الفصل الخامس

بطل المقاومة في الرواية الجزائرية

ينفرد الأدب الجزائري الحديث، بين مختلف آداب الشعوب العربية، بمجموعة من الخصائص قلَّما تجتمع في أدب واحد على مجرى التاريخ، ويندر أن يتميز بها أدب قومية واحدة. في مقدمة هذه السمات التي يتصف بها الأدب الجزائري هو ذلك التشابك المعقد بين تيارات ثلاثة جلبتها ورسختها الظروف التاريخية، وهي التيارات البربرية والعربية والفرنسية، لغةً وحضارة. لقد ازدوجت — في أحسن الأحوال — ألسنة أدباء الجزائر وقلوبهم، وتبلبلت في معظم الأحوال أفكارهم التي تراوحت بين الشد والجذب والجزر. فالثقافة الفرنسية التي يحمل لواءها الاحتلال المقيم على مدى مائة وثلاثين عامًا، تحمل في تضاعيفها بذور «التقدم» و«التطور» و«التغير». هذه المعاني التي تجيش بها الصدور فيما يشبه الضباب، ولا تتجسد مطلقًا في اجترار المحافظين لمراحل منحطة من تاريخ الأدب العربي. غير أن الاستعمار الفرنسي في نفس الوقت، كان يحمل أهوال التخلف والفقر والموت، في حين كانت عروبة الجزائر تمثل الخلاص الوحيد الممكن من قبضة الاحتلال، وبين الثقافة الفرنسية المقروءة والمكتوبة، والثقافة العربية المكتوبة في بعض الأحيان، المنطوقة في أقلها، كانت تترنح اللغة البربرية على ألسنة مجموعة من القبائل تسكن الجبال وتحرص على أدبها الشفوي حرصًا روحيًّا عميقًا جذب انتباه وذاكرة وأقلام كتاب المدن، فقاموا على تدوينه تارةً وحفظه تارةً أخرى.

على أن الزمن في تدافع مجراه الذي لا ينقطع، لم يفصل بين ثقافة وأخرى بحاجز لا سبيل إلى اختراقه، وإنما التقت التيارات الثلاثة؛ لقاء الصراع والتفاعل والاندماج، وأثمرت في النهاية أدبًا «جزائريًّا» قبل أي شيء، قبل أن يكون فرنسيًّا وإن نطق بالفرنسية، وقبل أن يكون عربيًّا أو بربريًّا وإن نسج أحداثه وأشخاصه من حياة العرب والبربر. وإنما توحدت عناصر اللغة والفكر والبيئة والتاريخ والإنسان في صورةٍ شديدة التعقيد والثراء، هي صورة الأدب الجزائري المعاصر الذي تتعدد منابعه وأصوله وجذوره، ولكنها تعود فتلتقي ضمن تيارٍ أشمل من كل التيارات مجتمعةً، هو تيار الثورة الجزائرية العارم، فهذه الثورة هي البوتقة التي انصهرت خلالها «الروح» وتطهر في أتونها «الوجدان» وتبلور بدمائها «الفكر»، وأقبلت الرواية الجزائرية غداة الحرب العالمية الثانية تحمل في تضاعيفها هذا التاريخ المليء بالصراع، وتشارك أيضًا في ترجيح كفة الإنسان الجزائري وإن نطق بين صفحاتها بلغة الأعداء. وتقول الدكتورة سعاد محمد خضر في كتابها «الأدب الجزائري المعاصر»: «لقد ساعدت حدة ذلك الصراع نفسه في الجزائر في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي فترة تعاظُم حركة التحرر الوطنية، على ظهور القصة الجزائرية الحديثة. والقصة الجزائرية الحديثة من أكثر الأنواع تطورًا في الأدب الجزائري وأقدرها على توضيح الحقيقة الجزائرية أمام القارئ، بتقديمها مختلف الإجابات على مختلف المشاكل التي تبرز أمام الشعب الجزائري وبتوضيحها طريق المستقبل»، و«لقد كانت المعركة من الأسباب القوية التي دفعت إلى ظهور القصة الجزائرية.»

إن أهمية هذه النقطة في تقديري هي أنها توضح لنا لماذا غلب طابع «المقاومة» على الإنتاج الروائي الجزائري على ما عداه من خطوط وألوان. فليس هناك في الأدب الجزائري فرع يُسمَّى «أدب المقاومة» لأن هذا الأدب في مجموعه، جملةً وتفصيلًا هو أدب مقاومة. وربما هذا ما يفسر الملاحظة التي أبداها الدكتور أبو القاسم سعد الله في كتابه «دراسات في الأدب الجزائري الحديث» قائلًا إن «البطل» في الرواية الجزائرية ليس إلا شخصًا عاديًّا ركز الكاتب فيه وعليه كل مشاعر المواطن، إنه ليس مثلًا أعلى ولا نموذجًا خارقًا تتجسد فيه فكرة أو مبدأ عام، وإنما هو إنسان واقعي فيه كل ما في الواقع من مأساة وحرارة وصراحة، وليست له «مؤهلات خاصة ولا استعدادات خارقة». وكذلك تفسر لنا هذه الظاهرة أن «الأدباء» الجزائريين لم يمارسوا الأدب «تفرغًا له» وإنما من خلال ركام التجارب الهائلة والمختزنة التي صادفتهم في حياتهم اليومية حيث اشتغلوا بمختلف الحرف والمهن فجاءت معظم أعمالهم «سِيرًا شخصية». ويعمم هذه الفكرة الدكتور سعد الله حين يقول في كتابه: «إن أول عمل يكتبه أديب من شمال أفريقيا هو إعادة ترجمة شخصية يفصح فيها عن انتمائه إلى عالمَين مختلفَين، كما يعبر فيها عن ألمه من عدم استطاعته أن يجد مكانًا في أي من هذَين العالمَين.»

لقد عبَّرت الغالبية من أدباء الجزائر عن هذا الصراع الكامن في أعماقهم بين اللسان الناطق والوجدان النابض، بين الحضارة الجديدة التي جرت مسرى الدم في عروقهم حتى اختلط بدمائهم التي فجرت فيها الحياة النطفة الأولى من صلب الأسلاف. وعندما تغلب الدماء الجديدة الدماء الأصيلة، يثمر الكاتب الجزائري أدبًا فرنسيًّا يرطن بالأسماء والأحداث والأماكن الجزائرية، وعندما تغلب الدماء الأصيلة الدماء الجديدة يثمر الروائي الجزائري أدبًا جزائريًّا ناطقًا باللغة الفرنسية، وعندما يحتدم الصراع بين القديم الأصيل والجديد الوافد يعجز الفنان الجزائري عن تحقيق التوازن والتكافؤ والانسجام في العمل الفني حتى ليصبح هذا العمل شاهدًا على تمزق جيل بأسره.

وفي هذا الفصل نقدم ثلاث عينات نموذجية لهذه الأحوال الثلاثة التي تتجاذب الأدب الجزائري الحديث، وبخاصة عندما تصبح «المقاومة» الخامة الرئيسية للعمل الأدبي.

•••

ويعد محمد ديب رائدًا للرواية الجزائرية الحديثة، فقد كان من أوائل الذين طوَّعوا الشكل الروائي الحديث، أي الشكل المتعارف عليه في الغرب، لامتصاص هموم الإنسان الجزائري الذي كان الشعر والأدب الشفوي عامةً هو زاده الروحي الرئيسي. ومن بين أعمال ديب الكثيرة والمتنوعة تعد ثلاثيته «البيت الكبير، الحريق، النول» في مقدمة الأعمال التي تؤرخ لمواد الرواية الجزائرية وتضع اسم كاتبها في مصافِّ الطليعة من كتاب الجزائر. وينطبق على ثلاثية ديب التعريف القائل بأنها سيرة شخصية لصاحبها، ولكنها في نفس الوقت «مذكرات الشعب الجزائري»، كما وصفها أراجون، أو هي الجزائر نفسها كما قال معظم النقاد الذين تناولوها بالتقييم؛ ذلك أنها تتناول بمنهجٍ فني قريب من منهج الكاتب المصري نجيب محفوظ — وإن لم ترتفع إلى مستواه — الحياةَ الجزائرية في مرحلة المخاض قبل الثورة، فهي تتناول حياة العمال في المدينة وحياة الفلاحين في القرية ثم تنتهي إلى «أن النار قد بدأت. لن تتوقف أبدًا إنها سوف تستمر مشتعلةً ببطء وبعماءٍ إلى أن تعم ألسنتها الدموية البلاد كلها بحرارتها المدمرة». وقد ظهرت الأجزاء الثلاثة في ١٩٥٢م و١٩٥٤م و١٩٥٧م على التوالي. وهي تتوقف عند أعتاب «النبوءة» بما سيكون، تاركةً ما كان إلى روايته التي صدرت عام ١٩٥٩م تحت عنوان «صيف أفريقي».

وتتميز «صيف أفريقي» بإحكامٍ فني شديد يتجاوز به محمد ديب — فنيًّا — مرحلة «البيت الكبير»، كما تتميز بمضمونٍ إنساني عميق يتجاوز به حدود الزمان والمكان التي كانت تحد روايته الأولى. فالمقاومة هنا ليست في مرحلة «النبوءة»، وإنما يواكب محمد ديب باختزال الروائي القادر وموهبة الفنان التشكيلي الذي يعبِّر في خطوط قليلة عن دنيا بأسرها، يواكب الثورة الجزائرية التي اندلعت وهو يتم الجزء الأخير من روايته الأولى محققةً الحلم الذي ارتآه. ومرةً أخرى، يعمد محمد ديب إلى اختيار نماذجه البشرية من «الجزائر» كلها، لا من طبقةٍ دون أخرى، ولا من فئة دون أخرى، يختار التاجر وصاحب الأرض، والموظف الصغير والطالبة والخادمة والفلاح، يختار أيضًا الثوري والخائن والمتردد، ويختار «فرنسا» بكل ما يمثله استعمارها من قيمٍ تخون الثورة الفرنسية، يختار لفرنسا وجهها الهمجي المتوحش الذي يعبث بكل قيمة ولا يعبأ بأية مبادئ ولا يعمد ديب في بناء «صيفه الأفريقي» إلى العقدة الكلاسيكية التي تتجمع عندها ذروة الأزمة حتى يتدرج بها نحو الانفراج عند الخاتمة؛ بل هو ينسج بناءه الفني من «الشخصيات» التي يتتبع إحداها خطوةً أو خطوتَين، ثم يتركها إلى شخصيةٍ أخرى فثالثة، ثم يعود إلى الأولى من جديد ويضيف شخصيةً رابعة فخامسة، حتى يختتم روايته بالعودة إلى الشخصية أو «الحالة» الأولى، فالحق أن الشخصية الواحدة التي يتتبعها لا تستبين معالمها إلا باحتكاكها مع بعض الشخصيات الثانوية حتى لتستحيل الشخصية موضع المتابعة إلى «حالة» كما قلت أو «شريحة» كما أحب أن أضيف.

