بطولات المقاومة في تراثنا الشعبي
ليس الخيال الشعبي مجرد أداة من أدوات تضخيم البطولة، لأنه يعبر من زاوية رئيسية عن شخصية الشعب الجماعية، مهما تبدت هذه الشخصية المكتملة في الأسطورة حيث يكاد البطل الأسطوري أن يخلو من أية ذاتية محققة، فهو خلاصة نقية للجماعة، وحيث تعبر الأسطورة عن أبعاد غير محددة وغير محدودة لأنها تصوغ بطبيعتها صراعًا بين القوى الخارقة في جانب، والقوى غير المتكافئة معها في الجانب المقابل. ويجسد الخيال الشعبي شخصية الشعب في مجموعه مرةً أخرى، مهما برزت هذه الشخصية على دعائم الملحمة أو التراجيديا، في الأولى يتميز البطل الملحمي بالعديد من سمات الفردية وإن يكن متجاوبًا مع روح الجماعة؛ بل قد يكون لسانها أحيانًا، وفي الثانية يتصف البطل التراجيدي بخصائص الذات المفردة التي تكاد أن تتحول إلى عالم خاص بها لا سبيل للجماعة إليها، ومع هذا فإنها لا تتخلص من «رواسب» الجماعة و«بقايا» روحها. وهكذا فالخيال الشعبي ليس مجرد سياحة وهمية في عالم الأحلام، وإنما هو أحد أشكال الروح الشعبية وقد تجسدت في بطولات تتباين رموزها كلما اختلف الإطار الفني من قالب الأسطورة إلى الملحمة إلى التراجيديا.
ونحن عندما نبحث عن رمز البطولة في قصصنا الشعبي، فإننا لن نعثر على هذا الرمز في الأساطير العربية الموغلة في البدائية والقدم والبعيدة عن أن تكون المقاومة خامتها الثرية بالمعاني والدلالات، كما أننا لن نعثر على هذا الرمز في التراجيديا التي لم يعرفها تراثنا — لأسباب ليس هنا مجال مناقشتها — ولم يعرف معها بالطبع ما يُسمَّى بالبطولة التراجيدية. نحن إذن أقرب ما نكون في موضوع بحثنا من منطقة الملاحم الشعبية التي يفضل البعض أن يدعوها سِيرًا لأبطالٍ «قاوموا» بصورةٍ من الصور التي عرفها عصرهم، أو عصورهم، والتي لا تبتعد من حيث الجوهر عن معنى البطولة في أدب المقاومة الحديث.
ولا بد لنا من أن نتصدى بالمناقشة لبعض الأفكار السائدة حول هذه القضية قبل أن نعرض للسير ذاتها بشيء من التفصيل، فالشاعر الجوال الذي أنشأ ملاحم اليونان والرومان والعرب لم يعد له مكان في حياتنا الحديثة، وقد سجل نجيب محفوظ في روايته «زقاق المدق» كيف أفسد الراديو على شاعر الربابة جلسته في مقهى المعلم كرشة فطرده وقطع رزقه. وبالتالي فإن الأبطال الذين ملَئوا وجدان آبائنا وأجدادنا قد انسحبوا من ميدان الخيال البشري الحديث، فلم تعد لموضوعات الخوارق التي ألهبت خيال أسلافنا أية فرصة متكافئة لمنافسة خوارق العلم المعاصر. انزوت «تهاويل» الخيال الشعبي أمدًا من الزمن لم يطُل كثيرًا أمام مجموعة من العوامل أهمها: أن الإحساس بتهديد المدنية الحديثة لموروثاتنا الشعبية قد دفع نفرًا من العلماء إلى الحفاظ على عنصر الاستمرار في التراث الإنساني، وكذلك فإن ذيوع الروح القومية قد دعا إلى أن تزيد كل أمة من ارتباطها بتراثها القومي المميز، وآخر هذه العوامل هو تقدم العلوم الاجتماعية واتجاه العديد من ميادين المعرفة إلى دراسة الإنسان العادي في طبائعه وتقاليده الموروثة وفنونه. ولقد تجسدت هذه الموجة من الحرص على «المخيلة الشعبية» في الحركة الرومانسية الرائدة إبان القرن الماضي في دعوتها إلى العودة إلى «نقاء حياة الريف وتمجيد الحنين إلى الماضي والدفاع عن تقاليد الآباء والأجداد». ولما كان عصرنا الحديث هو عصر الإنسان الذي تلمس كيانه الفردي في خضم حياته الجديدة، جنبًا إلى جنب الأمة التي راحت هي الأخرى تتلمس خصائصها الذاتية المستقلة؛ فقد أصبحت الملحمة أو السيرة الشعبية هي أنسب الأشكال الأدبية الموروثة للقيام بدور همزة وصل بين الماضي والحاضر؛ لما تحمله في تكوينها الأصيل من سمات المزاوجة بين الخيال الشعبي في مرحلة متقدمة وما يحتاج إليه الإنسان الحديث من معنًى «محدد» للبطولة الفردية البعيدة عن «أهوال» البطولة الأسطورية ولا محدوديتها والقريبة من صفات الأمة التي ينتمي إليها بطل الملحمة أو السيرة بكل ما تشتمل عليه من «تهاويل» الخيال الشعبي. بل إن إصرار علماء الفولكلور على اتخاذ عيناتهم من المأثورات الشعبية في حالة «حياة»، وهجر المأثورات الشعبية الميتة لعلماء الآثار واللغة والحضارة، إنما يؤكد ضرورة ذلك «الحبل السري» بين هذه النماذج وبطولات عالم اليوم. ومن هنا كان الأدب الشعبي تسميةً علمية دقيقة لما يضبطه منطق الاستعمال وتحفظه الرواية الشفاهية، ومعنى هذا أنه أصبح أقرب ما يكون إلى التاريخ الشفهي لحياتنا العاطفية عصرًا بعد عصر، أو هو «الحجرة الخاصة للتاريخ» كما يقول العالم البلجيكي روجيه بينو، فيها يضع العامة عواطفهم وخليط رؤاهم وحقائق وجودهم. أي أن ثمة فرقًا جوهريًّا بين التاريخ بمعناه العلمي، والتاريخ الذي تشتمل هذه الملاحم أو السير على بعض صفحاته، فهذه لا تعتمد على الدقة الوثائقية والمقارنات العلمية والاستقصاء، وإنما تعتمد أساسًا على خيال مؤلفها المجهول — أو المعلوم في أحيانٍ نادرة — وخيال راويها المتنقل كأجهزة الدعاية أحيانًا كثيرة، والمتلقين من أبناء الشعب الذين تختلف طبائعهم من جيل إلى جيل ومن بيئة إلى أخرى.
وقد لاقت هذه الملاحم أو السير، عنتًا شديدًا من القدامى والمحدثين على السواء. أما القدماء فقد وصفوها بالكذب حينًا ظنًّا منهم أنها تدَّعي لنفسها كتابة التاريخ الصحيح، ووصفوها حينًا آخر أنها من باب الكفر نفورًا مما أبرزته من قيمٍ تناقضت مع أهوائهم في كثير من الأحيان. هكذا يقول السيوطي في الجزء الثاني من «الإتقان» في حديثه عن العلوم المستنبطة من القرآن: «وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السالفة والأمم الخالية، ونقلوا أخبارهم ودونوا آثارهم ووقائعهم حتى ذكروا بدء الدنيا وأول الأشياء، وسموا ذلك بالتاريخ والقصص.» وفي موضعٍ آخر من نفس المرجع يقول: «قال الإمام أحمد بن حنبل: ثلاثة ليس لها أصول؛ التفسير والملاحم والمغازي.» ويورد ابن كثير في كتابه «تفسير القرآن الكريم»: «وأما ما يذكره العامة عن البطَّال من السيرة المنسوبة إلى دلهمة والأمير عبد الوهاب والقاضي عقبة فكذبٌ وافتراء، ووضع بارد وجهل وتخبط فاحش.» ويمكن القول إن هذا الموقف الصارم من الملاحم أو السير الشعبية كان في جوهره موقفًا اجتماعيًّا معاديًا «للعامة» من الناس. وهو نفس الموقف الرجعي الذي اتخذته أجيال لا حصر لها من «أساتذة» الأدب الرسمي الذين ألقوا في روع الناشئة عصرًا بعد عصرٍ أن فقه اللغة وآدابها المحفوظة بين جدران متاحفهم هي وحدها «الأدب» وما عداها رجس من عمل الشيطان وأتباعه من «العامة». على أن هناك موقفًا آخر يتسم بصفات رد الفعل العنيف الذي يعتمد على التضخيم والمبالغة، سواء في اتجاهه القائل بأن لا تراث قصصي لنا على الإطلاق، وأن القصة الغربية هي ميراثنا الوحيد، أو في اتجاهه القائل بأن هذا التراث من الملاحم أو السير الشعبية هو مصدر الأصالة شبه الوحيد فيما يكتبه قصاصونا المعاصرون من قصص، وأن هذا التراث يكاد أن يصل في اكتماله إلى درجةٍ لا تقل أهميةً عن اكتمال قصص الغرب. ويعبر عن هذا الموقف الأخير في مثابرةٍ ودأب جديرين بكل إعجاب وتقدير مجموعة من الشباب المتخصص، يتقدمهم جميعًا فاروق خورشيد في دراساته النظرية البالغة القيمة — مهما اختلفت معها — وفي تجاربه التطبيقية التي صاغت القصص القديم صياغةً حديثة قادرة على توصيل النكهة الشعبية الأصيلة، جنبًا إلى جنب الاستفادة العميقة بمنجزات التكنيك المعاصر.
