الفصل الرابع

بطل المقاومة في الرواية الفلسطينية

إذا كانت مأساة هذا العصر هي التفرقة العنصرية، فإن كارثة فلسطين وقيام إسرائيل، من أبشع معالم هذه المأساة. فالدعامة الأساسية التي أُنشِئت عليها دولة الاغتصاب هي الفكرة العنصرية. ومن هذه النقطة تصبح جراحنا القومية في فلسطين جراحًا إنسانيةً شاملة لأعمق ما في الضمير البشري من نبضات كارهة بطبيعتها لعصور البداوة والظلام.

ولقد عرف اليهود قيمة التعبير الوجداني عما دعوه بقضية «أرض الميعاد»، فكانت لهم جولات عديدة في مجال الرواية القائمة على الفكرة الصهيونية في لغاتٍ عالمية كثيرة.

أما نحن العرب، أصحاب المأساة الحقيقة؛ فقد آثرنا القصيدة الخطابية لزمن طويل إطارًا يتيمًا لأحزاننا، كما آثرنا تضييق الخناق على معنى المأساة في فلسطين فنزعنا رداءها الإنساني الرحيب، وأضفَينا عليها ثوبًا قوميًّا ضيقًا. ولذلك كان من العسير أن يكون هذا الشعر سفيرًا فنيًّا مستجابًا لدى الشعوب الأخرى التي تؤثِّر فيها الدعاية الصهيونية ليل نهار.

وإذا كانت هناك بعض القصص التي صاغت هذا الجرح الدامي، فإن صياغتها لم تخرج عما أرادته القصيدة الخطابية لنفسها من اللجوء إلى المستوى السياسي فحسب وما يتبعه من تقريرية ومباشرة، والانطلاق من المعنى القومي الضيق دون الدلالة الإنسانية الكبرى، فأوجزت فكرة الاغتصاب، والنهب، ولم تحاول قط إضاءة الفكرة العنصرية، وهي الدعامة الأساسية — فيما أرى — التي تقوم عليها إسرائيل، وتنبثق عنها مأساة فلسطين.

أي أننا إذا شئنا أن نقدم أدبًا إنسانيًّا يعبر عن مأساتنا «الخاصة» في فلسطين، فإنه يجب أن يتلافى أولًا التورط في وهاد السذاجة والسطحية والإبقاء على العنصر السياسي فحسب. ومعنى ذلك أنه يتعين علينا الإحاطة الشاملة بكافة أبعاد التجربة وتشابكها المعقد، فنحرز أخطر شروط العمل الأدبي، وهو الصدق الفني. كذلك ينبغي أن نصدر في معاناتنا للتجربة عن وعي عميق بجوهرها الإنساني العام الذي ينفذ ببساطة إلى ضمير العالم كله. فنكون قد أخلصنا للدلالة الكلية في مأساتنا، واستطعنا أن نقدم لأي إنسان في أي مكان من أرجاء الدنيا، خلاصة مأساة العصر.

وليس غريبًا أن يحاول القيام بهذا الواجب الضخم اثنان من جيل المأساة.

فالكاتبان حليم بركات وغسان كنفاني هما من الذين تجرعوا مرارة الكارثة قطرةً قطرة، وعاشوا، بشكلٍ ما، في قلب المأساة، نبضةً نبضة. وهم — بعد ذلك — من أبناء الجيل العربي المثقف الذي عاني ويلات التخلف الحضاري المرعب في بلاده، واستنشق نسمات الازدهار المادي والفكري في أوروبا وأمريكا، ومن ثَم تفجرت أزمته في ذلك التمزق الملتاع بين الرغبة في أن يعيش حياته بعيدًا عن ضراوة التخلف، والرغبة في أن يعيش مجتمعه كما يريد هو.

ثم جاءت محنة فلسطين — ويا للعجب! — كطوق النجاة لهذا الجيل الحائر المعذب؛ فقد حددت له بصورةٍ حاسمة أبعاد القضية التي قُدِّر لشبابه أن يتحملوا عبأها بكفاية وإخلاص نادرَين؛ إذ أحسوا أنهم يتحملون في واقع الأمر عبء أنفسهم أولًا، وعبء أمتهم ثانيًا، وعبء الحضارة الإنسانية في النصف الثاني من القرن العشرين أخيرًا. أي أن كارثة فلسطين قد حلت لهم معظم المتناقضات بين هذا الثالوث. بمعنى أن تمزقاتهم العديدة المبعثرة قد توحدت في تمزق واحد كبير يشتمل على كافة التمزقات التي حشدها لهم العصر في مواجهتهم للشرق بالغرب على المستوى الحضاري، تمامًا كما كانت الحربان العالميتان عاملًا حاسمًا عند الشباب الأوروبي في انصهار أزماته المختلفة في بوتقة أزمةٍ واحدة كبرى؛ هي مشكلة الإنسان مع القيم التي أدت به لأن يكون «لامنتميًا».