والشخصية الأولى التي يتتبعها محمد ديب في صيفه الأفريقي هي شخصية «زكية» الفتاة التي نالت الشهادة الثانوية وترغب في العمل كمعلمة، ويوافقها أبوها على أهمية العمل في التدريس، ولكن جدتها تبدي انزعاجها الشديد وتفضل أن يبحثوا لها عن زوج بدلًا من الوظيفة التي تجلب العار لها ولأسرتها، وقد تتسبب في تأخير العريس المنتظر إذا لم تلغِ إمكانية قدومه أصلًا. أما والدتها فهي تقف موقف من لا رأي له، ولكنها حائرة معذبة من أجل مستقبل ابنتها. ويقطع الكاتب حوارًا يدور بين الأب والخال حين يتساءل «مختار راعي» ما إذا كان «علال» يعلم إلى أين ستنتهي الأمور، فيجيبه: «في الحقيقة، ليس هناك ما يشير إلى أن الأمور على أهبة الترسب والعودة إلى مجراها الطبيعي.»

ثم ينتقل بنا الكاتب إلى الشخصية الثانية لفلاح يدعى «مرحوم» يركب حمارًا يحمل صندوقي خبز يهبط بهما نحو المدينة في سرعة الإعصار لا يريد أن يرى الجنود الذين تنقلهم السيارات وتمتم: «عتاد أمريكي، خوذات وبزات أمريكية، أسلحة أمريكية، أليس عند هؤلاء شيء سوى جلودهم؟» وكان ما يزال يراهم بعين الأمس عندما نسف المناضلون الخط الحديدي وبدأ الفرنسيون جولةً ضارية بالرصاص والدم والموت يحولون الشوارع إلى قبور. وعند مدخل المدينة تعرض «مرحوم» لتفتيش دقيق من الجنود، وأحس أن الجزائري، وبخاصة إذا كان عاملًا أو فلاحًا، يتعرض أكثر فأكثر لمزيد من التفتيش. وتوقف عند حانوت أحد العطارين وظهر له رجل لم يعرفه من قبل يرتدي صدارًا من القماش الأزرق. وطلب منه لترَين من البترول، وسأله وهو يتناول الإناء «أين أحمد؟» وأجاب الرجل باقتضاب: لقد اعتقلوه وقبضوا «على واحدٍ من أبناء أخي». وقطع مرحوم الصمت الجاثم بقوله إن اثنين من الفلاحين قُتِلا في الحقول، وإن ثلاثةً سِيقوا إلى المعتقل بعد نهب منازلهم. ثم تدبر المكان والمارة واختطف الكلمات قائلًا: «هل سمعت، الليلة.» وردد الآخر وراءه «الليلة». وتوجه من فوره إلى أحد المقاهي وأخذ يجتر ذكريات الليلة التي رحل فيها ابنه عن البيت إلى الجبال لينضم إلى الثوار، وانتظر قليلًا على المقهى وانصرف.

وينتقل بنا محمد ديب إلى الشخصية الثالثة، لرجل لا يفتقر إلى مظاهر الثراء هو «بابا علال» خرج من بيته على إثر قرعات أيقظته في الصباح الباكر وإذا برجل يطمئنه فيما يشبه الهمس على ابنه ويطلب إليه أن يذهب إلى من يدعى «سيلكا» ويختفي. وسيلكا هذا حداد يملك كوخًا عند باب بومدين، فامتعض بابا علال قليلًا ولكن ماذا يجدي الامتعاض مع هؤلاء «الحمقى» من الشباب الثائر. وهو لن يصفح عن ابنه «حميد» الذي امتهن مركزه لهذه الدرجة، وها هو ذا في طريقه إلى حداد، ومن يدري ماذا يحمل الغيب. وأقبل الحوار بين بابا علال وسيلكا حادًّا قاطعًا ملتهبًا، إذا قال الحداد: «لا تبتئس، ليس من الخسارة في شيء أن يوجد شاب كابنك هناك.» أجابه: «هذا صحيح، ولكن ما لا شك فيه أن كل ذلك سينتهي نهايةً سيئة.» وإذا احتد بابا علال وصرخ: «وماذا لو مات؟» زمجر سيلكا: «في هذه الحالة لن يكون عاش سدًى.»

وما أسرع ما يعود بنا الكاتب إلى الشخصيات التي سبق أن تعرفنا عليها من جديد قبل أن نتعرف إلى بقية الشخصيات. يعود بنا إلى «مرحوم» وهو راجع فوق حماره يفكر في تلك الأيام التي وصلت به إلى أن يكون «مسئول تموين المناضلين» في الجبال، وأن يكون «قاضيًا سريًّا» للمواطنين الذين يرفضون الاحتكام إلى عدالة المستعمر، وأن يكون مشرفًا على حالة أُسر الشهداء والضحايا والمقاتلين في المنطقة. لقد عاد كسير الخاطر بعد أن علم باعتقال العطار أحمد، واكتفى بأن يردد في وجه زوجته الغضوب: «ما هذا الوباء الذي يجتاح العالم.» ويعود بنا كذلك إلى زكية لنعلم أن الموقف ازداد سوءًا وبات متوقعًا بين آونة وأخرى أن تتزوج من ابن عمها الذي لا تربطه بها أية وشيجة غير قرابة الدم. وتمتمت في أسًى وهي تخاطب الليل: «علينا أن نذعن. وأن نقبل كل شيء. هكذا تبدأ أبدية الحياة.»

ويستأنف محمد ديب مسيرته الروائية فيضع في طريقنا الشاب «جمال» وهو رجل تطحنه الحياة والموت معًا، يزهد الحياة ويرهب الموت، وبينهما يعيش ضائعًا يفلسف أيامه أو يتسلى بها قائلًا: «إن معظمنا يعيش عيشة أناسٍ نسوا شيئًا ما، ولكنهم في غمرة حيرتهم الفكرية يتابعون البحث عن هذا «الشيء» وهم يتعثرون صارخين مراتٍ ولاعنين …» وفي جولة جمال بين أصدقائه ندرك أن الضياع ليس من نصيبه وحده، لقد بث «الرعب» أنفاسه في كل شيء، حتى لقد بات بعض الناس أشباحًا وبعض الأشباح أناسًا، وما من سبيل أمام جمال إلا أن يبحث له عن عمل «إننا جميعًا بحاجة إلى الفعالية مهما تكن، وليس من يستطيع أن يعيش على هامش الحياة» هكذا راح يسرِّي عن نفسه وهو يستمع إلى اقتراح صديقه الحاج بأن يعمل بائعًا في متجر أحد الأصدقاء. وكان الحاج يصغي إلى جمال متفهمًا هذا القلق الدفين الذي يكاد يجرف كل شيء، بينما كان جمال يفكر «كلما تفحص الإنسان الدوافع التي تحرك البشر، وكلما ازدادت دراسته لتصرفاتهم ازداد يقينًا بأن ثمة تاجرًا للأقدار قد صمم على تصفية كل هذه الكائنات، ثم آثر أن يلزم الصمت». وهي نفس الكلمات تقريبًا التي كانت تفكر بها زكية في موقعٍ آخر، وقد ضيقوا حولها الحصار، ويا له من حصارٍ باسم الأبوة والأمومة والمودة والخوف على مستقبلها «في هذا العالم ينقلب الود نفسه إلى مرارة، من المسئول عن ذلك؟ لا أحد، وقد يكون الناس جميعًا». وإذا كانت بوادر الإيجابية قد انتابت نفس جمال وبوادر التمرد قد اجتاحت نفس زكية؛ فقد وصل الأمر ببابا علال أن يسير في المدينة غير عابئ بهذا التوقيف الجماعي الذي ينظمه عدد كبير من رجال الشرطة والفرقة العسكرية الأجنبية، ولا خائف من الأوروبيين الذين يعرف أنهم مسلحون وغاضبون فلم يكن ليفسح لهم الطريق. وانطلقت الكلمات من فمه كالرصاص غير المتوقع: «إنني أكرهكم وأتمني أن تروا ذلك! إنني أكرهكم وأزدريكم. إن لي أنا أيضًا ابنًا هناك! ماذا تنتظرون لتقتلوني؟ وما خوفكم إلا لأنكم كنتم دائمًا جبناء. إن جيوش العالم كله لا تستطيع إنقاذكم. إن ابني وجميع أبناء هذه البلاد سيوارونكم التراب.» هكذا إذن قد أحدث الإرهاب عكس مبتغى المعتدين. ومهما يفعل جمال بعد الآن فإن أعماله تتخذ مظهر ذكريات غامضة وهو منذ الآن غائب بفكره عن المكان، ينتظر يوم الرحيل كأنه عنوان حياة جديدة. وقال في نفسه: «ما أعجب الحياة، إنها حلم، حلم لا يبقى منه بعد اليقظة إلا آثار عابرة.»

ونلتقي بشخصية جديدة هي «مصطفى والي» الذي لا يريد أن يغير عادته الأسبوعية في زيارة أخيه الأكبر أحمد، فما إن وصل إلى هناك هذا مع ابنته «نورا» التي كاد أن يسرقها منه المرض وهو يعلمها مادة الحساب ويستذكر لها المسائل الصعبة، ما إن وصل إلى باب أخيه حتى فاجأته لافتة ثبتتها سلطات الأمن تنبه الرأي العام إلى أن لأحمد والي ابنًا ينتمي إلى «عصابات الإجرام الخارجة على القانون». وما إن خطا داخل البيت خطوةً واحدة حتى دهمته قوات الفرنسيين وقبضت عليه بالرغم من محاولته أن يفرق لهم بينه وبين أخيه، ونسي ابنته تمامًا بالرغم من صراخها الذي يصم الآذان، واكتفى بأن ابتسم للفرنسيين قائلًا لأهله: «هؤلاء السادة هم لطفاء.» وخرج معهم وهو يشعر بأن شيئًا ما قد انفصم في قلبه.

وذات يوم كان مرحوم جالسًا القرفصاء مع ثلاثة فلاحين آخرين في بقعةٍ ضيقة من الظل الأسود كان منزله يرسمها على الأرض حين أقبلت قافلة عسكرية انتشر جنودها في كل مكان وشرعوا يدخلون الأكواخ، وقرقع الرصاص في البيوت وتساقطت جثث البشر مع جثث الحيوانات واختلطت دماء الجميع في جداول صغيرة عكرتها أقدام الجنود وهي تختطف الغنائم من كل صنف، وانطلقت الماشية التي نجت نحو الجبال. ودفع مرحوم مع جماعته إلى سيارة حين انتهى التفتيش، ولكن ما إن تأهب للصعود حتى سمع اسمه ينطقه أحدهم محرفًا، فالتفت فأخذوه بمفرده إلى سيارةٍ أخرى. وهدأ كل شيء وجثم صمت غريب على كل شيء، الحيوان والنبات والحماد والإنسان «وها هم يصغون إلى قلب الليل الضخم وهو يدق. ولم يكن يعكر هذا الهدوء المترامي الأطراف غير غناء الريح الأصم، الذي ينقل من الأماكن المنزوية أصواتًا خفيةً كانت من الخفوت والإبهام بحيث لا تستطيع الأذن أن تدركها». وكان لليل في هذا المكان المحاط بالهضاب القاتمة شكل الموت، حينما اخترق الخلاء والظلام والصمت، رجلان أعينهما معصوبة، كان أحدهما «باسهلي» والآخر ابنه الذي تبقى من الموت «ماجد»، وتوقفا فجأةً أمام أحد المنازل لفلاح يدعى «العياشي» وقرعا الباب، وبعد أخذٍ ورد خرج لهما الرجل وعلى مبعدة من البيت أوثقه الفتى بحزام الأب فانطلق صارخًا «التوبة، أنا مسلم!» ولكن باسهلي لم يصغِ إليه ولم يُعِره التفاتًا، بل قال في حزمٍ وغضب وحزن: «بسببك لقد قُتِل ولداي، هل تجرؤ أن تنكر ذلك؟ وما حدث اليوم، هؤلاء الرجال الذين اقتيدوا والذين سيُقتلون لا شك. إيه. قل إنك بريء! لم تأخذك الشفقة على إخوانك، لقد بعتَنا. لماذا؟ ماذا فعلنا لك؟ ستجيب عن ذلك أمام الله.» وهوت في الظلمة قبضته التي كانت تمسك بفأس، وصرخ الرجل: «اغفر لي.» ثم تدحرج مرتخيًا، ونبح كلب نباح الموت. ويختتم محمد ديب «صيفه الأفريقي» بالعودة إلى البداية، إلى زكية وأبويها وجدتها وخالها وابن عمها، وكانت هي ما تزال تغمغم: «إن اللعنة لتلاحقنا، وتلك حياتنا.» أما مختار راعي فكان يصوغ حيرته العظمى في كلمات قليلة: «أنا أراهن. إن أمرًا ما يجري هنا، أمرًا لا أفقه عنه شيئًا.» أما هي فعادت إلى صمتها تقول: «لست أعرف ماذا سأصبح، ولا أعرف إلا أن أفكر في أشياء مستحيلة. كأنما نفسي تنادي في الظلمات. ومع ذلك فيجب أن يكون هناك شيء أبسُط نحوه ذراعي.»

