بطل المقاومة في الرواية المصرية
بالرغم من كافة الاجتهادات التي يبذلها بعض باحثينا من مؤرخي الأدب وينتهون فيها إلى إثبات شرعية النسب بين الرواية المصرية الحديثة والتراث العربي القديم، فإن العلاقة بين الفن الروائي في بلادنا والرواية الأوروبية ستظل هي المحور الرئيسي لأية نتائج علمية ينتهي إليها البحث الموضوعي المجرد؛ ذلك أن امتداد «الحس القصصي» من التراث إلى الروائي المصري المعاصر، لا يعني بأية حال أن الرواية المصرية هي ابنة هذا التراث. ولا شك أننا نجد في الملاحم الشعبية والمقامات والحكايات والحواديت والفوازير والنوادر رصيدًا من «الوجدان القصصي»، تمامًا كما نجد في الأراجوز والسامر وخيال الظل والبابات الشعبية، رصيدًا من الحس الدرامي. ولكن هذا الرصيد أو ذاك لم يخلق الرواية المصرية أو المسرح المصري، وإن تسرب جزئيًّا في تضاعيف العمل الفني، وانعكس بصورةٍ أو بأخرى على «روح البناء» الذي يصوغه الفنان وفق أشكال حديثة نقلها — بغير شكٍّ أيضًا — عن الآداب الأوروبية التي أتيح لها — بفاعلية العوامل الحضارية وتسلسلها التاريخي — أن تسبقنا إلى إبداع هذه الأشكال. ولكن الرواية المصرية ليست مجرد قالب فني مستورد، وإنما هي ثمرة تفاعل هذا القالب مع التجربة المحلية الأصيلة والمضمون المصري الأصيل. ولقد كانت التجربة الرئيسية في حياة المصريين عند بدايات هذا القرن هي تجربة الثورة على الاستعمار البريطاني الذي وطئ أرضنا في أواخر القرن الماضي على إثر الهزيمة التي منيت بها الثورة العرابية. وهكذا تفتحت البراعم الأولى للرواية المصرية، والمجتمع الذي حاولت أن تصوغه ينتفض قلبه بنبضات المقاومة، سواء عبرت هذه المقاومة عن نفسها في صمتٍ مشوب بالتوتر هو إلى التحفز أقرب وإلى الانتظار أصدق، أو عبَّرَت عن نفسها في هباتٍ فردية متفرقة تجسد الكظم المحترق ونفاد الصبر أو عبَّرَت عن نفسها في حركاتٍ منظمة جسورة. وهو مناخ مختلف أشد الاختلاف عن المناخ الذي أنبت الرواية الأوروبية. مناخنا الوطني المناضل ضد القهر الأجنبي هو الأب الشرعي للرواية المصرية التي ولدت مع مجموعة التحديات التي واجهتنا عند أوائل هذا القرن، حيث كان المأزق التاريخي هو أننا لا نستطيع أن نرتفع إلى مستوى العصر إلا إذا أخذنا الكثير عن أوروبا، وأوروبا — في نفس الوقت — هي الحضارة القاهرة لإنساننا. وأقبلت الرواية المصرية ثمرة هذا الصراع، فأوجزت في شكلها إرادتنا في الارتفاع إلى مستوى العصر باستلهام القالب الأوروبي، وأوجزت في مضمونها مقاومتنا الضارية لعنصر القهر في الحضارة الأوروبية. وولدت الرواية المصرية وقد اشتملت بأصالتها ومعاصرتها معًا على سلاحٍ ثوري جديد في معركة الإنسان العربي في مصر، حيث واكبت بطولته في مقاومة الغزو الأجنبي، وأضحت من ثَم جزءًا لا ينفصل عن مسار «الثورة» في تاريخنا الحديث.
•••
وتعد قصة «عذراء دنشواي» التي كتبها محمود طاهر حقي عام ١٩٠٦م باكورة الإنتاج الوطني في الرواية المصرية. ولكم يغفل النقد في بلادنا هذه «البذور» التي أثمرت فيما بعد طليعة الرواية الوطنية على يدي توفيق الحكيم، وهي روايته «عودة الروح». إن «عذراء دنشواي» لا ترتفع إلى مستوى قصة الحكيم ولا إلى مستوى قصة «زينب» التي كتبها هيكل، ولكنها بالرغم من ذلك تحتل مركزًا هامًّا في تاريخنا الأدبي — أو ينبغي لها أن تكون كذلك — لأنها تحمل في تضاعيفها كافة سمات الجنين الذي تطور على مر السنين والأجيال، وأصبح الآن شيئًا عملاقًا في حياتنا الأدبية ندعوه بالرواية المصرية. والجنين الذي تطور خلال ستين عامًا قد أمد مختلف أطوار روايتنا المصرية بأصالة المنبت الأول والأرض التي زودته بقسماته الرئيسية. كانت مصر في ذلك الوقت البعيد قد عاشت تحت أقدام الاحتلال البريطاني حوالي ربع قرن ذاقت خلاله مر العذاب. وكان الأدب المصري ما يزال متأرجحًا بين النقل عن التراث أو النقل عن الغرب، أما إبداع التجربة المحلية فلم يكن أمره واضحًا ولا الطريق إليه. فالاقتباس والتمصير والتعريب بتصرف ومحاكاة الأقدمين، كلها كانت طرقًا مسدودة لا تؤدي بأية حال إلى «نقطة البدء» في خلق أدب مصري حديث وأقبلت. «عذراء دنشواي» — لا حديث عيسى بن هشام — كما درج القول عند مؤرخي الأدب في بلادنا — ترسم الخطوة الأولى في الطريق الطويل. لم يتأثر صاحبها بالمقامة العربية ولا بالملحمة الشعبية، ولم يقتبس من الرواية الغربية فيخلع عن شخصياتها وأحداثها الثياب الأوروبية ويلبسهم الثياب المصرية؛ بل حاول جاهدًا أن يختار في البداية تجربةً حقيقية رضعت من نيل مصر وتخلقت بطين أرضها، وحاول جاهدًا أن يصوغ هذه التجربة في كلمات منحوتة بعمق من واقعنا وتراكيب شكلتها حياتنا في سمرها وندبها، في حلوها ومرها على السواء.
والتجربة «الحقيقية» التي تبناها محمود طاهر حقي خامة فنية لقصته مأساة دنشواي التي سجلها قريبًا غاية القرب من «المادة التاريخية» التي تقول لنا إن بعض الضباط الإنجليز كانوا يصيدون الحمام فاعتدوا على بعض أهالي دنشواي ثم اشتعلت نيران معركة حامية بين الطرفين أسفرت عن مقتل ضابط إنجليزي وجراح لبقية زملائه، أما خسائر القرية فقد تمثلت في حريق هائل شب بجرن أحد الفلاحين ومصرع امرأته. وما إن طيرت الأنباء إلى اللورد كرومر حتى أمر بانعقاد «المحكمة المخصوصة» التي حكمت بإعدام مجموعة من الأهالي وسجن البعض الآخر وجلدهم. وتم تنفيذ الإعدام في نفس الساحة التي شهدت الموقعة بين الإنجليز والفلاحين على أرض دنشواي. هنا ينتهي التاريخ ويبدأ قلم الفنان في إعادة صياغته على نحوٍ جديد، فنحن نلتقي في البداية بفتاة قروية تدعى «ست الدار» تقع في هوى فلاح من سنها يدعي «محمد العبد» وكلاهما يناضل للزواج من الآخر قبل أن تنجح محاولات «أحمد زايد» في وابور الطحين لإغراء الفتاة بالزواج منه. وينتقل بنا الكاتب إلى تصوير حالة الفلاحين قبل قدوم الضباط الإنجليز لصيد الحمام؛ فقد تعودوا هذه الزيارة غير المرغوب فيها بين الحين والآخر فيفقدون حمامهم مصدر رزقهم، ولا يكلف العمدة خاطره برفع الأمر إلى أولي الأمر، وإنما هو دائم الوعود دون الوفاء بها، وهم على هذه الحال يفاجئهم الخبر بقدوم الضباط كالقدر الساخر من أحلامهم. وعلى الجانب الآخر نرافق خمسة من الضباط الإنجليز وهم يأملون في رحلة جميلة تنتهي بأكلة حمام شهية مصحوبة بالويسكي. ورافقهم في رحلتهم المترجم «عبد العال» وأحد العساكر المصريين، وما إن بدأت الرصاصات تتوالى من فوهات البنادق حتى بدأت أسراب الحمام تسقط بالجملة، ولم تتوقف القذائف عن الانطلاق حين شبت النيران بأحد الأجران فتجمهر الأهالي حول الضباط وتبادلوا الركل والضرب، إلى أن أسلم الإنجليز سلاحهم ورفعوا الراية البيضاء معلنين انتهاء المعركة والتسليم، ولكن بعد أن مات أحدهم متأثرًا بجراحه. ويعمد المؤلف إلى تصوير مجموعة من المفارقات، فالأهالي كانوا — قبل مجيء الضباط — أكثر ميلًا إلى المسالمة واليأس من المقاومة. وعندما وقعت الواقعة احتدم الغيظ في صدورهم واتقدت قلوبهم بالحقد وانفجرت أيديهم وأرجلهم بالثورة. ومن ناحية أخرى يصور لنا أحد الفلاحين وقد انحنى على الكابتن بول وهو بين الحياة والموت يسقيه بكلتا يديه من مياه الترعة المجاورة، ولفظ الضابط أنفاسه في اللحظة التي أقبلت فيها «القوة»، فحاول الفلاح أن يختفي حتى لا يسيئوا فهم موقفه الإنساني، ولكنه لم ينجُ من طعنة سونكي أردته قتيلًا. ومن المفارقات أيضًا ذلك المشهد الذي اختلى فيه الهلباوي بنفسه، وقد حاصره ضميره بين الانحياز لوطنه وأبناء وطنه — وحينئذٍ عليه أن يرفض منصب المدعي العام في المحكمة المخصوصة — وبين الخضوع لسلطات الاحتلال وتحقيق مآربهم في الثأر من أهل دنشواي، وحينئذٍ يزهو بالمنصب الجديد ويفخر بالبرقية التي وصلته من «أحد علماء الإنجليز» مهنئًا. وفي هذا الوقت كان الفلاحون حائرين من «المجهول» الذي ينتظرهم، بعضهم يطمع في العدل، والبعض الآخر ينطق بلسان الحاج عمران «فين العدل اللي في مصر؟ إذا كان فيه عدل — زي ما بتقول — كان تهجم على بلدك الإنجليز ويصطادوا حمامكم، ويموتوا نسوانكم، ويحرقوا جرنكم، كان العدل زمان يا ابني زمان.» ولعل مشهد المحاكمة هو أروع المشاهد الفنية في الرواية؛ فقد صور الكاتب «المظهر والجوهر» لهيئة المحكمة من الرئيس إلى الأعضاء إلى الشهود إلى المتهمين، فالمدعي العام يطلب نوعًا أجنبيًّا من الكولونيا ينقي هواء المحكمة من رائحة الفلاحين، والضباط الإنجليز ينتقون من يستحق شهادة «الإثبات» ممن لا تعجبهم وجوههم أو ممن تتوقف عندهم إشارة العضو الإنجليزي من فوق منصة القضاء. وحكمت المحكمة — بشهادة الشهود وتقنين القضاة وطلب المدعي العام ودفاع المحامي — بالإعدام والسجن والجلد. وكان مشهد الإعدام والجلد من أكثر المشاهد الفنية في الرواية إحكامًا؛ فقد تداخلت صورة المشنوق أو المجلود بصورة الجماهير الملتفة حول مكان المشنقة والجلد. بل إن الكاتب لا تفوته صورة كلب يدعى «سبع الليل يجري ويخبط رأسه في قوائم ذلك المستطيل المنكود». وتنتهي القصة وبطولتها معقودة لأهل دنشواي جميعًا لا زهران وحده الذي خُيل إلى الإنجليز أنه «رئيس العصابة»، ولا حسن محفوظ وحده الذي كاد له أحمد زايد عند الإنجليز لأنه حال بينه وبين الزواج من ابنته «ست الدار» التي بدأت بها القصة — وهي سعيدة بحبها — وانتهت بها وهي تنوح على أبيها الذي أعدموه أمامها. ويبدو غياب البطولة الفردية طبيعيًّا إلى حدٍّ كبير، لأن «البطل الفرد» لم يكن قد ولد حينذاك في أرض الواقع المصري بين هذه الفئات الشعبية التي عبَّرت عنها «عذراء دنشواي»؛ فقد كانت من الضعف بحيث لا تشكل حركةً منظمة يقودها «زعيم» أو «بطل». لهذا كانت «البطولة الجماعية» هي التعبير الفني الأمثل عن هذه الفترة. وقد أجاد الكاتب صياغة هذا الشكل «البدائي» من أشكال البطولة صياغةً «حدوتية» أقرب إلى «السامر» الذي يجمع أهل القرية في أمسياتٍ متفرقة. فالبطولة الجماعية هنا ليست بطولةً «منظمة» وإنما هي بطولة عفوية تتنسم عبيرها في تخلص عبد العال والعسكري المصري من الشهادة ضد أهل دنشواي، وتتنسم هذا العبير مرةً أخرى حين يفاجأ الفلاحون بأنفسهم يذودون عن قريتهم في دفاعٍ مستميت كان راقدًا مسترخيًا في أعماقهم، لم تحركه سوى هذه الهزة العنيفة التي أحدثها حريق الجرن وإصابة زوجة عبد النبي. والمؤلف — لكي يبرز بطولة الشعب حقًّا بالرغم من بدائيتها — يضع الخطوط السلبية، جنبًا إلى جنب مع الخطوط الإيجابية فلا ينسى سقوط الهلباوي في وهاد الخيانة من أجل «المجد الشخصي» ولا ينسى سقوط أحمد زايد في هاوية العمالة للإنجليز من أجل «الحقد الشخصي». وتبلغ موضوعية الكاتب درجةً عالية من الأهمية حين يصوغ شخصيات الضباط الإنجليز دون أن يقحم مشاعره الذاتية على كياناتهم الحقيقية، ففيهم من يرى «الحق» ويلوي عنقه تنفيذًا للأوامر، ومنهم من يتجاهل تمامًا هذه الأوامر، ومنهم من يصدر هذه الأوامر التي تجعل من المحاكمة «لعبةً ديمقراطية سخيفة» هدفها الوحيد هو إحكام حبل المشنقة حول أعناق أهل دنشواي. إن هذه القصة كانت تعبيرًا فنيًّا رائدًا عن حياة الفلاح المصري شكلًا ومضمونًا، فارتدت ثياب العامية المصرية في وقت كان يعتبر هذا «فعلًا فاضحًا» كشف فيه الكاتب «عورة» اللغة، ونحت شخصياته من قلب القرية النابض بآلامها وتعاستها وأحزانها، لم يصور الباشا أو العمدة، التقليديين وإنما اتجه مباشرةً إلى الممثلين الحقيقيين للقرية المصرية من فقرائها الكادحين، واختار بناءه الفني من جلسات السمر التي يتبادل فيها الفلاحون المشورة والهموم، والتقط تجربةً حية «نموذجية» من أعماق ضمير الشعب المصري هي تجربة نضاله الدامي ضد الاستعمار الأجنبي. هذه العوامل جميعها، تجعل من «عذراء دنشواي» بذرةً إيجابية متقدمة في تاريخ الرواية المصرية تحمل بين أحشائها مضمونًا ثوريًّا تشكل في صياغةٍ ساذجة حقًّا، ولكنها عبَّرت أصدق تعبير عن سذاجة «البطولة» الشعبية آنذاك، وهي البطولة الرامزة إلى أن المقاومة في صدور المصريين مرجلٌ يغلي في الأعماق تعلوها أحيانًا طبقات من الصدأ وما يشبه النسيان أو التخاذل إلى درجة اليأس. ولكن ما إن تتفجر الأرض بأزمة ضارية حتى ينفجر البركان المنزوي في مكان ما من الصدور لا يسمع بدويه ويكتوي بناره سوى الغزاة الفاتحين. إن البطل الشعبي في الملحمة العربية ليس له مكان في «عذراء دنشواي»، والبطل البرجوازي في القصة الأوروبية ليس له هو الآخر مكان لأن بداية القرن العشرين في تاريخنا المصري لم تكن بداية «الفروسية العربية» ولا «البطولة البرجوازية».
