أزمة البطولة في مسرح المقاومة
يكاد مسرح المقاومة أن يكون شكلًا مستقلًا من أشكال التعبير الدرامي، فهو — في معظمه — لا يخضع للتقسيم الأرسطي إلى تراجيديا وكوميديا، ولا يخضع كذلك للتصنيف الحديث نسبيًّا الذي يضيف إلى الشجرتين الكبيرتين أغصانًا جديدةً وفروعًا مثل الميلودرام والفودفيل والمسرح الغنائي والمسرح السياسي وأخيرًا مسرح العبث، إلى غير ذلك من مسمياتٍ درج عليها النقاد ومؤرخو الأدب المسرحي منذ نشأته إلى الآن. فلا ريب أن مسرح المقاومة قد أفاد الكثير من هذه الأشكال جميعها، ولكنه يكاد في تصوري أن يتصف بسمات جوهرية تستقل به — وإن لم تفصله — عن بقية أشكال التعبير الدرامي.
والمقاومة في ذاتها صراع بين قوتين، لهذا كانت بطبيعتها خامةً درامية. ولأنها لا تتم داخل الذات الإنسانية وإن تأثرت بها فهي بالقطع ليست خامةً تراجيدية تجسد معاناة «الانقسام»، ولأنها لا تتم بين مطلقين ولو كان أحدهما هو الخير والآخر هو الشر ينتهي بينهما النزال إلى انتصار للخير لا لبس فيه، فإنها بالقطع ليست خامةً ملحمية. ولكن مسرح المقاومة يستعير من العالم التراجيدي بعض قسماته، كما يستعير من الملحمة بعضًا من ملامحها. فهو يتبنى فكرة «الانتصار النهائي» على مستوى المجموع وفي المدى الطويل، وهكذا يقترب من أبواب الملحمة. وهو يتبنى فكرة «المأساة» على مستوى الفرد وفي المدى القصير، وهكذا يقترب من دنيا التراجيديا. فأبطال المقاومة قد يموتون دون أن تثمر مقاومتهم انتصارًا ما، ولكنهم يموتون وهم على «يقين» من هذا الانتصار. وهم في ذلك من أصحاب «الرؤى» التي تكاد تتحول بهم إلى الأسطورة الرومانسية. فالاستشهاد هنا هو العمود الفقري في شخصية المقاومة. والاستشهاد هو استباق قيمة جديدة بدلًا من قيمة قديمة، عن طريق الموت. لذلك كان الموت في مسرح المقاومة ليس موتًا مقدورًا كما هو الحال في التراجيديا، ليس موتًا محتومًا، ولكنه كذلك ليس موتًا اختياريًّا كما هو الحال في الملحمة. وهو بغير شكٍّ ليس موتًا بالصدفة العبثية كما هو الحال في مسرح اللامعقول، ولعل قضية «الموت والشهادة» هي محور أزمة البطولة في مسرح المقاومة. فالموت حقيقة بشرية عادية كالحياة تمامًا، ولكن هذه الحقيقة ليست هي منطلق البطل الذي يموت على مسرح المقاومة، فلو أنها كانت كذلك لأصبحت المقاومة مجرد «مناسبة» تموت فيها إحدى الشخصيات. وسوف يتضح لنا فيما بعد أن المقاومة ليست مجرد مناسبة، وإنما هي إحدى حقائق الوجود الإنساني التي لا تقل أهمية عن الحياة والموت. والموت حقيقة غيبية — كالمجيء إلى الدنيا بغير زيادة ولا نقصان — لا تعرف ما هو، وكيف كان ذلك. ولكن هذه الحقيقة ليست هي منطلق أبطال المقاومة الذين لا يبدَءون «الفعل» في حياتهم على ضوء «اللغز الكوني» أو «سر الأسرار»، لأن الشك ليس عنصرًا من عناصر وجودهم، وإنما اليقين هو العنصر الذي يحرك هذا الوجود. والموت حقيقة واقعة لا مفر منها، ولكن هذه الحقيقة ليست هي منطلق الشخصية في مسرح المقاومة لأن فعلها ليس استفزازًا من «قوة عليا» هي القدر المكتوب أو لعنة الآلهة. وليس استجابة عفوية للعبة الغدر والمصادفة.