هذا هو الصيف الأفريقي الذي تمثل فيه «الجزائر» بطولة المقاومة الضارية، المقاومة الشاملة ضد الذات أولًا وما يتصل بها من أغلال الماضي، وضد كل ما هو سلبي يعكر صفو النضال المقدس وإن تبدت السلبية في لامبالاة شخصية مثل جمال، أو في الخيانة المباشرة كما هو الحال مع شخصية العياشي، وضد الوحش الأشقر الذي يرتدي ثياب الحضارة ويخون مبادئه القديمة؛ بل يمرغها في الوحل تمريغًا يدوس على كرامة الإنسان. ولأن محمد ديب قد اختار «الشخصية» خامةً فنية لصيفه الأفريقي، فإننا لن نعثر على الحدث الدرامي في صورته المرئية المحسوسة؛ بل سنشعر به في «تطور» الشخصيات من حال إلى حال. هذا الحدث الذي يربط بين جميع الشخصيات — سواء التقت ببعضها البعض أو لم تلتقِ — هو الاستعمار الفرنسي الرابض فوق أرض الجزائر، وهو المقاومة البطولية الباسلة لشباب الجزائر. ولقد آثر محمد ديب أن يطلعنا على مشاهد حية من الشق الأول للحدث — وهو الاستعمار — وآثر أن يخفي عن عيوننا مشاهد المقاومة، وإن عكس آثارها على تطور الشخصيات العادية في حياتها اليومية، هذا التطور الذي يصل إلى الطفرة في تحول جمال من اللامبالاة إلى الفعل الإيجابي، وتحول بابا علال من سخطه على المناضلين إلى سخطه على المحتلين. لقد آثر محمد ديب عامدًا أن يبرز الصورة الوحشية للاستعمار ليشارك بها في شحن الوجدان الجزائري ضد أعدائه، وآثر عامدًا أن يخفي أبطال المقاومة، واكتفى برمز لا تخيب سهامه هو «مرحوم» الفلاح الذي أخذوا ابنه من قبل فحمل عنه أعباء المقاومة السرية ما استطاع، حتى أخذوه هو في النهاية. آثر أن يخفي أبطال المقاومة حقًّا، واكتفى برمز لا تخيب مهامه، هو «زكية» التي لم تعد من حريم الأمس؛ بل هي تبحث في جوف الليل البهيم عن ضياء شمس بلا غروب. وقد أسهم هذا التشابك بين ما هو سلبي وما هو إيجابي، وبين الحياة والموت، في تغليب الدماء القديمة الأصيلة في شرايين محمد ديب على الدماء الجديدة الوافدة، مع الحضارة الفرنسية ولغتها التي كتب بها هذه الرواية، فجاءت بالرغم من هذه اللغة، عملًا جزائريًّا صميمًا، عملًا يشارك في حركة المقاومة بأوفر نصيب، ويفصح عن نبوءة «البيت الكبير» بأن الحريق التهمت نيرانه كل شيء، ولم يعد سوى القليل حتى يخلف الرماد أرضًا صلبة، يبني فوقها المناضلون الجزائر الجديدة.

•••

على النقيض من محمد ديب يقف مالك حداد في الطرف المقابل، غلبت الدماء الجديدة دماءه القديمة حتى لم تعد هذه سوى ذكرى تمضغها رواياته وأشعاره في لحظات الملل. لقد اختلطت الأمور على وجدانه الوطني فلم يعد يميز بين اليأس الذي يخيم بظلاله على الأدب الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية، والتمرد الذي ينبغي على المرء أن يواجه به الدنيا إذ ارتضي الحياة على الموت، والثورة التي تجيش بها أرض بلاده للتخلص من رسل الدمار، ولتؤسس موطنًا كريمًا لهذه «الحياة» التي ارتضاها. من زاوية الفكر اختلطَت الأمور على مالك حداد، فغشيت فنه سحابة قاتمة قاربت بينه وبين الحضارة الوافدة التي هاجر إليها، وباعدت بينه وبين الحضارة الأم التي هجرها. ولكن هذا التباعد لم يخرج بمالك حداد عن دائرة «الثورة»، بل فرض عليه أن يرى ما لم يرَه الآخرون، فإذا كان محمد ديب قد أبصر «شمس» الجزائر، فإن مالك قد أبصر ليلها. إن أدبه لذلك هو الوجه الآخر للصورة، ولونه القاتم تبرره سلبيات المعركة، ونغمه الجنائزي هو التعبير المأساوي الحاد عن ساعات الجزر التي عرفتها المقاومة. لكم غنَّى لها بشعره ونثره، ولكن الكلمات كانت تعود إلى حلْقه وقد علق بها طعم الرماد. وبدلًا من أن تمثل فرنسا حلمًا حضاريًّا يمكن تحقيقه على أرض الجزائر، أمست هي الواقع الذي يعيشه بكل ذرات دمه، وتحولت الجزائر إلى حلم غامض أبدي.

وتكاد روايته «التلميذ والدرس» أن تكون أعمق تجسيداته الفنية لهذه المتناقضات الدامية التي يكتوي بها وجدانه. والشكل الفني نفسه يكاد ينطق بغلبة الدماء الجديدة، ومالك يبدأ صياغته من الكلمة فالجملة إلى بقية النسج الروائي، ولا يفعل العكس: أن يصمم هيكلًا روائيًّا للأحداث والشخصيات والمواقف، ثم يملؤه بالكلمات. أي أن الشاعر — ببساطة — يسيطر على الروائي. وتكاد الرواية في كثير من المواضع أن تتحول إلى قصيدةٍ شعرية. وهذا ما يفسر أن البناء الذي انتهت إليه — ولم تبدأ به مطلقًا — هو المونولوج. إن «التلميذ والدرس» في جوهرها مونولوج طويل، فنحن لا نتعرف طول الرواية إلا على شخصية واحدة لهذا الطبيب الجزائري الكهل، القاطن في إحدى المدن الفرنسية، وحيدًا بعد أن ماتت زوجته. وليست ابنته التي تتراءى لنا بين الحين والآخر إلا هذا الخيال الرابض بين جوانحه، وكأن الماضي بالرغم من عزلته النائية لا يستطيع أن ينفصل عن الحاضر بكل كثافته؛ بل هو لا يستطيع أن يقطع الأواصر بينه وبين المستقبل بكل طراوته. والمفارقة الروائية التي ينطلق منها مالك حداد أن الطبيب — الأب — حريص على إبقاء حفيده بين أحشاء الابنة — المناضلة — التي جاءت إليه راغبةً في الإجهاض. ونتجاوز منتصف الرواية بقليل، حين يمزق الدكتور صلاح قدير حبال الصمت ليجيب ابنته «لا» لن يقتل هذا الجنين. وتبدأ مع النصف الآخر للرواية مشكلة جديدة، فرجُلها الذي اختارته من بين مئات الرجال تهدده السلطات الفرنسية بالاعتقال، وهي تطلب من أبيها أن يخفيه في بيته بضعة أيام حتى تمهد له وسائل السفر إلى الخارج. وقرب خاتمة الرواية تمتد يدا الدكتور قدير إلى حبال الصمت مرةً أخرى لتمزقها ويقول: «نعم»، وبين «لا» الأولى و«نعم» الثانية يكشف لنا مالك حداد عن رمز البطولة في المقاومة الجزائرية كما يتضح في شريحة معقدة، كتلك التي ألقى بها إلينا في «التلميذ والدرس».