•••

حليم بركات في روايته «ستة أيام» يطرح قضية الانتماء في حياة هذا الجيل. وقد سبق لنجيب محفوظ أن ناقش نفس القضية في الثلاثية، أعني قضية «كمال عبد الجواد». وخرج من المناقشة بأن أزمة الانتماء في هذا المجتمع هي «الحرية». وها هو ذا حليم بركات يضيف عنصرًا جديدًا إلى الأزمة هو «التخلف» الحضاري.

والحق، أن أزمة الحرية ومأساة التخلف الحضاري في المنطقة العربية من أخطر العوامل الصانعة لمشكلة «المنتمي» في بلادنا. فالفروق الأساسية بيننا وبين الغرب في الوقت الراهن أننا ورثنا مرحلتنا الحضارية المعاصرة من أحضان التخلف الرهيب عن ركب الحضارة العالمي، والتقاليد غير الديمقراطية في أسلوب الحكم. فكان «الانتماء» إلى النظريات الاجتماعية والحلول الاقتصادية والسياسية أمرًا لا مفر منه أمام الضمير العربي، وكان «اللاانتماء» مجرد أمنية تمليها الظروف السيئة على الوجدانات المرهقة. أما في بلاد الغرب، فالعكس هو الصحيح: الموقف الأصلي هو اللاانتماء، أما «الانتماء» فهو مجرد أمنية يمليها الحنين على الوجدانات المعذبة. لذلك كان نجيب محفوظ في منتهى الصدق الفني والإخلاص للحقيقة الماثلة حين جعل أزمة كمال عبد الجواد تنتهي بالانتماء إلى الثورة الأبدية، بالانحياز إلى صدى كلمات ابن شقيقته أحمد شوكت.

أما حليم بركات فقد وضع شخصيته الرئيسية «سهيل» في أتون الأزمة في قلب المحنة في اللحظة الحاسمة من تاريخ المأساة.

إن سهيل أحد أبناء قرية «دير البحر» التي أنذرها اليهود بالاستسلام خلال أسبوع، وإلا تلاشت نهائيًّا مع رياح الموت والدمار. وتبدو أهمية الزمان والمكان هنا بالغةً من زاويتَين: الأولى فكرية، وهي أن الفنان أراد أن يستشف أعماق هذا النموذج البشري في ذروة اللحظة الحرجة، والأخرى تعبيرية، وهي أن البناء الروائي يخلو عادةً من الحواشي والذيول عندما يأخذ الزمن في الاتساع والعمق لا في التراخي والطول. لذلك يلجأ الكاتب إلى المونولوج الداخلي والمذكرات الشخصية والأحلام وكافة مستلزمات التعبير عن الماضي والحاضر والمستقبل في قطاعٍ زمني قصير المدى. إن أهمية الزمان والمكان تخضع بصورةٍ تلقائية للحدث الرئيسي الذي يتمدد فيهما معًا من خلال الشخصيات الثانوية والرئيسية على السواء.