•••
وتعد ثورة ١٩١٩م من وجهة نظر الكثرة الغالبة من الدارسين لتاريخنا القومي، أول مظاهر المقاومة المصرية الفعالة بعد هزيمة الثورة العرابية التي عبَّرَت عن نفسها أدبيًّا في شعر الرائدَين محمود سامي البارودي وعبد الله النديم. وظل الشعر من أدوات التعبير الثوري عام ١٩١٩م، ولكن الثورة حققت تعبيرها الأدبي الأكثر قدرةً على احتواء أبعادها في فن الرواية، وذلك حين كتب توفيق الحكيم روايته الأولى «عودة الروح» عام ١٩٢٧م ونشرها عام ١٩٣٣م. ثم أتيح لهذه الثورة بعد ذلك أن يتناولها نجيب محفوظ في واحدة من أكبر أعماله هي رواية «بين القصرين».
وبالرغم من أن هاتين الروايتين كانتا تاليتين من حيث التاريخ الزمني لأحداث الثورة، إلا أنهما لم ينحوا في صياغتهما الفنية نحوًا تاريخيًّا يعتمد على التسجيل الوثائقي؛ بل اشتملت الأولى على نوع من التفكير الفلسفي، واشتملت الثانية على نوع من التفكير الاجتماعي.
ولا تستمد «عودة الروح» أهميتها، لمجرد كونها صدًى مركزًا للثورة، وإنما لكونها — وهي أولى الأعمال القريبة من التكامل في أدب الرواية المصرية الوليدة آنذاك — حملت دلالةً أخرى أكثر أهمية، وهي أن ميلاد الرواية كفنٍّ أدبي، اقترن في تاريخنا بميلاد الطبقة المتوسطة وثورتها، فهي من هذه الزاوية «علامة طريق» في نهضتنا الحضارية الحديثة، وهي علامة تقول إن «المقاومة» للاستعمار الغربي من أكثر ملامح هذه النهضة بروزًا وجلاءً. و«يفلسف» توفيق الحكيم مضمون المقاومة المصرية فلا يراه مقصورًا على ثورة ١٩١٩م التي استلهم أحداثها في روايته؛ بل رآه عنصرًا أصيلًا في جوهر «الروح المصرية» منذ آلاف السنين، يغفو أحيانًا حتى ليبدو وكأنه قد مات، ثم يستيقظ فجأةً على نحوٍ يشبه المعجزة. ويخيل إلي أن توفيق الحكيم كان واقعًا حينذاك تحت تأثير التيار الذي استقطب جزءًا لا يُستهان به من حركة الفكر المصري الحديث في أوائل هذا القرن، وهو التيار القائل بأن الحضارة المصرية القديمة بكل ما تشتمل عليه من قيم تملك خاصية الاستمرار، حتى إن ينبوع الإنسان الفرعوني ما يزال يصب في وجدان الإنسان المصري المعاصر بغير وعي منه. وقد نشأ هذا التيار أول الأمر كرد فعل رومانسي على طغيان المد الاستعماري من ناحية، وهيمنة السلطنة العثمانية من ناحيةٍ أخرى. برز التيار يستوحي أمجاد الماضي القديم في مواجهة الحاضر المستباح، تارةً باسم الحضارة والمدنية والنور القادم من أوروبا، وتارةً باسم الدين والتراث ومقدسات الخليفة والوالي التركي. وظهرت الفكرة المصرية في بدايتها كمحاولة من جانب الطبقة المتوسطة البازغة «للاستقلال» عن القوَّتين الرئيسيتين. ولما كانت بحكم نشأتها أسيرة الضعف والوهن فإنها اتجهت بعدسةٍ رومانتيكية إلى الماضي تستلهم قوتها الذاتية من أعماق التاريخ. وأقبلت «عودة الروح» أنضج تعبيرٍ فني عن هذه الفترة وذلك التيار الذي صاحبها.
ويكاد توفيق الحكيم أن يشطر روايته إلى نصفين، أحدهما هو الجزء المرئي للعين المجردة، والآخر هو الجزء الخفي، الراسخ، تحت السطح. أما الجزء الأول فيروي لنا قصة أسرة برجوازية جمعتها العاصمة ليدرس البعض ويعمل البعض الآخر. ويبرز من بينهم جميعًا الفتى الأصغر «محسن» الذي يقمع في هوى بنت الجيران «سنية». وبالرغم من الإيحاءات المتباينة للفتاة، التي يفهم منها أنها «تعلقهم» جميعًا برموش عينيها السوداوين الواسعتين، إلا أنها حين تختار فإنها تتجه إلى «الوارث الجميل» الذي يسكن نفس العمارة التي يقطن بها محسن وأعمامه. وإذا كانت القصة قد بدأت بهم جميعًا وهموهم على فراش المرض، فإنها تنتهي أيضًا على فراش أحد المستشفيات التابعة للمعتقل؛ ذلك أن مطاردة البوليس للمظاهرات التي اشتركت فيها مصر بأسرها، قادته إلى غرفة فوق سطح البيت اكتشف فيها كمياتٍ هائلة من المنشورات. هذا هو الوجه العلني للرواية، على أن الخاتمة التي أقبلت لاهثةً في صفحات معدودات هي التي أفصحت عن أن وجهًا آخر للرواية نستطيع أن نطالع قسماته عند القراءة الثانية. فالحكيم يقتطف من نشيد الموتى هذه العبارة التي يصدر بها الجزء الأول من روايته: «عندما يصير الزمن إلى خلود، سوف نراك من جديد، لأنك صائر إلى هناك، حيث الكل في واحد.» ثم يقتطف هذه العبارة ليصدر بها الجزء الثاني: «انهض! انهض يا أوزوريس، أنا ولدك حوريس، جئت أعيد إليك الحياة، لم يزل لك قلبك الحقيقي، قلبك الماضي.» وما دام الكاتب يصر على تثبيت هذا «النص» في أذهاننا، هكذا مرتين، فلا بد لنا من أن «ننبش» عن الأسباب التي دعته إلى ذلك من داخل الرواية نفسها، حينئذٍ سوف نقرأ من جديدٍ الحوار الطويل بين الأثري الفرنسي والمفتش الإنجليزي حول أصالة مصر، وعراقتها التي تمتد في جوف الزمن إلى ثمانية آلاف سنةٍ عمقًا وغورًا، وأن من سمات مصر الجوهرية أنها تنام كثيرًا حين لا تجد «المعبود» الذي يجسد يقظتها، فإذا ظهر هبَّت من رقدتها هبوبًا عاصفًا مدويًا من هوله لا تصدق أن مصر هي التي فجرت هذا البركان الخامد عبر السنين. ولكن، تلك هي مصر تغفو أحيانًا ولكنها لا تموت أبدًا، لا بد أن يُقبل اليوم الذي تشهد فيه العالم كله على عظمتها وقوتها الكامنة الراسبة في أعماق هذا «الفلاح» تطوي سرها عنه زمنًا طويلًا، حتى إذا عادت «الروح» وظهر المعبود أو الزعيم أو القائد، لم يعد هذا الفلاح كما تصوره «البدوي المغرور» في حواره الطويل مع محسن، يدَّعي الأصالة والعراقة وحده، وهو لا يدري أن منبت الأصالة هنا في وادي النيل، لأن «مصر أصل الحضارة». ويترجم الحكيم هذه العبارات التقريرية المباشرة في أحداث وشخصيات ومواقف، فيدعو هذه الأسرة المتحابة المتآلفة: «الشعب» الذي يجمعه القلب الواحد، سواء حين يمرض في مقدمة الرواية أو حين يجوع في بدايتها أو حين يحب «فتاة واحدة» في وسطها أو حين يعتقل في النهاية. وهم حين يقعون في هوى سنية، فيختلفون ويتقاربون، إنما يقعون في هوى «إيزيس» التي تراءت لمحسن في كتب التاريخ وكأنها بُعثت حيةً في شخص سنية. وإيزيس — أو سنية — هي مصر، ومصر هي الثورة. وتصبح كلمة «الشعب» التي يطلقها أفراد الأسرة على أنفسهم كنايةً عن الشعب الكبير، وتصبح كلمة «المعبود» كنايةً عن الزعيم الذي يجمع شمل مصر كلها قلبًا واحدًا في جحيم الثورة وجنتها معًا. أجل؛ فقد كانت سنية — أو إيزيس — مصدر عذاب «الشعب الصغير» ونعيمه في وقتٍ واحد. ولكي يدلل الحكيم على صدق «نظريته» فنيًّا، لجأ إلى «خداعنا» حتى قرب الصفحات الأخيرة، فلم يأتِ ذكر الثورة على شفة أو حدث أو موقف، وإنما هي انفجرت فجأةً لتبدو «كالمعجزة»، كالروح التي عادت إلى جسدٍ قارب الموت، كالبعث الذي يحل بعد عناء ويأس فينفث سره في الرماد ويحيله إلى حياةٍ نابضة. أي أن غياب «الثورة» عن أحداث الرواية كان غيابًا فنيًّا أو حيلةً بارعة قصد بها الكاتب أن تغيب عن مخيلتنا وذاكرتنا، دون أن تغيب عن أرض الواقع، فقد كانت غرفة السطح مخزنًا للمنشورات؛ ذلك أن غيابها عن المخيلة أو الذاكرة يعني أن بذرة الثورة في حالة كمون، فإذا «فوجئنا» في النهاية وبدت لنا الثورة وكأنها معجزة من السماء، أيقنا أنها ليست مفاجأةً إلا بالمعنى الفني ليحقق الفنان «فكرته» عن مصر والثورة. وهي الفكرة القائلة بأن «المقاومة» عنصر أصيل من العناصر المكونة لجوهر الشعب المصري و«روحه» التي تناضل في الخفاء وببطء ولكنها حين «تعود» من خفائها لا يلحق بمعدل سرعتها الزمان.
ونلتقي مع الوجه الآخر للرواية أيضًا، برمز البطولة فيها، فليس «البطل» في عودة الروح هو إحدى الشخصيات التي تعرفنا عليها مع محسن وأعمامه وإنما البطل هو «الوجه الغائب» الذي لا ندرك لحمه ودمه وعظمه بين الصفحات، ولكنه يتراءى لنا قرب النهاية وكأنه «الخيط الواحد» الذي يضم هذه الشخصيات جميعها، هذه الشرايين التي تصل بين الينبوع الأول «مصر» وتصب في القلب الواحد «الثورة». هو ذلك الرمز الذي تتجسد فيه فكرة «الكل في واحد» هو حوريس الذي يجيء ليعيد إلينا الحياة ما دام لنا «القلب الحقيقي» أو «القلب الماضي».
هل يعني ذلك — والإشارة الروائية ترمز إلى سعد زغلول — أن عودة الروح تؤرخ لميلاد البطولة الفردية في أدب المقاومة المصرية؟ كلا، فالفرد هنا ليس فردًا فحسب، إنه يرتفع إلى مستوى الرمز الشامل لمصر كلها والثورة كلها، هو يخلق بالضرورة نوعًا من «التمايز» عن المرحلة التي صورها محمود طاهر حقي، مرحلة البطولة الجماعية في شكلها البدائي؛ ذلك أن الطبقة المتوسطة الناشئة وثورتها هي الخامة التاريخية في عودة الروح، وبالتالي كانت فردية البطولة سمةً ناشئة ما تزال في مرحلتها الجنينية. ومن هنا كان التعميم الذي لجأ إليه الحكيم، فبالرغم من أن محسن وسنية أفراد متمايزون، إلا أن الفرد الأكبر أو المعبود بلغ من الشفافية درجة الرمز الذي تتجاوز بطولته مرحلة المقاومة في ثورة بعينها، إلى أن تمسي المقاومة جزءًا لا ينفصل عن بطولة مصر وثوريتها على مدى التاريخ.
•••
كانت ثورة ١٩١٩م هي المصدر الأول الذي أوحى إلى توفيق الحكيم بالفكرة الرئيسية في «عودة الروح» كما يعترف في كتابه «سجن العمر»؛ فقد بهرته الثورة وكان لا يزال صبيًّا صغيرًا، وإذا لم يكن قد اشترك في المظاهرات إلا أنه شارك بتأليف الأناشيد الوطنية التي يقول إنها لقيت صدًى وانتشارًا في ذلك الحين. ولكن الاشتراك في الثورة أو المشاركة في أحداثها لم تكن هي مصدر «الوحي» الذي ألهم الحكيم «عودة الروح» وإنما كانت «المفاجأة» — كما تصورها حينذاك — والشمول الذي كانت عليه الثورة هو الذي أيقظ فيه هذا المعنى الذي تضخم في وجدانه وذهنه ومخيلته حتى حوَّله عقله الخالق إلى «نظرية» في الثورة والحضارة والمقاومة. أما نجيب محفوظ، فالأمر يختلف معه اختلافًا كبيرًا. فرواية «بين القصرين» التي تصدرت في بعض أجزائها لعرض أحداث ثورة ١٩١٩م لا سبيل إلى تقييمها بمعزلٍ عن الجزءين المتممين لها «قصر الشوق» و«السكرية»؛ ذلك أن كاتب الثلاثية قد استهدف أن يحيط روائيًّا بالفترة الواقعة بين عامي ١٩١٧م و١٩٤٤م وهي مرحلة «المخاض» في التاريخ المصري الحديث حيث اختمرت بذور الثورة التي عبرت عن نفسها لأول مرة بصورةٍ ناجحة من بعض نواحيها عام ١٩١٩م وهي الصورة التي التقط أبعادها في «بين القصرين». وليست الثلاثية — مع ذلك — تسجيلًا وثائقيًّا أو مسحًا تاريخيًّا لتلك المرحلة الخطيرة في حياة مصر الحديثة. وإنما هي أقرب إلى أن تكون تجسيدًا فنيًّا لإحدى القضايا الفكرية الهامة التي طرحها النضال الثوري على مثقفينا في الأربعينيات من هذا القرن، وهي القضية التي تمد جذورها إلى تلك المهاد الأولى لثورة ١٩١٩م، حيث عاش «فهمي» رمز البطولة والمقاومة في «بين القصرين»، وهي القضية التي تطورت في الثلاثينيات على يدَي «كمال» رمز القلق العنيف والحيرة المدمرة في «قصر الشوق»، وهي القضية التي آلت إلى نهايتها مع «أحمد» و«عبد المنعم» في «السكرية». هي إذن قضية «الحرية» في مختلف مراحل تطورها ومستوياتها وأبعادها ومنابرها. وإذا نحن ركزنا الحديث هنا على «بين القصرين» لمعالجتها ثورة ١٩١٩م التي نتصدى لها بالبحث الآن، فإن هذا التركيز لا يتم بمعزل عن «الصورة الكاملة» لقضية الثورة عند نجيب محفوظ في ثلاثيته، وإنما نحن نجري هذا الفصل — المتعسف أحيانًا — حتى نضع أيدينا على معنى المقاومة ورمز البطولة من وجهة نظرٍ مغايرة لوجهة توفيق الحكيم في «عودة الروح» بالرغم من كل الأواصر والوشائج التي تصل بين العمل الرائد في «عودة الروح» وثلاثية نجيب محفوظ. فبينما يعمد توفيق الحكيم إلى «تنظير» الثورة وفلسفتها وفق فكرةٍ ميتافيزيقية تربط بين «المعبود» الذي يظهر و«الروح» التي تعود — وهذا هو المحور الفكري على طول الرواية وهو ينعكس كما لاحظنا على بنائها الفني — فإن نجيب محفوظ يتخذ لنفسه مسارًا آخر على طول الثلاثية؛ ذلك أنه يعامل «المادة التاريخية» كتجربة في المعمل بغير «فكرة مسبقة» سوى الخطوط العامة لتفكيره الاجتماعي، أي «منهجه» ورؤيته للأمور وتصوره الشامل لهذا الوجود، والمجتمع الذي يعيش فيه. أما التفاصيل النوعية الخاصة التي تواجهه بها المادة الروائية، فإنه يتعامل معها موضوعيًّا، بفرز عناصرها المستقلة وتصنيفها، ثم يتناولها بالتحليل «العلمي» المجرد، إلى أن يعالج تقييمها فنيًّا بمشرط العالم الذي «اكتشف» سر الشريحة التي أمامه، والفيلسوف الذي «نظم» عناصرها الجوهرية في بناءٍ نظري متسق، والفنان «الخالق» لكينونتها الجديدة، أي صياغتها الجمالية التي أعادت تكوينها على نسقٍ فريد مختلف عن حرفية الواقع وأرضه الخام. هذا المنهج في التعبير الفني «لا يصادر» التجربة الإنسانية بمقولاتٍ نظرية مسبقة، ولكنه «يعمم الخبرة البشرية» جماليًّا في صيغةٍ جديدة تجمع بين روح العلم والفلسفة والخلق. وتلك هي الإضافة الحقيقية لنجيب محفوظ التي تجعل من ثلاثيته مرحلةً جديدة في تاريخ الرواية المصرية بالرغم من كونها امتدادًا لواقعية الحكيم الرومانسية في «عودة الروح».