تبدأ القصة وزميله الدكتور «كوست» يلفظ أنفاسه الأخيرة في منزله، وأمامه ابنته «فاضلة» يرجوها أن تحدثه عن الجزائر، وهو يعلم أن الدقيقة التي تجلسها ابنته الآن ستدوم طول الليل. وتحدثت فاضلة ولم يكن حديثها إلا محاكمةً «ما كان ينبغي أن أسكن في فرنسا بعد وفاة زوجتي. ما كان ينبغي أن أفعل كذا أو أفعل كذا. تزعم أني بحثت عن السلام، عن سلامي، إني لست غير أناني من العامة مجرد من الوجدان الوطني؛ بل من الوجدان كله. وإني من أصحاب الحلول السهلة، وإني لجأت إلى الجانب الآخر من البحر، الجانب الآخر من التاريخ … إلخ.» والحديث عن زوجته يرجع به إلى تلك الأيام التي كان يلتقي فيها بطالبةٍ لم يبادلها كلمة حب «كانا يتكلمان عن الجزائر» ولا يذكران مع شهر مايو زهور الربيع، وإنما تقتحم مخيلتهما أحداث «شهر الشر» الملعون بين كل الشهور، شهر الحصاد الدموي بعد أكثر من قرنٍ على عام ١٨٣٠م حين وطئت أرض الجزائر أولى طلائع العدو «كانت تلك نهاية العالم». ومنذ سنوات عديدة والإذاعة الفرنسية تعلن كل يوم اثنين للعالم ميزانيتها المنتصرة «كذا من الجزائريين أصبحوا خارج المعركة». والبغضاء تدوم زمنًا، أما الحقد فخالد. ويصرخ الأب المكلوم من صميم فؤاده: «أنا لا أعرف أحدًا بلغ العشرين في الجزائر.» وتلك إذن هي المأساة الحقيقية الكامنة في أعماقه، المأساة التي تملي عليه أن يلمس في ابنته وترًا لا يخيب، فهي لم تعمل بالسياسة كأولئك المراهقين الذين يملَئون وقت فراغهم بأحلام رومانتيكية، ولكنها تألمت تألمت كثيرًا، تألمت أكثر مما عملت، لهذا لن يشفق عليها وهو يقول في داخله: «من أجل الرجال سيعيش ذلك الطفل.» وقبل أن تطمئن الفكرة داخل المرجل الذي يغلي، تنتصب أمامه أشباح الكلمات الكبيرة: الموت، البطولة، الزمن، وتموج ضلوعه بهديرٍ يعلو صوته على كل الأصوات: «أنا تغيظني البطولة. أنا لا أفهم الموت ولا الأبطال. لقد بات الأبطال عديدين. البطل هو من ارتضى الموت. وليست القضية في هذه الأحوال أن يعيش المرء أكثر مما ينبغي له؛ بل ليست في أن يعيش. إن المرضى ليسوا أبطالًا لأنهم يلجَئون إلى الأطباء. إذن كل البشر مرضى. ولكني أحسد الأبطال. إن الأبطال لم يبلغوا العشرين من عمرهم. شبابهم أبدي لأنهم يقضون جميعًا فتيانًا. إنهم يتحدون الزمن.» وهو سعيد لأنه جبان حدد الخوف حماسته، ولكنه يبرر ذلك بأن الشجاعة في صفائها الطبيعي هي نفي للشجاعة، ولا توجد علاقة مشتركة بين البطل والبطولة، ولا يمكن للمرء أن يكون في وقتٍ واحد بطلًا وقديسًا، مع أنه يجب أن يكون كذلك «ولهذا السبب كان لا وجود لهذا ولا لذاك». وحين همست فاضلة كما لو كانت تحتضر: «أنا جد شقية.» كان هو في انتظار هذه الكلمة لأنها في رأيه تلخص تاريخ وطن. فمن المستحيل أن يكون الإنسان سعيدًا وجزائريًّا في آنٍ، أولئك السعداء فقدوا الذاكرة، ولا فرق بينهم وبين الحمير التي تبتسم في بلاهة «حتى عندما تنهق بالفرنسية». وهو يعلم أن فاضلة تقدم الخلاص من طفلها على الخلاص لرجلها، والوطن هو الدافع وهو الفرصة، فإذا قالت له إنك تعيش في فرنسا منذ عشر سنوات، وبت تجهل شباب الجزائر وشيوخها «لقد رحلت» اقتحم خياله على الفور مقهًى وطني تحرسه «تينة بنت مائة عام» في القرية التي يعرفها جيدًا، القرية التي تألمت كثيرًا، ومع هذا فهو قانع بأن التينة باقية «وجودًا لا يفسر ولكن الحمائم رحلت» وليس هناك وقت لدى البطل يضيعه في تبديل ذاته، فالبطل إنسان، وليس كل إنسان بطلًا. ومن الطبيعي أن يثور الابن، لهذا يعجب بالثورة، ولكن المحاكمة لن تمتد أكثر من ذلك لأنه يخاف مناقشة الحساب، ويفضل الحلول. لقد جلس الخريف على مقعد المتهمين وما عاد لديه غير الذكريات.

ولكن الإجهاض هو المأزق، هو الشارع المسدود — يقول قدير — إنما يجب أن نلد أطفالًا في الظروف الحالية «إنهم التحدي الذي نجأر به» إن شيئًا ما لا يوحي بالطمأنينة في هذا العالم غير وجه طفل. وفي صيف ١٩٤٠م كان يعمل طبيبًا في إحدى الكتائب المحاربة في صفوف الفرنسيين، وقد رأى في الشتاء شيئًا غير واقعي؛ المقبرة نفسها لم تكن في مكانها، وما كان مظهرها ليعبر عن فكرة السلام التي توحيها عادة، أما برج الكنيسة المجاورة فقد انهار بين القبور، ومن السخرية أنه كانت توجد لوحة إعلانية كتب عليها «تذوقوا خمر اللورين»، هنا أيضًا كان العبث يقود الحفلة. وتابع نزهته الحزينة وهو يردد أن الحرب هي أعلى ضلال البشر، ثم التقى بفلاح شيخ يعمل في حقله، وكانت مزرعته تحترق، فلم يستطع دفع نفسه عن سؤاله: لماذا يستمر في زرع بستانه والألمان واصلون بين لحظة وأخرى؟ نظر إليه الفلاح غائبًا، ونظر إلى مزرعته التي تشتعل، ثم انتهى إلى أن قال له: «ومع ذلك يجب أن ينبت، شيء هنا.» هكذا يمتزج الواقع بالأسطورة في قصة مالك حداد، فلا شيء حقيقي في هذه القصة إلا الطفل، وتجهل هذا فاضلة. ولقد دله فلاح اللورين العجوز على ما يجب عمله، كان شجاعًا كقوةٍ خالدة تثق في الحياة وتنتقم من الموت. غير أن المنفى لا يولِّد غير مرارةٍ بشعة «إلا إذا عملنا حقيقةً». والطفل الذي ترفضه فاضلة هو الجسر العظيم بين المنفى المرير وتينة القرية ذات المائة عام، فهل يعزف الخريف عن مزاعمه؟ وهو يُقسم مجيبًا بأن لهذا الطفل قيمةً كالقدر، لأنه يصنع التاريخ. وإذا كان من الممكن أن نلفظ طفلًا، فإنه من المستحيل أن نلفظ فكرة. وما دامت فاضلة تتكلم عن الطفل كأنه ولد، فهو إذن موجود، ليس في بطنها وحدها، ولكن في بطن التاريخ أيضًا. وهو — الجد المنفي، أو الخريف الذي يسد ثغرات العالم — لن يزرع أبدًا تينةً عمرها مائة عام إلا إذا أمست ابنته من جديد هي ابنته، وإلا إذا بدأ حفيده من جديد يزرع الغابات. فإذا قطعت عليه فاضلة حبل تفكيره بقولها: «هذا الطفل يعقد كل شيء.» اجتاحه العجب من أن يكون الأسهل هو صنع الثورة، أسهل من أن يكون لنا طفل. وهو — على العكس — يعتقد أنه يجب أن نقاتل عندما يكون لنا طفل «يجب أن نقاتل جيدًا». وهو لا يلوم فاضلة ابنته، ولا يعتب على حبيبها عمر، ولكنه لا يغفر لهما أنهما فكرا ذات يوم في «ترحيل» ذلك الطفل الذي لم يدعُه غيرهما للحضور.

ويتأمل صلاح قدير ابنته بدقة وإمعان للنظر. هو يظن أنه لم يوضع في مكانه قط: «لقد ضللت عصري، ولقد شاء التاريخ أن أمتطي دائمًا جوادًا على عصرين، على حضارتين.» لذلك يرفض لابنته وابنها أن يجتازا التجربة، لو أنها لفظت الطفل لما تعدت كونها تمتطي جوادًا على عصرين، والمرء يمشي متمايلًا إذا أكثر من ركوب الخيل، فالأحمر الذي يلون أظافرها يلون أيضًا لهجتها القادمة من سماء اللوار فيجعلها تتحدث بالفرنسية عن العالم «العربي». لقد تعرف الخريف — هو نفسه الدكتور صلاح — على ربيع معاصر له، هو ابنته بعينها. فهل تتكرر المأساة؟ والصورة التي ترتفع على الحائط وتشير إليها فاضلة تمخر به عباب الزمن، هي صورة أمها التي ماتت ولم تكن قد تجاوزت الثامنة. صورة سعدية التي حشرج أبوه باسمها قبل النهاية: «ستتزوج سعدية.» ولما كان أبوه هو الذي جعل منه رجلًا مرموقًا متعلمًا في باريس، كان عليه أن يتزوج من سعدية، ولأنه رجل تعلم الطب في باريس فأصبح طبيبًا مشغولًا عن البيت والعائلة لم يستطع أن يعيش مع سعدية، وماتت الزوجة التي أحبها كأخته في مستشفى للأمراض العصبية. ولأنه تعلم في باريس أحب جرمين حبًّا يختلف عن حبه لسعدية، ولكنها كانت مخطوبةً فضرب رأسه في الحائط. وعندما رآها حبلى ذات يوم تقف إلى جانب الحاكم الفرنسي للمنطقة التي عمل بها في الجزائر، لم يكن له رأس يضربه في الحائط. وعندما جاءت إلى عيادته ذات مساء كان قد أغلق مكتبه عليه وأمر الممرض ألا يُدخل عليه أحدًا ولو كان أرحم الراحمين. ومستقبله الوحيد لم يعد سوى هذا الطفل الذي سيحميه رغمًا عنها. فقد دخلت عليه، وهي بعدُ صغيرة وجرمين معه، فحالت بينه وبين الانهيار. والطفل القادم لا يقل عنها قدرةً في الحيلولة دون الانهيار. والمساومة في داخله أصبحَت عادلةً: الطفل أمام عمر، الطفل يبقى، وعمر يبقى، أما إذا ذهب الطفل فعمر أيضًا عليه أن يذهب. قالت له: «إنها ليست جريمة أن يحب الإنسان وطنه.» وخزَته الكلمات، ولكنها زادت من تماسك المعادلة الخفية وصرامتها. وراح قلبه ينزف: «فاضلة مناضلة. أحييها وأمجدها، أنظر إليها من نافذة ضعفي. أنا أعلم أن الخيانة هي في التخلي عن الجماعة. إنها طلاق. وأنا لم أطلق. أنا لا قدرة لي على الحياة، والحب، بل ولا الموت. لقد تقاعدت يا دكتور قدير، اعترف بذلك. ولكنك لست كذلك البطل الشاعر ببطولته الذي استنفد زمنه فارتضى بأن يصبح مدربًا أو بائع دراجات. إن الفاضلات والعمرين وكثيرين من أمثالهم، على شاكلتهم، هم الأبطال، الذين أصبحوا أبطالًا، الأبطال الوحيدين.» أما هو، فكالخريف يزحف مع الأوراق الميتة التي تطقطق في أزقة المدينة الصغيرة، وعلى الذين لم يعرفوا كيف يتخذون موقفًا أن يقنعوا باستقالةٍ أبدية. هو يرى نفسه على الرصيف والقطار يهرول في أقصى سرعته، وعلى الذين بلغوا عمره ألا يقفزوا إليه فهذا مستحيل. وألا يَجروا وراءه، فمنظرهم سيكون مضحكًا، وألا ينزعوا قضبان القطار لأنها جريمة: «جريمة تفسد التاريخ.» وهو إذن، يكتفي بتحية سرعة القطار من فوق الرصيف، وينتابه بعض الخوف؛ إذ تبادرت إليه فكرة أن هذه السرعة في رؤيتها التي لا ترحم قد تشوه — ولو إلى حين — بعض المناظر: «إن السرعة على حق ولو أوجعت قلبي.» وإذا كانت فاضلة تخبره بأن ثلاثةً من إخوة عمر قتلوا في المعركة، أي ثلاثة من أعمام هذا الطفل، فكيف تطلب إليه أن يقتل هذا الطفل؟ يخطر له — من الناحية الأخرى — أن يتساءل: كيف تطلب إليه أن يئوي مناضلًا وطنيًّا مثل عمر، وهي إذا تغاضت عن مشاعر البنوة تعتبره من الخونة؟ إن المناضلين لا يعرفون سوى الألوان الواضحة: الأسود والأبيض، الوطنيون والخونة. وهو ليس فارًّا من الجندية ولم يلتحق بالجيش في حدود المعنى الذي يعطيه المناضلون لهذه الكلمة. ولكن ألَّا يعمل المرء شيئًا في العصر الذي نعيش فيه والعصر الذي لما نعش فيه — يقول قدير — ألَّا يعمل المرء شيئًا هو شكل للخيانة. فكيف — من جديد — يئوي خائنٌ وطنيًّا؟