والحدث في «ستة أيام» هو محنة دير البحر أمام إنذار الأعداء «أن تستسلم دير البحر أو تمسح عن وجه الأرض»، كما يقول السطر الأول في الرواية. هذا الحدث يتجسد في الشخصية الأولى: سهيل الذي يتمدد في داخله ومن خارجه مونولوج طويل يتشابك مع أول خيوط المأساة «الضباب المتكاثف يتصاعد ويحيط بدير البحر فيفصلها عن العالم. إنها سفينة من أرض كنعان تمخر البحر لأول مرة متحديةً الموت الجحيمي عند أطراف الوجود»، «السفينة تواجه الموت بلا دفة. رغم هذا تتحدى»، «إن أمةً كبيرة ستهلك» (ص٩). هذا الخيط يصل بينه وبين المجتمع أو الأمة كفكرة لا تنفصل عن ذاته. أي أنه يشعر حتى النخاع بأنه مع الأرض التي نبت من ترابها، فكرة واحدة لا تتجزأ. وقضية الانتماء لا تبدأ من هنا. إنها تبدأ من تصور الفرد للمجتمع كمجموعة من الأفراد، من تصور سهيل لفريد وعبد الجليل وناهدة وخالد ولمياء وليليان. من حركة الفرد في المجتمع، تبدأ القضية، أقصد تبدأ الأزمة. وباختيار المؤلف لمأساة فلسطين محورًا فنيًّا لمناقشة هذه القضية، نضع أيدينا على جملة أشياء. فهو — أي الفنان — يلتزم تلقائيًّا بوجهة نظر «المنتمي» إلى المأساة. ويشير هذا الاختيار في نفس الوقت إلى أن هذا المنتمي في أزمة. وهذا هو الإطار الفكري للرواية: «سهيل» شاب فلسطيني تعرَّف إلى أوروبا معرفةً حميمة «نذر نفسه، لا يدري لأي شيء. يغترب أحيانًا، وأحيانًا يحس أن الحياة رائعة. يكفي أن يكون فيها موسيقى وكتاب وامرأة ونقاش» (ص۱۲). وفي أوروبا تتمزق أشياء عديدة في صدره، ثم يعود إلى قرية دير البحر لتزداد حدة التمزق؛ ذلك أنه يعود بجسم عربي وعقل غربي، يعود إلى المجتمع المتخلف بحضارة متقدمة، ومن هنا يبدأ الصراع «خليط غريب من البشر يحيط به. رغم هذا يشعر أحيانًا أنه يحبهم، حتى ليود أن يعطيهم شيئًا يوحد بينهم ويجعلهم كائنًا حيًّا».

هذا هو شعار المنتمي العربي، لا يقترب في القليل ولا في الكثير من المنتمي في أوروبا، حيث التربية الديمقراطية للشعب عميقة الجذور، وحيث الحضارة الصناعية في أوج مجدها، فالمنتمي الأوروبي يلتزم بحرية، وبلا عقد. كذلك فإن هذا الشعار لا يقترب من اللامنتمي في الغرب، لأن اللامنتمي الغربي يحس أنه يعيش في عالم بلا قيم. أجل إنه يشعر بحنين جارف إلى الانتماء، ولكنه لا يستطيع.

سهيل في «ستة أيام» ليس منتميًا أوروبيًّا مستريحًا هادئ البال، وليس لامنتميًا بالغ اللامبالاة والرفض للقيم، إنه منتمٍ في أزمةٍ، «صدره يمتلئ برائحة العرق والعطر، بالمحبة والأنانية، باليأس والأمل، بالهرب والتحدي، بالموت والحياة. خيط غريب يفصل بينها. لا يقدر أن يأمل أو ييأس، لا يقدر أن يضجر أو يستقر. إنه في تمزُّقٍ أبدي» (ص۱۳). هو عميق الانتماء حين يقف في الجماهير يخطب «السؤال هو أن نستسلم أو نموت. الجواب بسيط جدًّا: أن نموت أو ننتصر» (ص١٠). «أهل دير البحر نشَئوا مع المخاطر فاعتادوها وأحبوها، حتى ليصعب عليهم أن يفصلوا وجودهم عنها. لقد تناوبت أمواج العدوان على هذه البلدة وتركت فيها انحطاطها. نريد أن نوقف هذه الموجات. نريد أن نتحدى. لم يعد لنا غير التحدي لم يعد لنا غير الموت. إنه نعمتنا الأخيرة. إنه السفينة التي تمخر ضمير الأجيال الآتية، قد لا ننتصر في هذه المعركة ولكننا نترك لأبنائنا أسطورةً؛ أسطورة التحدي والبطولة والاستشهاد، فيرتفعون بوجودهم نحوها، هم لا بد أن ينتصروا» (ص١٤).

هذا الانتماء الأصيل يصطدم في وجدانه بكافة آيات التخلف: كيف يواجهون الأعداء؟ بالبندقية العتيقة والمسدس والخنجر والوهم الخرافي في الرءوس والساعة المتوقفة عن المسير؟ (ص۱۳). الانتماء يصطدم بالشك في قدرة التخلف على دحر العدو، وهنا يتأزم المنتمي العربي — سهيل — ويميل إلى اللاانتماء، إلى رفضه القيم، إلى الارتياب فيما قاله للجماهير وهو يخطب.