والمقاومة في «بين القصرين» هي العنصر الرئيسي الذي التقطه الفنان من بين ركام الأحداث المتفجرة بين عامي ١٩١٧م و١٩١۹م فالمادة التاريخية في هذه «التجربة» التي عاشها الشعب المصري آنذاك هي الحرب العالمية الأولى التي اشتعلت نيرانها، قبل ذلك التاريخ بثلاث سنوات، وهي أيضًا الاستعمار البريطاني الذي بلغت إقامته حتى ذلك الوقت خمسًا وثلاثين عامًا. ولعل هذه المفارقة التي تجعل من الإنجليز طرفًا هامًّا في الصراع العالمي الدائر خلال الحرب مع الألمان، وطرفًا هامًّا كذلك في الصراع المحلي ضد المصريين. هي التي أثمرت ذلك «المركب الفني» حيث تبدأ الرواية بأسرة تنتمي في جملتها إلى الحزب الوطني والخديوي المنفي، وهي تجد في هذا الانتماء «خلاصًا» روحيًّا ووطنيًّا؛ فقد كان الإنجليز على خلافٍ مع الباب العالي، وكانت الدعاية الألمانية تمجِّد الإسلام. وهكذا يحدد الكاتب زمن روايته بالحرب التي تطحن العالم منذ ثلاثة أعوام، والجنود الذين يسلبون الناس متاعهم جهارًا ويتسلون بصب ألوان الاعتداء والإهانة بغير رادع. بل يصل الكاتب في تحديده للزمن الروائي درجةً من الدقة تجعل من وفاة السلطان حسين «بالأمس» واعتلاء أحمد فؤاد العرش «اليوم» تاريخًا لبداية الأحداث. أي أن الإطار الزمني في «بين القصرين» يبدأ من العام إلى الخاص إلى الأكثر خصوصيةً حتى يصل إلى الضابط العاشق الذي وقع في هوى الابنة الصغرى لأحمد عبد الجواد وكان يرفع عينيه في حذر إلى النافذة دون أن يرفع رأسه «فلم يكن أحد يرفع رأسه في مصر وقتذاك» كما يقول نجيب محفوظ. وتلك هي بداية المشهد الاستعماري في الرواية، يقابلها وجهًا لوجهٍ «المشهد الوطني» حيث يصور الفنان مواقف الشخصيات من خلالهما معًا، في صراعها مع بعضها البعض، ثم في صراعها الوطني ضد الاستعمار من ناحيةٍ أخرى؛ ذلك أن الكاتب آثر اختيار شخصياته بموضوعيةٍ صارمة تضفي على تكوينها نوعًا من «التركيب»، فهي ليست مجرد أبواق للثورة والوطنية وإنما هي «بشر» من لحم ودم، وهي تنتمي إلى طبقةٍ اجتماعية لها مصالحها الخاصة، وهي إحدى فئات هذه الطبقة لها منسوبها الثقافي الخاص ووعيها المحدد وأسلوبها في الحياة ومستواها المعيشي، إلى غير ذلك من عوامل «الحركة» التي توجه نشاطها العام، وضمن عناصره الحيوية نشاطها الوطني وموقفها السياسي ومنهجها في التفكير الاجتماعي. وبالرغم من تركيز الفنان — طوال المرحلة التي عالجها في الثلاثية — على التكوين «الطبقي» للبرجوازية الصغيرة، فإنه لا يغفل التركيز بنفس الدرجة على «فردية» النماذج البشرية حتى يبرر صراعها بتباين تكويناتها الذاتية، ثم يوحد موقفها الاجتماعي حين يتهدد الطبقة ككل خطرٌ داهم، لهذا السبب يزاوج بين اختيار اللحظات العادية في حياة الإنسان اليومية، واللحظات الحرجة في تاريخ الأمة بأسْرها، جنبًا إلى جنب، حتى يفصح عن عوامل الفرقة بين الأفراد، وعوامل الوحدة في الطبقة، وكذلك الأمر بالنسبة للصورة الشاملة لمصر، فهناك لحظات الصراع بين الطبقات المختلفة، وهناك لحظات الوحدة القومية. ولا يطبق مؤلف «بين القصرين» هذا المنهج تطبيقًا آليًّا جامدًا، فلربما تتوحد مواقف الأفراد في حياتهم اليومية، ولربما تختلف مواقف الطبقات في اللحظات الحرجة من تاريخ الوطن، أي أن ظاهرة «الاستقطاب» ظاهرةٌ محتملة الوقوع، كظاهرة «التنوع» بغير حتميةٍ ميكانيكية تحيل الوجود إلى معادلةٍ رياضية. هكذا نستقبل شخصيات بين القصرين: أحمد عبد الجواد وأمينة وياسين وخديجة وفهمي وعائشة وكمال والشيخ متولي عبد الصمد.
أمينة — في الجزء الأول من الرواية — تصلي إلى الله أن يخرج الإنجليز من أرض مصر «إكرامًا لفهمي الذي لا يحبهم»، وكانت هذه الأم الطيبة قد ألمت — عن أبيها الشيخ وابنها الأصغر — بما يقال عن مصطفى كامل ومحمد فريد فأخلصت في عاطفتها نحوهما إخلاصها للخلافة وأفندينا المبعد، حتى رفعت منزلتهم إلى مرتبة الأولياء، وناقشَت الأم — في صلب الرواية — ابنها فهمي عما يمكن أن يئول إليه موقف سعد زغلول بعد أن لقي عرابي من الإنجليز ما لاقاه. وهي ترى — قرب النهاية — أن «سعد» رجل سعيد الحظ؛ فقد نصره الله على الإنجليز، والله لا ينصر إلا المؤمنين. ولكن هذا لا يمنع أن السماء كانت أقرب إلى فهمي من إقناع هذه الأم الطيبة «بأن تعريض نفسه للخطر في سبيل الوطن واجب»، ولم تشفع توسلاتها الباكية في إثناء فهمي عن القول: «إذا لم نقابل الإرهاب بالغضب الذي يستحقه فلا عاش الوطن بعد اليوم.» وهناك أيضًا أحمد عبد الجواد الأب المستبد، ونحن نلتقي به في منتصف الرواية يوقع على التوكيل الوطني الذي أنابت به الأمة المصرية أعضاء الوفد المصري للتفاوض مع الإنجليز بشأن الاستقلال، فأمسك بالقلم في سرور تجلى في تألق عينيه وهو يقول مبتهجًا: «المسألة جد فيما يبدو.» وعن حركة سعد الأخيرة يقول إنها «خليقة بأن تحله من القلوب في أعز مكان»، وغلبته روح الدعابة فهمس في أذن صاحبه: «كأني لشدة سروري بهذا التوكيل الوطني ثمِل يعل الكأس الثامنة بين فخذي زبيدة.» ولكنه — فيما يقول الكاتب — قنع دائمًا وطنيته بالعاطفة السخية والتبرع السخي بالمال «دون الإقدام على عمل يغير وجه الحياة الذي أنِس إليه فلا يرضى عنه بديلًا»؛ فقد اتسع فؤاده إلى جانب الغرام والشراب والطرب لعاطفةٍ قومية أصيلة نشأت مع صباه فيما تلقته أذناه من أحاديث البطولة التي رواها السلف عن عرابي. ولكنه اكتشف فهمي ذات يوم، هو ابنه حقًّا، ولكنه لم يدرِ أن البطولة بذرة كامنة فيه «مصيبة يجب أن نجد لها علاجًا». طالما ملأته الإضرابات والمعارك أملًا وإعجابًا «ولكن الأمر يختلف كل الاختلاف إذا صدر عمل من هذه الأعمال عن أحد أبنائه». إنه يترحم ليل نهار على الشهداء «ولكنه لن يسمح لابن من أبنائه أن ينضم إلى الشهداء». ويسخر الكاتب من تصور أحمد عبد الجواد وخياله السلمي، فيلقي به بين براثن الإنجليز أثناء عودته إلى المنزل في منتصف الليل حين أخذوا يجمعون الرجال لردم حفرةٍ أعدها بعض الثوار كمينًا لجنودهم، وتقتحم الخواطر رأس عبد الجواد الأب المستبد وهو يردد في صمت: «سأذكر هذه الساعة الرهيبة مدى العمر إن كان في العمر بقية. الرصاص، المشنقة، دنشواي.» ولا تكتمل شخصية عبد الجواد الأب إلا بشخصية أخرى على جانبٍ كبير من الأهمية هي شخصية الشيخ متولي عبد الصمد، الذي يسأل الله أن يعيد أفندينا عباس مؤيَّدًا بجيش الخليفة، وأن يمنى الإنجليز بهزيمةٍ منكرة فلا تقوم لهم بعدُ قائمة، ولكنه يستبعد خروج الإنجليز من مصر دون قتال، ويستنكر في نفس الوقت أن يشترك فهمي في القتال إذا نشب لأنه لا يدري ماذا فعلوا بالعزيزية والبدرشين، وينصح عبد الجواد أن يبعد ابنه عن طريق الإنجليز، فالله وحده قادر على إهلاكهم «كما أهلك الذين من قبلهم ممن شقُّوا عصا طاعته».
يلي الأب والأم — من زاوية الأهمية الروائية — موقف الإخوة والأخوات إزاء المشهد الاستعماري والمشهد الوطني. وكان ياسين — الأخ الأكبر — كبقية أفراد الأسرة يتمنى أن ينتصر الألمان على الإنجليز حتى يتخلصوا من كابوسهم، وتعود الخلافة إلى سابق عزتها، ويعود عباس ومحمد فريد إلى الوطن. وقد عطف ياسين على آمال أخيه فهمي في هدوء يتسم بقلة الاكتراث. على أن خديجة — الأخت الكبرى — كانت تمثل نشازًا واضحًا في الأسرة بقولها: «لماذا تحبون الألمان وهم الذين أرسلوا زبلن ليلقي بقنابله علينا؟» وقد تأثر ياسين غاية التأثر حين قرأ أحد المنشورات التي يقوم فهمي بتوزيعها، وهو الوحيد الذي لم يفاجأ بتحركات فهمي، بل قال له: «كأنك كنت تترصد طول حياتك لمثل هذه الحركة كي تلقي إليها بكل قلبك.» وإن لم يخفِ شعوره بالانزعاج من هذا الشر الذي يحيق بفهمي، خاصةً بعد استقالة الوزارة وتحرش الأحكام العرفية. وراح الأخَوان يتحدثان ذات يوم عن الأنباء المثيرة التي تناقلتها الألسنة عن الثورة المستعرة في جنبات الوادي من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه:
«– هذه هي الثورة حقًّا، فليقتلوا ما شاءت لهم وحشيتهم، فلن يزيدنا الموت إلا حياة.
فقال ياسين وهو يهز رأسه عجبًا: ما كنت أتصور أن في شعبنا هذه الروح المكافحة.
فقال فهمي وكأنه نسي كيف أشفى على اليأس قبيل شبوب الثورة حتى فاجأته بزلزالها: بل إنه ممتلئ بروح الكفاح الخالد التي تشتعل في جسده من أسوان إلى البحر الأبيض، استثارها الإنجليز حتى ثارت، ولن تخمد إلى الأبد.
فقال ياسين وعلى شفتيه ابتسامة: حتى النساء خرجن في مظاهرة.»
أما كمال الأخ الأصغر، فقد ترك خياله يهفو إلى أولئك المضربين — من التلاميذ الكبار — بدهشة واستطلاع أضفى عليهم سمت البطولة، وود من أعماقه أن يشاركهم معاركهم الدامية، أجل لقد صادفت عيناه بعض هذه المعارك، ورأى الإنجليز وهم يصوبون مدافعهم الرشاشة إلى صدور الشباب والشيوخ والصبية من أمثاله، ورأى بقع الدم تتناثر في الطرقات، ورأى فهمي في إحدى المظاهرات. وقد عسكر الإنجليز أمام البيت أيامًا طويلة، فكان يمثل على السطح — بنوى البلح — فريقين من المصريين والإنجليز ويدير بينهما صراعًا عاتيًا ينتهي — بعد معاناة وسقوط الشهداء — بانتصار مصر وخروج الإنجليز، بالرغم من الحلوى التي كان الجنود يهدونها له في الذهاب والإياب. وحين توطدت بينه وبينهم العلاقة جرؤ على أن يسأل أحدهم أن يعيدوا سعد زغلول من منفاه، فأمسك الجندي بأذنه وقال له: «سعد باشا نو.»