والحق أنني أميل إلى اعتبار هذه السير بمثابة «صياغة عربية للملحمة الشعبية»، واضعًا في هذا الاعتبار أن هناك فروقًا لا يُستهان بها بين الملحمة اليونانية والرومانية والملحمة العربية، ولكني أعتقد في نفس الوقت أنها فروق لا ترتفع إلى مستوى الاختلاف النوعي، وإنما هي أقرب إلى الاختلاف البيئي والزمني الذي يمنح النوع الأدبي مذاقًا خاصًّا نابعًا من الأرض التي وُلد فيها بالرغم من نسبه المشروع إلى نفس النوع في مواطن أخرى. وبالرغم من اعترافي المسبق بأن الملحمة أو السيرة الشعبية تستلهم التاريخ من أحد الوجوه إلا أني أستبعد التسمية المترتبة على هذه الصلة بينها وبين التاريخ، وهي التسمية القائلة بأن السيرة رواية تاريخية. كذلك فإني لا أميل إلى التسمية التي اقترحها الدكتور محمود ذهني وفاروق خورشيد بعنوان «الرواية الأم»، أو «الرواية السيرة»؛ ذلك أنها تسمية تقترب من حدود رد الفعل العنيف الذي أحذره، فإقامة الشرعية في علاقة النسب أو القربى بين القصة العربية المعاصرة والتراث القديم لا تحتاج إلى أن تكون السيرة بالذات كنوع مستقل عن الملحمة «أمًّا» للرواية الحديثة، ولقد خرجت الرواية النثرية في الأدب الأوروبي من جوف الملحمة الشعرية، فالبنوة لا تتطلب المشابهة التامة إلى درجة المطابقة بين الأصل والفرع. ومن ناحيةٍ أخرى فإن هذا الإلحاح على تهيئة عالم أدبي مستقل للسيرة يفصله عن الأدب الشعبي، إنما يحمل في طياته شكًّا واضحًا في انتماء الأدب «الشعبي» إلى الأسرة الأدبية العامة، ويحمل ارتيابًا في قيمة المكانة التي يحتلها هذا النوع الأدبي بين بقية الأنواع. والسيرة أخيرًا — وفي أبسط تعريفاتها — هي هذا اللون من القصص الطويل، الذي يتراوح بين النثر والشعر، ويدور حول البطولات والفروسية، فيشتمل من ثَم على أشعارٍ ملحمية كما يقول أحمد رشدي صالح. أو هي الملحمة وقد ارتدت ثيابًا عربية، كما يفضل الدكتور عبد الحميد يونس في دراسته الكبيرة عن «الهلالية».
•••
ويرجح بعض المؤرخين للأدب الشعبي أن سيرة عنترة هي أقدم الملاحم الشعبية العربية التي تصوغ رمز البطولة في مقاومة شعوب هذه المنطقة من العالم صياغةً أقرب إلى التكامل القصصي بمعناه القديم. وعنترة من أحد وجوهه شخصية تاريخية توارثت نقلها كتب الأخبار والأدب، واقترنت حياتها بالفروسية والشعر، وهما قمة خصال العرب في ذلك الوقت. وسيرته تحكي أحداثًا تتخذ لها مكانًا في الجزيرة العربية وما يقع على حدودها من مواطن وبلدان، وتتخذ لها زمانًا سابقًا على «النبوة» ولاحقًا لها. وسيرة عنترة هي قصة عبدٍ حرر نفسه فحرر قبيلته ثم حرر أمة العرب جمعاء، وهي إذن إحدى ملاحم الحرية في ذلك العصر، وليست هي قصة «الغرام» أو «الشهامة» كما يذهب بعض أولئك الذين أساءوا إلى دراسة الأدب الشعبي. وإنما تنحت السيرة منذ بدايتها إلى نهايتها تمثالًا عظيمًا لمضمون بكر في التراث الإنساني، تنبه إليه فاروق خورشيد ومحمود ذهني في كتابهما المشترك «فن كتابة السيرة» حين قالا إن النضال ضد العبودية والتفرقة العنصرية هو المضمون السياسي للسيرة، وهو مضمون رائد نادت به السيرة منذ القرن الحادي عشر الميلادي، فكانت أول صرخة يجهر بها ضمير الإنسان بأن البشر سواء، بغض النظر عن ألوان جلودهم وأصولهم العرقية. وهي النتيجة التي توصَّل إليها فيما بعدُ محمد مفيد الشوباشي في كتابه عن «القصة العربية القديمة» موضحًا عنصر الصراع الطبقي الذي تبدى في كفاح عنترة من أجل الحصول على اعتراف قبيلته بشرعية نسبه إلى شداد وأهليته — بالفروسية والشعر وصحة النسب — للزواج من عبلة ابنة عمه مالك. وهكذا لم تكن عبلة هدفًا في ذاتها وإنما كانت إطارًا فنيًّا لهذا الهدف الذي أراده كاتب السيرة، وهو أن عنترة أولًا رجل مظلوم يحاول استرداد حقه في الحياة، وهو ثانيًا رجل مصلح يحاول أن يدعم قواعد المساواة بين الناس، وهو ثالثًا فارس يطمح لأن يكون فارس الفرسان، أو «أبو الفوارس» كما كانوا يدعونه أحيانًا، وكما صوره محمد فريد أبو حديد في روايته المعروفة بهذا الاسم، وهو أخيرًا شاعر يطمح في أعلى مراتب الشعر التي كان يتصارع عليها شعراء ذلك الزمان، وهي أن تعلق قصيدته على الكعبة.
ولقد أصابت معظم الدارسين للأدب الشعبي حيرةٌ كبرى في نسبة هذه السيرة إلى مؤلف ما، بالرغم من أن «المؤلف المجهول» لهذه السيرة أو تلك، إنما قد لا يكون فردًا من الأفراد؛ بل قد يكون أكثر من مؤلف في أكثر من عصر في أكثر من مكان؛ بل إن الرواة والمتلقين على السواء يضيفون إلى السيرة على مر الأجيال ما يبعد بها كثيرًا أو قليلًا عن أصلٍ بعينه ذي كاتبٍ محدد، فمن قائلٍ إن الأصمعي هو مؤلف هذه السيرة كما جاء في مذيلة الطبعة الحجازية، ومن قائل إنه أبو المؤيد بن الصايغ الملقب بالعنتري، كما جاء في بحث للمستشرق هامر بيرجستال بالمجلة الآسيوية، ومن قائل إنه الشيخ يوسف بن إسماعيل كما جاء في كتاب الأب لويس شيخو «شعراء النصرانية». على أن المهم فيما أعتقد هو «الصياغة» التي تكاد أن تكون واحدةً بين طبعة بغداد، والطبعة الشامية والطبعة الحجازية، لولا «المقدمة» في هذه الطبعة الأخيرة، وهي تحمل نوعًا من «التفسير» الروائي للأحداث، كذلك النوع الذي تضمره الصياغات الحديثة للسيرة، كتلك التي قام بها أحمد عباس صالح في «روز اليوسف»، أو الصياغات الفنية كتلك التي قام بها أحمد شوقي في مسرحيته الشعرية حيث يميل إلى تفسير شخصية عنترة على ضوء الشهامة العربية، أو تلك التي قام بها محمود تيمور في قصته «حواء الخالدة» حيث يميل إلى تفسير السيرة على ضوء قصة الغرام الكبير بين عبلة وعنترة.
أما نحن فنميل إلى ما جاء في السيرة نفسها من أن عنترة بن شداد قد ولد لأمة من الإماء التي أسرها أحد فرسان بني عبس فدرج على حياة «العبد الأسود» منذ نشأته، وكان من الممكن لحياته أن تظل في طريق سيرها التقليدي كأي عبد آخر، لولا ما أبرزته طفولة عنترة من مظاهر القوة الجسدية وما أبرزته الأيام من قوة شاعريته، ولكن أين مكان «العبد» من سادته الأحرار في قبيلةٍ بنت مجدها على السيادة والحرية؟ فما كان له إلا أن شارك في بعض المعارك الهينة إلى جانب فرسان قبيلته، في الذيل من ركبهم، ولكن العين الثاقبة لفرسان بني عبس التقطت مظاهر الفروسية الكامنة في شخصية العبد فأحبوه وأعرضوا عنه في وقتٍ واحد، نال إعجابهم وحذرهم معًا. واستمرت جولاته معهم يحقق لقبيلته المجد، ولنفسه مزيدًا من الشعور بالقهر والغبن، فلقد سلطت عليه فروسيته الأضواء وكان من قبل مغمورًا لا يغمزه أحد بحسبه ونسبه أو لون بشرته. ومن ثَم آلى على نفسه أن يمحو هذا «العار» بفروسيته، فقدمها برهانًا لخصومه على أنه «حر»، وإذا لم يعترف الجميع بحريته وشرعية نسبه إلى شداد فإنه لن يشترك معهم في القتال، «فمن لا حقوق له لا مسئولية عليه» كما صور موقفه بدقةٍ فاروق خورشيد في «أضواء على السير الشعبية»، وكأن كاتب السيرة يود أن يقول إنه لا بد من تحرير الفرد أولًا حتى يتمكن من المساهمة في تحرير المجموع، حتى إذا حارب في صف المجموع لا يهاجمه شعور المرتزق، وإنما يشعر بإحساس المواطن المناضل. وحين يقترب خطوة من هدفه في الحصول على شرعية النسب، يعتلج صدره بمشاعر فياضة نحو ابنة عمه عبلة فتتراكم أمامه الصعاب للزواج منها، وتظل القبيلة تراوغه لتفوز بمغانم قوته في معاركها التي لا تنتهي، دون أن تمنحه الحق في الزواج من عبلة. ويحس أنه ما يزال دون «المقام» عند أهله وعشيرته، خاصةً وقد تقدم إلى عبلة أحد أشراف القبيلة هو الربيع بن زياد، فينطوي على أحزانه ويعتكف في بيت أبيه مؤثرًا الحياة مع رعي الأغنام والإبل، على حياة الفروسية والشعر مع الذل والمهانة. وتعكس هذه المرحلة في سيرة عنترة النظام الاجتماعي السيئ الذي عاش العرب في ظلاله قبيل الدعوة الإسلامية، وما يتسبب عن هذا النظام من تفسخات وعقد نفسية تحتمها المشاعر الطبقية والسيادة الأرستقراطية، التي تصنف الناس إلى ألوان وأجناس، وتجعل للصفات الجسدية — كاللون والشكل — ومن الصفات الوراثية، كوضع الأم الاجتماعي، أهمية تفوق تلك الخصائص الذاتية التي تؤهل الفرد في المجتمع السوي للحصول على ما يريد، كما يذهب مؤلِّفا «فن كتابة السيرة الشعبية» في قولهما إن الأهداف التي يسعى إليها عنترة ليتحرر تكاد ترمز إلى أهداف المجتمع العربي في التحرر من ربقة التقاليد الخاطئة والنظم التي تحد من انطلاقه وتطوره. ولكن عنترة كما يؤرخ له صاحب السيرة قد أودعه الله «سرًّا خفيًّا» يدفعه إلى القتال دون أن يحل به التعب، بينما يسقط خصمه منهوك القوى. وهي الصفة التي يتمتع بها معظم أبطال الملاحم في الشرق والغرب، وهي الخاصية التي تحسم «المعركة» بين البطل الشعبي وغيره من فرسان الجانب المناوئ له، سواء كان قبيلةً أخرى أو وطنًا آخر يجسد معنى الشر «دائمًا» لأن البطل الملحمي ينتصر لمعنى «الخير» دائمًا، وربما كان هذا هو السبب — والنتيجة أيضًا — في أن يودعه الله «سره الخفي». ويتمثل هذا الخير في سيرة عنترة حين ينمي إليه الفارس عمرو بن ود العامري نبوءة عظيمة؛ هي أنه سيمهد بسيفه وفرسه لمجيء الرسول فيطهر له الأرض من رجس «الأشرار». ويعود عنترة إلى امتشاق السيف امتثالًا لدعوة قبيلته، واعترافها بنسبه وتزويجه لعبلة، ولكنه يضع لنفسه هدفًا جديدًا؛ إذ لا يكفيه أن يكون فارسًا لقبيلته وحدها بعد أن بز كل فرسانها، بل عليه أن يناضل فرسان بقية القبائل حتى يفوز بتعليق قصيدته على الكعبة فيركع لها سادة العرب وتذكره الأجيال هو وقبيلته وشعره مدى الدهر. وفي صراعٍ هادر بالمبارزات العنيفة يعترف له الفرسان جميعًا بزعامته ويعلقون قصيدته، ولا يكاد يختتم حفل النصر حتى يسرع إلى مجلسه من يخاطب الجمهور الحاشد قائلًا إن فارسًا من بني عبس هو الذي يشق الطريق الوعر إلى من هو أعظم منه قدرًا في تاريخ العرب. ويتأكد لدى الجميع أنها «الرؤيا النبوية» وأن عنترة هو الفارس المقصود.