وعندئذٍ يمد المؤلف خيطًا آخر بين المنتمي والمجتمع كأفراد، بعد أن تعقد الخيط الأول بينه وبين المجتمع كفكرة. إن سهيل يحب ناهدة «لماذا لا يذهب إليها الآن ليصارحها بحبه؟ قد يموت في هذا الأسبوع. قد تموت هي. ليطلق العصفور من قفص صدره فوق البحر، في المطر والضباب» (ص۱۹).

وناهدة هي الطرف الذي يقابل لمياء. فهو يحب ناهدة بالرغم من أنها من الدين الآخر، كما أنها ابنة الشهيد إبراهيم العامري الذي أقيم له تمثال كبير في دير البحر رمزًا إلى صلابته في المقاومة. وابنته لذلك هي رمز القداسة والصلابة والمقاومة. لذلك وفق المؤلف في اختيارها — دون لمياء — رمزًا لأزمة المنتمي مع المجتمع. إنه يستطيع أن يقضي وقتًا ممتعًا مع لمياء بغير اصطدام مع المجتمع. أما ناهدة فالدين يمنعه من الزواج بها، وتمثال أبيها يحرمه من لقائها. إن ظروفها هي مجموعة القيم الفاسدة في مرحلتنا الحضارية المتخلفة، لذلك فهو يحبها ويتأزم بسببها في وقتٍ واحد.

في هذه النقطة يختلف عن فريد، المنتمي الذي ينحني للعاصفة، فيدوس على قيمة القيم في حياته؛ الحرية. فريد ينتمي بإخلاصٍ شديد إلى كافة موضوعات أمته وتقاليدها، ليصل في النهاية إلى الهدف السياسي فحسب، وهو دفع العدو عن احتلال أرضه.

أما سهيل فهو ينتمي أيضًا إلى هذا الهدف البعيد، ولكن من خلال قيمه الخاصة به، لا القيم الاجتماعية السائدة. لذلك تتأزم علاقة سهيل بناهدة، ويكاد فريد يردد نفس الكلمات التي رددتها الأم: الأعداء على الباب ونحن نتلهى بكلماتٍ لا معنى لها.

ويوجز سهيل مشكلته ومشكلة الآلاف من الشباب العربي: «الأعداء ليسوا المشكلة وحدهم. لنا أعداء في الداخل أيضًا. وقد فشلنا حتى الآن أمام أعدائنا في الخارج لأننا تجاهلنا أعداءنا في الداخل» (ص۳۷). هذا ما قاله للأم، وهو قريب الشبه بما قاله لفريد: «كل ما في الأمر أنني أرفض أن أومن بشيء لمجرد أن أهلي يؤمنون به. أرفض أن أتبع دون أن أختار. ليس من حقي أن أضع الأجيال القادمة في قمقم وأغلق عليها، أحرمها أن تتنفس بحرية» (ص٤٧).

أما ناهدة نفسها، فتثور على أمها، وتتمرد على المجتمع، فتنفرد بسهيل وتتحرر من ثيابها وكل القيم.

خيوط أخرى يمدها المؤلف بين سهيل والناس. فهناك عمه المتدين الذي يكتفي بالصلاة من أجل «الخلاص» ويردد أن رفع السلاح خطيئة، وعمه الآخر يدفن أمواله بمكانٍ ما من المنزل بينما يمشي حافيًا في الشوارع ويردد دائمًا أنه بلا وريث.

وهناك عبد الجليل، أحد المناضلين، الذي يجمع النقود من أهل القرية المكافحة ويهرب بها، عبد الجليل هذا هو الذي كان شعاره: «شيء رائع جدًّا. رائع أن نعيش من أجل قضية. رائع جدًّا» (ص۸).

وكأن الفنان يهمس لنا بأن الانتماء بلا وعي أو بلا حرية، الانتماء الذي ينحني للعاصفة قد يؤدي إلى الخيانة. وبذلك يكون فريد شخصيةً مفردة لا يقاس بها هذا اللون الغائم من الانتماء. كذلك فاللاانتماء المنافق الجبان يؤدي إلى الخيانة. إن لمياء لا ترفض القيم عن وعي بل نشدانًا للسلامة، لمجرد أن تعيش وتأكل وتشرب. تقول له: «سنترك لك الرعاع والتقاليد المقدسة والشوارع الضيقة والحريم والأسوار حول البيوت وثيابي الداخلية كي تنام معها في أيام الصيف في بلاد الوهم. سنهرب، سنهرب.» هذا اللاانتماء المزيف لا يمت بأية صلة إلى اللاانتماء الغربي، لأنه ينشد الهرب من الموت، ولو كان في سبيل أقدس ما في الوجود من قيم. أما سهيل فيعترف لها بأنه ينتمي «إلى الحقيقة. هذه أرضنا، فيها نجوع وفيها نشبع، فيها نعيش على هامش الوجود، وفيها يمكن أن نعيش في قلب الوجود» (ص٩٦)، «تنسين ما هو أهم، الحقيقة. من حقنا أن نعيش في أرضنا. إنها لنا» (ص۹۹).