ويختم مالك حداد قصته — أو قصيدته — بآخر تنهدات صلاح المرة: أنا عجوز، وأحب أولًا جرمين، وحبي هو نفي للزمن. وتتضح لنا دلالة جرمين في جلاءٍ عندما يكشف عن وجهها نقاب الزمن: إن ما بقي لي من حياتي هو ملك لجرمين، في الحرب والسلم، في الخريف والربيع أحب جرمين. أحببت جرمين وأنا ابن ستة شهور «أحببتها قبل أن أولد. لقد وجدت منذ أحببتها». ويجلو لنا الرمز أكثر فأكثر حين يؤكد أنه لا يوجد بينه وبين ماضيه زمن فحسب، فهناك «ثغرة»، هناك «انقطاع». هل تتجسد هذه الهوة في المسافة بين الصورتين اللتين عثر عليهما في حافظة فاضلة، صورته، وصورة عمر؟ هذه المسافة التي رسمتها شفتا عمر «يفضحهما التحدي». فهل هو إذن على حق في أن يرفض شيئًا تطلبه فاضلة؟ أين الخير وأين الشر — فيما يتساءل — ما دام الموت يجمع بين هذَين الحدَّين في نهايةٍ واحدة؟ جثمَت الإجابة على قلبه وهو يمشي في جنازة الدكتور كوست صباح اليوم التالي، أحس أنه يشاهد منظرًا خاصًّا به، هو الذي مات ويدفنونه الآن. هو الذي مات كثيرًا قبل الآن، لكم يخطئ التعبير القائل: «لا يموت الإنسان غير مرةٍ واحدة.» وعندما قام بزيارة مدام كوست في المساء لتعزيتها، كان في زاوية من زوايا غرفة الاستقبال شاب عرفه على الفور يتكئ على صندوقٍ قروي فقال له: «تعالَ يا صغيري. إن فاضلة تنتظرنا.» وهكذا نجحت آخر عمليات زميله الدكتور كوست الذي ترقد الابتسامة الخبيثة على شفتيه في القبر، وهكذا يتأكد لصلاح قدير أن الإنسان الآلي قد يبرع في صناعة الجراحة أكثر بكثير من الدكتور كوست، ولكن أبدًا لن يستطيع أن يطبع على شفتيه هذه الابتسامة الخبيثة.

لقد آثرتُ أن أستعير كلمات مالك حداد في صياغة الاتجاه العام للرواية. وذلك حتى لا يتعسف المرء في تقييم هذا الاتجاه بغير أن يستحضر في مخيلة القارئ الملامح المميزة له. لقد اختار مالك منذ الوهلة الأولى أن يكون «المنفى» هو المهاد الذي يبذر فيه رموزه، واختار أيضًا «جيلًا» محدَّدَ الأبعاد، هو المناخ الذي يجسد لنا أشواقه. ومن الممكن حينئذٍ أن يكون «جيل المنفى» هو الصيغة المعبرة عن رؤيا المقاومة في قصة «التلميذ والدرس». فمنذ مائة وثلاثين عامًا تمكن الفرنسيون لأسبابٍ عديدة من إلقاء مراسيهم على شواطئ الجزائر. ولقد ثارت الأجيال الجزائرية على المحتل الغاصب جيلًا بعد جيل. ولكن الحال قد تغيرت منذ الحرب العالمية الثانية، تغيرت صورة العالم وفرنسا والجزائر، تغيرات يبدو بعضها للعين المجردة، وأخرى تحتاج إلى ما هو أكثر. وكان الجيل الجزائري المعاصر للحرب هو الجيل المرشح لبلورة المأساة التي ترزح تحت عبئها بلاده بلورةً نهائية؛ فقد دخل الحرب مع فرنسا فلما انتصرَت أشاحت بوجهها عنه، وأقبل الثامن من مايو ١٩٤٥م تكثيفًا بشعًا لكل تعاسات الاستعمار، وترك هذا اليوم في قلوب الجزائريين جرحًا عميقًا لم يندمل إلا مع شبوب الثورة الشاملة بعد هذا التاريخ بأقل من عشر سنوات. هذا هو «شهر الشر الملعون بين الشهور» كما يصفه بطل «التلميذ والدرس»، وهو أحد أبناء هذا الجيل الذي عبَّر عن ضراوة المأساة قبل نشوب الثورة، وعندما شبَّت كانت الأرض السخية قد أثمرت جيلًا جديدًا في الجبال والصحاري والريف والمدن والمنافي، جيلًا ولد من جديد في الثامن من مايو ١٩٤٥م كما يقول مالك حداد، فأقبلت الهوة بينه وبين جيل المأساة عميقةً وغائرة. ولقد وُفِّق مالك غاية التوفيق حين صور هذه الهوة أحيانًا كالفجوة وأخرى كالهاوية، تفصل بين الجيلين فصلًا حادًّا وأبديًّا لا يتيح مجرد «الصراع» بينهما، ليس هناك صراع بين جيل صلاح قدير وجيل فاضلة وعمر لأنه ليس بينهما تواصل؛ لذلك تأتي الرواية مونولوجًا طويلًا. بل إن فاضلة وعمر ليسا إلا أشباحًا تدور في ذهن صلاح، وما الحديث بين الأب وابنته إلا منعطفات المونولوج ومنحنياته، وليست على الإطلاق حوارًا بين الأنا والآخر. لهذا تندرج «التلميذ والدرس» في خانة ما يُسمَّى برواية الشخصية الواحدة، وهي أقرب ما تكون إلى بناء يولسيز، فالحيز الزماني المحدد بأربع وعشرين ساعةً أو أقل، يتسع حجمه بغير حدود حتى ليبتلع عمرًا كاملًا وحياةً كاملة، عُمر إنسان وحياة جيل. فالزمن يتخلخل بناؤه مع تخلخل بناء الشخصية ولا تعود الدقيقة ستين ثانيةً، وإنما تمتد أمام عينَي صلاح إلى ليلةٍ كاملة وتتمدد داخله إلى حافة الأبدية. هكذا يبرع الفنان في المطابقة الفذة بين بناء الشخصية، وتحديدها بإطار من الزمان والمكان. ولأن الشخصية أقرب إلى مادة الحلم فالزمن الذي تتحرك في إطاره هلامي، والمكان أقرب إلى شاشة السينما. وتلك هي طبيعة صلاح قدير، الجزائري الضائع في غير وطنه، نفَته الأحداث خارج التاريخ؛ تاريخه، وألقت به الدولة على هامش الحياة؛ حياته. وتتحول الرواية إلى قطاعاتٍ طولية عديدة لا إلى قطاعٍ طولي واحد تخترقها قطاعات عرضية متعددة لا قطاع عرضي واحد. هو بناء مركب غاية في التعقيد، ولكن «الحالة» التي يتناولها الروائي بالتجسيد الفني هي شريحة إنسانية مركبة بالغة التعقيد أيضًا. فبينما صلاح قدير «عينة نموذجية» لحيل المأساة، نراه في الوقت نفسه شخصيةً فريدة لا تضاهى. وهو إذ يتمسك بالحياة ويصر عليها إصرار الأنبياء (برفضه القاطع لإجهاض الفتاة) يعشق الموت عشقًا خالصًا من زينات الحياة الدنيا، فيراقص العبث إلى أن يدفن نفسه مع جثة صديقه كوست. والفنان يقتطع من بطله شريحةً ممتازة لقطاعٍ طولي، منذ أن ينفق عليه والده كل ما يستطيع حتى يتعلم في باريس إلى أن يتزوج من سعدية وتموت، وسرعان ما يجتزئ من الشريحة قطاعًا عرضيًّا لا يقل امتيازًا، فيسرد لنا قصة حبه الوحيد لجرمين المخطوبة إلى فرنسي يصادفه في حياته العملية عندما يعمل طبيبًا في قرية جزائرية، والفرنسي يحكم المقاطعة. ويعاود الكرة فيقدم لنا شريحةً جديدة لقطاعٍ طولي جديد، منذ أن نراه طبيبًا في إحدى كتائب الفرنسيين إبان الحرب الأخيرة حتى يرى الدمار يكوم أنقاض الكنيسة جنبًا إلى جنب مع إعلان الخمور، والمقبرة لا توحي بالسلام المفترَض، وتنتهي به الجولة عند ذلك الفلاح الشيخ الذي تشتعل مزرعته بنيران الألمان، ويستمر مع هذا في بذر النبات الجديد. وهكذا تتبادل القطاعات الطولية والعرضية مراكز العرض المستمر فيتقاطع الزمان بالمكان، وتحيا الشخصية خارج حدود التاريخ ونتنفس معها عطر البطولة وتختلج أجفاننا برائحة المأساة. ولا يصبح تدفق الأفكار والخواطر تداعيًا ذهنيًّا ولا النقلات إلى الماضي مجرد فلاش باك، وإنما تتراكم الجزئيات حتى تتحول إلى كليات، وتتراكم النسبيات حتى تتحول إلى مطلقات. وهو منهج في التعبير الروائي يستمد حيويته من شباب الرواية الجديدة في أوروبا، ولكنه أكثر امتلاءً وكثافة بقضايا لا ترِد على خاطر الروائي الأوروبي، قضايا الإنسان الجزائري في مرحلة تحوله الحضاري العنيف. يطبق مالك حداد هذا المنهج الثري في اختيار إطاره الروائي الذي يبدأ مع الساعات الأخيرة من حياة الدكتور كوست، وينتهي بجنازته، أي في إطار العبث العقلي لهذا الوجود. على أن الرواية تبدأ قبل كل إطار، تبدأ مع فاضلة، وتنتهي بعد كل إطار، تنتهي مع عمر. وبين فاضلة وعمر من ناحية، والدكتور كوست وابتسامته الغريبة من ناحيةٍ أخرى، يصوغ مالك حداد تمثالًا شاهقًا لصلاح قدير، من طينة لا تميزها سوى الرخاوة الشديدة. هذا التمثال الذي يصوغه مالك حداد بمتعة لا حدود لها هو تمثال جيل المأساة الذي تخلى ولكنه يرفض لغيره أن يتخلى قبل أن يولد. لا بد للطفل أن يولد ويختار القبول أو الرفض. أما أن نختار نيابةً عنه فهو تزييف لا يقبله صلاح، البطل الكامل الزيف. وهكذا يمكن أن نعكس المثل الشعبي القائل: بأن النار تخلِّف رمادًا، فالرماد بدَوره يستطيع أن يخلِّف نارًا. ومن عناصر الطينة الرخوة التي يبني بها الفنان تمثاله الشامخ؛ فاضلة وعمر. إن الروائي يصدق مع نفسه إلى أبعد الحدود حين ينتقي «مناضليه» على هذه الصورة الشاحبة الباهتة، فهو لا يلتقطهما من جبال أوراس يطاردان بالسلاح ملوك شهر الشر الملعون بين الشهور، ولكنه آثر أن يلتقطهما في باريس، ومتى؟ وهما يحاولان التخفي حتى تحين ساعة الهرب إلى خارج الحدود. إلى أرضٍ محايدة، إلى سويسرا مثلًا. فاضلة وعمر إذن في «بوز» نضالي وليسا مناضلين؛ بل هما غير موجودين أصلًا وجودًا موضوعيًّا مستقلًّا عن خيال صلاح قدير، هما شبحان ذهنيان ينبشان أفكار صلاح وقيمه، هما عنصران ضمن عناصر كثيرة تتميز بالرخاوة الشديدة بنى بها الفنان تمثاله. وفي إطار اللحن الجنائزي الذي يصوغ به مالك حداد النغم الرئيسي لروايته يختلط الواقع بالأسطورة، فيصر الفلاح الشيخ على بذر البذور في أرض تحترق، وتصر جرمين على العودة إلى صلاح وزوجها حاكم المنطقة، وتصر فاضلة — بدورها — على التخلص من الطفل، والثورة أحوج ما تكون إلى الرجال، وعمر يصر على التخفي والهرب من السلطات وهذه السلطات في بلده تشن حرب إبادة منظمة ضد مواطنيه. ومالك حداد، أين هو من ذلك كله؟ هو الكثير من صلاح قدير، وهو الكثير من فاضلة وعمر. لقد صرح صلاح قرب النهاية بأنه خُلق من أجل جرمين، ولم يكن بحاجة إلى الصراخ لنفهم أن بطل المنفى وجيل المأساة قد خُلق من أجل أرض المنفى، من أجل فرنسا. ولقد تحاملَت فاضلة على نفسها وشاخت الكلمات على شفتيها وقالت إنه ليس من العيب أن يحب الإنسان وطنه، ولكنها أيضًا ابنة ذلك التمثال، هي عنصر من عناصره الرخوة. والبطل الغائب الذي يأتي ذكره مرارًا دون أن نراه لحظةً واحدة هو الجزائر، غيابها يرمز إليها، ومأساة جيل المنفى في بطولتها، مهما ضعفت دماؤها في شرايين مالك حداد تحت ضغط الدماء الجديدة.