ويخوض عنترة بعدئذٍ معارك هائلة بينه وبين المتآمرين عليه لخطف عبلة، أو خطف فرسه «الأبجر»، أو كسر سيفه، أو قتل أشقائه وصحبته، وأسره هو عديدًا من المرات، ولكن مضمون القتال يختلف من مرحلة إلى أخرى فلا يعود مضمونًا ذاتيًّا كما كان قتاله مع قبيلته للحصول على حريته، ولا يعود مضمونًا قبليًّا كما كان قتاله حينًا مع القبائل الأخرى حين تهم بغزو بني عبس، وحينًا آخر حين تهم بنو عبس بغزو القبائل الأخرى، فهو في الحالين مع قبيلته ظالمة أو مظلومة. ولا يعود مضمونًا إنسانيًّا عامًّا حين يلبي صرخة امرأة مستضعفة، أو يخف إلى نجدة فارس مهزوم، أو يستجيب إلى إجارة صديق ملهوف، لا يعود مضمونًا لا غاية له سوى التكسب وإحراز الشهرة والمجد حين «يمنح» نفسه لمن يطلبه خارج الديار، ملكًا ضد ملك، وإمبراطورية ضد إمبراطورية. إن السيرة مليئة بالمواقف التي تصور عنترة كما لو كان «بلطجيًّا» يشهر السيف على عروس فوق هودجها في الصحراء ويتزوج منها عنوة، وتصوره مرةً أخرى جنديًّا «مرتزقًا» في جيش كسرى ضد الروم، ولكن هذه المواقف لا تتم بمعزل عما يجري في موطنه من أحداث. وهذه الأحداث وحدها هي التي تكفل لعنترة صورته الحقيقية كفارس يذود عن أمة العرب. ونحن لا نتوقع بطبيعة الحال أن يكون «مناضلًا قوميًّا» بالمعنى الحديث لهذه العبارة، فلم يكن عصره عصر القوميات، ولا نتوقع من إطاره الملحمي صياغةً واقعية للتاريخ، فالجانب الخيالي من الملحمة يسلحه بإمكانيات خارقة للانتصار على خصومه، ولكنها ليست إمكانيات أسطورية تجعل منه نطفةً من روح الجماعة التي ينتمي إليها فحسب، بل هو «فرد» يعكس روح الجماعة مستقلًّا بفرديته التي تنقلت من الذاتية المحض إلى القبلية الضيقة إلى أرض العرب كلها — أي الجزيرة العربية — ولولا أن الشام كانت ضمن مملكة الروم، والعراق ضمن مملكة الفرس لكانت العنترية صياغةً «جاهلية» للفكرة العربية الشاملة؛ فقد سافر إلى السودان والحبشة عبر حدود اليمن بعد معارك هائلة بين الشمال والجنوب وانتصر فيها عنترة للشماليين من أهله. وفي الحبشة يستدل على خاتمة مذهلة لنسبه المفقود وهو أن أمه هي بنت النجاشي ملك الأحباش وكان شداد أبوه قد حازها مع الإماء صدفة. وهكذا يتوج الاعتراف بشرعية نسبه إلى شداد بشرعية هذا النسب من جهة الأم إلى أحد الملوك، وكأن مؤلف السيرة قد خاف على بطله مظنة الأجيال المتلقية للملحمة والمتجاوبة معها أنه يحبذ «القوة» وحدها سبيلًا إلى الفروسية، سواء تمثلت في السيف أو الشعر، وإنما هو «يعيد» عنترة إلى الوضع «السليم» في نظره، إلى الطبقة الأرستقراطية في المجتمع القديم خوفًا من أن يتوارث المعاصرون والقادمون هذا «التقليد» غير الجائز والأقرب إلى أن يكون «استثناءً» لا قاعدة عامة وحين يعود عنترة من معركة طويلة ثبت فيها ملك قيصر كما سبق له أن ثبت ملك كسرى، يلقى مصرعه بسهمٍ قاتل من فارسٍ لقي الهزيمة ثلاث مرات على يديه في آخرها أفقده بصره ونور عينيه. وتتولى البقية الباقية من أولاده وإخوته وصحابه المهمة التاريخية الأصيلة في السيرة؛ وهي الدخول في الإسلام والدفاع عن الدين الجديد، فعنيترة إذ تعتنق الإسلام إنما تجسد الامتداد المفترض لعنترة الذي توغل به المقدمة الحجازية إلى إبراهيم وتنتهي بمن ولدوا من صلبه في حضن الإسلام، وكأن الملحمة تجسد رمزًا تاريخيًّا للبطولة يتقلد فيها الفارس العربي مهام نضاله كبطل للمقاومة العربية في أرضها البكر. على أن النهاية الفاجعة لعنترة ليست نهايةً تراجيدية، فهو لم يمت نتيجة بذرة سلبية كامنة في تكوينه الذاتي الأصيل، وهو لم يمت فانهار معه كل شيء، وإنما هو قد مات في «شيخوخته» أولًا، أي بعد أن أدى واجبه في الحياة كاملًا، وقد مات بسهمٍ غادر ثانيًا، فلم يُقتل في مبارزةٍ مكشوفة يسقط بعدها صريع الانكسار الشخصي، وقد مات أخيرًا وهو عائد من حلبة قتال انتصر فيها لغيره بعد أن انتصر لأمَّته انتصارًا جزئيًّا في البداية، ضد اليمن تارة، والشام أخرى، والعراق ثالثة، ثم انتصارًا شاملًا ضد الفرس والروم.
•••
وتعد سيرة «ذات الهمة» السيرة التالية تاريخيًّا لسيرة عنترة بن شداد، لأن أحداثها تمتد عبر الزمان من العصر الجاهلي حتى أواخر الدولة العباسية، فهي من هذه الزاوية تبدأ من حيث انتهت سيرة «عنترة»، ثم تتطور إلى أن تصل في خاتمة المطاف إلى حكم الخليفة الواثق. وفي السيرة ما يبرهن على سبيل القطع بأنها تاليةٌ لسيرة عنترة لما تتضمنه من أوصاف للبطولة تطابق أوصاف عنترة وتتخذ من اسمه آيةً لها. وكذلك بطل السيرة يشبه فرسُه بالأبجر فرس عنترة. والسيرة في جزئها الأول، وهو مقدمة طويلة تدور حول الصحصاح فارس بني كلاب جد ذات الهمة، تكاد ترادف صورة عنترة؛ بل إن شخصية العبد في هذه السيرة تشبه إلى حد كبير شخصية شيبوب شقيق عنترة. وهكذا لا مفر من وضعها في المكان التالي تاريخيًّا لسيرة عنترة بن شداد، وخاصةً أنها تعالج في إطارها القصصي ذلك النوع من الصراع الذي دار بين العرب في جهةٍ والروم في الجهة الأخرى حول تثبيت الحدود بين الدولتين الكبيرتين والسيادة في نفس الوقت على منطقة البحر الأبيض. والصحصاح — بطل المقدمة الطويلة لسيرة الأميرة ذات الهمة — ينتهي نهايةً فاجعة بعد أن يُتوَّج ملكًا للعرب على يد أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، ولذلك كان هو البطل الذي يمكن أن يجذب أنظار المحدثين؛ فقد صاغ قصته عباس خضر صياغةً حديثة — هي التي نعتمد عليها في هذا البحث — وفي تقديمه للقصة يقول: «حرصت على تصحيح النظرة الإسلامية إلى علاقة المسلمين بالمسيحيين وأهداف الكفاح الإسلامي العربي ضد أعداء العرب والمسلمين، وهو في الحقيقة — وطبقًا لروح السلام — كفاح يرمي إلى ما نسميه الآن بالتعايش السلمي.» ومعنى هذا أن الكاتب «الحديث» لهذا الجزء من السيرة قد سمح لنفسه بالتصرف في الأصل بما لا يسيء إلى هذا الأصل في جوهره. وربما كان الاختلاف الأول بين هذه السيرة وسيرة عنترة أن شخصية عنترة التي تدور من حولها الأحداث هي شخصيةٌ تاريخية بينما تعتمد سيرة الأميرة ذات الهمة وجدِّها «الصحصاح» على شخصياتٍ خيالية تحتل مركز الصدارة في الملحمة، أما الشخصيات التاريخية فتحتل المراكز الثانوية، ولكنها — بعد ذلك — هي قصة شعبية يمتزج فيها التاريخ بالخيال الشعبي امتزاجًا يصعب معه أن تمسك بالخيط الرفيع الذي يفصل بين الحقيقة والخيال.
