كمرآة للمشهد الداخلي والسخط على أفراد بعينهم كممثلين للنظام.
•••
والإحساس بالذنب هو الشعور والفكر السائد على قصيدة «اعتراف» لمورتون ماركوس، وفيها يصور مأساة الجندي الأمريكي التي تعادل مأساة الشهيد الفيتنامي:
يزاوج الشاعر بهذه المقدمة بين التعبير المجرد والصورة الحية؛ ذلك أن السؤال المطروح في البداية مجرد بطبيعته، ولكنه التجريد المحمل بأثقال الإجابة. فهو ليس سؤالًا بريئًا من الذنب، ولكنه استنكار لأن يكون مجرد قاتل. هو قاتل، أجل، ولكنه ليس ككل القتلة الذين لا ظلال لهم، إنه «يجرجر» ظله الثقيل الذي لو تفحصناه لن نجد فيه أثرًا لصاحبه، وإنما نجده ظل الأجساد التي اغتال أرواحها. هذا لون من ألوان التوحد بين القاتل والقتيل، يصبح فيه الذنب معادلًا موضوعيًّا للشعور به. إنه — هذا الجندي الأمريكي — هو القاتل والقتيل معًا. بعد المقدمة يفتح «الكيس» المعلق في ظله، ويقدم لنا كشف حساب الدم. على غير هذا النحو تعالج الشاعرة إليزابيث بارتليت إحساسها بالذنب، فتستعير من التوراة صورها وأحيانًا ألفاظها:
إنها هنا تختتم هذه القصيدة بهذا التعبير المجرد، بعد أن نسجتها من هذه المجسدات الحية التي لا تلتقط صورةً واقعية ما، ولا تنفرد بنمط فردي معين تصب عليه اللعنة والعذاب، وإنما هي تختار الصورة الشاملة للضحايا والصورة المقابلة لآلهة الدمار، والصورة البديلة للصورتين هي الملح بدلًا من الأرض الخضراء. لا تلجأ الشاعرة إلى الجزئيات، وإنما إلى الكليات القريبة من سِفر الأمثال ومزامير داود.
ونحن لا نكاد نجد تقليدًا في الشعر الأمريكي يمكنه أن يرفد مثل هذه الأشعار برافد الإحساس بالذنب على هذا النحو المخيف، حتى هيروشيما لم تخلف هذه الحدة في تمزيق النفس ونهش الذات، وهذه المرارة في «تجسيم» الكارثة المعنوية التي حاقت بالضمير الأمريكي. وقد تخصص شعراء آخرون في تفصيل الأزمة بتجاوزهم لعذاب الضمير إلى مرحلة الإبلاغ عن «الجريمة» بإبراز مشهدها إبرازًا دمويًّا صارخًا. وتأتي قصيدة «موعظة النار» للشاعر هاري لويس في مقدمة المشاهد التي أبرزها الشعر الأمريكي «للجريمة» في فيتنام. يستلهم الفنان تفاصيل الصورة من الراهب البوذي وهو يحترق، ولكن النار لا تشوي جسدًا فحسب، وإنما هي تعانق الروح في «رؤيا» الشهادة. والنار في الميثولوجيا الدينية رمز الولادة الجديدة، كما أنها في الرمز المشترك بين العنقاء والفينيق وتموز رمز البعث ولكن، عن أي ميلاد وأي بعث يتحدث الشاعر:
إن الراهب — كفيتنام — يحترق ولكنه لا يموت، يتحلل الجسد إلى رماد، ولكنه — كفيتنام — لا يفنى. والشاعر لا يتركنا حيارى إزاء هذه الإشارات التي تبدو للوهلة الأولى غامضة، فالراهب البوذي هو فيتنام، والنار هي المقاومة البطولية لشعبها، والأشجار التي لا تحترق هي ألوف المقاتلين من شباب فيتنام:
يركز الشاعر على صورة البطولة بشقيها: الأول هو ذلك الاحتجاج الناري، والآخر هو الاحتجاج الدامي، نيران الراهب المحترق ودماء المقاتلين الشهداء، تمتزج فيما بينها لتصوغ هذا اللون الفريد من ألوان البطولة الفذة في مواجهة «الجريمة» الوحشية التي تزيد اللهيب لهبًا والدماء دمًا، وليست مقاومة الراهب المحترق بأقل ضراوةً من مقاومة الشباب المقاتل؛ بل هما يتكاملان في وحدةٍ واحدة اسمها فيتنام. الراهب — في موعظة النار — يمثل صورتها الأسطورية البعيدة كل البعد عن أسلوب العصيان المدني، والأشجار الدموية تمثل الصورة الواقعية القريبة كل القرب من معنى الاستشهاد. فالبوذي المحترق ليس عنوانًا فرديًّا للمأساة، وإنما هو إيجاز مركز لبشاعتها.