•••

إذا كانت الدماء القديمة قد غلبت الدماء الجديدة في رواية محمد ديب، بينما غلبت الدماء الجديدة على الدماء القديمة في رواية مالك حداد، فإن هذه الدماء وتلك تتوازى توازيًا مرًّا ومؤلمًا في رواية كاتب ياسين «نجمة»، وهي من خلال هذا التوازي المؤلم تصوغ البناء «الجزائري» للرواية مهما شابت هذا البناء تمزقات الصراع الكامن بين الحضارة الأصيلة والحضارة الوافدة. إن معاناة كاتب ياسين الهائلة لم تغلِّب أيًّا من الحضارتين على الأخرى، فأقبل هذا التمزق الملتاع شاهدًا أمينًا على صدق المحاولة وأمانة التجربة. فإذا جاءت «البيت الكبير» بشيرًا بمولد الرواية الجزائرية، فإن «نجمة» تبرز من بين معظم المحاولات والتجارب، وبالرغم من كل ما بها من تمزقات، تبرز دليلًا يقينيًّا على أن الرواية «الجزائرية» قد ولدت وما جراحها إلا جراح الجزائر وعذاباتها.

وأود هنا أن أستشهد بما قاله ناقد جزائري عام ١٩٥٧م — أي غداة ظهور «نجمة» التي نشرت عام ١٩٥٦م — هو أبو القاسم سعد الله، الذي أعاد نشر ما سبق أن قاله في كتابه «دراسات في الأدب الجزائري الحديث»: «الثقافة الجزائرية ذات حظ عاثر، وتتخذ شكلًا انفصاليًّا يكاد يكون خطرًا على المجتمع نفسه. والحقيقة أن هناك ثقافتين في الجزائر تناصب كل منهما العداء للأخرى: ثقافة فرنسية وثقافة عربية صرفة. أما الثقافة العربية فتتخذ شكلًا متطرفًا كرد فعل للثقافة الأخرى. وهي ثقافة يسودها الجمود والتقليد، وينتهي بها السير دائمًا إلى منتصف الطريق. إن مجالها لا يخرج عن التعليم الديني وفروع اللغة العربية، ومن الممكن أن نفترض وجود صنف آخر من المثقفين في الجزائر، أي أولئك الذين جمعوا بين الثقافتين. ولكن هذا الصنف قليل جدًّا، وهو بالتالي لم يستطع أن يفرض اتجاهًا ثقافيًّا على المجتمع.» وإلى هذا الاتجاه ينتمي كاتب ياسين، ولكنه لم يجمع بين الثقافتين جمعًا أكاديميًّا محضًا، فهو لم يكمل دراسته المنظمة؛ إذ تشرد وهو بعدُ صبي لم يتجاوز السادسة عشرة على أثر الإخفاق المدمر لمظاهرة الثامن من مايو ١٩٤٥م. ينتمي كاتب ياسين إلى هذا الاتجاه بالمعايشة الحارة لفرنسا والجزائر جنبًا إلى جنب، وبغير أن تكون إحداهما رد فعل للأخرى. رضعَت طفولته من ثدي الحياة البدوية التي عاشتها قبيلته في الجبال والصحاري، وكان الكُتَّاب بجناحيه: اللغة العربية والإسلام، هو الفطام الفاصل بين الطفولة والصبا، وفي صباه تلقته المدرسة الفرنسية إلى أن رمت به إلى مدرسة الحياة العريضة التي تتجاور فيها البداوة والعروبة بإسلامها وفرنسا بحضارتها. ولقد امتزجت هذه العناصر الثلاثة في وجدان كاتب ياسين وعقله امتزاجًا دمويًّا من خلال الصراعات المروعة بين الأطراف الثلاثة التي تجاذبته في حدة وعنف: نحو الجزائر بعروبتها وإسلامها، ونحو أوروبا بعلمها وحضارتها. ولم يكن الشد والجذب مجرد رياضةٍ فكرية مضنية، وإنما كان واقعًا مرًّا أليمًا تعيشه بلاده، واقعًا استعماريًّا متفوقًا في العلم والحضارة يسود واقعًا وطنيًّا معذبًا يطحنه التخلف. عاش كاتب ياسين هذا الواقع بذرَّات دمه، وليست هذه عبارةً مجازية، وإنما أقصد كل حرف فيها، فقد كان احتكاكه الدامي بتخلف وطنه وتقدم سادته الأجانب هو الأب الشرعي — وليس الترف الذهني — لذلك التمزق اللاهب بين أضلعه، التمزق الذي أثمر فيما بعد روايته اليتيمة «نجمة»، أعظم منجزات الأدب الجزائري الحديث كما يذهب النقاد. فقد كان الغربيون والعرب على السواء.

وتنبع أهمية «نجمة» في تقديري من أنها تجسيم بالحجم الطبيعي لرحلة العذاب التي خاضها كاتبها ووطنه جميعًا. إنها تجسد — شكلًا ومضمونًا — كافة مراحل التطور ومختلف أشكال التناقضات واتجاهات الصراع ونتائجه التي انتهت إليها الرحلة الدامية. ولربما كانت الثمرة الأولى لهذا العبء الذي قامت به الرواية، أنها حققت درجةً عالية من الوحدة الدينامية في العمل الفني، حتى أصبح من العسير تصنيفها إلى شكلٍ ومضمون، كما أنها حققت درجةً عالية من روح الخلق حتى أصبح من العسير تصنيفها إلى خيال وواقع. فالشكل والمضمون من ناحية، والواقع والخيال من الناحية الأخرى، يرتبطان ارتباطًا ديناميًّا عميقًا يرتفع بها إلى المستوى الخلاق الحي لكل إبداعٍ عظيم. الشكل يصلح مدخلًا إلى المضمون، والعكس صحيح، وكذلك الأسطورة تصلح مدخلًا إلى الواقع والعكس صحيح أيضًا.