وتبدأ قصة الصحصاح — كما أعاد صياغتها عباس خضر عن الأصل الشعبي الذي يرجح الدكتور فؤاد حسنين في كتابه الرائد «قصصنا الشعبي» أن مؤلفه هو «نجد بن هشام الهاشمي الحجازي» منذ أن تمكن الملك الغطريف من أن يهزم أباه الفارس جندبة، وأن يحصل على مهرته «مزنة»، فانتهت حياة جندبة من بعدها، ونقل زعامة قبيلته «بني كلاب» إلى شقيقه «عطاف»، ومات تاركًا ابنه الصحصاح وأمه في رعاية أخيه وزوجته وابنته «ليلى». ويهيم الصحصاح منذ صباه بابنة عمه ليلى فترى أمه في هذا الغرام تطاولًا من ابنها الفقير، ولكنه يجيبها: «ليس الفقر عيبًا، وأن الذي سلب منا الغني فيما سلف قادر أن يجود علينا ويعيد إلينا عزنا.» ويقع عمه في حيرة كبيرة، فهو يحس نحوه بخشية أن يطالب بعرش الزعامة على القبيلة فيما بعد، ولهذا فهو يباعد بينه وبين ابنته ويكيد له المرة بعد الأخرى، إلى أن كانت المرة الأخيرة التي تظاهر فيها بموافقته على تزويجها من الصحصاح بشرط أن يحصل على مهرها الغالي من الجواهر والأنعام، ويخرج الصحصاح إلى البيداء بنية أن يغير على بعض القبائل الغنية فيسلبها مهر ليلى، ولكنه يفاجأ بنفسه يسلك في الصحراء على نحوٍ مختلف، سلوك الفارس العربي الذي يثأر للضعيف المهزوم ويثأر لأبيه من الغطريف ويسترد مزنة، ويثأر من قبيلة من قُطاع الطريق إلى بيت الله الحرام كادت أن تنهب ابنة أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان وهي في طريق عودتها من الحج. ودعته الأميرة إلى زيارة والدها الخليفة في قصره بدمشق، وقدمته إلى قومها بوصفه «حامي الديار من الأشرار»، فأكرم عبد الملك بن مروان وفادة الصحصاح ومن معه، وطلب إليه أن يستعد لواجب أكبر إذا دعت الظروف، وهو صد العدوان الرومي على دولة العرب من ملك «القسطنطينية» الذي يغير على الثغور أحيانًا لكي يستولي بجيوشه على بلاد المسلمين ويستذل أهلها. وتطورت هموم الصحصاح واهتمامه، وأضحى يولي عنايةً خاصةً لفكرة «الجهاد في سبيل الله وأرض المسلمين»، وينعى على العادات الجاهلية والعصبية القبلية مما لا تزال بقاياه متفشيةً بين قبائل العرب في صحراء الحجاز. وحتى يحين الحين لمواجهة «كلب الروم» قرر الخليفة أن يتولى الصحصاح إمارة العرب في البادية، بدلًا من مروان بن الهيثم ليخضع القبائل العاصية، وينشر الأمن والعدل في ربوع البادية، ويؤمن طرق الحجاج بين الشام والحجاز «وإن أصعب ما سيواجهك في مقاومة القبائل أن الأمر لا يحتاج إلى الشجاعة في القتال فقط؛ بل يحتاج كذلك إلى الحيلة وحُسن السياسة وتأليف القلوب.» وأرسل معه ابنه «مسلمة» ليألف معه الحياة الجديدة؛ حياة الحكام. وفي تلك الأثناء كان عمه «عطاف» قد خانه واتفق مع «حريث» من بني كندة أن يتزوج من ليلى ما دامت أخبار الصحصاح لا تنبئ عن حياته أو موته. ولكن الصحصاح يجيء ولم يكن حريث قد عانق ليلى بعد، فيأخذها له زوجة ويغفر لحريث وعمه والجميع، ويقيم المآدب ويمنح العطايا. ثم علم الأمير المخلوع «مروان بن الهيثم» ما كان من أمر الخليفة والصحصاح فقرر أن يسترد إمارته بالقوة، وحينئذٍ تطوع من رعيته فارس يُدعى «آفة الدنيا» للقيام بهذه المهمة، فقال مروان: «إن القدوم على الأهوال بغير كشف الأحوال ما هو إلا من فعل الجهال.» ولكن آفة الدنيا لا يلقي بالًا إلى هذا القول، ويمتشق الحسام ويركب حصانًا أشهب ويتوجه سرًّا إلى مكان الصحصاح، وهناك يتولى الرجال تأديبه هو وسيده من بعده، ويقر الجميع بإمارة الصحصاح. ومرةً أخرى يصفح ويمنح العطايا. ويُقبل اليوم الموعود؛ فقد بعث الخليفة برسالة إلى مختلف الإمارات بنداءٍ موحَّد مؤداه أن كلب الروم أغار بجيوشه على ثغور المسلمين واعتدى على أهلها وضرب ديارها، وعلى فرسان العرب أن يهبوا إلى الذود عن حياض الإسلام والمسلمين. وفي قصر الخلافة أعلن أمير المؤمنين أن مسلمة ابنه هو نائبه وأن الصحصاح هو قائد جيوش المسلمين «وأوصيك يا صحصاح بالمشردين من أهل الديار الذين نُهبت أموالهم وأُخرجوا من ديارهم وأصبحوا لا مأوى لهم ولا طعام لديهم.» وخرج الصحصاح ومسلمة في مائة ألف مقاتل للقاء جيش أرمانوس ملك الروم الذي حشد للغزو «مائتي ألف فارس» يتقدمهم أكبر قواده «أشمونيس» و«مقلاعوس»؛ ثم سأل الصحصاح نفسه: «أليس الذي تفعله هذه الجيوش الغازية المعتدية المخربة مثل ما كانت تفعله بعض القبائل، مع فارقٍ يسير هو أن هذه تزاول اعتداءاتها في محيطٍ ضيق، وتلك ترتكب شناعاتها في المحيط الواسع بين الأمم والدول؟» وأحس وهو يفصل الرقاب عن أجساد فرسانها الروم أنه إنما يقتل «لينشر الحق ويمحق الشر» فانتصر الحق وزهق الباطل، وارتدَّت جيوش الروم مدحورةً بعد أن لقيت حتفها في البر والبحر ولم يتبقَّ منها سوى القليل العاجز. ولكن الفرسان العرب لم يأمنوا للروم فتعقَّبوهم حتى عقر دارهم، وسقطت بعد نضالٍ عنيف «القيسارية» مركز مليكهم الذي استعان على العرب بكراز القرطبي أبرز فرسانه و«عملاق» ملك الإفرنج المتوج و«بخطوس» ملكة الكرج. ولم يفلح سعي أرمانوس لتسليمٍ يحفظ ماء الوجه فلقي مصرعه هو وقواده، ودخلت الجيوش العربية تُرسي دعائم حكمٍ عادل، ثم عادت إلى الشاطئ العربي بعد أن أمِنَت ثغوره من عدوان الروم وغزواتهم.
وتنتهي هنا «القصة» التي أخذها عباس خضر عن سيرة الأميرة ذات الهمة مكتفيًا بسيرة جدها الصحصاح عند هذا الحد الذي يكتمل في الأصل الشعبي بأن ليلى زوجته قد أنجبت له ولدًا دعاه «ظالمًا»، ثم تزوج من فتاةٍ أخرى أنجب منها ولدًا دعاه «مظلومًا»، ثم فر والتحق بديرٍ أقام فيه فترةً من الزمن قرر بعدها العودة إلى ليلى، غير أن وحشًا افترسه في الطريق ولم ينجُ إلا حصانه الذي واصل السير حتى جاء إلى بني كلاب، فأدركوا أن الصحصاح مات. وتنتهي قصة «الصحصاح» لتبدأ السيرة قصصًا أخرى مع أولاده وأحفاده. ومرةً أخرى نقول إنه إذا كانت سيرة عنترة تعكس صراع العرب مع الفرس والروم، فإن سيرة ذات الهمة — والصحصاح في مقدمتها — تعكس صراع الأمة العربية بكاملها تجاه الغزو الأجنبي «الموقف الذي يمكن تبسيطه بأنه صراع الدول الإسلامية أمام دولة الروم المسيحية الكبرى» كما يقول فاروق خورشيد. ومرةً أخرى كذلك، نقول إن رمز البطولة في مقاومة الفرسان العرب لم يكن هو الرمز القومي الذي عرفته عصور تالية للعصور التي أثمرت الملاحم الشعبية، وإنما كان «الدين» و«الأرض» و«اللغة» هي المزيج المعقَّد الذي يخلق شعورًا واحدًا مركبًا في نفسية العربي تدفعه إلى النضال حتى الموت. وقد كانت هذه العناصر الثلاثة بمثابة «القومية» في مفهومنا الحديث، فالإسلام هو «وطن» الفارس وعقيدته ولغته، ومقاومة الغزو المسيحي الرومي هي في صميمها مقاومة للعدوان ضد الأرض التي يملكها المسلمون. ولم يكن البُعد الاجتماعي في قصة الصحصاح أقل وضوحًا منه في سيرة عنترة؛ فقد نشأ فقيرًا ودافع عن الفقراء وارتبط بهم في حياته ونضاله، ولم يكن الدفاع عن الإسلام وأرض المسلمين ولغتهم إلا دفاعًا عن «الفقراء» وحياتهم، وتلك هي القيمة الرئيسية في قصة «الصحصاح». قد تبرز في سيرة ذات الهمة بعد ذلك قيمٌ أخرى كالمساواة بين الرجل والمرأة في السراء والضراء، وهي القيمة التي تثبت ريادة الملحمة العربية في تبني أكثر الأفكار تقدمًا، ولكن تظل قضية «الفقر» هي المضمون الأشمل للسيرة كلها، ويظل الصحصاح بطلًا وفارسًا عربيًّا من أبطال وفرسان المقاومة العربية بقدر ما تجسد قصته في سيرة ذات الهمة هذا الرمز الاجتماعي الكبير.