ويضيف دنيس لفيرتوف بعدًا جديدًا «للمشهد» بمجموعة من الأسئلة والأجوبة عنوانها «كيف كانوا؟» وهو على النقيض من هاري لويس لا يستخدم الصورة المليئة بالخطوط والألوان والظلال، وإنما هو يباشر القول المجرد في أروع أشكاله غير التقريرية. والبعد الجديد في مشهد «الجريمة» كما تخيله دنيس أن طبيعة الشعب الفيتنامي تتنافى مع غريزة القتال حقًّا، ولكن طبيعة الحرب الوحشية تكسبهم الحق الدموي في الدفاع عن النفس. والأسئلة جميعها تبدأ بالفعل الماضي «هل كانوا» والإجابات جميعها تشير إلى التحول الخطير الذي يضيف إلى دوسيه البشرية حيثيات جديدة لإدانتها:
مثل هذه الصور تجرد الوجدان الأمريكي من سلاح الدعاية العنصرية ضد الشعب الفيتنامي، لأنها تبرز الوجه الإنساني العميق لهذا الشعب، يقابله على الطرف الآخر، الوجه القبيح لأمريكا. وهو الوجه الذي تخصص جيمس دكي في تبين ملامحه وتأكيده في «القذف بالقنابل»:
أما الشاعر روس تيدلر فيقدم مشهد الجريمة على نحوٍ مختلف؛ فقد تقمص شخصية الجندي الأمريكي لا في لحظة الانكسار ولا في لحظة الانتصار، إنما في لحظة الرقيب على النفس. الرقيب الذي يحصي مشاعره وهي تعكس ما يجري أمامه ومن حوله في غمضة عين وانتباهتها على ضوء الشر المسمى بالنابالم. على أنه وهو يرصد مشهد الجريمة لا يستخدم الضمير المفرد، وإنما يستخدم ضمير الجمع:
هكذا يقدم صورةً مزدوجة الدلالة عن لحظة القدرة على سحق الآخرين. ولكن الاحتفال بالنفس — وليس الإحساس بالذنب — إذا كان يأسًا ملتهبًا فيظنه البعض «مشاعل»، فإن سحق الآخرين لن يكسب الفم طعم الانتصار، وإنما يكسبه طعمًا مرًّا مأخوذًا من جسم «الجريمة»:
هذا الرجل ليس هو الراهب البوذي المنتحر احتراقًا، وإنما هو البطل الفيتنامي المستشهد في مقاومة هذا الرقيب على النفس. إذا كان الأول قد سكب على نفسه غازًا مشتعلًا ليقول: «لا» بصوتٍ مسموع، فإن الآخر لم تتِح له قوى الشر الأمريكي فرصة الاحتجاج الاختياري، وإنما أعطته فرصة الاستشهاد الاضطراري حتى:
فإذا جمعنا صورة البطل الأسطوري المحترق في نيران الولادة الجديدة، جنبًا إلى جنب مع السقوف التي ربطت بينها النيران فتحترق البلدة كلها تحت عنوان «صناعة أمريكية»، وكذلك الرجل العاري الذي فقد ذاكرته قبل أن يتساءل «لماذا؟» فإننا نضع أيدينا على تفاصيل هذا المشهد المروع الذي قدمه الشعر الأمريكي وثيقة إدانة «للإنسان» الأمريكي، سواء كان يرتدي بذلةً عسكرية في ميدان القتال أو يرتدي بذلةً مدنية في أحد شوارع المدينة التي يشمخ عند مدخلها تمثال الحرية. ولكن مشهد «الجريمة» في ذاته هو مشهد خارجي لا تكتمل دلالته المأساوية إلا بالمشهد الداخلي الذي جسده خير تجسيد الشاعر روبرت لويل. ولم يكن روبرت في قصيدته «خريف ٦١» مجرد شاعر إحدى المناسبات الدامية التي تصرخ من هولها الإنسانية جمعاء، فهو شاعر له رصيده عند القارئ الأمريكي في تشخيص الأدواء الخفية في بنيان الحضارة وجذورها في قصيدة قديمة له عنوانها «أبناء النور» كان يردد محزونًا:
وفي قصيدة أخرى عنوانها «الموتى في أوروبا» يصيح بقلب موجوع:
ومعنى ذلك أن روبرت لويل — هذا المناضل الروحي العظيم — لم تفُته لحظةً واحدةً تلك الأبعاد الخافية عن العين الأمريكية المتورمة فلا ترى أبعد من أنفها، إنه من القلة النادرة التي أدركت في وقتٍ مبكر ذلك الجذر اللعين، حتى إنه يرى الروح الأمريكية وقد تحجرت على أعتاب الوحشية والفتح والافتراس فلم تعُد روحًا حقيقية، وإنما هي في واقع الأمر تمثال خشبي للروح يسكنه الجد القديم. ومرةً أخرى يستعير الشعر الأمريكي من التوراة، فهنا صورة طبق الأصل من الحكمة العبرية القديمة التي يثأر فيها الله من الآباء في الأبناء والأحفاد حتى الجيل الثالث والرابع من «مبغضيه». يقول روبرت لويل في أروع مقاطع «خريف ٦١»:
فإذا كان الأب غير حامٍ لطفله وحفيده من ضراوة المأساة «الوراثية»، فإن لويل يمزق إلى الأبد ذلك الشعور الكاذب بالذنب، لأن الشعور الحقيقي بالذنب هو الكف عن الاستمرار في الجريمة، أما البكاء جنبًا إلى جنب مع صوت القنابل فإنه بكاء بلا دموع، لا قيمة له. وإذا كانت «الجذور» في باطن الأرض هي التي تغذي الأغصان والفروع بعصارة العنف الدموي، فإن هذا العنف في فيتنام ليس إلا وجهًا آخر للعنف داخل الولايات المتحدة. من هذه النقطة ينطلق الشاعر سان جيرود في قصيدته «فيتنام في شيكاغو ١٩٦٥» ونحن لا نكاد نفرق في المقطع الأول من القصيدة ما إذا كان مشهد الجريمة في شيكاغو أم في فيتنام حيث:
والأغلب أن الشاعر يزاوج بين فيتنام وشيكاغو، لأن المقطع الثاني يصرح بهذه العلاقة الوثيقة بين المشهدين، فميدان القتال مشترك، وإذا كان الفيتناميون هم الذين يلقون مصرعهم في جنوب شرق آسيا، فإن حظ الأمريكيين لا يقل عنه سوءًا في قلب الولايات المتحدة:
وإذا كانت النار في فيتنام بمثابة الولادة الجديدة لشعبها، فماذا يكون الأمر بالنسبة للنار في شيكاغو؟ يعي الشاعر هنا وعيًا مأسويًّا حادًّا الفرق الهائل بين رمز النار هنا ورمزه هناك، هنا النار تأكل نفسها، تأكل الجسد والروح معًا، وهناك تأكل الجسد لتبقي على الروح؛ بل إن النار في شيكاغو هي في أحيان كثيرة تبدو كرد فيتنامي طويل المدى على قاذفة القنابل الأمريكية. حينئذٍ يندمج الحزن على فيتنام بالحزن على أمريكا اندماجًا يعزف الأسى في موسيقى الشاعر التراجيدي العنيف:
ويعكس هذا الشعور الحاد الشاعر أملان كاتزمان في صورةٍ أخرى هي أنه — مع الوعي النافذ بأبعاد المأساة كلها — ماذا يستطيع أن يفعل، وهو لا يختلف عن الأسير الفيتنامي إلا في أن الأسير بطل مقاومة، أما الأمريكي فبطل الاستسلام «من أناشيد إلى ريح الشرق»:
ويصبح — من ثَم — النضال الفيتنامي ضد العسكرية الأمريكية نضالًا مزدوجًا: من أجل فيتنام، ومن أجل أمريكا في وقتٍ واحد! هكذا ينبغي أن يفهم الأمريكيون حقيقة ما يجري على الأرض الصفراء، إنها معركتهم، ولكن الشهيد الفيتنامي يحمل النير كله عنهم. بينما ينظر الشاعر لويس سمبسون للقضية نفسها من زاويةٍ أخرى، من زاويةٍ شخصية جدًّا، هي زاوية الدم الأزرق المراق على أرض غريبة، فهو يرى الخسارة الأمريكية أفدح من الخسارة الفيتنامية، ولكن من زاوية الجزع على المصير الأمريكي المذبوح:
وهذه النغمة رغم سلبيتها فإنها تقدم رمقًا إيجابيًّا في أنه ليس من مصلحة أمريكا — على أية حال — أن تتخصص في الغزو والفتح الإمبراطوري في القرن العشرين، وهذه النغمة — من ناحيةٍ إيجابية أخرى — هي بداية «خيبة الأمل» التي سادت على الوجدان الأمريكي الذي كان يحلم بالمجتمع «العظيم». هذه الخيبة المريرة هي التي تسيطر على قصيدة روبرت بترسون «عزيزتي أمريكا»:
على أن هذه الخيبة المريرة كثيرًا ما يمتص صداها السخط على أفراد بعينهم، يمثلون النظام حقًّا، ولكنهم «أفراد» في نهاية الأمر، ما يصيبهم من «سخط» قد لا يمس النظام في جوهره. تقول الشاعرة نان بريمر في قصيدتها «جناز خماسي الأيام إلى فيتنام»:
أما الشاعر روبرت بلاي فيذكر «راسك» بالاسم في «عروض سلام آسيوية» فتقل قصيدته أهميةً عن «إمبراطور الآيس كريم» للشاعر والاس ستيفنز، في هذه القصيدة لا يفصح الشاعر عن اسم أحد حتى يعمم صفاته على كل من يأنس فيه القارئ هذه الصفات، فالبطل هنا أقرب إلى «النمط» بينما الاسم ينفي صفة النموذجية. يقول ستيفنز مثلًا:
هنا تأخذ القصيدة أبعادًا ودلالات أعم من ذكر أسماء بعينها تنتفي أهميتها حين ينتفي الغرض منها بالإقالة أو الاستقالة أو الاختفاء عن حلبة العمل السياسي أيًّا كان سببه. وتبقى المأساة «متوارثة» في الأسماء التالية بغير أن يسمع الرب إلى صلاة نان بريمر اليتيمة، وبغير أن ينال منهم قول روبرت بلاي أن رجالًا مثل راسك ليسوا من البشر. إن أقرب القصائد إلى روح والاس ستيفنز قصيدة «نثر الزهور» لجورج هتشكوك التي يبدؤها بكلمات جونسون: «إن حكمنا الأفضل والمقرون بالصلاة بأن الهجوم الجوي جزء ضروري من الطريق الأكثر توكيدًا التي توصل إلى السلام.» ويختتمها بقوله:
ويتخذ الشاعر إيتل عدنان من هذا البيت الأخير صورةً رئيسية في قصيدةٍ كاملة عنوانها «إنجيل العدو» تكثف الوجه الإنساني للمأساة على لسان مناضل فيتنامي شهيد يُهدي أجزاء جثته جزءًا فجزءًا في «وصية» مفتوحة إلى رئيس الولايات المتحدة وجنرالاتها وكاردينالاتها. ولكنه قبل الوصية «يقدم» نفسه «بغير ما هوية» لأن هويته ضاعت منذ خنقوه بالغاز وفقدت عيناه البصر وأمستا كعينَي دودة وأجروا له «غسيل مخ» فلما حكوا له عن الحرية انطفأ النور في دماغه ثم رموه بالرصاص. وبعد التعريف بهذه الذات المضيَّعة في المقطع الأول «يعرض» موضوعه فيذكر أنه كان يستثمر أرضه حين أخرجه منها الأجانب ليحرروه، ليحرروه من نصيبه. ويبدأ في الخاتمة وصيته بأن يُهدي دماغه إلى مركز الأبحاث الأمريكي «ليرَوا ما الذي جعلني أقاتل»، وليبعث بعينيه إلى الرئيس الأمريكي لتنظرا إليه وجهًا لوجه «إنهما لم تعرفا غير ظلام الأنفاق»، ويبعث بأسنانه إلى جنرالات أمريكا وقد عضت البندقية أكثر مما عضت الخبز «لأن الجوع كان رفيقي»، ويبعث بلسانه إلى الكاردينالات الأمريكان ليخبرهم بما قاله يسوع عن السيف، «أما جسدي، فاتركه لنهر ميكونغ». وهكذا يزاوج الشاعر بين الحكاية الشعرية والصورة الشعرية مزاوجةً طبيعية غامرة بالعطف على أصحاب المأساة الحقيقيين، متلمسًا — بقدر ما يستطيع — جذورها الأمريكية.
على أنه يتبقى بعد ذلك كله أن الإحساس بالذنب وخيبة الأمل ومشهد الجريمة والسخط على أفرادٍ بعينهم والوجه الآخر لأمريكا هي المحاور الفكرية لهذه القصائد التي أنقذت الشعر الأمريكي من بوارٍ محقق، كما أنقذت الروح الأمريكية من الموات العظيم. ولسنا نستطيع في نهاية الأمر أن نتطلب من الشعر — وأي فن آخر — أكثر من أن يكون ضميرًا للعصر وشاهدًا عليه.