ويبدأ المشهد الوطني في «بين القصرين» بالنبأ الذي ذاع في أنحاء البلاد، وهو أن وفدًا مصريًّا مكونًا من سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلى شعراوي، توجَّه إلى دار الحماية وقابل نائب الملك للمطالبة برفع الحماية وإعلان الاستقلال «أغني إخراج الإنجليز من مصر أو الجلاء كما عبر عنه مصطفى كامل ودعا إليه»، هكذا قال فهمي بلهجةٍ عصبية. واندلعت الثورة حين خرجت المظاهرات تحمل شعارات الجلاء، واصطدمت بقوات الاحتلال صدامًا دمويًّا، وأوقفت الإضرابات الحياة العامة في البلاد توقفًا تامًّا. كان الإنجليز قد بالغوا في العدوان على الأهالي العزَّل فأضرموا النار في بلدتين وتحرشوا بالرجال وهتكوا أعراض النساء، ودب الفزع في قلوب أبناء المنطقة المحيطة بالبلدتين اللتين استحالتا شعلةً من النيران. وتحتل شخصية فهمي — الابن الأوسط لأحمد عبد الجواد — مكانًا بارزًا بين المشهد الاستعماري والمشهد الوطني. لشد ما أثارت الأحاديث الوطنية أكبر الأحلام في نفسه «في دنياها الساحرة تتراءى لعينيه دنيا جديدة ووطن جديد وبيت جديد وأهل جدد»، وحين تساءل ياسين عما يستطيع سعد وصحبه أن يفعلوه، لم يكن يدري الجواب «ولكنه يشعر بكل ما في قلبه من قوة بأن ثمة ما يجب عمله، ربما لم يجده ماثلًا في عالم الواقع، ولكنه يشعر به كامنًا في قلبه ودمه، فما أجدره أن يبرز إلى ضوء الحياة والواقع، أو فلتمضِ الحياة عبثًا من العبث وباطلًا من الأباطيل». وتمثل فهمي في صمت معاناته المريرة في الحياة بين جدران بيت يواصل حياته المعهودة كأن شيئًا لم يحدث «كأن مصر لم تنقلب رأسًا على عقب»، ولو أن الانفجار الرهيب لم يقع لمات غمًّا وكمدًا، وهو لا يذكر كيف حدث ذلك بالضبط؟ كان راكبًا ترام الجيزة في طريقه إلى مدرسة الحقوق، فوجد نفسه وسط جماعة من الطلبة تناقش الحدث الجلل؛ فقد نُفِي سعد اللسان المعبر عن آلام هذه الأمة وإرادتها في الخلاص. ونادى أحدهم بالإضراب فاتقد القلب اليائس بالحماس وتوهج حين هتف مع الهاتفين «لتسقط الحماية»، «يحيا الاستقلال»، «عاش سعد»، وتجمهر الطلبة في مظاهرة مدوية ضمت الكليات الأخرى وتصدى البوليس للمظاهرة واعتقل بعض الطلبة ونجا هو بجهد جهيد. وأقبل اليوم الثاني فاحتشد الأهالي بطلبة المدارس والجامعة «وبُعِثَت مصر بلدًا جديدًا وألقى هو بنفسه بين الجموع في نشوة فرح وحماس كأنه تائه ضال عثر على أهله بعد فراق طويل»، وما لبث الإنجليز أن تصدوا برصاصهم فسقط الشهداء وألهبت دماؤهم نيران الحقد على الاحتلال فأضربت بقية طوائف الشعب، وتمتم فهمي وهو يزيح الغطاء عن صدره ويجلس فوق الفراش: «سيان أن أحيا أو أن أموت، الإيمان أقوى من الموت، والموت أشرف من الذل، فهنيئًا لنا الأمل الذي هانت إلى جانبه الحياة، أهلًا بصباح جديد من الحرية، وليقضِ الله بما هو قاض.» وأقبل الامتحان العسير، لا عندما انهالت رصاصات الإنجليز على رءوس المتظاهرين، بل عندما وقف أمام الأب المستبد يطلب إليه أن يقسم بالقرآن أن يترك «الجهاد»، فكانت المرة الأولى في حياته، وحياة أسرة عبد الجواد كلها، أن يرفض لأبيه طلبًا ويأبى الخضوع لرأيه. كانت صدمة عبد الجواد مروعة؛ فقد سمع بأذنيه من يشير إلى فهمي قائلًا في المسجد أمام المصلين جميعًا: «هذا الشاب من الأصدقاء المجاهدين، كلانا يعمل في لجنةٍ واحدة.» يومها دخل مع ابنه في لحاجٍ شديد خر بعده منهارًا لا يقوى على الحياة وقد عاش ليرى ابنًا من أبنائه يخرج على إرادته. ويستمع إلى فهمي بقلبٍ ملتاع وهو يردد: «إن الجنازات تشيع بالعشرات ولا هتاف فيها إلا للوطن، حتى أهل الضحايا يهتفون ولا يبكون، فما حياتي؟»
ثم جرى النبأ العظيم بالإفراج عن سعد، وأن الإنجليز يجمعون حشودهم المعسكرة تأهبًا للرحيل إلى العباسية، فاشتعل الحماس ورفعت الأعلام ووزع الشربات، وعلق أحمد عبد الجواد صورة سعد تحت البسملة وقال باستهانة: «مضى عهد الخوف والدماء إلى غير رجعة. إن المظاهرات تمر تحت أعين الإنجليز دون أن يتعرضوا لها بسوء.» وقال فهمي الذي بدا في فرح الأطفال إنه لو لم يسلم الإنجليز بمطالبنا لما أفرجوا عن سعد «ومهما يكن من أمر فسيبقى يوم ٧ أبريل سنة ١٩١٩م رمزًا لانتصار الثورة» واعترف لأمه بكل شيء، باشتراكه في لجنة الطلبة وتوزيع المنشورات وتنظيم المظاهرات وتشجيع الإضرابات. وغادر البيت إلى الأزهر حيث اجتمع بزملائه للنظر في ترتيب المظاهرة السلمية الكبرى التي سمحت بها السلطات ليعرب بها الشعب عن ابتهاجه. غير أن شخصية فهمي كما رسمها نجيب محفوظ، ليست شخصيةً مسطحة، فهو لم يخلُ في جهاده من «تعاسة خفية لم يعلم بها أحد سواه»، مصدرها إيمانه بأنه دون الآخرين جرأةً وإقدامًا «كانت أعمال البطولة تتراءى لعينيه رائعة باهرة تخطف الأبصار، وطالما أنصت إلى نداء باطني يهيب به إلى الإقدام والتأسي بالأبطال، ولكن كانت تخذله أعصابه في اللحظة الحاسمة، فما تنحسر موجة المعركة حتى يجد نفسه في المؤخرة.» وهكذا ينجو مما تعرض له الآلاف كالسجن أو الضرب فضلًا عن الموت، ونفض عن قلبه هذا الألم الممض الذي يخزه بين الحين والحين؛ إذ وجد نفسه في خضم المظاهرة الكبرى مندوبًا عن اللجنة العليا للطلبة، وتألق جبينه مرةً أخرى بأهازيج الثورة وأناشيد النصر وهذه العيون التي تلتمع بنشوة المقاومة البطولية العميقة الجذور في أغوار النفس المصرية، النفس التي توزعت الآن تحت العمائم والطرابيش والرءوس العارية من طلبة وعمال وموظفين وشيوخ وقساوسة وقضاة وغيرهم ممن احتشدت بهم ميادين القاهرة وشوارعها قبل أن يعكر صفوها هذا الصوت الذي لا يصدقه عقل، صوت طلقات نارية، رصاص الغدر البريطاني الذي صرح بالمظاهرة ثم فرقها بالسلاح، وكأن الاستعمار لم يحتمل هذا المشهد التاريخي العظيم فأراد أن يقلل من جلاله بهذه الدماء التي تفجرت من الصدور وهذه الجثث التي استشهد أصحابها على غير موعد مع الموت. وليس قدرًا أن يموت فهمي مع الذين ماتوا ذلك اليوم، ليست مفارقةً أن يموت في مظاهرة سلمية؛ فقد أراد الكاتب — مع كلمة النهاية — أن يقول شيئًا هامًّا هو أن المعركة مع الاستعمار لم تنتهِ يومذاك، وأن البطولة ليست مقصورة على الذين استشهدوا في ساحات المقاومة المسلحة، وإنما هي تمتد إلى الذين يعيشون حياتهم بعد النصر وفي دمائهم تحيا المقاومة حتى إذا غدرت بهم قوى الشر أحرزوا بطولة الاستشهاد في ساحة السلم كما أحرزها ممن سبقوهم في ميدان الحرب. وبموت فهمي تموت التعاسة الخفية التي لم يعلم بها أحد سواه، تعاسة البطل الرومانسي الذي يعلن بموته ميلاد البطولة الفردية، بطولة البرجوازي الصغير في العشرينيات من هذا القرن جنبًا إلى جنب مع بطولة المجتمع في مرحلة جديدة من مراحل تطوره.
•••
تكاد الرواية التي كتبها إحسان عبد القدوس حوالي عام ١٩٥٦م تحت عنوان «في بيتنا رجل» أن تكون الرواية المصرية الوحيدة التي اكتملت فيها صورة «البطل الوطني» وما ترمز إليه بطولته من أفكار وأعمال «وطنية»، فلقد تخلصت الرواية من أية أبعاد اجتماعية أو إنسانية، واقتصر مسرح أحداثها على «البعد القومي» وحده، فكانت القضية التي تواجه مصر كلها خلال السنوات العشر السابقة على ثورة يوليو عام ١٩٥٢م هي أنه لا بد من ثورة شاملة تطرد الإنجليز من أرض مصر وتنقي هواءها من أنفاس عملائهم. ولم تتبلور فكرة الثورة — بهذا المعنى — في خطوة واحدة، بل تبلورت عبر مراحل مختلفة من الصراع بين الشعب والمستعمر عرف الكفاح الوطني خلالها رموزًا مختلفة للبطولة. وقدم لنا إحسان عبد القدوس ما يمكن تسميته بالبطل الوطني الكامل، أي هذا الذي بدأ من نقطة الصفر أقرب إلى «المغامرين» وانتهى به الأمر إلى زمرة «المناضلين». وهو في جميع الأحوال لم يخرج عن كونه «بطلًا فردًا» تطور منهجه من أسلوب «الاغتيال الفردي» إلى أسلوب «الثورة المنظمة» في التنظيم الحزبي كشكل، والكفاح المسلح كمضمون.
وإبراهيم حمدي — بطل رواية «في بيتنا رجل» — كان من الممكن أن تلتقي به مرارًا بين أمواج طلبة الجامعة في الأربعينيات من هذا القرن، نموذج الشباب الذي تستهويه لعبة المسدس الخطرة حين تنجح رصاصاته في اختراق صدر جندي إنجليزي مخمور أو عميل مصري مأجور فيفرغها في هذا الصدر أو ذاك وهو يشعر في أعماقه بمرجل يغلي وقد نزعت عنه الغطاء فبدأت هذه الأعماق تبرد وصدره يتنفس. وهو قد يستمرئ اللعبة بمفرده وقد ينضم إليه شاب من أمثاله أو اثنان أو ثلاثة، ولكنه يرفض «التنظيم» أو الانتماء إلى حزب من الأحزاب بأية صورة من الصور. فهو يرى في جميع الأحزاب صورةً واحدة متكررة، هي في النهاية تسلم مصر للملك أو الاستعمار أو لحسابهم الشخصي في بنك السطوة والشهرة والنفوذ. ومصر وحدها هي الخاسرة، شعبها المسكين ما يزال راقدًا تحت رحمة الاحتلال يعاني الويلات في صبرٍ كظيم، يفرج عنه أحيانًا في مظاهرة أو إضراب، ولكنه ما يكاد يشعر بذاته حتى تتلقاه أحذية العملاء فيستكين في ضعف، وتخفت دقات قلبه حتى ليبدو وكأنه مات، إلى أن تتراكم الأبخرة النارية في البركان فيعاود انفجاره، ثم سكونه، ثم موته. هكذا في حلقةٍ مفرغة مضت مصر تدور حول نفسها وكأنها خلت من الرجال، فكان لا بد من أن يولد رجالها الذين يستهينون بالموت، ولتكن هذه صفتهم الوحيدة.
وتبدأ «في بيتنا رجل» منذ تلك اللحظة التي قرر فيها إبراهيم حمدي أن يهرب من حُرَّاسه في مستشفى القصر العيني بعد أن نُقل إليه من المعتقل على أثر سجنه على ذمة التحقيق في مصرع عبد الرحيم باشا شكري عميل الإنجليز. ولم يكن إبراهيم «يعتقد في نفسه أنه أجرأ من غيره من الشباب ولا أكثر منهم تطرفًا في وطنيته»، ومع هذا فقد تمكن من اغتيال الباشا الإنجليزي كرمز إلى إرادته في التخلص من أذناب المستعمر، حتى يصبح الخلاص من الاستعمار نفسه عملًا سهلًا؛ فقد تعوَّد أن «يغامر» فيما مضى ويقتل جنديًّا إنجليزيًّا عائدًا إلى معسكره أو خارجًا منه. ولكنه اصطدم ذات مرةٍ بعلامة استفهام كبيرة «ما جدوى هذه العمليات التي يقوم بها؟» إنها لن تخرج الإنجليز من مصر، ولن تجد صداها عند الناس. وهكذا وضع خطة اغتيال عبد الرحيم شكري ونفذها، فلا بد من القضاء على هذه الفئة الخائنة من زعماء مصر أولًا، فهم القيد الحقيقي على الحركة الوطنية يحول بينها وبين الانطلاق. وضجت مصر كلها للحادث الضخم «وعرف من خلال هذه الضجة أنه قد أصبح بطلًا»، هو حقًّا لم يأتِ شيئًا خارقًا فيما يعتقد، ولكن الناس هم الذين يكلفون أنفسهم بخلع البطولة على سلوكه. واهتدى تفكيره — إذا نجح في الهرب — أن يختفي في بيت أحد زملائه الطلبة غير المشتغلين بالسياسة، بيت محيي الشاب الخجول المنصرف إلى تحصيل العلم وحده. وهو نوع من الشباب لا يستطيع أن يكون بطلًا «ولكنه لا يرفض أن يساهم في بطولة، إذا ما اضطر للمساهمة فيها». ومحيي قد فوجئ تمامًا حين طرق إبراهيم بيته، ولكنه أحس بالفعل «أنه إنسان ليس جديرًا بالبطولة» عندما برر إبراهيم اختياره له بأن أحدًا لن يشك فيه. ولقد تململت أسرة محيي كلها من هذا الطارق الخطر، ولكن البنت الصغرى — نوال — نطقت بضمير هذه الأسرة حين قالت: «ده بطل، قتل واحد إنجليزي، ما قتلش علشان يسرق، ولا علشان مجرم، قتل علشان وطنه، زي العسكري ما يقتل عدوه في الحرب.» وكان من الطبيعي أن يتسلل الحب وئيدًا إلى قلب إبراهيم الذي لم يسبق له أن عمل حسابًا للبنات؛ فقد أغرته نوال بطيبتها وبراءتها ووطنيتها أن يتنازل عن موقفه غير المبرر من البنات، فبادلها هذه العاطفة الغريبة على نفسه، على مشاعره، على وجوده كله «بل هو يستطيع أن يتصور نفسه زوجًا لها» وبغير كلمة حب واحدة تفاهم القلبان النابضان بالحياة. و«غامرت» نوال واتخذت لنفسها دورًا في حياة إبراهيم «البطل»، لا في حياته العادية فحسب، ويسرت له وسيلة الهرب في بدلة ضابط وعربة عن طريق أحد زملائه في الكفاح. يسَّرَتها له بالرغم من كل الصعاب التي واجهته مع الأسرة خلال الأيام الأربعة التي قضاها في قلق عنيف. وكانت أخطر هذه الصعاب أن عبد الحميد — ابن عم محيي — اكتشف وجود «البطل» عندهم، وكان عبد الحميد مرفوضًا من الأسرة كزوج لسامية، كبرى الأختين، فهو لم يحصل على شهادة وتلاحقه السمعة السيئة أينما ذهب. وقد اكتشف عبد