والشكل في «نجمة» قريب غاية القرب من الفن التشكيلي في أحدث مراحله؛ إذ هي تبدو كلوحة تجريدية يصعب أن تحدد لها بدايةً ويصعب أن تحدد لها نهاية، وبالتالي تخلو الرواية من البناء الكلاسيكي في أية صورة من صوره، ومهما بلغ به التطور، كما هو الحال في قصة محمد ديب مثلًا. «نجمة» تبدأ من النهاية وتنتهي بالبداية، والأدق أن يقال إنها خلت من البداية والنهاية معًا. فهي لا تعتمد على منطق «التطور» الطولي المستقيم، لا في شخصياتها ولا في أحداثها، لأن رؤيتها للزمن لا تصدر عن منطق التقدم إلى أمام بصورة عفوية أقرب إلى الحتمية، وإنما يجتمع الماضي والحاضر والمستقبل في «نجمة» اجتماعًا حيًّا مشخصًا ماثلًا بغير هندسة أو تخطيط. لذلك فهي قد تتشابه مع قصة «الصخب والعنف» لفوكنر أو قد تتشابه مع «رباعية الإسكندرية» للورانس داريل، من حيث إن لكل شخصية زمانها الخاص ورؤيتها الخاصة التي أملت على كلٍّ من فوكنر وداريل هذا التجديد في بناء الرواية الحديثة، حيث أفردا لكل شخصية في روايتيهما حيزًا خاصًّا من الزمان تروي خلاله «الحدث» المشترك من وجهة نظرها. هذا التجديد الذي قلده في الرواية المصرية فتحي غانم وصوفي عبد الله ونجيب محفوظ، في «الرجل الذي فقد ظله» و«لعنة الجسد» و«ميرامار». تتشابه «نجمة» مع هذه الأعمال جميعها في انتساب الزمن إلى التكوين الداخلي للشخصية بحيث يصبح لها رؤيتها الخاصة إلى «حدث واحد» تختلف في رؤيته بقية الشخصيات. ولكن «نجمة» تضيف شيئًا آخر جديدًا كل الجدة، هو انتساب الزمن — في نفس الوقت — إلى التجربة التي قامت الرواية بعناء تجسيدها. وأقول «التجربة» لا «الحدث» لأن الرواية تخلو من الحدث منذ تلك اللحظة التي خلت فيها من «البداية» و«النهاية». وإنما هي تجسد «تجربة»، بدايتها تمتد إلى الماضي السحيق، فكأن لا بداية لها أو أن هذه البداية غير معروفة تمامًا، وتمتد نهايتها إلى المستقبل البعيد، فكأن لا نهاية لها أو أن هذه النهاية غير معروفة تمامًا. ينتسب الزمان في «نجمة» إذن انتسابًا مزدوجًا إلى الشخصية من جهة، وإلى التجربة من جهة أخرى. والتجربة في «نجمة» بعثت في شخص «المرأة المتوحشة» التي جاءت إلى الدنيا من صلب جزائري نسبه قادم من أب الآباء وجد الأجداد «قبلوت» القديم، ولكنها في نفس الوقت جاءت من رحم فرنسية عشقها أربعة تنافس منهم اثنان منافسةً انتهت بمصرع أحدهما في ليلة ميلاد نجمة — المرأة المتوحشة فيما بعد — وبقي الآخر أبًا مجهولًا لهذه الفتاة التي تزوجت أخاها دون أن تدري وتبارى الشيوخ في فرض أبوتهم عليها. ولعله من أيسر الأمور أن يوقع الباحث على جميع التفسيرات التي قيلت في نجمة على أنها رمز الجزائر الجديدة، وأن الزنجي الذي صرع أباها الحقيقي وحرسها طوال الطريق إلى آبائها الجدد هو أيضًا رمز أفريقيا السوداء. من أيسر الأشياء أن يوافق المرء على هذه التفسيرات المغرية لأنها تريحه، ولكني أعتقد أن كاتب ياسين من حقه أن يطالبنا بالمزيد من العناء في اكتشاف رؤياه، لأنه مهما عانينا فلن نصل إلى سفح معاناته التي بلغت به أعلى ذرى التوتر وأقسى ألوان التمزق. فلو أن نجمة هي الجزائر وحسب لكانت رمزًا قريب المنال كهذا الذي نراه في شخصية «زهرة» بطلة رواية «ميرامار» لنجيب محفوظ. ولكن نجمة فيما أتصور هي «تجربة» عميقة الأغوار في حياة بقية الشخصيات، لا يتحدد معنى الزمان في الرواية — وبالتالي شكلها — بدونها. هي تجربة ينبثق زمانها مع الجد القديم الذي اتخذ من جبل «الندحور» موطنًا لأبناء القبيلة فخانه الأحفاد يوم استطاع الفرنسيون أن يقطعوا الرءوس ويرثوا الأرض وما عليها سوى الشيوخ والأرامل والأطفال. أما الشباب فقد تفرق هنا وهناك بحجة أو بأخرى فرارًا من الذبح. وهي تجربة يتصل زمانها بالشبان الأربعة — الأخضر ومراد ورشيد ومصطفى — الذين التقوا في حب نجمة، كل على طريقته — بعد أجيال وأجيال من خيانة الأحفاد للجد — وانتهى المطاف بعد زيارات تقصر أو تطول للسجن وبعد أحداث يتقدمها الثامن من مايو ١٩٤٥م، انتهى المطاف إلى التفرق من جديد في جهات ثلاث مختلفة لأن الرابع كان يقضي مدة عقوبته في السجن، أحدهم إلى قسطنطينة والآخر إلى عنابة والثالث إلى جهة ثالثة. ولكن المسافة بين التفرق الأول الذي أحدثته مباغتة الفرنسيين لأحفاد قبلوت فوق جبل الندحور وبين التفرق الجديد الذي أحدثته نجمة خلال سنوات العشق والسجن والوصال والإثم والعذاب، المسافة بين الاثنين هي جوهر «التجربة»؛ فقد تفرق الشباب من جديد ليصنعوا في الجبال والصحاري والمدن شيئًا لم يتلفظ به كاتب ياسين ولكن صدورهم تصرخ به، لقد تفرقوا بعد أن ظهر لهم قبلوت في الزنزانة وعيناه تشعان رسالةً خاصةً لكلٍّ منهم، هي رسالة عامة إلى شباب القبيلة كلها إلى الجزائريين جميعًا، أن يستردوا جبل الندحور من غاصبيه، أن يستعيدوا الجزائر من فرنسا، لقد اختطف «سي مختار» ابنته الشرعية من أمها بالتبني واختطفها منه الزنجي إلى رجال القبيلة باسم الأبوة، وكأنها «نبوءة» لا بد من أجل تحقيقها أن يتفرق العشاق الأربعة «ولو كان مراد معهم لكان باستطاعتهم أن يسيروا في الاتجاهات الرئيسية الأربعة، كان باستطاعة كل منهم أن يأخذ اتجاهًا محددًا». على أنه إذا كان مراد ما يزال بالسجن، فإن الأخضر يقتسم المال الذي أعطاه له ذو اللحية مع رشيد الذاهب إلى قسطنطينة ومصطفى الذي اتخذ طريقًا آخر، أما هو في طريقه إلى عنابة، أولئك هم رسل نجمة — المرأة المتوحشة — إلى الخلاص الموعود، حينذاك يستريح قبلوت القديم ولا تعود عيناه تبرقان بالألم، وإنما يستريح في قبره المقدس؛ فقد كفَّر أحفاد الأحفاد عن خطيئة الآباء في حق جد الأجداد.

الشبان الأربعة إذن هم أبناء الجزائر الجديدة أو هم في تصورٍ أكثر دقةً بمثابة البشارة السابقة على مولد الجزائر الجديدة، أما نجمة فلها من الجزائر الجديدة نصيب، ولها من الجزائر القديمة نصيب، ولها من فرنسا نصيب تفاعلت هذه الأنصبة في ماضيها وحاضرها ومستقبلها فأثمرت هذه «الثورة» العارمة التي كشفت حقًّا الحجاب عن وجهها ولكنها لم تنسَ قط أصلها ومنبتها، لقد تزوجت أخاها وضاجعت الآخر، ولكن طهارتها فوق كل شبهة وإثم، لأن نجمة هي ابنة الجميع وعشيقة الكل «هي روح الجزائر الممزقة من البداية والمهددة بمختلف التوترات والتمزقات الداخلية»، كما وصفها كاتب ياسين في مقابلة أدبية.

هذه الروح هي الثورة، والثورة هي التجربة التي امتصت زمانها الخاص على نحوٍ شديد التعقيد من الماضي والحاضر والمستقبل. فهي أشبه بالبناء الموسيقي كما قال الناشر الفرنسي في صدر طبعتها الأولى: «إنها هذا التعداد الاثنا عشري لفصول الكتاب. كل فصل يؤلف التفافة كاملة وعلى كل التفافة من خطه اللولبي ترى المؤلف يزرع اثني عشر رقمًا، تبدأ الالتفافة بالرقم الأول ثم تتلاشى في الرقم الثاني عشر، لتفسح المجال لحركة جديدة تعيد الدورة ذاتها» أو هي عالم من الكواكب «وضع المؤلف فيه الشمس — نجمة — في المركز ووضع من حولها عددًا من النجوم المختلفة الأحجام، وهذه النجوم نفسها لها توابع. وبرغم أن الشمس تحتل مركزًا ثابتًا وتشع دائمًا تقريبًا بنفس القوة؛ فإننا لا نعلم عن هذه الشمس إلا من خلال الضوء الذي تعكسه على الأجسام التي حولها، ولكنها تملك قوة تبعيد وتقريب هذه الأجسام من الضوء تبعًا لدوراتها المعتادة. وما دامت الأجسام مرتبطة بهذه الحركة التي تعيدها إلى مركز الضوء حسب قانون ثابت، فإن النتيجة هي عودة دائمة نحو الشمس (نجمة) وامتزاج كامل بين الماضي والحاضر والمستقبل.» هكذا وصفها ناقد فرنسي في بحث حول «القصة الجديدة» (بمجلة اسبري عدد يوليو وأغسطس ١٩٥٨م). ويبدو واضحًا من هاتين الفقرتين أن النقد الفرنسي يضع يده بمهارة فائقة على قضية الشكل في «نجمة» ولكنه لم ينفذ قط من هذا الباب الرحب إلى ما هو أكثر رحابةً وعمقًا؛ بل هو يتورط في خطأ فادح عندما يقتصر على هذا الجانب؛ إذ يثب مباشرةً إلى القول بأن «نجمة» — بالتالي — تنتمي إلى «الرواية الجديدة» التي ظهرت في فرنسا منذ أكثر من عشر سنوات. إن «نجمة» لا تنتسب إلى الرواية الجديدة وإن اقتربت منها مصادفةً في بعض جزئيات الشكل، لأن كاتبها ينتسب إلى «تجربة» إنسانية تختلف في الكثير عن تجربة كاتب الرواية الجديدة في أوروبا. إن تجربة كاتب ياسين أو نجمته في ليلنا الطويل، هي الثورة، لذلك كان رمز البطولة في المقاومة الجزائرية لا ينعقد لبطل من أبطالها المناضلين، وإنما يرى كاتب ياسين هذا الرمز مجسمًا في تلك الروح القريبة مما عرفناه عند توفيق الحكيم في روايته «عودة الروح» ولكن على نحوٍ أكثر تركيبًا. ومن هنا كان البناء الروائي المركب في نجمة ليس شكلًا فنيًّا فحسب؛ بل هو مضمون فكري أيضًا. والفنان حريص منذ الوهلة الأولى على تأكيد هذه الصلة العضوية بين الشكل والمضمون، حتى إذا واجهنا في سيرنا أوصالًا ممزقةً أدركنا على الفور أن هذا التمزق لا يكتسب معناه من التخلخل الذي لاحظناه في قصة مالك حداد، تخلخل الزمان والإنسان في قصة يولسيز. وإنما تعكس الأوصال الممزقة في «نجمة» أسطورة الجد القديم «قبلوت» التي تشبه من أحد وجوهها الأسطورة المصرية القديمة التي جمعت فيها إيزيس أطراف أوزوريس فدبت فيها الروح من جديد.