فإذا نطقت لمياء: «أشعر أن قرونًا تفصلني عن هذا الشعب، كيف يمكن أن أشعر بالانتماء.» نحسُّ بما في قولها من زيف وافتعال؛ إذ هي تردد هذه الكلمات وهي تتوسل إلى سهيل بدموعها وجسدها أن يقول لها كلمة حب، ولو لم تكن صادقة. لقد تحولت إلى كتلة من الشهوة تحت ستار الحب الزائف، كما سبق لها أن تحولت إلى كتلة من الجبن تحت ستار اللاانتماء الأكثر زيفًا. لذلك يغادرها سهيل وداخله يتمتم: «من أجل أن يكون صادقًا مع نفسه، كفر بمعظم ما يؤمن به الناس. الصدق كان ملجأه الوحيد، وفي برهةٍ أدرك أنه بلا ملجأ» (ص١٠٥).

هذه المجموعة من الخيوط البشرية يصوغها الفنان حليم بركات كشخصيات مفردة أولًا، كل منها يعبر عن ذاته الخاصة، ثم كشخصيات رامزة ثانيًا، كل منها يعبر عن أحد جوانب مشكلة المنتمي العربي. بل إن سهيل نفسه شخصية تتكامل لها على طول الرواية معالم الذات المفردة، والنموذج البشري الرامز في نفس الوقت. ومن هذا المستوى ترتفع أحداث الرواية من كونها جزئيات الحياة اليومية إلى مستوى القضية الفكرية المطروحة. هذه الخيوط توحد سهيل وتتجاذبه في نفس اللحظة. إنه يحب ناهدة ويكره الزواج، ويعشق دير البحر ويمقت التخلف، ينضم إلى صفوف المجاهدين ويرفض الطاعة العمياء. وفي غمرة هذا التمزق يكلَّف بالاتصال بأركان حرب الدولة الشقيقة، وفي طريقه يقبض عليه الأعداء. وهنا تبلغ الأزمة ذروتها.

وهذا هو منهج حليم بركات في التعبير الفني. لقد وضع جميع شخصياته في أزمةٍ واحدة في إطار محدد من الزمان القصير والمكان المهدد بالخطر، أي في إطار الحدث الفذ في حياتهم جميعًا. ثم هو يختار من بين هذه الشخصيات أكثرها قلقًا وتأزمًا، فيجتاز سهيل كافة الظروف «العامة» المريرة التي اجتازتها دير البحر، ثم يضع الفنان هذه الشخصية بالذات أمام ذلك الحدث الفذ، فيقع سهيل في أيدي العدو، فيمارس بجسده ونفسه أبشع ألوان التعذيب، فماذا يكون موقفه؛ هل يعترف بما لديه من معلومات، فينقذ نفسه ويذهب للقاء حبيبته، أم إن «شرفه» معلق بهذه اللحظة الفاصلة في حياته؟

إن كثيرًا من المنتمين ينهارون تحت وطأة هذه اللحظة القاسية حين يكون انتماؤهم غير كامل الوعي بمعنى الانتماء، حين لا يكون انتماؤهم حرًّا أصيلًا، حين تكون ثمة مسافة بين انتمائهم والقضية العامة التي ينتمون إليها. أما سهيل فقد استطاع أن يحول القضية العامة إلى قضية شخصية تنبع من الذات، فهو ينتمي إلى جوهر القضية العامة الذي لا ينفصل عن جوهره، وهو الحرية. إن حرية بلاده هي حريته شخصيًّا. لذلك يتحمل العذاب بأصالة ودون افتعال. إنه ينتمي إلى أقدس مقدسات الذات الإنسانية، ولكنه يرفض بعنف وإصرار ما يمكن أن يدنس هذه الذات من شوائب القيم الآسنة.