•••
يضع الباحثون في الأدب الشعبي سيرة «الظاهر بيبرس» في مكان تالٍ مباشرةً لسيرة الأميرة ذات الهمة، من ناحيتَي المرحلة التاريخية التي تصورها والفترة التي كتبت فيها على السواء، فالظاهر بيبرس — كملحمة شعبية — تقفز من العصر العباسي الثاني إلى الأيوبيين لتقف عند الحروب الصليبية في العصر المملوكي. ولعله من المهم أن نفرق بين علاقة هذه السيرة بالتاريخ، وعلاقة غيرها به، فعنترة مثلًا شخصية تاريخية، أو واقعية إن شئنا الدقة، أي أن له وجودًا حقيقيًّا في الحياة الجاهلية كواحد من الفرسان العرب. ولكن ما كان صيته ليذيع لولا ما أضفَته عليه السيرة من خوارق البطولة في الفروسية والشعر. أما سيرة ذات الهمة فأبطالها الرئيسيون من إبداع الخيال الشعبي، بينما تلعب الشخصيات التاريخية أدوارًا ثانوية. في سيرة الظاهر بيبرس يختلف الأمر؛ ذلك لأن التاريخ ينقل لنا صورةً معينة للظاهر كواحد من حكام المسلمين لا كبطلٍ مغوار فحسب، ومعنى هذا أن «الصورة التاريخية» لهذا النموذج أكثر دقةً ووضوحًا وتفصيلًا من الصور التاريخية الأخرى التي لم يكن أصحابها من الولاة أو الأمراء أو الملوك أو الحكام. ومع هذا فإن الملحمة الشعبية بطبيعتها لا تصلح كوثيقةٍ تاريخية وإن تطابقت في بعض أجزائها مع وثائق التاريخ. والتاريخ يقول إن مملوكًا يُدعى بيبرس نُقل إلى حلب وبيع في القاهرة واشتراه الملك الصالح أيوب حين ظهرت مواهبه فعيَّنه في إحدى الوظائف، وظل يتدرج في المناصب حتى أصبح قائد فرقة المماليك التي كان لها الفضل الأول في صد حملة لويس التاسع عن مصر. ثم تولى بيبرس عرش مصر بعد موت الملك الصالح وقتل ابنه توران واغتيال أيبك التركماني وتآمره مع بعض المماليك في مصرع قطز أثناء ذهابه إلى الصيد في طريقه إلى مصر. وانتخب قواد الجيش والأمراء بيبرس سلطانًا. وحاول حاكم دمشق أن يناوئ الظاهر مطالبًا بالسلطنة، ولكن أعوان السلطان الجديد تمكنوا من القبض عليه. وكانت الديار المصرية والشامية محاطة بالأعداء من كل جانب: ففي الشمال يربض ملك أرمينية، وفي الغرب تكمن القوات الصليبية على الساحل الشامي، وفي الداخل جماعة الحشاشين وفي الشرق المُغل يطلبون الثأر، والنوبيون في جنوب مصر لا يكفون عن القتال. وتمكن الظاهر بيبرس من أن يكتسح هؤلاء الأعداء جميعًا، الواحد بعد الآخر، وكان يعود من جولاته الحربية في الخارج ليصلح من حال البلد في الداخل، فاشتهر عنه العدل ومجافاة الظلم والانتصار للفقراء والمساكين إلى أن مات عام ٦٧٦ﻫ وكانت ولايته عام ٦٦٧ﻫ أي أنه أمضى حوالي عشر سنوات فوق عرش مصر. وهنا ينتهي التاريخ لتبدأ السيرة الشعبية عملها فتجعل من هذه الشخصية التاريخية محورًا قصصيًّا للملحمة، وتصل بنسبه إلى بيت ملكي من خوارزم العجم، وتصف أحواله الصحية بالضعف والعقلية بالذكاء والروحية بحفظ القرآن. وتعقد الصلات بينه وبين أولياء الله الصالحين من أمثال المغاوري والسيد البدوي والسيدة نفيسة والسيدة زينب، وأحيانًا يقومون له بدور البصيرة النافذة الهادية حين يكشفون حجب الغيب عن عينيه فيستنير بما سيجد في حياته من صعوبات ومكائد الأعداء. وأحيانًا أخرى يقومون بدور الظهير في الحروب فهم يجيدون فنون القتال. وإذا كان القصاص الشعبي قد كتب وأفاض في ذكر الحروب التي قادها الظاهر بيبرس فإنه لا يذكر الجانب المظلم منسوبًا إلى بيبرس وإنما إلى أعوانه، أما هو حين يدخل المكان غازيًا، أو فاتحًا، أو صادًّا للهجوم والعدوان فإن شغله الشاغل حينئذٍ هو الانتصاف لأهل الله من فقراء المسلمين، حتى لقَّبه الرواة بالعادل. وتضيف السيرة إلى صاحبها الكثير من الحوادث والشخصيات والمواقف مما لا يتصل بالتاريخ في كثير أو قليل، وإنما لتنحو في ذلك نحوًا تعليميًّا تمجد فيه بطولة الفارس العربي الجديد الذي ينشغل بهموم الغالبية المسحوقة من الشعب العربي، سواء تجسدت هذه الهموم في بلاء الغزاة وكوارث الفاتحين القادمين عبر البحار، أو تجسدت في بلاء المتآمرين والظالمين والمفسدين في طول البلاد وعرضها. وهكذا تدور السيرة حول شخصيتين غير الظاهر هما جوان وشيحة. أما جوان فهو جاسوس صليبي يتمكن من الوصول إلى منصب قاضي القضاة في مصر بعد أن تأهل لاعتلاء هذا المنصب بالدس والحيلة والتعلم، وهو يرمز إلى عنصر الشر القائم في بنيان الوجود، وتكاد القصة الشعبية أن تجسم فيه صورة إبليس ومثاله. وأما شيحة فهو الرجل الذي تسوقه الأقدار ليخلص المسلمين من دهاء القاضي الجاسوس، حتى يكشف أمره على العالمين ويلقى نهايته المحتومة. وهو يرمز إلى عنصر الخير القائم أيضًا في بنيان الوجود. على أن هناك شخصيةً أخرى تكاد أن تكون هي المقابل الموضوعي لشخصية جوان؛ هي شخصية عتمان بن الحبلى الذي نعرفه في بعض أجزاء القصة قريبًا إلى قلب بيبرس لا يبرم أمرًا دون مشورته، يدبر له جميع شئونه ويخلصه من المآزق، وهو يتمتع بكفاءة من نوعٍ خاص تعينه على كشف المؤامرات والحيل والدسائس وتنير له الطريق ولايته وعلمه الباطن. ويكاد أن يكون في تواكله المؤمن وطيبته الكاملة وفتوته وشجاعته وقدرته الباهرة على السخرية وذكائه أن يكون «رمزًا مجسدًا لمصر كلها»، كما يقول فاروق خورشيد في «أضواء على السير الشعبية».
والقصة الشعبية تبدأ بأن حكيمًا يونانيًّا ممن يستشرفون الغيب سجل فعال أعداء الشعب العربي على صحائف من الذهب لصفرته وغلابته تجسيمًا لتصاريف الشر، وجاء ابنه من بعده، فسجل وقائع العرب والمسلمين على صحائف من الفضة لبياضها وتجسيمها لتصاريف الخير، وكأن هذه الصحائف كلها مذهبة ومفضضة تشبه «لوحة المقدور» فيما يقول الدكتور عبد الحميد يونس في كتابه «الظاهر بيبرس في القصص الشعبي». وتكاد أن تكون «حرية الإنسان في مواجهة مصيره» هي الإطار القصصي الذي تدور في حدوده الأحداث، فيقول الملك الظاهر لوزيره شاهين: «كل شيء له أسباب، سبحان مسبب الأسباب، أهل السعادة مكتوبين، ومن يعارض مولانا في حكمه هذا الذي حكم به الإله القديم.» وهكذا يصبح جوان هو الشخصية التي تعارض إرادة الله لتحقيق إرادة الشر، ويتحقق الشر أحيانًا، ولكن في نطاق العلم الإلهي الذي تبرزه السيرة في رؤى الأولياء. وهكذا أيضًا يصبح بيبرس هو الشخصية التي تنفذ إرادة الله لتحقيق الخير، مهما نجح الشر في تعويق هذه الإرادة وتكبيلها بكثير من القيود والهزائم. إلى أن يتآمر جوان تآمرًا مباشرًا على الظاهر بيبرس فيعلن هذه المؤامرة — دون أن يدري وبالرغم من كافة الاحتياطات — عن شخصيته الحقيقية كجاسوس للعدو الصليبي. ولا يخرج بيبرس لمواجهة الصليبيين إلا بعد أن يطهر مجتمعه الداخلي من أدران الفساد و«الشر» مجسمًا في الظلم الفادح الذي يقع على كاهل الفقراء ويصل إلى درجة الاغتصاب.
ولا يخرج بيبرس كذلك إلى ملاقاة الصليبيين إلا بعد أن يرسي دعائم مفهوم جديد لمعنى العروبة والإسلام؛ فقد تعددت الأصول العرقية التي ينتمي إليها الحكام والولاة والأمراء والملوك والسلاطين الذين تعاقبوا في الجلوس على عرش مصر، بحيث إن وحدة الجنس العربي لم تعد تعني — كما كانت في سيرة عنترة — وحدة أبناء الجزيرة العربية، أو كما أضافت إليها سيرة ذات الهمة الشام والعراق. إن التيار الحضاري المشترك بين شعوب المنطقة التي نعرفها اليوم من الخليج إلى المحيط — منذ الفتح الإسلامي — قد صهر مختلف الأصول العرقية في بوتقة الواقع النفسي للدين الجديد واللغة الجديدة والوحدة الجغرافية والكيان الاقتصادي المتقارب. وكلها عناصر جنينية لما ندعوه اليوم بالقومية العربية. والظاهر بيبرس الذي انحدر من «عنصر» غير عربي هو الرمز الرائد لهذا «المفهوم» الجديد، ولا أقول «الواقع» الجديد، لأن هذا الواقع لم يتبلور ويتخذ شكله «القومي» النهائي إلا بعد ذلك بأزمان مديدة. أي أن رمز البطولة في مقاومة الظاهر بيبرس هو هذه المزاوجة التي تتم بصورةٍ ناضجة لأول مرة في تاريخ الملحمة الشعبية، المزاوجة بين كفالة الوحدة القومية وكفالة العدل الاجتماعي في مواجهة الغزو الأجنبي. وتلك هي القيمة الحقيقية التي جذبت مؤلفي الملاحم ورواتها إلى قصة الظاهر بيبرس في مواجهة الصليبيين، ولم تتجه أنظارهم إلى قصة بطلٍ عظيم كصلاح الدين الأيوبي.
•••
تواجه الدارسين في الأدب الشعبي مشكلةٌ حقيقية إذا تصدوا لمعالجة سيرة «علي الزيبق» فهم يجوبون مع البطل متاهات تاريخية لا ضابط لها ولا علامات طريق يدرك بها المسافر كم من المسافات قطع، ومن أين جاء، وإلى أين يتجه؟ ذلك أن مؤلف السيرة شاء أن يرمز إلى أحداث عصره بأسماء عصور خلت، فاستخدم ملوكًا كابن طولون وهارون الرشيد استخدامًا «روائيًّا» لا يعترف بالزمن بل يسقطه من حسابه تمامًا. ومن ثَم يميل أغلب الدارسين إلى اعتبار الشخصيات التاريخية في السيرة مشجبًا علق عليها كاتبها أوزار عصره ليتهرب من مواجهته الصريحة فحسب. ويميلون ثانيةً إلى القول بأن سيرة علي الزيبق تأتي في الترتيب التاريخي — بالرغم من كل هذا التشويش — بعد سيرة الظاهر بيبرس لأنها تعالج بالقول والفعل مجتمع العصر المملوكي شكلًا ومضمونًا.
ويكاد أن يكون المرجع الرئيسي — إن لم يكن الوحيد — لسيرة علي الزيبق هو «ألف ليلة وليلة»، وإن كانت هناك طبعة مستقلة لقصة «أحمد الدنف وحسن شومان مع دليلة المحتالة وبنتها زينب النصابة» ويلعب فيها الدور الرئيسي «علي الزيبق المصري بن حسن راس الغول». وهو الشخصية التي نسج مضمونها الفني في شكل حديث الصياغة نشره يوسف الشاروني في روز اليوسف، وفي الصياغة التي نشرها فاروق خورشيد في روايات الهلال.