تبدأ الرواية بهروب الأخضر من السجن وعودته إلى الصحاب الذين يعملون في ورشةٍ يرأسها السيد إرنست وابنته الجميلة سوزي التي ينوي سائق العربة ريكارد — صاحب الضيعة المجهولة النسب — أن يتزوجها. وقد دخل الأخضر السجن لأنه حاول أن يرفع وجهه في وجه إرنست، ودخل مراد السجن لأنه رفع وجهه في وجه ريكارد وأرداه قتيلًا في ليلة زفافه. لا يحدث لهذه القصة — أو هذا الحدث — أي تطوير حتى النهاية، وإنما تظل إطارًا يحيط «التجربة» — نجمة أو الروح أو الثورة، سمِّها ما شئت من الأسماء — ويبرز كل زاوية من زواياها إطارًا ثابتًا لصورة واحدة لا يتغير فيها إلا الخطوط والألوان من حين إلى حين. إنها في إحدى المرات خطوط السجن «ما أعلى الأسوار يا أماه» يقول مراد لقد حل الكورسيكيون محل الرومان «ونتابع نحن دورة العبيد». ويظل الإطار قائمًا وإنما تبهت في الصورة ظلال السجن لتبرز خطوط العلاقة بين العمال والسيد الفرنسي «أشبه ما يكونان بمعسكرَين يعرف كل منهما الآخر معرفةً تامة منذ أمد طويل»، وتتلاشى هذه الزاوية لتظهر زاوية جديدة «أنتم الأغنياء تنامون في أسرة الفرنسيين، وتأخذون كل ما تحتاجونه من مخازنهم، أما نحن فنكتفي بمُد من الشعير، ودوابنا تأكل كل شيء»، وتختفي هذه الألوان جميعها رويدًا رويدًا حتى يسود اللون القاني في الثامن من مايو ١٩٤٥م لأنه اللون الوحيد الذي أهَّلته نجمة لأن يمسح عار الألوان الماضية، لقد تفرقت المظاهرة الأولى حقًّا، ولكنها كانت دقة الناقوس المدوية التي تجمعت حولها الآذان بعد ذلك التاريخ بأقل من عشر سنوات، حيث كان الأخضر ورشيد ومصطفى — ومراد من سجنه — قد تفرقوا في أنحاء الجزائر يبشرون بيوم آتٍ لا ريب فيه، هو اليوم الذي اشتعلت به عينا قبلوت في الزنزانة، وهو اليوم الذي أوصى به سي مختار إلى رشيد في الطريق بين مصر والجزيرة العربية، قال له: «يجب أن تفكر في مصير هذا الوطن الذي أتينا منه. إنه ليس مقاطعةً فرنسية، وليس على رأسه باي ولا سلطان. ربما تفكر في الجزائر التي ما برحت عرضةً للغزوات في التاريخ، وفي ماضيها المستغلق، لأنا لسنا أمة. لم نصبح أمة بعد. عليك أن تعرف ذلك. نحن لسنا إلا قبائل منكوبة.» وتلك إذن هي بؤرة المأساة التي عبر عنها الكاتب في موضع آخر قائلًا: «ولكن الاحتلال كان شرًّا لا بد منه، كان طعمًا موجعًا يحمل معه وعدًا بالتطور لشجرة الوطن التي أخذت الفأس تعمل فيها ضرباتها، وكان على الفرنسيين، كما كان على الترك، والرومان، والعرب من قبلهم، أن يتمكنوا في الأرض، رهائن الوطن الذي يتمخض، الوطن الذي كانوا يتنازعون خيراته.» ولكن المد والجزر «قد تلاعبا بهذا الوطن حتى اختلطت أصوله، واكتسحها هذا الذبول العاصف، ذبول شعب يحتضر». وبدلًا من الموت تطلع نجمة في سماء الجزائر، ويحفر الأخضر بالسكين على المقاعد والأبواب الخشبية «الاستقلال للجزائر» غداة انتهاء الحرب الثانية التي كان الجزائريون في مقدمتها يدفعون الخراب عن أن يلتهم الجزائر وفرنسا معًا. ويتدافع الفلاحون والعمال ويتجمع الطلاب والشباب ويهتف الجميع ليوم النصر لا لفرنسا وحدها، وإنما للجزائر أيضًا. وحينئذٍ تنطلق رصاصة لتصيب العلم، وما أشبه المشهد بتلك المظاهرة السلمية التي خرجت بإذن من الإنجليز في «بين القصرين»، قرب خاتمة ثورة ١٩١٩م فأطلق عليها جنود الاحتلال رصاصهم فجأةً وسقط «فهمي» شهيدًا. ولكن جنود الاحتلال الفرنسي في الجزائر كانوا قد جردوا الشعب من سلاحه في المساجد، فهجمت عليهم الجماهير بالكراسي والزجاجات وأغصان الأشجار. وتدحرج حامل العلم، ويقطع الجيش الشارع الرئيسي وهو يطلق النار على الأسمال المهلهلة، ويطلق رجال الشرطة والمعمرون أيديهم وأسلحتهم في الأحياء الوطنية فلا يبقى هناك باب مفتوح. ويسيطر اللون القاني على صورة نجمة في إطارها الذي لا يتزحزح مهما تغيرت ألوان الصورة وخطوطها. ففي يوم النصر على النازية تدوس فرنسا بأقدام حديدية على الإخاء والحرية والمساواة، وتخرج النازية لسانها من فم فرنسي ساخرةً من النصر «لا حاجة بنا إلى القانون هنا. إنهم لا يفهمون إلا القوة. إنهم بحاجة إلى هتلر جديد». وتتجمع الخيوط من جديد عند نجمة لتتفرق بعدئذٍ في الاتجاهات الرئيسية الأربعة مهما كان أحد العشاق الأربعة ما يزال في السجن، وكأنها «نبوءة» الغد. إن ما فرقهم بالأمس هو بعينه الذي يفرقهم اليوم، ولكن الأمس كان فرارًا من السكين، واليوم لقاء معه، اليوم يثأر الأحفاد لجدهم القديم بفضل نجمة الحبيبة المتوحشة، نجمة رمز البطولة في المقاومة الجزائرية التي أثمرت نصرًا جديدًا بديلًا للثامن من مايو ١٩٤٥م، نصرًا يلتئم فيه الشمل والجرح لتبدأ الجزائر حياتها الجديدة.

وهكذا يبدأ كاتب ياسين روايته — كلوحة تجريدية — بلا بداية محققة — وينتهي بها بغير نهاية محققة، يبدأ تجربته دون حدث قابل للتطوير، وكأن القصة لا «قصة» لها. إنه يراكم جزئيات التجربة من أبسط مستوياتها، إلى أن تتحول في إحدى المراحل إلى مركب جديد يتطور بدوره إلى ما هو أكثر تركيبًا. فالرواية في بنائها مجموعة مستويات بعضها فوق بعض من أقل درجات البساطة إلى أعلى درجات التركيب، ففي كل مستوًى قد نرى نفس الأسماء والأحداث والمواقف، أي أننا في كل فصل من فصولها نلتقي بنفس الإطار العام، ولكن الاختلاف الزمني بين كل مستوًى وآخر هو مصدر الرؤية الجديدة في كل فصل، حتى تتكامل الرؤى عند السطر الأخير في رؤيا واحدة شاملة لأدق الجزئيات والتفاصيل، وأكبر الكليات وأكثرها تعميمًا. وهذا ما قد يتسبب في خلط لا حد له للقراءة غير الصبورة؛ إذ قد يظن المرء لأول وهلة أن فصلًا واحدًا يغني عن بقية الفصول، ما دامت «ليست هناك بقية» لقصة تُروى أو لأحداث تتوالى. وقد يذهب الظن إلى أقصى تخوم الإثم فيتصور أن الأمور قد اختلطت على الكاتب ولم يعد يميز بين فصل وآخر. ولربما تهتدي قراءة مستأنية إلى أنها قصة واحدة ترويها شخصيات أربعة، كل منها بمنطقها الخاص. ولكن لا، إن كاتب ياسين وهو يجسم تجربته في حجمها الطبيعي كان أقرب ما يكون إلى المثال والموسيقى منه إلى «القاص» بمعناه التقليدي، كان منذ البداية قد أزمع ألا «يقص» شيئًا وإن همس وأوحى بأشياء وأشياء فلم يخضع لأسلوب الرواية، وإنما اتبع أسلوب النحت والنغم، هو يضرب ضربته الأولى — بغير إزميل ولا نوتة موسيقية — فتتشكل الخامة بين يديه على نحوٍ معين يلخص التجربة في مهادها الأول، ثم تتوالى الضربات فلا «تكمل» التشكيل وإنما تزيده عمقًا وتغني أبعاده. ليس هناك خيط واحد يمتد من الفصل الأول إلى الفصل الأخير في «نجمة». وإنما هناك مجموعة خيوط تنتقل بكاملها من فصل إلى آخر قد تزيد في الطريق خيطًا أو آخر، ولكن أهم ما يحدث لها هو أنها تتبدل من وضع إلى وضع كلما اتصلت حركتها بالتجربة أو الشخصية، أي كلما اتصلت بالزمان النسبي والزمان المطلق في الرواية. ولذلك قد يشتبه علينا الأمر أحيانًا ونتصور أن ما أمامنا هو «فلاش باك» أو من «التداعي الذهني» أو «الذكريات»، ولكن الحقيقة أن المؤلف لا «يرجع» بنا مطلقًا إلى الوراء، إنه وهو يستحضر في مخيلتنا أحداثًا قديمة إنما يؤكد على «تواجد وحضور» هذه الأحداث الماضية في قلب الزمن الحاضر. وقد يشتبه علينا الأمر أحيانًا ونتصور أن ما أمامنا هو «حلم» يتشوف فيه صاحبه المستقبل، ولكن الحقيقة أن المؤلف لا «يستدرجنا» مطلقًا إلى المستقبل إنه وهو يستحضر في مخيلتنا أحداثًا لم تحدث إنما يؤكد على «تواجد وحضور» المستقبل في قلب الحاضر. وتلك هي أبعاد نجمة ابنة قبلوت والمرأة الفرنسية وعشيقة الشبان الأربعة، وهي الأبعاد التي تصوغ لنا الزمان في صورته المطلقة، بينما تصوغ لنا بقية الشخصيات صورته النسبية. وبين الزمان المطلق — نجمة — والزمان النسي «الأخضر ورشيد ومراد ومصطفى» صراع وتفاعل واندماج يتجسد يومًا في الثامن من مايو ١٩٤٥م، ويتجسد أيامًا وسنواتٍ في صورة المليون شهيد، ويتجسد دومًا في ثورة الجزائر الدائمة؛ ذلك لأن الثورة هي «روح» الجزائر هي العذراء والمرأة المتوحشة هي «نجمة». ومن هنا كانت هذه الرواية الكبيرة هي الابنة البكر للجزائر بمعناها الأكثر شمولًا وعمقًا؛ فقد جسمت في مختلف مستوياتها البسيطة والمركبة مراحل العذاب الأكبر الذي عاناه هذا الوطن برفقة أعظم أجياله على الإطلاق. يقول أبو القاسم سعد الله في كتابه السابق: «إن يقظتهم تعود في أغلب الأحيان إلى اتصالهم ومعرفتهم بالثقافة الفرنسية، وقد أصبح من المستحيل عليهم أن يتركوها ويعودوا إلى الماضي الذي يحاولون الابتعاد عنه تمشيًا مع القرن العشرين. ولكن يستحيل عليهم في نفس الوقت أن يقطعوا علاقاتهم بعالم طفولتهم وشبابهم وتراثهم الثقافي الخاص.» وتلك هي المهمة التي أنجزها كاتب ياسين في الأدب الجزائري، فلم تغلب عليه الدماء القديمة ولم تغلب عليه الدماء الجديدة، وإنما توازيا في شرايينه توازيًا حادًّا مرًّا ومؤلمًا، بعد صراع هائل وتفاعل عميق واندماج شامل. ولذلك توفر البعد الإنساني في نجمة كما لم يتوفر في عمل أدبي جزائري من قبل، ولكن البعد القومي هو ركيزتها التي لم تتزحزح عنها، أما البعد الاجتماعي فيكفيه وضوحًا أن يجعل الروائي من الفلاحين والعمال والمثقفين الثوريين الخامة البشرية الرئيسية في الرواية حتى إنها تصبح عن يقين رواية «جيل الثورة» في مقابل جيل المأساة الذي عبر عنه مالك حداد. وفي تقييم هذه الأبعاد الثلاثة يصل الحماس بالدكتورة سعاد خضر أن تقول في كتابها «الأدب الجزائري المعاصر»: «لقد تغنى كاتب ياسين بالثورة وبالجزائر ووصف بشاعة حرب الإبادة وعذابات السجون وعبر عن آمال وآلام شعبه بقوةٍ لم يستطع أحد قبله أو بعده أن يعبر بها.»

ليست هذه الروايات الثلاث، لمحمد ديب ومالك حداد وكاتب ياسين، إلا نماذج أكثر تمثيلًا من غيرها للفكرة التي أطرحها في هذا الفصل، وهي أنه على الرغم من أن المقاومة هي النسج الأساسي للأدب الروائي في الجزائر فإن هناك ثلاثة اتجاهات مختلفة تعبِّر عن رمز البطولة في المقاومة الجزائرية، أحدها يغلب الدماء القديمة الأصيلة، والآخر يغلب الدماء الجديدة الوافدة، والثالث يمزج بين هذه وتلك. ولكن الرواية الجزائرية لا تتوقف عند هذه الحدود، فهناك أدباء كبار لم يكفُّوا يومًا عن المشاركة في العمل الوطني نضالًا وفنًّا حتى سقط أحدهم شهيدًا غداة التحرير، هو مولود فرعون. ولقد كان نتاجه الأدبي وجهوده الفنية مولود معمري في إنقاذ التراث الجزائري وبخاصة الشعر البربري والأدب الشفوي للقبائل من أكبر الجهود الوطنية لبناء ثقافة جزائرية جديدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