لهذا السبب لا يفاجأ بغدر العدو الذي دمر بلده قبل الموعد المحدد للتسليم، فعندما يأخذه الضابط إلى سطح المعتقل ليرى كيف تحولت دير البحر إلى كتلة من النار والدخان، يسخر الضابط قائلًا: بعد قليل تتحول إلى رماد. فيجيب سهيل: الرماد يخصب الأرض.

«– فنستغلها نحن.

– لوقتٍ قصير، ولكنني كنت أتحدث عن شيءٍ آخر …» (ص۲۳۱).

•••

بعد عشر سنوات من بداية المأساة، تدور أحداث قصة «رجال في الشمس» للكاتب غسان كنفاني، فيطرح قضية هذه المجموعة البشرية التي اغتُصبت أرضها، ولم يعد لها من أمل سوى «مجرد الوجود في الحياة».

وإذا كان حليم بركات قد لجأ إلى التركيز الزمني والمكاني في «ستة أيام»، ومن ثم كان المونولوج الداخلي الطويل هو الدعامة الأساسية في العمل الفني، فإن غسان قد لجأ إلى تركيز النماذج البشرية وتعميق الحدث الروائي من خلال المونولوجات الداخلية التي كانت تتمثل لأصحابها في حوارٍ مباشر بينها وبين نفسها تارة، وبينها وبين ذويها تارةً أخرى. «رجال في الشمس» هم أبو قيس، وأسعد، ومروان، الذين استطاعوا الوصول إلى البصرة بالعراق بغية الهرب إلى الكويت حيث يستطيعون العيش الكريم.

عندما يقف أبو قيس أمام الرجل السمين الذي يشتغل بالتهريب مقابل خمسة عشر دينارًا للفرد، تنثال على مخيلته ذكريات الأمس القريب والبعيد، ذكريات الأستاذ سليم المدرس بقريته الفلسطينية الذي رآه من نافذة شباك الفصل المدرسي يعيد القول بأنه حين يلتقي النهران الكبيران: دجلة والفرات، يشكلان نهرًا واحدًا اسمه شط العرب، يمتد من قبل البصرة بقليل. ويذكر ابنه قيس الذي رفض امتحان والده له حين سأله أين يقع شط العرب، وأخبره أنه رآه من مقعده في الفصل وهو ينظر من النافذة. وها هو ذا يرقد فوق دقات قلبه أمام الشط يتذكر كلمات صديقه سعد: «لقد احتجت إلى عشر سنوات كبيرة جائعة كي تصدق أنك فقدت شجراتك وشبابك وقريتك كلها» (ص١٤). لذلك فهو يحس بالغربة أينما وجد؛ فحين وقف يحدق بالنهر «أحس أكثر من أي وقت مضى بأنه غريب وصغير». إنه يعلم تمامًا أن الكويت ليست الفردوس المفقود، وإنما هي «مجرد الوجود في الحياة»، ويعلم تمامًا أن البيت الذي يسكن فيه بأسرته، ليس بيته «رجل كريم قال لك: اسكن هنا. هذا كل شيء، وبعد عامٍ قال لك أعطني نصف الغرفة، فرفعت أكياسًا مرقعة من الخيش بينك وبين الجيران الجدد» (ص١٥). لذلك فهو لا يعبأ بأنه قد يموت في طريق الهرب، لأن حياته الحاضرة ليست أفضل من الموت. ولكنه لا يستطيع أن يعطي الرجل السمين كل ما معه من نقود، فهو لا يملك سوى الخمسة عشر دينارًا.

نفس الأحاسيس التي يموج بها صدر أسعد، الشاب الهارب من الأردن «الطريق، أتوجد بعدُ طرق في هذه الدنيا؟ ألم يمسحها بجبينه ويغسلها بعرقه طوال أيام» (ص۲۲)، «وأحس حينما كان يرتدي الوهاد الصفر، أنه وحيد في كل مكان». لقد حصل على بعض النقود من عمه حتى يصير بوسعه أن يتزوج ابنته ندى كما يقول العم، أما هو فلم يفكر في شيء كهذا من قبل.