الموت في مسرح المقاومة هو موت «اضطراري» يخضع لقانون الاحتمال لا للقدر ولا للمصادفات، وهو موت معقد يرتبط بالأرض والقيمة، وهما ما نسميهما بالاستشهاد، ولكنه ليس موتًا «شخصيًّا»؛ فقد يصيب هذا أو ذاك من «الأفراد» ومن لا يصيبه الموت لا يعتبر نفسه قد عاش، ومن أصابه الموت لا يعتبر من الآخرين الأحياء أنه قد مات. إن جدلية الحياة والموت على أرض المعركة لا تمنح «السقوط» طعم المأساة أو نكهة الهزيمة، إنها لا تجعل منه بطولةً تراجيدية ولا شرًّا ملحميًّا صريعًا، وإنما تمنحه طعم «الشهادة»، المعبر الوحيد إلى قيمة جديدة بدلًا من القيمة القديمة.
والاستشهاد أقرب ما يكون إلى الرؤية الصوفية، وهي رؤية يقينية واضحة لا لبس فيها ولا غموض، وبالرغم من أن الشهيد لا يُسمَّى شهيدًا إلا بموته، إلا أنه يحيا عمره بما يمكن تسميته «روح الاستشهاد» وهي الروح التي تدفعه إلى المقاومة وهو يعلم مقدمًا أن الموت أرجح الاحتمالات، ولكنه يعلم كذلك أن النصر لا يقل عن الموت رجحانًا. الموت للفرد ربما، والنصر للمجموع حتمًا، فالنصر هنا مجاز يتصل بالمستقبل من ناحية الزمان، وبالأرض من ناحية المكان، وبالجماعة من ناحية الإنسان. لذلك فهو «رؤيا» لا بد لها من إيمان عميق وبصيرة شديدة الشفافية تقترب من حافة الحدس. ولكن «المقاومة» ليست حلمًا، هي مرحلة استباق الحلم هي الواقع في مده وجزره مثل تسويد القيمة الجديدة أو قبل تحويل الحلم إلى واقع جديد. وأزمة البطولة في مسرح المقاومة هي هذا الصراع بين الواقع والحلم أو هي هذا الصراع بين القيم. وإذا كان الشهيد بصورةٍ عامة هو الإنسان «من أجل» فإن المناضل الوطني هو الشهيد «من أجل الأرض» والمقاومة الوطنية ترتبط عن طريق شهدائها بهذا المعنى وهذه القيمة، وكلاهما نسبي بعيد عن المطلقات الرومانسية أو مطلقات العصر الوسيط بُعدهما عن الدين أيام كان «العالم» المسيحي هو العالم الوحيد الذي يعرفه المؤمن في ظل الكنيسة، التي هي بدورها ظل الله على الأرض، وبُعدهما عن الشوفينية أيام كانت النازية والفاشية هي القيم التي يعتقد بها المؤمن في ظل هتلر وموسيليني. إن «حرية الإنسان في أرضه» هي قضية المناضل الوطني أو الشهيد الحديث الذي ولدته انبثاقات «القومية» إبان حركة التطور التاريخي.
وإذا كان «تحرير الأرض» هو اليقين القريب من أن يكون رؤية صوفية عند بطل المقاومة، فإن المقاومة في ذاتها ليست مطلقًا من المطلقات، هي ليست دفاعًا عن مطلق سماوي كالدين، كما أنها ليست دفاعًا عن مطلق أرضي كالعِرق. وإنما المقاومة حركة «نسبية»، إن جاز التعبير عن ارتباطها بالأرض والإنسان والحرية، وكلها عناصر «نسبية» تتبادل السلب والإيجاب والمد والجزر والشد والجذب. وبين اليقين الصوفي عند المناضل وجدلية المقاومة أو نسبية حركتها تبرز على الفور «أزمة البطولة» التي يجسدها المسرح أكثر من أي فن آخر تناول قضية المقاومة بالتعبير. فالرواية تبلور رموز البطولة والشعر يبلور صورتها، أما المسرح فهو القادر الوحيد بين الفنون على بلورة «الأزمة». وهي الأزمة التي أوجزت مضمونها فيما سبق، وقلت إنها ليست أزمة تراجيدية تعاني البطولة فيها من الانفصام وحتمية السقوط، وليست أزمة ملحمية يحرز البطولة فيها مَن يمثل الخير المطلق في مواجهة الشر المطلق، والانتصار فيها محتم هو الآخر. إن أزمة البطولة في مسرح المقاومة لا تتبلور في مواجهة البطل للموت، وإنما لقيام هذا التناقض الأصيل بين يقين الرؤية ونسبية المقاومة. ولذلك كان بطل المقاومة وحده هو «البطل-الشهيد» بين بقية الأبطال، لأنه لا يكفر عن خطيئةٍ ارتكبها كما هو الأمر في البطل التراجيدي، ولأنه لا يعيش بموت خصمه كما هو الأمر في البطل الملحمي. إن «البطل-الشهيد» يعيش ويموت لارتباطه المطلق بقضية نسبية في جوهرها وإن ارتدت ثياب «الحق المطلق في تحرير الأرض»، فتلك هي القيمة البديلة التي تعتمد حركة استبدالها على سلسلة لا تنتهي من النسبيات. وتلك أيضًا هي أزمة البطولة في مسرح المقاومة.