الحميد مع وجود إبراهيم حمدي — الهارب من البوليس، والذي تحذر الدولة من إيوائه بالسجن ثلاث سنوات وتغري على تسليمه بمكافأةٍ قدرها خمسة آلاف جنيه — اكتشف عبد الحميد مع هذه الحقيقة أنه يستطيع أن يتزوج من سامية بهذه «الورقة» التي رماها الحظ في طريقه، فهو يستطيع أن يبلغ عن إبراهيم ويقوم بتسليمه ويقبض المبلغ وتذهب أسرة عمه في داهية. ولكن «لا» إنه يفضل سامية على هذا كله. وقد تظاهرت الأسرة كلها بالموافقة على الزواج درءًا للخطر، ولكنه حين اكتشف الخدعة بخروج إبراهيم من البيت بعد أربعة أيام فقط — وكانوا قد قالوا له إنه سيبقى أسبوعين — جن جنونه وذهب إلى رئيس القلم ليخبره بكل شيء. ولكنه في اللحظة الحاسمة تراجع، ولم يجد مفرًّا من الكذب حتى ينجو عمه وابن عمه وضميره. ولكن القلم السياسي لم يكن ساذجًا، فراقب تحركات عبد الحميد واقتحم بيته في غيابه ثم اقتحم بيت عمه في حضوره. وعثر ضابط البوليس على مجموعة من القرائن التي تفيد أن «شيئًا ما» يربط يبين هؤلاء الناس وإبراهيم حمدي، ولكنه ليس شيئًا حاسمًا. وسيق محيي وعبد الحميد إلى سجن الأجانب، وأجريت معهم كافة عمليات التعذيب التقليدية والمستحدثة، ولكنهما لم يعترفا! لقد أحس محيي بأن شيئًا بين أضلعه — لا علاقة له بالوطنية — يمنعه من الاعتراف، بالرغم من هزاله الذي تدهور بصحته حتى أغمي عليه وظنوه قد مات وأحالوه إلى المستشفى. وعبد الحميد وجدها فرصة العمر ليثأر من كل ما هو سلبي في حياته فلم يعترف وقاد مختلف مظاهر التمرد في المعتقل، من الإضراب عن الطعام إلى تنظيم الاتصال بالخارج إلى إثارة الاحتكاك بالضباط والجنود. وكان السجن في حياة كل منهما نقطة تحول خطيرة من موقف المتفرج على الحياة والثورة والوطنية إلى موقف المشارك بحياته في الثورة والوطنية. وامتدت نقطة التحول إلى خارج الأسوار ومضت تسرع الخطى إلى بيت محيي، إلى والديه وأختيه، وأصبح الأب منفعلًا «بالسياسة» متمردًا على «الأوضاع» ولم تعد ذكريات ثورة ١٩١٩م التي عاصرها صبيًّا هي كل ما يشغل باله من الثورات؛ بل أصبح الآن له ابن معتقَل بتهمة الثورة الجديدة التي تجيش في صدور المصريين جميعًا. ووصلت نقطة التحول في امتدادها إلى إبراهيم حمدي نفسه في الأماكن العديدة التي أخفته عن أنظار البوليس. كان إبراهيم قد بدأ يشعر في الآونة الأخيرة أن اغتيال عبد الرحيم باشا شكري أو ضباط البوليس السياسي عملٌ لا قيمة له! ولأول مرة يتوهج عقل إبراهيم بنورٍ جديد، بدأ خافتًا في البداية ثم أضاء فجأةً كل خلايا مخه، وعرف أن «الأفراد»، سواء كانوا إنجليزًا مستعمرين أو مصريين عملاء للاستعمار إنما هم «أدوات» في «نظامٍ» أكبر منهم، نظام تتفاوت أنصبة كل منهم في إقامته والحرص على بقائه والعمل على حمايته، ولكنه نظام لا أمل في «إصلاحه» بترميم أجهزته واستبدال حكومةٍ بأخرى، بل لا بد من «تغييره» من الأساس. وقفزت الفرحة من عيني إبراهيم، وسرعان ما أطل مكانها نوع من التفكير الهادئ المنظم، فهذا التغيير لا يحدث إلا بثورة، والثورة لا تتم إلا بتنظيم، والتنظيم لا يتكون إلا بالإيمان والناس والسلاح. وتحول تفكير إبراهيم من البحث عن وسيلة للهرب «خارج» مصر إلى البحث عن وسائل للبقاء «داخل» مصر. هو يعلم أن مصر حبلى بالمنظمات السرية والأحزاب العلنية. وهو يعلم أن المصريين بالرغم من كل ما يبدو على أجفانهم المثقلة بالنعاس فإنهم عطاشى إلى هذه اللحظة التي «ينتهي» فيها كل شيء، و«تبدأ» منها كل الأشياء. لم تكن هناك صورة محددة للثورة في ذهنه، المهم أن تأتي، والتفاصيل فيما بعد. وانحرف به تفكيره إلى دوره هو في هذا الخضم الجديد الهائل الذي اقتحم وجوده دون سابق إنذار. وقرر لنفسه ولزملائه قرارًا لا رجعة فيه: دعوني أكن الطلقة الأولى في ثورة مصر. إنهم يصمتون عن مصرع جندي أو اغتيال عميل، ولكنهم لن يصمتوا عن تدمير معسكر بأكمله! يجب أن يبدأ «الكفاح المسلح» بالمشروعات الكبيرة المنظمة. حينذاك ستنفجر الثورة في مصر كلها، وسيعرف المصريون الطريق الوحيد إلى تحقيق الأمل، إلى تحقيق سيادتهم على أرضهم، ويكفيني أن أكون العلامة الدامية إلى هذا الطريق. وأحضر له زملاؤه القنابل والديناميت، ورافقوه إلى مكان الخطة. وبعد دقائق تم نسف المعسكر البريطاني في العباسية، وبعد دقائق أخرى كان إبراهيم حمدي جثةً هامدة هوت على الأرض وصاحبها يكاد يقبل التراب وهو يبتسم، كان يستطيع أن يستخدم مسدسه الكبير في الدفاع عن نفسه، ولكن اليد المصرية التي كانت تطارده سبقت يده وأردته شهيدًا ترسم دماؤه على الثرى كلماتٍ باقيةً في تاريخ ثورتنا. وشعر محيي في السجن «كأن إبراهيم لم يمت، ولن يموت، إنه يعيش دائمًا في صدره»، وإذا لم يكن قد اشترك في السجن في معركةٍ واحدة من معارك زملائه، فإن هذا لا يعني أنه كان بعيدًا عن أفكارٍ جديدة تتركز في كلمة «العنف»، ولكن العنف كان في رأسه «لقد أصبح يحمل فيها آراءً جديدة صائبة تصل إلى الهدف مباشرةً وتثير أمةً بأكملها». وقامت الثورة التي شاركت في صنعها الأجيال السابقة على ١٩٥٢م، وأحس محيي أنه اشترك في صنع البطل الجديد «أو ربما كان الأصح أنه اشترك في صنع البطولة، والبطولة ليست فردًا واحدًا يمكن أن يموت»، وإنما قوة لا يصنعها فرد «ولكن تصنعها أمه وتجسدها في فرد، فإذا استشهد هذا الفرد أو انحرف، جسدتها في فردٍ آخر، البطولة لا تموت أبدًا، ولا تنحرف أبدًا، ولم تمت بطولة إبراهيم ولا انحرفت، ولم تمت بطولة سعد زغلول، ولا مصطفى كامل ولا عرابي، لم تمت يومًا واحدًا، كانت بطولةً حيةً دائمًا، حيةً بحياة الشعب، تتجسد في الزعيم تلو الزعيم.»
والرواية على هذا النحو تكاد أن تقدم لنا «البطل الوطني الكامل» كما سبق أن قلت، فهو كالعادة ينتمي إلى إحدى فئات الطبقة الوسطى ولا تملأ رأسه سوى قيم هذه الطبقة ومبادئها وأفكارها، وهي قيم ومبادئ وأفكار مقهورة في ظل التحالف غير المقدس بين الاستعمار والإقطاع والرأسمالية الكبيرة، وهي لذلك قد تقترب من بعض الطبقات الأخرى الأكثر دنوًّا منها في السلم الاجتماعي حين يأتي ذكر العمال والفلاحين في سطر أو اثنين في الرواية، وإشارة إلى اللجنة الوطنية للطلبة والعمال، وإشارة أخرى إلى المنظمات الثورية السرية. ولكن «البطل» هو التجسيد الموضوعي الأمين لهذه الطبقة الوسطى المصرية في الأربعينيات من هذا القرن؛ فقد حمل إبراهيم حمدي صليب طبقته كاملًا، رفع عنها كل خطاياها فكان فردًا كامل الفردية. وتقترن بطولته بظاهرتين هامتين هما الزعامة والاستشهاد، فهو ليس مجرد بطل بين الأبطال، وإنما هو بطل الأبطال هو الزعيم. وهذا هو بالضبط الدور الذي أعدت الطبقة الوسطى نفسها للقيام به، ألا تكون مجرد شريك لبقية الطبقات في الكفاح الوطني؛ بل أن تكون قائدة هذا الكفاح وزعيمته. ولهذا لم ينتمِ إبراهيم حمدي إلى أية منظمة تحقق أهدافه. كان هدفه غاية في الوضوح: أن يجلو الإنجليز عن مصر. ومن هنا جاء ذكر العمال والفلاحين كعناصر يمكن الاستعانة بها في تحقيق هذا الهدف فحسب. أما ما تشتمل عليه هذه الطبقات من قيمٍ اجتماعية ومصالح أخرى بعد الاستقلال، فهذه كلها «أشياء» ليست في الخريطة التي رسمها بنفسه ولنفسه. وإبراهيم حمدي ليس زعيمًا فقط، وإنما هو شهيدٌ أيضًا. لقد مات دون أن يكون بطلًا تراجيديًّا أقبل موته نتيجةً حتمية لبذرةٍ سلبية في كيانه الذاتي الخاص، ومات أيضًا دون أن يكون بطلًا ملحميًّا يمثل الخير المطلق في صراعه ضد الشر المطلق وينتهي موته بانتصار الخير. كلا، لم يمُت إبراهيم حمدي بطلًا تراجيديًّا أو بطلًا ملحميًّا، وإنما مات بطلًا وطنيًّا ورمزًا باقيًا للثورة. فالثورة لم تنتهِ بموته لأن طبقته لم تنتهِ بنهايته. وهذه السمة أول ما تميز البطل الوطني؛ إنه فرد كامل الفردية حقًّا، ولكنه في فرديته المسرفة «يمثل» طبقةً كاملة و«يجسد» عمودها الفقري، أي أنه يستمد فرديته من عصارة القيم التي تشكل هي كيان الطبقة الوسطى. وهو «بطل» بقدر ما يمثل هذه الطبقة، وهو أن استشهاده تعبير حاد عما يصيب هذه الطبقة من نكسات وخسائر ومعاناة هائلة ضد القوى التي تصارعها. والطبقة الوسطى ليست خيرًا مطلقًا، والصراع الذي تتصدى لقيادته يستهدف اغتيال الشر المطلق لأن تكوينها الموضوعي يشتمل على نسبة من هذا الشر جنبًا إلى جنب مع نسبة الخير. والمعيار لخيرها وشرها ليس معيارًا ذاتيًّا محضًا، ولا موضوعيًّا محضًا. إنه معيارٌ مركَّب من الذات والموضوع، فالمجتمع من ناحيةٍ وما يناله على يديها من خير أو شر هو هذا المعيار، وتطورها النوعي المستقل من ناحيةٍ أخرى هو أيضًا هذا المعيار. وهذا هو التناقض الذي صوره إحسان عبد القدوس ببراعة في شخصية إبراهيم حمدي، فهو ليس تناقضًا ذاتيًّا يتصل بالنفس البشرية حتى يتحول بموته إلى البطولة التراجيدية، وإنما هو يحمل بين جنبيه التناقض الجوهري الأصيل في الطبقة التي يمثلها، فهو لا يمثل خيرًا مطلقًا فيموت في ساحة البطولة الملحمية. إنه بطل «وطني» يتصارع بين جنبيه الخير والشر المتولدان عن «تمثيله الموضوعي» للطبقة الوسطى، وليسا هما بالخير أو الشر بالمعنى الذاتي أو الروحي، إنهما ليسا «قدر» إبراهيم حمدي، بل هما قدر الطبقة المتوسطة المصرية، أن «تثور» وتتزعم «ثورات» الآخرين، وأن «تستشهد» وتفوز «بالبطولة» على الآخرين.
وقد صاغ إحسان هذه المعاني صياغةً تقترب من حافة القصة البوليسية، والرواية تغري كاتبها حقًّا بتتبع مطاردة رجال البوليس للبطل، كما أن طبيعة المجلة الأسبوعية — روز اليوسف — التي نشر فيها الرواية للمرة الأولى تغري من الناحية الصحفية البحتة أن يطيل الكاتب في المواضع التي تجذب فضول القارئ إلى الأعداد التالية. وقد نجم عن ذلك اتساع الحيز الذي استنفد الأيام الأربعة التي قضاها إبراهيم مختفيًا في بيت محيي، وضيق المساحة التي «تطور» فيها الجميع بما فيهم إبراهيم نفسه. إن تطور إبراهيم من أسلوب «المغامر» الوطني إلى مرحلة «البطولة» الوطنية كان يحتاج إلى الحيز الأكبر، حتى لا يتورط الكاتب في «تقرير» هذا التطور دون تصويره موضوعيًّا. لقد اكتفى بتصوير الجانب البوليسي تصويرًا يتسم بالمهارة، حتى إن الرواية — من هذه الزاوية وحدها — تعد من أخطر الوثائق الفنية التي سجلت أساليب القهر وأجهزة الأمن فيها قبل الثورة. وبينما كان من الممكن أن يتوقف الكاتب بروايته عند استشهاد إبراهيم والإفراج عن محيي، نراه يعقد فصلًا دعاه «الفصل بعد الأخير» يؤكد فيه أن الثورة قد قامت وتحقق حلم إبراهيم. وهو «مطبٌّ» فني بالغ السوء كنت أنزه كاتبًا بارعًا كإحسان عبد القدوس من أن يتردَّى فيه، وهو مطب شبيه بالكلمات التي سطرها قبل الصفحة الأولى من الرواية وأشار فيها إلى أن أحداث الرواية تدور قبل الثورة. إن هذه الإشارة وتلك الخاتمة من الأخطاء الفنية الفادحة التي «تعمد» الكاتب أن يقع فيها فيما يبدو حتى لا يثير حول الرواية غبارًا من سوء الفهم. ولكن الرواية — من داخلها — تحمل عن الكاتب هذا العناء، فالأسماء والشخصيات والمواقف والأحداث، جميعها تصرخ بأنها «قبل الثورة»، وهكذا تسقط أهمية الإشارة التي تصدرت الرواية. والرواية أيضًا — من داخلها — تؤكد أن أبطالًا جددًا قد احتلوا خشبة المسرح الوطني التي سقط فوقها إبراهيم شهيدًا، ومعنى ذلك أن الغليان مستمر والثورة «حتمية» الوقوع. ويكفي الفن أن يقوم بهذا الدور الطليعي، لا أن يتحول إلى دور المسجل الوثائقي الذي يختم الرواية بما يشبه نهايات الحواديت، فبدلًا من أن يقول: «وعاشوا في تبات ونبات وخلفوا صبيان وبنات.» قال إن الثورة قامت، وإن بطلها الجديد قد انتصر. وهي خاتمةٌ مفتعَلة لا تتصل بأية ضرورة فنية بما قبلها اتصالًا فنيًّا وثيقًا، وإنما هي تعلن فقط عن شيءٍ آخر غير «الخوف من سوء الفهم» الذي أملى عليه الإشارة الأولى، تعلن رغبته في ربط الحاضر بالماضي على حساب الماضي من ناحيةٍ والفن من ناحيةٍ أخرى. ويبقى «الحاضر» وحده ثمنًا بخسًا لما تورطت فيه الرواية وكاتبها. وبالرغم من أن هذه الخطيئة في حق الفن قللت من قيمة «في بيتنا رجل» فإنها ستظل الرواية المصرية الوحيدة التي اكتملت فيها صورة البطل الوطني وما تشتمل عليه خطوط هذه الصورة من رموز.