أما مروان «فهناك، داخل الدكان، تقطعت آخر خيوط الأمل التي شدت لسنواتٍ طويلة، كل شيء في داخله» (ص٣٥). إنه لا يستطيع أن يعطي أكثر من خمسة دنانير، لأنه لم يأخذ سوى عشرة من والده الذي يعيش مع زوجته الأخرى التي بترت الحرب إحدى فخذيها «ليس يدري كيف أجاز لنفسه أن يصف أباه بأنه مجرد كلبٍ منحط» (ص٤٠)، ما الفرق بين أبيه وشقيقه زكريا الذي سافر إلى الكويت وكان يرسل إليهم بعض النقود، ثم قاطعهم حين تزوج؟

هؤلاء الرجال الثلاثة الذين يمثلون في مجموعهم شعب فلسطين المشرد، لكلٍّ منهم على حدة مأساته الخاصة، ولكن الكارثة الكبرى توحد بين مشاعرهم وتلقي بهم إلى الرجل الرابع الذي شاهد أحدهم عند الرجل السمين فجاذبه الحديث وأخبره أنه يستطيع أن يقوم بتهريبهم إلى الكويت في عربة المياه التي يقودها مقابل عشرة دنانير للشخص فقط. الصعوبة الوحيدة التي ستقابلهم هي رجال الحدود. لذلك يتعين عليهم أن يهبطوا من فوق العربة إلى داخل الخزان لمدة خمس دقائق عند منطقتَي الحدود اللتين سيعبرانها.

هذا الرجل هو أبو الخيزران الذي فقد رجولته أثناء الكارثة عندما انفجرت فيه إحدى قنابل العدو، فهو يعيش نفس المأساة في صورةٍ أخرى: «ولقد عاش هذا الذل يومًا وراء يوم، وساعةً إثر ساعة، مضغة مع كبريائه. عشر سنوات طوال وهو يحاول أن يقبل الأمور، ولكن أية أمور، أن يعترف ببساطة بأنه قد ضيع رجولته في سبيل الوطن؟ وما النفع، لقد ضاعت رجولته وضاع الوطن. لم يقبل ذلك حتى حين كان تحت المبضع يحاولون أن يقنعوه بأن فقدان الرجولة أرحم من فقدان الحياة. لقد احتاج إلى وقت طويل حتى يعتاد مجرد الحياة» (ص٦٨). لذلك فإنه لا يرغب الآن إلا في المزيد من المال، حتى يترك كل شيء بعد عامين ويستقر: «أريد أن أستريح، أتمدد، أستلقي في الظل وأفكر أو لا أفكر، لا أريد أن أتحرك قط، لقد تعبت في حياتي بشكل أكثر من كافٍ» (ص۷۲).

وهكذا تضم العربة هذه المآسي المتعددة، والمتوحدة في مأساةٍ أعظم وأكثر شمولًا. «كانت السيارة الضخمة تشق الطريق بهم، وبأحلامهم وعائلاتهم، ومطامحهم وآمالهم، وبؤسهم ويأسهم، وقوتهم وضعفهم، وماضيهم ومستقبلهم. كما لو أنها آخذة في نطح بابٍ جبار لقدر جديد مجهول، وكانت العيون معلقةً فوق صفحة ذلك الباب كأنها مشدودة إليه بحبالٍ غير مرئية» (ص۸۷). إلى أن تأتي اللحظة الحاسمة الأولى عند أول منطقة للتفتيش على الحدود، ويدخل الرجال الثلاثة خزان العربة لمدة سبع دقائق، يعود بعدها أبو الخيزران ليفتح عليهم، ويخرجون الواحد بعد الآخر، ثم يتكرر المشهد عند منطقة الحدود الثانية، ولكنه لا يكتمل بالنهاية السابقة. فقد تعطل أبو الخيزران عند المختص الذي راح يداعبه ويغمز له بأنه يعرف جيدًا علاقته الجنسية بالراقصة كوكب في بغداد، ولا يمنحه تأشيرة المرور إلا بعد أن يأخذ منه وعدًا بليلة حمراء مع كوكب. وعندما يركب أبو الخيزران ويجتاز الخطر يفتح الخزان فلا يخرج منه أحد. لقد مات الرجال الثلاثة، «تحسس طريقه منحنيًا إلى الفوهة، وحين أخرج رأسه منها لم يدرِ لماذا سقطت في ذهنه صورة وجه مروان دون أن تبرح. لقد أحس بالوجه يلبسه من الداخل مثل صورة ترتجف على حائطٍ، فأخذ يهز رأسه بعنف وهو ينسل من الفوهة فتحرق رأسه شمس لا ترحم» (ص۹۸).