وتكتمل لقصة علي الزيبق مجموعة من المقومات التي يختلف بها اختلافًا جوهريًّا عن بقية الأبطال الشعبيين في الملاحم العربية، فهو لا يعتمد في بطولته على فروسية السيف أو الشعر، ولا يستلهم في طموحه الحب أو الملك، وإنما هو أحد أبناء الشعب المصري الذين نشَئوا في أحضان الحارة والزقاق واللصوص. وبطولته إذن هي بطولة «الرجل العادي» الذي طحنه الظلم والبؤس فآثر أن يحارب الطغاة بأسلحتهم، فتعلم اللصوصية ليسطو على اللصوص، سواء كانوا لصوصًا من أهل الشارع أو لصوصًا من أهل الحكم. ولقد كان العصر المملوكي بشكلٍ عام نموذجًا لمجتمع الظلم والظلام الذي عم مصر في ذلك الوقت، وكان «اللص» علي الزيبق تجسيدًا موضوعيًّا أمينًا للبطل الشعبي الذي يتوسل بالحيلة والدهاء في النكاية بالظالمين. هكذا نراه طفلًا متمردًا منذ البداية يغلق أبواب الكتَّاب الذي تعلَّم فيه، وأبواب السوق الذي كان يعمل فيه جده. وترسله أمه إلى الأزهر فلا يكف عن ممازحة معلمه إلى أن يطرد، ولا يجد مأواه وبغية أحلامه إلا في «الرميلة وقرة ميدان» التي يقول عنها المؤلف: «وكانت تلك البقعة سهلةً واسعة وهي أعجوبة من عجائب الزمان، وفيها كانت أرباب الشطارة والزلاقة. وكان يوجد هناك جميع ألوان الملاعب مثل لعب السيف والترس، وضرب الرمح والدبوس، والصراع وركوب الخيل والحرب ودواهي الشغربية والخداع.» وفي هذا المكان وحده يشعر علي بالراحة النفسية العميقة، ويبز أقرانه في تعلم الحيلة والدهاء مستعينًا بذكاءٍ فطري لا شك فيه. وفي هذا المكان يُطلقون عليه لقب «الزيبق» أي القادر على إتيان العجائب والمراوغة والخروج من المآزق بسعة الحيلة وحدة الذكاء والتمرس على أدوات «الشيطنة» والدهاء. ويعلم من أمه أن أباه قُتل على يدي صلاح الكلبي «مقدم الدرك» في مصر، فيتوجه إلى أحمد الدنف في الإسكندرية ليسلحه بما يلزم في شئون المؤامرات والخديعة، ويبدأ تحرشه بصلاح الكلبي هينًا يسيرًا في البداية فيسقط بين أنياب دهاته من الفرسان اللصوص. ولكنه ينجو بفضل أمه وشجاعتها، ثم يعاود جولته مع مقدم درك مصر متخفيًا تارةً في صورة امرأة أو طبيب، سافرًا أخرى مطالبًا بمكان صلاح الكلبي إلى أن يحصل على المنصب في النهاية. والسيرة تصور صلاح الكلبي هذا أقرب ما يكون إلى الشر المطلق في بغيه وظلمه وتنكيله بالمصريين، فالشخصية المملوكية لا ترمز إلى ما سبق أن رمزت به شخصية الظاهر بيبرس من انصهارٍ للأصول العرقية التي صدرت عن بوتقة تفاعلاتها الأمة العربية. إن الحاكم المملوكي هنا هو رمز الاستعمار بالمعنى الحديث، وعلي الزيبق هو الرمز المقابل له، رمز البطولة في المقاومة الشعبية. ويقترب في الشبه منه «سعيد مهران» في قصة «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ، فسعيد ليس لصًّا بالمعنى التقليدي، وإنما هو بطل شعبي أجهضت ثورته معوقات الحرية في وطنه فانقلب متمردًا فرديًّا، وإن عكست فرديته بطولة الجماهير المقهورة. بهذا المعنى كان علي الزيبق بطلًا شعبيًّا ينفرد بخاصية الرجل العادي الذي لا يأتي بالخوارق وإن ركب الأهوال ولكن دون مساعدة من قوًى خفية. وهي خاصية فريدة لم تعرفها السير الشعبية الأخرى «وما أشبهه بأبطال الأعمال الواقعية في أدبنا المعاصر» كما يقول فاروق خورشيد في مقدمة صياغته الحديثة للسيرة. ويبدأ مغامرته الجديدة في بغداد، ولكنه يتولى في طريقه درك الشام. وفي بغداد يلتقي بدليلة المحتالة التي عزلت ببراعتها أحمد الدنف — الرجل الذي علَّمه في الإسكندرية أصول المهارة وحرفة الدهاء — واستولت هي على المنصب الذي فرغ بطرده. وهناك يداورها علي الزيبق ويحاورها إلى أن ينتصر عليها انتصارًا ساحقًا تعترف له به وتوليه على الدرك، ولكنه يقع في هوى ابنتها زينب النصابة فتستغل دليلة هذه الفرصة لترسل به إلى المهالك — ليحصل على المهر — لعله لا يعود منها كما سبق لعطاف أن فعل بابن أخيه الصحصاح في سيرة «ذات الهمة». غير أنه ينجو من كافة المكايد التي دبرتها له، وتنتهي القصة بقتل دليلة وزواجه من زينب، واعتزاله لدرك بغداد تاركًا مكانه لابنه.
ويبدو البعد الاجتماعي في السيرة هو البعد الغالب على تكوينها الملحمي، ولكنه في الحقيقة هو الوجه الآخر لرمز البطولة في مقاومة علي الزيبق — والشعب المصري معه — لمختلف مظاهر الغزو الأجنبي الذي يبلغ قمة طغيانه في ظل المماليك وحكمهم الظالم. وإن يكن علي الزيبق لصًّا، فإن هذه الصفة لا تقلل من بطولته أو تضعف منها، لأن لصوصيته فوق أنها حيلةٌ فنية أراد بها القصاص أن ينتقم من الظالم بنفس سلاحه، فهي أيضًا مضمونٌ شعبي أصيل يتواتر في الآداب العالمية الأخرى تحت عناوين مختلفة تلتقي كلها في تعبير «اللص الشريف» الذي يأخذ من الأغنياء ليعطي الفقراء ويدمغ المجتمع كله بالفساد ونظام الحكم بالخلل والانهيار لأنه قائم على السلب والنهب وانعدام الأمانة والضمير، خاصةً إذا كان الحاكم غازيًا أجنبيًّا فهو يمرغ كرامة الشعب المحتل في الوحل، ويصبح علي الزيبق رمزًا لبطولة هذا الشعب — ولو عن طريقٍ ملتوٍ كاحتراف السرقة والتآمر — في مقاومة الفساد الوطني والاجتماعي.
•••
بالرغم من أن سيرة سيف بن ذي يزن تكاد أن تكون جاهلية العصر من حيث استعارتها لأحد ملوك اليمين في ذلك الوقت ليصبح بطلًا للملحمة الشعبية، إلا أن أغلب المؤرخين للأدب الشعبي وفي مقدمتهم الدكتور فؤاد حسنين يميلون إلى اعتبار «التاريخ» في هذه السيرة أحداثًا خيالية لا علاقة لها بالواقع الذي يتناقض فيه اختيار البطل من الجاهلية واختيار غريمه «سيف أرعد» ملك الأحباش معاصرًا لنهاية العصر المملوكي، أي أن السيرة جمعت بين شخص وُجد في القرن السادس الميلادي جنبًا إلى جنب مع شخص وجد في القرن الخامس عشر. ومن ثَم فلا علاقة لهذا «التاريخ الروائي» بذلك التاريخ الواقعي للمنطقة الذي تسجله الوثائق على نحوٍ مختلف أشد الاختلاف عن التسجيل القصصي في سيرة الملك سيف. من هنا يميل فاروق خورشيد الذي أعاد صياغة القصة الشعبية إلى موافقة الدكتور فؤاد حسنين فيما أورده في كتابه «قصصنا الشعبي» من أن زمن الملحمة هو العصر المملوكي، وأن بيئتها هي مصر لكثرة ما جاء في السيرة من كلمات وأسماء مصرية بالرغم من «الهالة الجاهلية» التي يحيط بها المؤلف أو المؤلفون هذه الملحمة.
ولعل السيرة الشعبية قد عمدت إلى اختيار سيف بن ذي يزن من ذلك التاريخ القديم، لأنه الملك اليمني الذي اشتهر بمعاركه ضد الأحباش وإجلائهم عن اليمن «اليهودية» في ذلك الحين بمعاونة كسرى ملك الفرس بعد أن رفض ملك الروم مساعدته لاشتراكه في «المسيحية» مع الملوك الأحباش. ولكن المضمون الحقيقي للمعارك لم يكن قط حربًا بين اليهودية والمسيحية كأديان وعقائد، وإنما كانت حربًا اقتصادية وسياسية في المقام الأول، حتى إن كسرى قد اشترط في مساعدته تلك للملك سيف أن يحدد له شيئًا شبيهًا بالجزية السنوية. والذي يعنينا هو أن اسم سيف بن ذي يزن اقترن على مر العصور والأجيال بهذه الحرب التي حررت اليمن من قبضة الأحباش. والتاريخ الواقعي يلقي شبهاتٍ كثيرة على علاقة الحبشة بالحروب الصليبية قرب نهايتها، وكيف أن علاقة الحبشة بمصر بلغت درجةً عالية من السوء حين أسرفَت في اضطهاد المسلمين هناك من ناحية، وحين كررت عدوانها المسلح على صعيد مصر من ناحيةٍ أخرى. وعلى النقيض تقريبًا من الفكرة المحورية في سيرة عنترة حيث تكاد أن تكون «توحيدًا» عنصريًّا بين السامية والحامية، أقبلت سيرة الملك سيف تحمل لواء «التفرقة» العنصرية بين الساميين والحاميين. فالسيرة تبدأ بهذه النبوءة العجيبة التي تقول على لسان وزير ذي يزن:
ذلك أن نوحًا كان يرقد تحت شجرة ومعه ابناه سام وحام، فرفع الهواء ذيل ثوبه وبانت عورته فضحك حام، وغضب سام، واستيقظ نوح ليدلي بهذه النبوءة التي جاءت في صورة «دعاء» على حام أن تسود بشرته وأن تصير ذريته عبيدًا لذرية أخيه. وتحاول السيرة كما هو الحال في قصة عنترة أن ترجع «بالإيمان» إلى إبراهيم الخليل باعتباره التمهيد التاريخي للإسلام. وهكذا فالملحمة تؤرخ للصراع القادم بين الملك اليمني الأبيض وملوك الأحباش السود من زاويتي الدين والعنصر، ولكن مسار الأحداث يؤكد أن أرضية الصراع هي مقاومة الغزو الخارجي؛ ذلك أن «الدعوة» من الجهة المقابلة عبَّرَت عنها شامة بنت الملك الأفريقي أفراح:
فتفسيرات هذه المواقف المتبادلة — كما يقول الدكتور فؤاد حسنين — هي هذه الحروب الطاحنة التي قامت بين الساميين والحاميين أو بين العرب والحبشة والسودان. وعلى النقيض من فكرة انصهار الأجناس المختلفة في بوتقة التيار الحضاري المشترك بين أبناء وبنات الأمة العربية الوليدة — وهي الفكرة التي طرحتها سيرة الظاهر بيبرس — نجد أن السيرة الجديدة تؤكد على فكرةٍ عكسية هي «وحدة الدم العربي» فتجعل للبطل ولدَين أحدهما «مصر» ويحكم على مصر والآخر «دمر» ويحكم الشام. وهي أيضًا فكرة تحمل جنين الترابط العربي في مواجهة الحرب الصليبية. وتعتمد سيرة الملك سيف على الخوارق الأسطورية كإطار روائي يحقق لكاتبها أقصى درجات الحرية في التثبت من صدق النبوءة القديمة التي تربط بين جهاد البطل العربي وتراث إبراهيم الخليل. والخوارق في هذه السيرة لا تتجسد في بطولة السيف وإن لم تغفلها، ولا في بطولة الشعر والذكاء والمهارة وإن لم تهمل توظيف هذه كلها، وإنما تجسدت بطولة سيف بن ذي يزن في خوارق السحر والجان والقوى الغيبية بمختلف أشكالها.