•••
تحتل علاقة البطل الوطني المثقف بالمرأة والحب حيزًا ثانويًّا في رواية إحسان عبد القدوس، في حين أنها تغطي المساحة الرئيسية في «قصة حب» ليوسف إدريس؛ ذلك أن إحسان وقد اختار لقصته «البطل الوطني الكامل» محورًا للعمل الفني تدور من حوله مجموعة هائلة من الجزئيات والعناصر التي تتداخل فيما بينها على نحوٍ غاية في التعقيد، فإن المرأة حينئذٍ أو الحب لا يَعْدو أن يكون مجرد عنصر لا يتكامل إلا بغيره من العناصر الخالقة للعمل الفني ككل. أما يوسف إدريس، فقد التقط هذه الجزئية الخطيرة في حياة الإنسان عمومًا، وركز عليها الأضواء عندما أصبحت إحدى خصائص الإنسان «البطل» على وجه الخصوص. ونحن إذا استبعدنا «الفصل بعد الأخير» أو المذيلة — لا الخاتمة — المقحمة على قصة إحسان، نجد أنفسنا أمام «قصة حب» ليوسف إدريس، وقد بدأت من حيث انتهى بطل «في بيتنا رجل»، نجد أنفسنا — تاريخيًّا — غداة الأحداث الخطيرة التي بدأت بهبَّة ١٩٤٦م وتبلورت في الكفاح المسلح عام ١٩٥١م، وها نحن أولاء نستقبل اللحظات الحاسمة في تاريخنا عشية حريق القاهرة في ٢٦ يناير ١٩٥٢م وما كان له من تأثيرٍ عميق في مجريات الأمور، بحيث استطاع أن يعجل بثورة يوليو ١٩٥٢م. وإبراهيم حمدي الذي انتهت به أحداث «في بيتنا رجل» صريعًا يُبعَث من جديدٍ في «قصة حب» مختفيًا من جديد «في بيت» أحد الزملاء الذين ابتعدوا عن العمل السياسي حقًّا، كمحيي في قصة إحسان، ولكنهم لا يرون بأسًا في حماية صديقٍ عن أعين البوليس ما دامت الشبهات بعيدةً عنهم كل البعد، كما هو الحال في شخصية «بدير» في «قصة حب»، فهو يستقبل صديقه «حمزة» مرحبًا، إلى أن تدخل «فوزية» في حياته فلا يتحمل أن يراهما وقد أكلت قلبه الغيرة من هذا الصديق المطارد الذي تأتيه «البنات» في مخبئه بالرغم من أنه إنسان بلا مستقبل. ولا تحدث في حياة بدير تحولات جذرية كتلك التي حدثت في حياة محيي بعد دخوله السجن، ولكن التحولات التي حدثت له اكتسبت أبعادًا إنسانيةً عامة، حتى إذا اقتنع برأي من آراء حمزة السياسية فإنه يقف باقتناعه عند حدود محبته لحمزة ولا يتسع وجدانه لمحبة «السياسة» التي لا يدري عنها — وهو في بيته الوثير — إلا أنها تعني شبح السجن والمطاردة والجوع والتشرد، فتلك هي أحوال صديقه «المهندس» حمزة الذي فُصِل من عمله وراح يكوِّّن لجان الكفاح المسلح ويبني المعسكرات ويرفع الروح المعنوية للمناضلين ويجمع التبرعات للعمل الوطني ويصل ليله بنهاره في عملٍ لا يكل من أجل «الوطن» وهو لا يجد ما يقتات به أو يحمي جسده النحيل من البرد المتوحش.
ولا تعتمد قصة يوسف إدريس على «الحدث» في نموه وتطوره كما لاحظنا في قصة إحسان؛ حيث يكاد أن يكون الهرب أو الاختفاء في حياة الشخصيات جميعًا هو الحدث الدرامي الذي يتطور مع هذه الشخصيات وبها. في «قصة حب» يعتمد الكاتب على بناء الشخصيات لا على بناء الأحداث؛ ذلك أن الاختفاء في حياة حمزة وفوزية وبدير لا يشكل جوهر البناء الدرامي لأنه لا يسهم في تطور القصة وشخصياتها ومضمونها الفني. وشخصية «البطل» هي المحور الذي تدور من حوله بقية «الشخصيات» لا الأحداث، فالعلاقة التي تربط إحدى الشخصيات بالبطل هي التي تدفع ببناء القصة في هذا الاتجاه أو ذاك، هي التي ترسم هذه الزاوية أو تلك، هي التي تحدد بشكلٍ قاطع مسار ما نسميه بالتفاعل بين الشكل والمضمون في العمل الفني. وشخصية حمزة نلتقي بها في غمرة النضال الوطني ضد الاستعمار الإنجليزي مع بداية الخمسينيات من هذا القرن. ويستخدم الكاتب بقية الشخصيات «كمحك» يبرز قيمة المعدن الذي تكونت منه هذه الشخصية، ثم يستخدم الشخصية نفسها كمونولوج داخلي وفلاش باك في وقتٍ واحد حتى يحلل كيمياء الأرض وطبيعتها التي استخرج منها هذا المعدن الإنساني. من خلال شخصية «فوزية» نتعرف على بعض صفات هذا المعدن. قالت له ذات يوم: «الناس خلاص استسلموا، عاملين زي التمساح الميت مهما تنغز فيه ما يحسش.» قال لها: «لو كنتي في إسكندرية يوم ٦ مارس وشفتي العيال وهم فاتحين صدورهم وداخلين على المتروليوزات ما كنتيش تقولي كده.» ليس «الحوار» النظري وحده هو الذي يؤكد الروح النضالية عند حمزة، وإنما «الواقع» الذي عاشه حمزة برفقة فوزية يجعل من «المنهج الثوري» صفةً جوهرية للمعدن الذي تكونت منه شخصية حمزة. ومن خلال فوزية أيضًا نتعرف على جانبٍ آخر أو صفة أخرى في معدن حمزة حين «مثلت» عليه دور المستنكرة أن يكون البطل «عاشقًا»، قال لها في بساطةٍ أذهلتها: «إنتي واخدة عنا فكرة مثالية قوي، أنا مش بطل ولا كلام من ده. فاهماني ازاي أنا من لحم ودم وعندي نفس المشاكل الجنسية والنفسية اللي عند كل الشباب اللي زيي.» ومرة ثانية أقول إنه ليس بالحوار وحده تحيا المشكلات العادية في حياة البطل، وإنما «الواقع» الذي عاشه حمزة برفقة فوزية يجعل من «الفطرة الإنسانية المألوفة» صفةً جوهرية للمعدن الذي تكونت منه شخصية حمزة.
هناك شخصية أخرى مثل شخصية «أبو دومة» التربي الذي أخذ يروي لحمزة كيف استدرج جنديين إنجليزيين في المقابر، وكانت ثلة من الجنود قد أتت «أيام سعد باشا» لتفتش الترب وقتلهما «ولا حد شاف ولا حد دري»، وقد ظن حمزة أن الرجل «يبالغ» في ادعاء البطولة، وبالتالي فإنه يبالغ في قدرته على إيجاد مخبأ له عن أعين البوليس، ولكنه فوجئ به «يخلق» له مكانًا نادرًا في مقبرة داود باشا ويرفض أن يأخذ شيئًا في مقابل هذا العمل قائلًا في ذعرٍ حقيقي: «هو أنا راجل واطي!» كشفت هذه الشخصية لحمزة أن «في كل إنسان جزء طيب ونضيف وثوري». وهكذا بقية الشخصيات، كانت كل واحدة منها تكشف في علاقتها بحمزة عن صفاته السلبية والإيجابية على السواء أو أن هذه العلاقات كانت تكوِّن فيما بينها «شخصية حمزة» أو معدنه. أما الأرض التي استخرج من جوفها هذا المعدن، فقد تكفلت بها مونولوجات البطل الداخلية وذكرياته التي عبَّرَت عن نفسها في الفلاش باك أحيانًا وفي الأحاديث المتبادلة بينه وبين الآخرين في معظم الأحيان. ما هي هذه الأرض التي خرج من بطنها هذا «المعدن البطولي» بكل ما يشتمل عليه من سلبيات وإيجابيات؟
لقد ولد حمزة في مرحلة حية من تاريخ مصر، وحين رأت عيناه النور كانت المظاهرات من أول المعالم التي تشكَّل بها «الكون» في نظره، وعاش حتى رأى المظاهرات غير مقصورة على الطلبة «إنما فيها طلبة وناس كبار وناس بجلاليب وتجار وكمسارية ترمواي وعمال وأولاد من اللي بيلموا سبارس ويمسحوا جزم وصبيان ورش، الأولاد اللي بيقولوا عنهم الغوغاء». كانت مصر تمور بالثورة الوطنية، ولكن البعد الاجتماعي في الثورة هو البعد الغالب على تكوين حمزة، وهذا ما يبتعد به خطوةً عن نموذج «البطل الوطني الكامل» في قصة إحسان. إن وطنيته قد ولدت ومعها هذا العنصر الاجتماعي الواضح، بالرغم من كل الملامح التي قد تجمع بين حمزة وإبراهيم حمدي. بل أقول إن التطور الأخير في حياة إبراهيم حمدي، التطور الذي جعله يفكر في الجماهير المسحوقة والثورة الشعبية المنظمة، هذا التطور هو نقطة الانطلاق في حياة حمزة، بعد أن كان خاتمة الحياة عند إبراهيم حمدي. ونقطة البداية لا تخلو تمامًا من سمات النقطة التي بدأ منها إحسان عبد القدوس، فحمزة أيضًا ينظر إلى المسدس في بدايات تطلعاته الوطنية نظرةً تمتُّ بصلة قرابةٍ إلى الفوضويين في فرديتهم وتبتعد خطواتٍ عن الثوريين في تنظيماتهم، يقول حمزة: «أيام أن كنت في توجيهي وأولى جامعة كنت عاوز مسدس وبس، كانت كل حياتي متبلورة في حصولي على مسدس، مش مهم أستعمله في إيه، المهم كنت عايز مسدس وبس.» وحمزة ليس ابنًا لأحد الموظفين كوالد إبراهيم أو محيي، وإنما هو ابن عسكري دريسة في إحدى القرى ناضل هو وزوجته بالجوع والمرض والصبر ليدخل المدرسة، وعندما شب أخوه ألحقوه وهو بعدُ صغيرٌ بوِرَش السكة الحديد حتى يصبح ميكانيكيًّا، ولكن القطار بتر إحدى ساقَيه ذات يوم أسود، فاكتفى بالعمل خفيرًا للمزلقان. كل هذا حتى يفسح لأخيه الأكبر مكانًا في المدرسة ثم الجامعة ليتخرج مهندسًا تزهو به الأم التي ضحت بعمرها من أجله وهي تطرز المناديل بأوية لنساء القرية، وأخته العانس التي لم تجد لفقرها زوجًا يسترها. واستطاع حمزة أمدًا من الزمن أن يزامل بين المدرسة والمظاهرات، ثم بين الجامعة والوطنية، إلى أن تخرج مهندسًا ولكن بعد فوات الأوان، فقد حالت أحوال البلد بينه وبين القدرة على الجمع بين الحياة العادية والثورة. وبعد أن كان حلمًا يراود الأب والأم والأخ والأخت أن يعود إليهم المهندس أو جواباته على الأقل وبها ما يمسك رمقهم ويعفيهم من الذل والعذاب، كان حمزة قد رسم لنفسه طريقًا آخر وحلمًا آخر يجمع فيه بين الإنجليز وسارقي أقوات الشعب في سلةٍ واحدة، يعد لها مع الجماهير الثائرة نارًا كافيةً لحرقها إلى الأبد «الحكاية يا سيد مش حكاية الإنجليز، دي حكايتنا احنا، حياتنا ومستقبلنا». على أن حمزة لم يتخلَّ لحظةً واحدة عن دوره الأساسي كأحد أبطال المقاومة الوطنية، فالكفاح المسلح ضد المحتل هو الطريق الوحيد الذي يجمع الشعب كله من أجل الاستقلال، وهو الطريق الذي صادف فيه «فوزية»، إحدى المدرسات الكثيرات اللائي يشتركن بما يقدرن عليه في المعركة، فتاةٌ تمور بالحماس وتتطلع إلى المعرفة وتحب حمزة، وفي غمرة حماسها تتخيل، وتعيش خيالها كأنه واقع وتعامل واقعها بهذا الخيال، فتبدو لنا من الخارج «كذابة» وهي طموحة لأن تحطم أسوار الواقع لتعيش في الحلم كأي رومانتيكية أصيلة من نفس العصر الذي عاشت فيه «نوال» التي أحبت إبراهيم حمدي، وأحبت فيه الثورة والكفاح، وشاركت من أجله في بعض ما تقتضيه الثورة ويحتمه الكفاح. هكذا «بالغت» فوزية حين أحضرت لحمزة مبلغًا من المال على أنه من تبرعات زميلاتها ولم يكن سوى «قرض» منهن، وهكذا لجأت إلى «التمثيل» بأنها لا تفكر في الحب وأنها قد فوجئت به يحبها حتى يظن أنها بطلةٌ خرافية بينما كانت هي غارقةً في حبه، وهكذا لجأت إلى «الادعاء» أنها تستطيع إخفاء الحقيبة المحملة بالديناميت وكادت — في نفس الوقت — أن تهرب من سائق التاكسي وعادت إليه في اللحظة الأخيرة وقد «أفاقت» من هول ما وصلت إليه من «ازدواجية» فقررت أن تبوح له بكل شيء، وأن تتزوجه بالرغم من كل شيء. حينئذٍ يفيض القلب على شفتي حمزة: «أنا مش بحبك حب عادي، أنا حبيت مصر فيكي، حبيت النيل اللي في دمك وبياض القطن اللي في وشك وشمسنا الحلوة اللي عسلت في عنيكي.»
وليست «الشخصيات» في «قصة حب» مجرد مرآة للشخصية الرئيسية وإنما لها كينونتها الخاصة وذاتيتها المستقلة. بدير — مثلًا — الذي استقبل صديقه في أحرج اللحظات، هو الذي طرده عندما «نهشت» الغيرة قلبه، وهو أيضًا الذي ناداه في الأهرام أن يعود! وأم محمود — زوجة أبو دومة — امرأة جميلة وتعرف القراءة والكتابة ولكنها تحب زوجها التربي ويرشحها حمزة لعضوية لجنة الكفاح المسلح. وسعد، المناضل الذي جاء بفوزية إلى حمزة في المعسكر، تحول في ظل الأحكام العرفية إلى ضائع يبحث عن اللذات الطارئة في العربات الفاخرة، ولكنه كان أول من وصل قبل الموعد حين اتصلت به فوزية وأخبرته بمكان الاجتماع في المقابر وأن لجنة الكفاح استأنفت نشاطها. ورشدي الذي كان شعلة النشاط الوطني رفض أن يُئوي حمزة ليلةً واحدة، ثم تبين فيما بعد أنه يؤدي خدمات من نوع ما لرجال الأمن. وهكذا يعتمد يوسف إدريس في بناء قصته على «الشخصيات» التي تتمتع بوجودها الخاص إلى جانب إبرازها لبعض الصفات في معدن الشخصية الرئيسية.
لقد أجهض ٢٦ يناير ثورة الشعب، ضد الإنجليز وضد مستغليه، وكان على الثوار من أمثال حمزة أن يتحاشوا الوقوع بين يدي البوليس حتى يتمكنوا من الإبقاء على الجذوة المتقدة «وعرف الناس من الحارق ومن الضارب، والناس حين يحددون أعداءهم لا يترددون، وبدَءوا يسخرون، وانطلقت النكات بادئةً برأس الرمح ووزرائه ولم تترك حتى الذيول، وشدد الأعداء من قبضتهم ليغلقوا الأفواه، ولكن كانت السخرية قد أضاعت رهبتهم وهونت من شأنهم، فقابل الناس الضغط بإحساسهم أن لا بد من التقدم خطواتٍ أخر، وشعر الأعداء بالخطر، وانهالت ضرباتهم هوجاء، ومع كل ضربة يزداد تجمع الناس ويتعلمون، ويلتفون حول المضروبين، فيخاف الضاربون، ويزداد البطش فتقترب النهاية.» ويكاد البوليس أن يمسك بحمزة قرب النهاية حين أعطى موعدًا للقاء أحد المناضلين، ولكنه يتمكن بواسطة الأعداد الغفيرة من الناس في الشارع والأزقة والحواري والسوق، الجماهير التي لم تلتفت إلى خدعة النداء البوليسي «امسك حرامي» فتركت البطل يجري ويجري حتى أفلت من أيدي الوحوش المتربصة. وهي نهاية تختلف عن نهاية «في بيتنا رجل» من حيث الشكل ذلك أن مصرع إبراهيم حمدي لا يختلف في جوهره عن نجاح حمزة في الهرب. والرواية الوطنية في مصر من هذه الناحية أقرب إلى روح الملحمة، وإن لم يكن حمزة أو إبراهيم بطلًا ملحميًّا، وإنما قصدت روح النزال بين البطل والقوى الخارجية وروح الغلبة لعنصر الخير على عناصر الشر مهما مات البطل في قصة إحسان أو نجا كما هو الحال في «قصة حب» ليوسف إدريس. وإذا كانت القصة الأولى قد أنجزت مهام «البطل الوطني الكامل» فإن القصة الثانية التقطت تطوره الأخير، وهو ليس تطورًا مقصورًا على رمز البطولة الذي بدأ يستوعب ملامح جديدة، وإنما هو أيضًا تطور الثورة الوطنية إلى درجة الالتحام بالثورة الاجتماعية أو تطور البطل الوطني إلى «بطل ثوري» يبتعد بموته خطواتٍ عن مملكة التراجيديا، ويقترب خطواتٍ من عالم الملحمة.