إن الفنان حين يختار «الجنس» بالذات كموضوع يؤخر أبو الخيزران عن فتح العربة، إنما يمس جوهر ذلك النموذج البشري الذي فقد رجولته في الحرب. ثم يفقد رفاقه الثلاثة في أزمة ذلك التناقض الغريب بين فقدان الرجولة وما يتخيله موظف الحدود عن جولاته الجنسية. وكأن المؤلف يسخر من عبث الحياة ومنطق الوجود.

أبو الخيزران لا ينسى نقود الضحايا فيأخذها من ثيابهم بعد أن ألقى الجثث في عرض الطريق، ولكن فكرةً ما تفجرت في رأسه بصورةٍ مفاجئة، فصرخ في الموتى ورددت الصحراء صدى الصراخ.

«– لماذا لم تدقُّوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟» (ص١٠٦).

ولا شك أننا نستطيع أن نترجم الرواية من المستوى الواقعي لجزئيات حياتنا اليومية إلى المستوى الرمزي، فنقول إن الإحساس بالغربة الذي كان يختلج في صدور الرجال الثلاثة هو الشعور الإنساني العام في هذا الكون، كما أن عربة الموت ليست إلا هذا العالم غير المعقول الذي نعبر داخله في رحلة طويلة شاقة إلى تلك النهاية البشعة. ويظل تساؤل أبو الخيزران إدانةً مستمرة من ضمير الوجود للجنس البشري الذي لم يتجاوز حدود شهواته العنيفة.

غير أن هذا التفسير يغفل في نفس الوقت الجذور المحلية العميقة لهذه المأساة. فالأمر عندي أن القصاص يصور الشعب العربي في فلسطين على أنه منذ تشرد من أرضه لم يجد صديقًا سوى عربة الموت. فالكويت لا تمثل له الفردوس الضائع والأمل الموعود، وإنما هي تمثل الحد الأدنى للحياة التي توفر لأبي قيس أن يعلم ابنه الصغير، وتتيح لأسعد بأن يتزوج بمن يشاء، وتمنح مروان الفرصة لأن يحب أباه ويطعم أمه.

أما الرجل السمين الذي يقوم بعمليات التهريب في البصرة فيرمز به الكاتب إلى تلك الفئة الاستغلالية في المجتمع العربي. وهو لا يشبه أبو الخيزران، لأن هذا الأخير جزء لا ينفصل عن جسم المأساة.

•••

والمقارنة بين «ستة أيام» و«رجال في الشمس» لا تعنينا إلا من زاوية أوجه الشبه بين الروايتين. حليم بركات يترك لنا بطل الأزمة يظل حيًّا، فسهيل بالذات في نهاية القصة، في نهاية العذاب، لم يمت. بالرغم من أن دير البحر قد دُمرَت وجميع الأصدقاء ماتوا. غسان كنفاني أيضًا يجعل أبو الخيزران وحده الرجل الذي فقد رجولته، لا يموت. بينما يقتل الفرن الجهنمي رفاقه الثلاثة.

والرمز في القصتين شديد الوضوح، وهو أن من يجسد الأزمة يظل حيًّا مهما بلغت الأزمة ذروة المأساة، سواء كانت هلاك دير البحر، أو هلاكًا للرفاق الثلاثة. ومعنى ذلك أن الأزمة باقية ممثلة في مشكلة المنتمي في «ستة أيام» ومشكلة العقم في «رجال في الشمس».

وإذا كان الجنس يلعب دورًا هامًّا عند حليم بركات هو تقييم مدى التخلف الحضاري وافتعال اللاانتماء، فإنه يلعب دورًا لا يقل أهميةً عند غسان كنفاني هو المقابلة بين ضياع الوطن وفقدان الرجولة. كذلك فإن عقربَي الساعة اللذين لا يتحركان في دير البحر يشبهان عربة الموت في إنكار الزمن.

إلا أن سهيل في نهاية «ستة أيام» يؤكد للضابط العدو بأن رماد دير البحر سوف يخصب الأرض، كما أن أبا الخيزران في «رجال في الشمس» يصرخ لماذا لم يدقوا باب الخزان.

ومن هاتين النهايتين ينبثق الأمل الكبير في أن يكون للأيام الستة عند حليم بركات يوم سابع ليس ببعيد، تسترد فيه دير البحر أقدس قيم المنتمي؛ الحرية. كما لن يحتاج رجال غسان كنفاني إلى عربة الموت، فسوف يعرفون الطريق إلى شمس الحياة. وهذه هي الدلالة الإنسانية الرحبة في هاتين الروايتين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