وتقول الملحمة إن أبا سيف كان واحدًا من أشراف اليمن في عهد أحد الملوك التابعين للسلطة الحبشية في اليمن، وإن امرأته الجميلة قد ولدت له غلامًا هو سيف، ولكن صاحب البلاط قد أُخذ بجمال هذه المرأة فتزوجها هو الآخر وولدت له غلامًا سماه «مسروقًا». ونشأ سيف مع أمه في القصر الحبشي، ولكنه عرف بعد حين أنه ليس ابنًا لصاحب البلاط، فخرج عليه ثائرًا على سلطان الأحباش وتجمع حوله الوطنيون في بلاده ثم تمكن بمعاونة كسرى من هزيمتهم واستقلال اليمن. ويجتاز سيف أهوالًا بعد أهوال وهو يخترق الحجب ليحصل على أدوات «سام» التي يستطيع بها أن يحقق المعجزة: أن يعرف، وأن ينتصر. فلا شك أن الملحمة ترمز بشخصية سيف بن ذي يزن إلى بطولة الإنسان التي يحققها طموحه إلى المعرفة ولو كان الموت — في درجاته المتفاوتة — هو النتيجة المحققة للفضول وحب الاستطلاع. ولكن شهوة المعرفة هذه تلتحم بصورةٍ أخرى هي «كتاب النيل» الذي لا بد من الحصول عليه حتى تفسد على الأحباش محاولاتهم وتهديداتهم بسد مجرى النيل وقتل المصريين عطشًا؛ ذلك أن أحداث السيرة تدور فيما قبل الأديان السماوية الثلاثة؛ إذ هي حرب بين عبدة النجوم من الأحباش والمؤمنين بالله على دين الخليل من العرب، على الرغم من إلحاح الوقائع بعد ذلك على أنها انعكاس لأحداث نهاية العصر المملوكي. وأحداث السيرة تقول إن مهمة سيف بن ذي يزن الأولى هي إحضار كتاب النيل الذي هو في بلاد الأحباش. وتخيلت السيرة وكاتبها — أو كاتبوها — أن الأحباش باستيلائهم على هذا الكتاب قد حجزوا مياه النيل عن مصر، فإذا ما جاء سيف بن ذي يزن واستولى — بالحكمة — على هذا الكتاب أجرى ماء النيل وأنشأ مصر التي سماها باسم ابنه البكر الذي أصبح ملكًا عليها من قبله. وهذا هو رمز البطولة في مقاومة سيف بن ذي يزن، لقد أنجب ولديه: أحدهما يتولى حكم مصر وإنشاءها، والثاني يتولى حكم الشام وإنشاءها. وهما أخوان من أبٍ واحد، يواجهان مصيرًا واحدًا، ويربطهما تاريخ مشترك ليقودا كفاحًا مشتركًا ضد العدوان الخارجي على أرضهما. وكأنما أراد كاتب السيرة المصري — كما يقول فاروق خورشيد — أن يضع أمام الشعب العربي كله صورةً رمزية لمعنى وحدته وأصالتها، وكأنما أراد أن يجعل من وحدة الدم سندًا للوحدة السياسية ووحدة الكفاح. وهذه الفكرة تؤكد مرةً أخرى معاني الوحدة والترابط ضد الغزو الصليبي في عصر محدد؛ هو العصر المملوكي.
ومعنى ذلك أن بطولة سيف في الملحمة الشعبية من إبداع الخيال الشعبي وليست نقلًا حرفيًّا عن كتب التاريخ، فالشخصية نفسها أقرب ما تكون إلى الرمز الأسطوري الخارق، ولا تقترب في كثير أو قليل من أسوار الواقع، وإن لم تتخلَّ في نفس الوقت عن استلهام هذا الواقع ومعاصرته للمضمون الفني الشامل الذي حملته السيرة إلى متلقيها في زمانها والأزمان التالية لها. أي أننا لا ينبغي أن نعير «التاريخ» التفاتنا إذا صادفتنا بعض أحداثه في سيرة الملك سيف، ولا ينبغي أيضًا أن يتوهج خيالنا ويجمح مع «الأسطورة» إذا التقينا بنسيجها يصوغ الملحمة من أولها إلى آخرها، وإنما ينبغي أن يتجه اهتمامنا كله إلى رمز البطولة في مقاومة الشعب المصري للغزو الخارجي ممثلًا في العدوان الحبشي على العرب بتأييد من الصليبيين قرب نهاية العصر المملوكي.
•••
يقف الباحثون في الأدب الشعبي أمام سيرة «حمزة البهلوان» موقفًا شبه موحد فيضعونها في خاتمة السير التي وصلتنا حتى الآن، وما أقلها بالنسبة لما كتب فعلًا وتواترته كتب الأخبار والأدب، وأشارت إليه بعض القصص التي نجت من الضياع. ويتخذ الباحثون هذا الموقف شبه الموحد من هذه الملحمة بالذات لسببٍ رئيسي هو أنها تكاد تخلو من أية «ادعاءات» تاريخية، فهي لا تذكر اسمًا تاريخيًّا أو حدثًا أو موقفًا، وإنما هي إذا احتاجت إلى اسم لملكٍ ما للفرس قالت «كسرى» كغيرها من القصص الشعبية التي تدعو ملوك الفرس جميعًا بكسرى وملوك الروم جميعًا بقيصر. وقد صاغ عباس خضر هذه القصة صياغةً حديثة دعاها «حمزة العرب» باعتبار أن حمزة البهلوان الذي تدور من حوله أحداث الملحمة هو رمز البطولة العربية في مواجهة النير الفارسي وسطوته. وتبدأ القصة كما صاغها عباس خضر بحلمٍ لكسرى أنوشروان يفسره له وزيره الحكيم بزرجمهر بأن فارسًا يظهر في حصن خيبر سوف يهجم بجيشٍ جرار على هذه البلاد — فارس — فيخلع مليكها عن عرشها ويتولى حكمها الأجنبي، إلى أن يظهر في بلاد العرب — التابعة لفارس آنذاك — فارسٌ أعظم منه فيخلص العرش الفارسي من الكارثة التي حلت به ويهزم بجيشٍ قليل العدد جيش فارس حصن خيبر، ويعيد الملك إلى صاحبه. ولم يشأ بزرجمهر أن يكمل تفسير الحلم لكسرى وهو يقضي بأن الفارس العربي سينتهز هذه الفرصة ليخلص أمته أيضًا من القهر الفارسي. حينئذٍ يوفد الملك وزيره إلى النعمان ملك ملوك العرب، وهناك يصل إلى مكة بحثًا عن وليدٍ جديد سوف يجسد أمل الجزيرة العربية في الخلاص من الظلم. ويلتقي بالأمير إبراهيم حاكم مكة الذي كانت زوجته في شهرها الأخير من الحمل فيتوسم بزرجمهر في الأمير العربي أن ابنه هو هذا الفارس العظيم. ويولد حمزة في ذلك اليوم فيأمر الوزير الحكيم بأن كل من يولد في نفس اليوم يعد من جنود كسرى أعظم ملوك عصره منذ مولده. وهكذا يقسر عبد الأمير إبراهيم امرأته على الولادة وهي ما تزال في شهرها السابع فتلد «عمر» الشخصية الثانية في السيرة. وتبدو من «حمزة» و«عمر» طوال مرحلة طفولتهما وصباهما ما يؤكد كافة النبوءات التي لاحقت حلم كسرى بما يعلن صحة التفسير الذي أدلى به بزرجمهر في حينه. فحمزة يثبت فروسيته على كل الفرسان ويصرع أسدًا في الغابة ويلتقي بالخضر في الصحراء ويسمع أن جنودًا من عند كسرى وأعوانه من العرب قد نصبوا الخيام بالقرب من مكة لجباية الأموال فيفرق شملهم بالرغم من كل ما قيل له من «أن العجم كثيرو العدد، وكلهم يجتمعون إلى ملكٍ واحد، ويوحِّد كلمتهم وصفوفهم، فلا يغير قوم منهم على قوم، كما تفعل العرب الذين دأبوا على التفرق والشقاق والحروب فيما بينهم، وأكبر ملوكهم — وهو النعمان — منقاد لكسرى متفق معه على دينه»، ولم يألُ جهدًا في مهاجمة النعمان في عرينه ليحسم أمره من كسرى ودينه الذي يتظاهر باعتناقه إرضاءً للفرس، بينما يعبد سرًّا إله العرب الواحد. وفي طريقه إلى «الحيرة» مقر النعمان التقى بتجار من الفرس مُوثوقي الأرجل والأيدي بعد أن سلبهم أموالهم قاطع الطريق «أصفران الدربندي» فيحل وثاقهم وينازل الأصفران الذي يعترف ببطولة حمزة ويؤكد له من جديد نبوءة الفروسية التي سيقهر بها ملك الزمان كسرى أنوشروان، ويتحول إلى واحد من تابعيه وفرسانه الذين ولدوا معه في يوم واحد وكان عددهم ثمانمائة فارس. وتأتي الأنباء من المدائن مقر كسرى بأن فارس حصن خيبر قد اقتحم العرش وحاصر الأهالي وهزم الجيش الملكي، وعلى حمزة البهلوان وفرسانه أن يهبوا لحماية رب نعمتهم ومليكهم. ويصل بزرجمهر إلى مكة، يحمل الدعوة التي تنبأ بها منذ عشرين عامًا بالرغم من كل المعوقات التي وضعها الوزير المعادي للعرب بختك بن قرقيش ليحول دون وصول الفارس العربي. ولكن حمزة يصل إلى المدائن مزودًا بالإيمان والشجاعة وعمر الكشاف والأصفران وبقية الفرسان، ولسان حاله يترنم بهذه الأبيات:
ويبدي حمزة بطولةً غلابة على جيش خارتين فارس حصن خيبر ويجليه عن المدائن، ويعود كسرى إلى عرشه فيزداد الوزير بختك كراهية للعرب وضراوة. ويقع حمزة في غرام بنت كسرى الأميرة مهردكار، فيظن بختك أن فرصته في الخلاص من حمزة والعرب قد دنت، فهو يوغر صدر كسرى بأن حمزة لا يعبد «النار» إله الفرس وليس جديرًا كعربي من «البدو» أن يتزوج من فتاةٍ فارسية، فضلًا عن أن تكون هذه الفتاة هي أميرة الزمان جمالًا وحكمة. ولكن بزرجمهر يفسد خطط بختك فلا يجد بدًّا من استخدام الحيلة والدهاء، ومن ثَم يتظاهر بموافقته على الزواج ويطلب من حمزة سرًّا أن يطلب من الملك هديةً عصية على الجميع هي جواد جامح قتل كل من حاول الاقتراب منه، ويحصل حمزة على الجواد فيروضه ولا يصيبه بمكروه. ويشتعل قلب بختك حقدًا عليه فيوافق مرةً أخرى على الزواج ويرسل إليه علنًا — هذه المرة — فارسًا ضخمًا يُدعى «مقبل البهلوان» يتحداه أن ينازله منازلة الفرسان فيسحقه حمزة ويزداد القلب الحاقد ضرامًا. وأخيرًا يتفتق الذهن المتقد بكراهية العرب على شرطٍ غريب للزواج هو أن يقدم حمزة مهرًا للأميرة هو «معقل البهلوان صاحب حسن تيزان». وكان كسرى في كل مرةٍ يطيع وزيره الشرير لما يتمتع به من تأييد الأرستقراطية الفارسية. ولم يتردد حمزة في قبول العرض، وتوجه على رأس جيشه الصغير المكون من الثمانمائة فارس فلاقاه «معقل» بترحابٍ شديد فخاف حمزة من أن يكون خدعة جديدة. ولكن معقل أطلعه على كتابٍ سري لبختك يشير فيه عليه أن يبادر بقتل حمزة مقابل أموال كثيرة أرفقها بالكتاب. ولما كان معقل يؤمن بنفس الدين الذي يؤمن به حمزة، وكان معجبًا في نفس الوقت ببطولات الفارس العربي، فإنه زهد في تنفيذ أوامر بختك وإغراءاته السخية، أما حمزة فيصر على المبارزة وفاءً بالقسم الذي لن يحنث به، وبعد نضالٍ عنيف يسقط جواد معقل على أثر ضربة من سيف حمزة، فيعلن الفارسان نهاية القتال والرضوخ للأمر الواقع، وتفاجأ المدائن والملك والوزراء بحمزة وهو يصطحب «معقل» الفارس الذي طالما هددهم جميعًا بقوته الجبارة، مقيدًا في قفص. ويتدفق قلب حمزة بالنشيد:
ولا يجد بختك مفرًّا من أن يشير على الملك المشورة الأخيرة، وهي أن يرسل حمزة إلى ملوك الدول التابعة لحكم فارس لجباية الضرائب (التي حصلوا عليها من قبل) مع كتابٍ سري يطلب إليهم التخلص من حمزة ومن معه، حتى يرحل العرب عن ديار الفرس نهائيًّا. ويقبل حمزة هذا الشرط الجديد حتى يتزوج من حبيبته. وفي «حلب» يقابله ملكها «نصير» ويخبره بالحقيقة ويعطيه الأموال التي يريدها، وفي «بيروت» يخرج إليه كسروان مليكها للحرب فيهزمه حمزة ويأخذ الأموال، وفي «القسطنطينية» يقابله مليكها «إسطفانوس» بالود والترحاب ويعطيه الأموال، وفي «مصر» يحاول حاكماها «سكاما وورقا» أن يعتقلا حمزة بالحيلة والخديعة، ولكنه يتمكن من الخروج من القلعة التي حبساه فيها، ويتمكن جيشه من هزيمة مصر ويأخذ الأموال ويعين لها حاكمًا من بنيها لا يخضع لفارس. وفي هذه الجولات جميعها كان حمزة يسمع مر الشكوى عن القهر الفارسي، ولكنه في جميع الأحوال كان يطمئن الملوك بأن أموالهم مردودة لهم بعد أن يكشف «كسرى» تمامًا هو ووزيره الشرير ويخلص منهما العالم بأجمعه. وتصل هذه الأنباء إلى المدائن فيغتاظ بختك ويغلي مرجل الغضب في قلب كسرى فيحشد الجيوش لملاقاة حمزة عند عودته ويعين قائدًا للحرب اشتهر بقسوته هو «زوبين الغدار» حاكم بلاد زوال وكموال ووعده بالزواج من ابنته على شرط أن يقتل حمزة. وتدور الحرب بين الفريقين، ويتمكن معقل البهلوان من اختطاف بنت كسرى التي فضلت حبيبها على أهلها، ويتمكن الغدار من جرح حمزة بسيفٍ مسموم بعد أن تخفَّى في ثياب فارسٍ عربي، ولكن بزرجمهر يرسل إليه الدواء الشافي ويستعد العرب للرحيل بعد أن حققوا غايتهم من الحرب. وما تكاد خيولهم أن تصل إلى حدود مكة ويحتفل بهم الجميع حتى تلحق بهم جيوش كسرى الذي يرسل إلى النعمان خطابًا يطلب منه التسليم والطاعة وإعادة ابنته والاعتذار عما بدر من حمزة فيرد عليه حمزة إن العرب «لن يعودوا إلى الطاعة بعد أن تسنى لهم أن يرفعوا عن كواهلهم نير كسرى وظلمه هو ووزيره بختك الخائن الغدار، وقل له إن بلاد العرب لن تخضع بعد اليوم لأجنبي مهما كان»، فيخرج إليه في حرب طاحنة يلقى فيها كسرى أبشع هزيمة في تاريخه كله، فلم يرَ أمامه سوى «الفرار» طريقًا للنجاة.
والقصة على هذا النحو لا تعتمد على ركيزةٍ تاريخية محددة، ولا هي تزعم لنفسها أن «التاريخ» قد خطر على بال مؤلفها، وإنما «الخيال الشعبي» هو الملهم الرئيسي والأول في إبداع هذه البطولة التي تشترك مع بقية البطولات العربية في كثير من السمات، ولكنها تختلف في هذه «الصياغة الروائية الكاملة» إن جاز التعبير عن خلوها من أية مادةٍ واقعية أو خامة تاريخية تملأ الكيان الدرامي للملحمة بحكاية ذائعة لها أصلها في «الحياة الحقيقية» أو «الكتب». إن سيرة حمزة البهلوان تحقق هذا النموذج «الأكمل» لإبداع الخيال الشعبي حيث لا يعود هناك فضل لهيكلٍ قصصي جاهز أعده الرواة في حلبة السباق إلى تسجيل الماضي أو الإشادة بالحاضر. وتلك هي — على وجه الدقة — روعة هذه السيرة وإعجازها؛ فقد جمعت أكثر الخصائص العربية في بطولة الفرسان، ثم ميزت بين البطولة التي تعتمد على الخوارق الجسدية أو العقلية مهما كان الهدف ساميًا وراء هذه البطولة، وبين البطولة التي تعتمد على الحق لمجرد كونه حقًّا، لا لأن صاحبه قد أوتي موهبةً عضلية خارقة لنواميس الطب أو موهبةً عقلية خارقة لنواميس الذكاء البشري، أو أنه أوتي معونةً حاسمة من القوى الغيبية العليا، وإنما أوتي حمزة البهلوان موهبة الحق المطلق، سواء تجسد عاطفيًّا في غرامه بالأميرة أو تجسد وطنيًّا في الدفاع عن مكة، ولا فرق بين الحق المطلق والخير المطلق، فحمزة هو رمز البطولة في مقاومة الباطل، ولا فرق بين الباطل والشر مهما تجسد في الحيلولة دون الوفاء بالوعد أو تجسد في القهر والغزو والحكم الأجنبي.
•••
لا ريب أننا نستطيع من خلال رحلتنا مع الملحمة الشعبية العربية في مختلف صورها ورموز بطولاتها ومضامين مقاومتها، أن نكتشف خيطًا واحدًا يضمها جميعًا من ناحية، وأن نكشف ملامح واضحةً للتطور من ملحمة إلى أخرى، من الناحية المقابلة. أما الخيط الواحد، فهو تعبير هذه الملاحم عن المجتمع العربي منذ الجاهلية إلى صدر الإسلام حتى أفول العصر المملوكي، وأن هذا التعبير يتخذ في معظمه مضمونًا ثوريًّا يقف إلى جانب الشعب في مواجهة القهر الأجنبي والاستبداد الداخلي على السواء. ويفسر لنا هذا التعبير السبب أو الأسباب التي دعت «الأرستقراطية الفكرية» في التاريخ القديم والحديث أن تتجاهل الأدب الشعبي، فقد كان موقفًا طبقيًّا واضحًا لا علاقة له بالعلم.
أما خريطة التطور التي ترسمها هذه الملاحم في حدود الإطار العام — الذي ينبض بروح الشعب العربي في مختلف الأمصار وعلى مر الأجيال — فهي أن مقاومة هذا الشعب للغزاة قد أثمرت بطولاتٍ لا حصر لها ولا عدد. ولكن البطولة العربية في الملحمة الشعبية اختلفَت من مرحلة إلى مرحلة، وانعكس هذا الاختلاف من ملحمة إلى ملحمة. وعبر جميع الملاحم التي وصلت إلينا كان هذا الاختلاف هو الصورة التفصيلية لتطور معنى البطولة عند العرب ورمزها في مقاومة الغزو الخارجي. هذا المعنى الذي يعبر عن نفسه من ناحية الشكل في البطل الملحمي الذي يوجز في تكوينه الموضوعي كافة سمات الشعب النابع منه، ويحتفظ أيضًا بسماته الفردية المميزة. هو فرد يعبر عن جماعةٍ تعبيرًا ملحميًّا عن صراع الخير والشر، وليس بطلًا أسطوريًّا. ليس هو الجماعة وقد أذيب فيها وأذيبَت فيه وأمسَيا شيئًا واحدًا. وهو المعنى الذي يعبر عن نفسه من ناحية المضمون في تداخل البعد الاجتماعي مع البعد القومي تداخلًا يصعب في كثير من الأحيان التفريق بينهما. فقد تكون المقاومة الاجتماعية تمهيدًا لمقاومة القهر الأجنبي، وقد تكون مقاومة هذا القهر هي أيضًا مقاومة اجتماعية. وإذا كانت الملاحم الشعبية العربية قد اشتملَت على بعض الأبعاد الإنسانية العامة كالدعوة ضد التفرقة العنصرية ومساواة المرأة بالرجل، أو كالاستشهاد في سبيل المعرفة، فإن هذا الوجه الإنساني ليس هو كل شيء في الملحمة العربية ولا هو الشيء الرئيسي، لأن الأصالة القومية هي المهاد التاريخي لنشأة هذه الملاحم، هي صوت الضمير العربي الكامن في روحنا وأرضنا يخاطب العصور والأجيال.