•••
إذا كانت علاقة المرأة المصرية بحركة الكفاح الوطني تحتل حيزًا ضيقًا في قصة إحسان عبد القدوس، وإذا كان هذا الحيز قد اتسع ونما وتطور في قصة يوسف إدريس، فإن هذه العلاقة هي المشهد الرئيسي في قصة لطيفة الزيات التي كتبتها عام ١٩٦٠م تحت عنوان «الباب المفتوح». لقد شاركت نوال في قصة «في بيتنا رجل» حبيبها إبراهيم حمدي همومه، وكان العمل الوطني واحدًا من هذه الهموم، أي أنها عرفت الوطن من خلال الرجل. وشاركت فوزية في «قصة حب» حبيبها حمزة حياته التي لم تنفصل لحظةً واحدة عن حياة الشعب المصري، أي أنها عرفت الوطن من خلال الرجل والشعب المصري معًا. أما في «الباب المفتوح» فقد عرفت ليلى رجالًا كثيرين، ولكنها عرفت الوطن قبلهم جميعًا وبعدهم جميعًا. لم يكن «الرجل» في أي وجه من وجوهه أو جزئية من جزئياته، يشكل همزة الوصل بينه وبين قلب ليلى وقلب مصر. بل اتسم اللقاء الحار بين ليلى ونضال الشعب المصري ضد الاستعمار بالمباشرة والتلقائية، كما اتسمت البطولة الوطنية في «الباب المفتوح» بأنها بطولة الشعب في مجموعه وليست بطولة فردٍ من الأفراد، سواء قُتِل هذا الفرد في أرض المعركة كعصام أو جُرِح كليلى أو نجا كمحمود وحسين. ويبرز معنى البطولة ورمزها في هذه القصة من خلال البناء الروائي الذي أسسته الكاتبة بمهارة وحذق شديدَين أكثر مما يبرز في «موضوع» المقاومة ذاته كمحورٍ فكري للعمل الفني.
والرواية — من زاوية البناء التاريخي — تغطي مساحةً زمنيةً طولها عشر سنوات تبدأ من ٢١ فبراير ١٩٤٦م، وتنتهي غداة صد العدوان الثلاثي في نوفمبر ١٩٥٦م، ولكن الكاتبة لا «تسترسل» مع هذا البناء التاريخي يومًا فيومًا لأن الرواية لا تدخل في باب المطولات النهرية التي تعتمد على التطور التدريجي واللقطات البطيئة. إن مظاهرات فبراير ومارس ١٩٤٦م والكفاح المسلح في منطقة القناة عام ١٩٥١م ورد العدوان عام ١٩٥٦م، ليست هذه كلها إلا «علامات» في طريق الكفاح الوطني المصري تسترشد بها مؤلفة «الباب المفتوح» في تبيان حركة التطور من ناحية، والجذور الضاربة في أعماق الأرض المصرية من ناحيةٍ أخرى. أي أن الوجه التاريخي للرواية ليس مقصودًا في ذاته، وبالتالي فلا مجال للمقارنة أو المطابقة بين «الواقع التاريخي» و«الواقع الروائي» في قصة لطيفة الزيات، لأنها لم تستهدف قط أن تؤرخ للحركة الوطنية المصرية، وإنما أرادت أن تسجل فنيًّا إيقاع هذه الحركة على تطور المرأة المصرية.
والرواية — من زاوية البناء الاجتماعي — تواكب مجموعةً هائلةً من أحلام وتطورات ومركبات الطبقة المتوسطة المصرية في مختلف درجات نموها وشرائحها ومراحل عمرها، ولكن الرواية تركز بوجهٍ خاص على فئة المثقفين من أبناء وبنات هذه الطبقة، وتختار أزمة الأزمات في حياتهم الفكرية والاجتماعية خلال الأربعينيات من هذا القرن، وهي أزمة الوجود المعنوي أو أزمة القيم أو أزمة الضمير. أي أن الكاتبة لم تقصد قط إلى أن تصور الطبقة المتوسطة المصرية في ذاتها بشكلٍ عامٍّ أو أن تصور البرجوازية الصغيرة بشكلٍ خاص، وإنما هي استهدفت أن تصوغ فنيًّا أزمة الضمير الفكري عند مثقفي الثورة الوطنية الديمقراطية الذين اكتوَوْا بنيران العلم والمعرفة «في الكتب» والتخلف المروع «في الواقع»، والتهبَت صدورهم بضرورة إنجاز مهام الثورة الوطنية جنبًا إلى جنب مع المرارة التي تسد حلوقهم كلما تذكروا «أهوال الوضع الاجتماعي» الضاغط على قلوبهم، فيكسب «الاستقلال» في عقولهم معنًى مختلفًا كل الاختلاف عن معناه التقليدي.
والرواية في بنائها الفكري والفني تفسر لنا هذا التوازي المحكَم بين مختلف الخيوط الصانعة لهذا النسيج الذي ندعوه ببطولة الشعب المصري في مقاومة الغزاة من خلال ثلاث أو أربع شخصيات طفَت على سطح الأحداث، ومن خلال مئات الألوف الراسخة في القاع تصنع البطولة بأيديها وتخلع عليها هذا الاسم أو ذاك حتى تحتفظ به ذاكرتنا «رمزًا» فحسب إلى ملايين الأسماء التي تضيق عنها الصفحات فيلجأ المؤرخون والكُتاب إلى تسميتها بالجماهير أو الشعوب. وإذا كانت قصة «في بيتنا رجل» من النوع الأدنى الذي يصنف باسم الروايات الوطنية حيث تدور الأحداث حول محورٍ واحد هو «البطل الوطني الكامل»، وإذا كانت «قصة حب» قد زاوجَت بين العمل الوطني والحياة العاطفية للبطل، كما زاوجت بين البعد الاجتماعي والبعد الوطني بحيث يصعب تصنيفها تحت عنوان الرواية الوطنية، بالرغم من انعقاد بطولتها لأحد أبطال المقاومة الشعبية، فإن لطيفة الزيات في «الباب المفتوح» تقوم بعملية تطريزٍ باهرة حقًّا لمختلف الخيوط النفسية والاجتماعية والفكرية والتاريخية، بحيث يصبح «الوجه الوطني» للرواية مجرد عنصر من عناصرها لا يتكامل معناه ولا تتبلور دلالته إلا برفقة بقية العناصر المزاملة والملازمة له على طول النسيج الفني للرواية. فليس المحور الوطني هو الخيط الوحيد السائد على هذا النسيج؛ بل هو يتشابك ويتداخل مع محاور عديدة تتصل بأوضاع طبقة هي الشريحة البرجوازية الصغيرة، وتتصل بأوضاع فئةٍ محددة من هذه الشريحة هي طائفة المثقفين، وتتصل بأوضاع أزمة من أزمات المثقفين تواجههم فور انبثاق التناقض بين القيَم الجديدة التي يحملونها في عقولهم والعلاقات الاجتماعية الراسخة في سلوكهم والراسبة في قلوبهم، تلتقي هذه الخيوط جميعها في «الباب المفتوح» متجاورةً حينًا ومتصارعةً حينًا آخر ومتفاعلةً دومًا. وكذلك كان من شأن هذا التطريز الدقيق الباهر أن اختفت البطولة الفردية في العمل الوطني، ولا شك أن «ليلى» هي بطلة الرواية «ككل» ولكنها ليست على الإطلاق بطلة الجانب الوطني منها، وهي خطوة تالية لقصة يوسف إدريس من حيث إن حمزة كان بطلًا فردًا بالرغم من انتمائه للجماهير العريضة، فالمعارك الثلاث الرئيسية التي تدمدم بها قصة لطيفة الزيات من ١٩٤٦م إلى ١٩٥٦م مرورًا بعام ١٩٥١م لم تبرز بطلًا روائيًّا فردًا، وإنما أوحت على الدوام «ببطولة الجماعة» البشرية غير المنتقاة من طبقة أو فئة أو طائفة بعينها، الجماعة التي تكاد تمثل «مصر» في إطارها القومي الشامل. على أن هذا البعد القومي في الرواية لا يطمس البعد الاجتماعي الذي يبدو في سلسلة لا متناهية الأفعال وردود الأفعال، سواء في مستوى البرجوازية الصغيرة التي تحتل الشاشة الرئيسية للعمل الفني أو في مستوى بقية الطبقات التي تحتل المراكز الثانوية.
ومعنى هذا أننا لا نستطيع أن نفصل بين حياة ليلى في البيت والمدرسة وحين خرجت في مظاهرات ١٩٤٦م «وهي طفلة تائهة في الطريق بين ناس غرباء ينظرون إليها ولكنهم لا يرون دموعها، وهي مدام كوري وبطل يحطم قضبان السجن لينقذ شعبه من الاستعمار، وهي كل هذا وأكثر من هذا، أو هي على الأقل معهم». لقد حاولت ليلى أن تتراجع من المظاهرة تحت ضغط ابنة خالتها «جميلة» وأن تشق لنفسها طريقًا يفصلها عن الكتلة الآدمية المتدفقة. «ولكن الكتلة جرفتها في طريقها وفصلتها تدريجيًّا عن جميلة، ووجدت ليلى نفسها في الشارع»، ثم لمحت ليلى أباها وقد حملتها أكتاف الطالبات وهي تهتف، وتخيلت للحظةٍ ما سوف يحدث عند عودتها إلى البيت، ولكنها سرعان ما اندمجت في المشهد المثير «ولم تعد تراه. لم تعد ترى إلا هذه الآلاف وقد انصهرت في كلٍّ، كل إلى الأمام يدفعها، كل يحيطها ويحميها، وانطلقت من جديد تهتف بصوتٍ غير صوتها، صوت وحَّد كيانها وكيان الكل».
ولقد دخلت ليلى عدة تجارب بعد أن وقفت منها الأسرة موقفًا عنيفًا لاشتراكها في مظاهرات ١٩٤٦م، كما وقفت من أخيها محمود نفس الموقف حين جرح في إحدى هذه المظاهرات برصاصةٍ إنجليزية. وكان موقف الأسرة من المشاركة في العمل الوطني، موقفًا عامًّا وشاملًا من المشاركة في «الحياة» كلها. وهكذا تقف الأصول والقواعد المقررة حائلًا بين ليلى وبين أن تحيا حياتها بلا تمزُّقٍ بين إرادتها وإرادة الآخرين. وحين قرر محمود أن يذهب إلى خط النار في خضم المد الوطني عام ١٩٥١م أنذرته الأسرة بأنه لن يعود ابنًا لها إذا عاد من الحرب. ولكن محمود لم يأبه لإنذار الأسرة وذهب «وفي قلب كل إنسان تطوف رغبة في أن يكون هناك، وجهًا لوجه أمام العدو في معركة حياة أو موت». أما عصام — ابن خالتها الذي تُبادله الحب — فقد تراجع في اللحظة الأخيرة أمام «حركات» أمه وتمثيلها البارع. وكان نكوص عصام عن السفر إلى منطقة القناة بداية «الهزيمة» في حياة ليلى؛ حيث انتهت تجربة الحب يوم همست جميلة في أذن ليلى بما يجري بين عصام والخادمة في الظلام كل ليلة. ولكن الكاتبة لا تدمغ إنسانًا ما بالشر المطلق أو الخير المطلق، فكما أنها تختار شخصياتها المحيطة بالبطلة اختيارًا «إنسانيًّا» عميقًا، فهذه شخصية قوية وتلك شخصية ضعيفة، فإنها أيضًا تبرز في الشخصية القوية بعضًا من نقاط ضعفها، كما تبرز في الشخصية الضعيفة بعض ما تنطوي عليه من مواطن القوة. وهكذا نجد عصام في حرب ١٩٥٦م على خط النار الأول في بورسعيد حيث يلقى مصيره شهيدًا. هذا التباين في اختيار الشخصيات وتكوينها هو «المنهج» الفني الذي آثرَته لطيفة الزيات لتكسب شخصياتها حيويةً دافقة فتشعر بإنسانيتها من لحم ودم، وهو المنهج الذي جعل من بطولة ليلى نموذجًا للقلق والحيرة والعذاب، فالحياة من حولها ليست بيضاء تمامًا أو سوداء تمامًا حتى تحسم اختيارها بين الأبيض والأسود، وإنما تتعدد الألوان بين هذين اللونين تعددًا مذهلًا يوقعها في الاضطراب ويكاد يوقع بها بين براثن الخلل. بل إن شخصية ليلى في الواقع الروائي ليست شخصيةً متجانسة إلا في أضيق الدوائر، وإنما هي مزيج معقد من مركبات كثيرة أسهمت في صنع كافة مراحل تطورها. فهي قد رفضت عصام حقًّا، ولكنها تتجاهل «حسين» تجاهلًا مفتعلًا؛ إذ هي معجبة بانضوائه في صفوف الفدائيين واشتراكه في القتال الفعلي، وتفاؤله الصريح بالرغم من حريق القاهرة ومهادنة الحكومة للإنجليز وتناقص عدد المقاتلين، وهي معجبة بقدرته على الوقوف إلى جانب محمود في أرض المعركة حين نال منه التشاؤم وراح يردد كلمات أبيه: «إن الحكومة غير جادة في موقفها، وعناصر الخيانة متوفرة، وماذا تستطيع الشجاعة والبطولة أن تفعل؟» ولم تكن هذه الكلمات هي الخط الأصيل في تفكير محمود، فهو الذي كتب إلى ليلى من الميدان يقول إن الخوف هو الذي يجعل للكفاح لذة «فالإنسان يتقدم وهو خائف ولكن قوةً أكبر منه، أكبر من خوفه تدفع إلى الأمام»، هي — ليلى — معجبة بحسين لأنه جعل شعاره في المحنة «دي مش ممكن تكون النهاية» حتى وألسنة اللهب تأكل جمال القاهرة في ٢٦ يناير المشئوم. ويبدو أن هذا الإعجاب بحسين قد تطور في أعماقها إلى حبٍّ لم يطفُ على السطح وإنما تمكنت من كبته بمهارةٍ كرد فعل لتجربتها مع عصام، وكتجربة جديدة مع الحياة بالخضوع للأهل والمعارف والأصدقاء، والارتباط أمامهم جميعًا بالدكتور رمزي أستاذها في الجامعة الذي لا يحبها ولا تحبه، وإنما جريًا وراء الأصول والقواعد المقررة شاءت أن تدفن نفسها حيةً بين أحضان العُرف العام. كان قبولها الارتباط برمزي نوعًا من الانتحار، وكانت فترة الخطوبة نوعًا من الموت البطيء، ولكنها قبِلَت الانتحار والموت ورفضَت الحياة مع حسين الذي سافر في بعثة إلى الخارج وخياله يقترن بليلى و«الأبطال الذين وقفوا للأعداء شامخين، والفرحة الغامرة التي تألقت في عينَي الصبي حين رفع رأسه لآخر مرةٍ ليشاهد النار وهي تتأجج في معسكر من معسكرات الإنجليز، والأسطى مدبولي يزحف وهو جريح ويحرق مخزن البترول بقنبلةٍ يدوية ويحترق معه وهتافه بسقوط الاستعمار يدوي في سكون الليل يهز الأعماق ويهز الأرض ويفجر منابع الثورة». وما لبث حسين أن عاد من أوروبا عشية العدوان على بورسعيد، وبينما كان الدكتور رمزي يقول: «المثقفون فئة مختارة، فئة ما تحاربش، كل بلد ينقسم إلى قسمين، قسم يفكر وقسم يحارب. والدفاع عن البلد يجب أن يقتصر على غير المثقفين.» كان حسين ومحمود وعصام وسناء وليلى، جميعهم في أتون المعركة، وتذكر ليلى كلمات حسين إليها في أحد خطاباتها، كلمات تذكرنا بما قاله حمزة يومًا لفوزية في قصة يوسف إدريس، كلمات نابعة من القلب ومنبثقة من أعمق خلجات كيانه: «ومنشأ الصعوبة أن حبي لوطني كان قد اختلط بحبي لك، حتى أصبحت أنت رمزًا لكل ما أحبه في الوطن.» وعندما دوت قنابل العدو ورشاشاته من حولها أحست بشيء ينتفض في داخلها كالعملاق «شيء جديد مثير لا يتخلى عنها أبدًا، شيء أقوى من النار التي تحترق في صدرها ومن الثلج الذي يرتجف في أطرافها، أقوى من الاسترخاء، من التراب، من الموت»، ولعلها قارنت في ومضة ذهن بارقة — وهي تخوض في الدم وتصطدم بالأشلاء والجثث ووجوه الجرحى — لعلها قارنت بين هذا «المصير» الذي آلت إليه حياتها والمصير الذي كان «محتملًا» أن تئول إليه مع رمزي، وهو المصير الذي عايشت طرفًا منه في حياة ابنة خالتها جميلة التي تزوجت بالأصول والقواعد المقررة، فكانت النتيجة هذه «الحياة الأخرى» التي تحياها بين أحضان هذا الرجل أو ذاك ممن يحومون حولها كالذباب. وهو أيضًا المصير الذي انتهت إليه حياة صديقتها «صفاء» ابنة دولة هانم التي فضَّلَت الانتحار على أن تعيش حياتها لحساب الآخرين. نماذج عديدة لا حد لتباينها وتفردها، تعرضها الكاتبة في تسلسلٍ وتشابُكٍ وتداخل مع بعضها البعض، حتى يبدو مصير ليلى في النهاية التي حددته لها أرض المعركة الدامية في بورسعيد وهي تلقي بخاتم خطوبتها — الشيء الوحيد الذي يربطها برمزي وأهلها وكل ما يمثلونه من قيم — ثم تلقي بنفسها بين ذراعي حسين بكل ما يمثله من قيم. هل ترتبط هذه «النهاية» أو هذا «المصير» بما سبق من مقدمات؟ أم أنه «حالة مفاجئة» قلبت موازين الرواية؟ لو أدركنا أن لطيفة الزيات تعتمد اعتمادًا — يكاد أن يكون مطلقًا — على صياغة المد والجزر وتجاور السلب والإيجاب؛ لقلنا إن هذا المصير الذي انتهت إليه ليلى — ومصر معها — لم يكن قط حالةً عرضية مفاجئة، وإنما جذوره غائرة في الأعماق، قد تتعثر شعيراتها أو تجف العصارة في بعض بذورها أو تميل للرياح بعض أغصانها أو تذبل بعض أوراقها، ولكنها أخيرًا تثمر، وتثمر ثمارًا تنتمي إلى هذه البذور التي تجذرت في الأعماق وارتوت بعصارة الأجيال وسمدت بدمائهم ثم أورقت وازدهرت. إن ليلى التي خرجت في مظاهرة ٢١ فبراير ١٩٤٦م — وتلك هي البذرة الأولى في حياتها — هي نفسها ليلى التي كتبت في طلب الوظيفة أن تكون بورسعيد محل عملها وهي التي اشتركت في القتال وجرحت. وما جاء قرارها بقبول حسين ورمْي خاتم رمزي إلا تتويجًا لهذه المسيرة البطولية في تاريخها، وتاريخ الشعب الذي تنتمي إليه. لقد أدرك محمود حين رفضت مغادرة بورسعيد «أن نفس الشيء الذي حدث له أثناء معركة الفدائيين في القناة قد حدث لها. لقد خرجت من دائرة العائلة، من دائرة الأنا إلى دائرة الكل. وما من أحد يستطيع أن يوقفها الآن»، وربما كانت ليلى نفسها قد أدركت هذا المعنى وهي تنحني تسند إلى صدرها امرأةً شابة فقدت ساقيها ثم مالت عليها تغطيها بملاءة بيضاء والتقت عيونهما، أو وهي ترى الدماء تنزف من عصام وقد طوى يده اليمنى على قنبلة، ووجهه الشاحب يتألق بشفافية أثيرية وعيناه تلمعان ببريق وهاج «وكأنه يرى رؤيا رائعة الجمال».
إن قصة «الباب المفتوح» لا تؤرخ كما قلت للحركة الوطنية المصرية. ولكنها تسجل فنيًّا إيقاع هذه الحركة على تطور المرأة في بلادنا. ولولا ما أصرت عليه الكاتبة من تقسيم للرواية إلى ما يشبه الأجزاء التاريخية؛ فتبدأ الجزء الأول بأمسية ٢١ فبراير ١٩٤٦م وتبدأ الجزء الثاني بثورة يوليو ١٩٥٢م وتبدأ الجزء الثالث بيوم ٢٩ أكتوبر ١٩٥٦م، لولا هذا التقسيم التاريخي المتعسف للرواية لجاء هذا الإيقاع أكثر دلالةً على ما يرمز إليه تطور ليلى من نمو حركة المقاومة المصرية. جاء هذا التقسيم شبيهًا بالحواجز لا بالفواصل الموسيقية، لا يتسق مع المنهج العام للرواية الذي يعتمد على التداخل والتشابك والتطريز الماهر الدقيق الذي اتسمت به الفصول الأولى. فالتمييز بين المراحل الروائية يختلف عن التمييز بين المراحل التاريخية، والخلط بين الاثنين يثمر لونًا من التقريرية المباشرة، لونًا غريبًا على النسيج الروائي. ولقد أرادت لطيفة الزيات من هذا التقسيم — فيما يبدو — أن تضع علاماتٍ فارقةً في الطريق الطويل الذي مضت فيه بطلتها، وهي تغطي حيزًا زمنيًّا بلغ عشر سنوات من عمر المقاومة المصرية. على أنه كان في إمكانها أن تضمر هذه العلامات في البناء الفني للرواية بدلًا من عرضها كواجهةٍ ضوئية صارخة. ولكن «الباب المفتوح» ستظل علامةً باقية في تطور الرواية المصرية التي استخدمت أحدث منجزات التكنيك في الغرب جنبًا إلى جنب مع التجربة المحلية الأصيلة، تجربة جيلٍ حرث الأرض في الأربعينيات وألقى مراسيه في الخمسينيات، جيل البطولة التي بدأت حلمًا يراود مخيلة المثقفين على صفحات الكتب، وانتهت واقعًا مريرًا يصدم القلب والعقل فوق أرض مخضبة بالدم. وليست ليلى ومحمود وحسين وعصام وسناء إلا رموزًا جسدتها بورسعيد في محنتها الكبرى.
وإذا كان بطل إحسان عبد القدوس قد انتهى روائيًّا بمصرعه، وإذا كان بطل يوسف إدريس قد نجا من الموت، فإن «أبطال» لطيفة الزيات تتنازعهم الحياة والموت تمشيًا مع المنهج العام في الرواية، المنهج الذي بدأ بالعمل الوطني كواحد من العناصر العديدة في الحياة، وهي عناصر شديدة التباين والتشابك والتعقيد، وهو المنهج الذي صاغ الشخصيات الروائية في إطارها الإنساني الموزع بين القوة والضعف لا بين فرد وآخر؛ بل في الفرد الواحد. وهو المنهج الذي بنى الأحداث وطورها في مد وجزر وسلب وإيجاب، وهو المنهج الذي وظف مختلف أدوات التعبير الفني من سرد وحوار ومونولوج داخلي وفلاش باك وأحلام وذكريات ورسائل وهذيان وأحلام يقظة، وظفها في البناء العام للرواية، وهو البناء الذي دعوته بالتطريز الماهر الدقيق وقد انعكس فيما أسميته بالتداخل والتشابك والتباين. أقول إن هذا المنهج لم يعقد البطولة لفرد من الأفراد، ولهذا السبب فقد أفلت منا نهائيًّا التصنيف التقليدي لهذه البطولة، فهي ليست بطولةً تراجيدية بالرغم من النهاية الفاجعة لعديد من الشخصيات، وبالرغم من الهزات الداخلية العنيفة لقلوب وعقول الكثيرين منهم. وهي أيضًا ليست بطولةً ملحمية يتميز فيها الشر المطلق من الخير المطلق، وتنتهي بغلبة الخير على الشر. كلا، إن المنهج الذي تمرست عليه لطيفة الزيات في بناء هذه الرواية لا يقترب في الكثير أو القليل من عالم التراجيديا أو روح الملحمة؛ بل نحن لا نستطيع أن ندرجها في باب البطولات الوطنية التقليدية حيث يحتل العمل الوطني الشاشة الرئيسية للرواية. وإنما استطاعت مؤلفة «الباب المفتوح» أن تجعل من البطولة في روايتها — بالرغم من إنسانية أبطالها وحيويتهم الدافقة كبشر من لحم ودم — «رمزًا» عميق الدلالة و«رؤيا» شاملةً ومتعددة الأبعاد، هي أن المقاومة — في ذاتها — من العناصر المكونة للبناء الإنساني بطبيعته وليست شيئًا طارئًا، وما المعارك الوطنية إلا بمثابة «المثيرات» التي تبعث مشاعر المقاومة من مرقدها والعمل الوطني هو المنبه الشديد الوطأة الذي يوقظ حس المقاومة من مكمنه، ولكن غياب المعارك — واندماج الإنسان في حياته العادية «التي تحتل الجزء الأكبر من صفحات الرواية» — لا يعني غياب المقاومة أو فقدانها لأنها عنصر حي في تكوين الشخصية (قد ينام في شخصية عصام، ولكنه سرعان ما يستيقظ مهما طال الأمد، وقد يتخدر فوق أرض المعركة نفسها كما حدث لمحمود، ولكنه سرعان ما يفيق)، ولأنه عنصر فحسب، وليس كل العناصر، فقد بنت الكاتبة روايتها فنيًّا على هذا الأساس الراسخ، ولم تنسَقْ مهرولةً وراء مغريات المشاهد الوطنية التي صورتها في أحجامها الطبيعية، أي في نسبتها إلى الكيان العام. ولأنه عنصر إنساني حقيقي فإنه موجود في كل شخصية مهما تفاوت حجمه من فرد إلى آخر، ومن مرحلة إلي أخرى، موجود بمعدل تطورٍ متناسق مع البناء العام. هذا هو الجوهر الكامن في «الباب المفتوح» أو الرمز الذي تلبسته معظم الشخصيات والأحداث والمواقف، و«رؤيا البطولة» التي أبدعتها لطيفة الزيات في نفاذٍ وعمق، بطولة الإنسان في قوته وضعفه، في حياته اليومية وفي ميدان القتال. لقد أصبح ميدان القتال في «الباب المفتوح» ضمن جزئيات الحياة اليومية، ولذلك صح لنا أن ندعو رؤيا البطولة هذه برؤيا المقاومة، مقاومة الذات والمجتمع والقهر الأجنبي. وكأن، المقاومة في هذه الرواية الهامة أشبه بمصل واقٍ يمنح الإنسان مناعةً تلقائية ضد الخور والضعف، هو مصل البطولة — فالكل أبطال في الرواية — في مواجهة الهزائم. وهكذا قالت المؤلفة لكل مصري: أنت في الأساس بطل، وبذرة النضال والمقاومة في أعماقك، والأحداث وحدها قادرة على استنبات هذه البذرة، فتورق وتزهر وتثمر آياتٍ من العجائب. ليس البطل هو «الزعيم» فحسب، ولا هو «القائد» ولا هو من «يحترف» العمل الوطني، ولا هو من يأتي بالخوارق، وإنما هو كل رجل، وكل امرأة.
•••
نستطيع أن نلاحظ على تطور رمز البطولة في قصص المقاومة المصرية، أن هذا الرمز قد بدأ من بطولة «الجماعة» في شكلها البدائي الذي تمثل في قصة «عذراء دنشواي» وانتهى إلى بطولة «الجماعة» أيضًا، ولكن في شكلها الحديث، والبدائية التي كانت عليها البطولة الروائية عام ١٩٠٦م تعني البساطة والتلقائية والبعثرة التي كانت عليها مقاومة الشعب المصري في بداية هذا القرن. والحداثة التي آلت إليها البطولة الروائية عام ١٩٥٦م تعني المزيد من التعقد والتركيب والتلاحم والتنظيم وهي العوامل التي شكلت الخط العام للمقاومة المصرية إبان الخمسينيات. وخلال الخمسين عامًا من النضال المتواصل الذي عبَّرَت عنه الرواية المصرية تطور رمز البطولة فيها من الشكل الجماعي البدائي إلى التمايز المرتبط بالنمو الواهن للبرجوازية الناشئة كما صورتها «عودة الروح» و«بين القصرين» في ثورة ١٩١٩م إلى «البطل الوطني الكامل» أو البطل الفرد النموذج «في بيتنا رجل»، هكذا في خط بياني صاعد ما يلبث أن يعود المنحنى — ولكن في مستوًى تركيبي جديد — فنلتقي بالبطل الاجتماعي المرتبط تنظيميًّا وسياسيًّا في «قصة حب» و«الباب المفتوح». ويكاد أن يكون هذا التطور خطًّا متوازيًا مع التطور الاجتماعي والسياسي لحركة النضال المصري الحديث.
والملاحظ أن الرواية المصرية قد أرَّخت لثورة ١٩١٩م وانتفاضات الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات، ولم تؤرخ بصورةٍ رئيسية لثورة يوليو، أي أنها عكست روح الانكسار ولحظات الهزيمة أكثر من عكسها لروح الانتصار ولحظات الفرح، وتقر بها هذه النغمة المأساوية من عالم التراجيديا ولكنها لا تملك أسباب الدخول من أبواب هذا العالم الدرامي. وتكاد تقترب من عالم الملاحم الشعبية في اعتمادها على تجسيم الصراع بين القوى الخارجية من ناحية والبطل من ناحيةٍ ثانية، مهما اختلفت مصاير البطل من رواية إلى أخرى. ولكن الملاحظة الدقيقة تقول إن ما نستشعره من روح المأساة التي ترفرف على بطولات المقاومة المصرية تمتُّ بصلة قرابةٍ إلى النشأة الرومانتيكية للرواية المصرية وتطورها أكثر من صلتها بالحس التراجيدي. كما تؤكد هذه الملاحظة أن الوجه الملحمي الذي نصادفه أحيانًا ما هو إلا قناع يخفي وراءه وجهًا حقيقيًّا قريبًا من اليوتوبيا المحلقة في أجواز الأحلام على أجنحة الخيال.
ولعلنا نلاحظ أيضًا أن الرواية المصرية لم تأخذ في الأغلب موقف النبوءة ولا موقف المواكبة، وإنما مالت إلى موقف المؤرخ، على أن الشخصية التاريخية ليست هي الشخصية الرئيسية بها، وإن كان الحدث التاريخي هو الحدث الرئيسي. وانعكس البعد الاجتماعي في مختلف مراحل تطور الرواية المصرية لأن المسألة الوطنية في التاريخ المصري كانت في جوهرها صراعًا اجتماعيًّا في بلد متخلف وشبه إقطاعي. وقد أسهمت الزاويتان التاريخية والاجتماعية في بناء «بطل المقاومة» على نحوٍ بعيد عن الشخصية الخارقة للمألوف تلك التي تأتي بالعجائب، واقتربت من الشخصية التي ترتبط بعمل إيجابي في الثورة إلى الشخصية التي تحمل عبء أكبر التضحيات، حتى ولو لم تثمر. ولهذه الأسباب مجتمعةً، ظلت الرواية المصرية في خطها الرئيسي — بالرغم من كل ما يعترضه من منعطفات ومتعرجات — سلاحًا ثوريًّا في معركة المصير.