والتعبير الدرامي عن هذه الأزمة يتخذ مساراتٍ مختلفة، ولكنها تلتقي جميعًا في نقطة واحدة، هي أن الحدث الدرامي من ناحيةٍ والشخصية الرئيسية من ناحيةٍ أخرى هما معًا الأساس الراسخ للبناء المسرحي. والحدث الدرامي في مسرح المقاومة — مهما تعددت زواياه — هو مثلث متساوي الأضلاع، اثنان يوجزان القوتَين المتصارعتَين، والثالث دائمًا هو قطعة الأرض التي يتكئ عليها كلاهما. وليست الأحداث بعد ذلك إلا حركة الصراع بين القوتَين اللتَين تلدان من خلال هذه الحركة ما يُسمَّى بالشخصية الرئيسية. فليس شرطًا أن تكون هذه الشخصية من هذا الفريق أو ذاك، وإنما الشرط هو إيمانها اليقيني بحق أحد الطرفين في تحرير أرضه وتبني «الفعل» اللازم بتجسيد هذا الإيمان فيما يُسمَّى بالمقاومة. وتتعدد أشكال المقاومة تعددًا مذهلًا، سواء ما عرفته حركات التحرر الوطني منذ انتشار ظهور القوميات إلى الآن، أو ما يتفتق عنه خيال الفنان. ولكنها تتوحد جميعها في تجسيد قيمة «الحرية» ومحاولة تسويدها على قيمة الاسترقاق والعبودية. وبالرغم من كافة الظلال الاجتماعية التي تتناثر هنا أو هناك في اختيار الشخصية أو الحدث، وتباينها من زمن إلى آخر ومن بيئة إلى أخرى، فإنه تظل السيادة «للأرض» بمعناها الوطني الخالص هي مركز الدائرة في الصراع بين الحرية والعبودية. ولقد تتم عملية التجسيد المسرحي في إطار «الصراع الفكري» أو في إطار «الصراع الدموي»، وقد تتم في إطار «العرض التاريخي» أو في إطار «الواقع المعاصر». وكذلك يمكن تعميم البطولة على مجموعة من البشر بدلًا من تخصيصها في فرد واحد، ويمكن للفنان أن يرمز إلى البطولة بهذا أو ذاك من رموز، ولكن تظل «الأزمة» هي المحور الدرامي الذي ينسج الكاتب من حوله «الحدث» وتتكون من خلاله «الشخصية».
•••
ولربما اهتدينا على ضوء المنهج التاريخي إلى تطور السمات الخاصة بمسرح المقاومة، والتي تجعل منه أو تكاد مسرحًا مستقلًّا بين أشكال التعبير الدرامي. ومن هذه الزاوية وحدها تتقدم مسرحية برنارد شو «القديسة جون» على بقية الأعمال التي عالجت هذه القضية لأنها تتناول البشائر الأولى لميلاد الفكرة القومية. فهي ليست فحسب قصة المقاومة الفرنسية الباكرة ضد الاحتلال البريطاني، لأن هذا الاحتلال في ظل البابوية الكاثوليكية التي ترى في «العالم المسيحي» كنيسةً واحدة لم يكن له المعنى الخطير الذي أعطته العصور التالية للاستعمار، وهو المعنى الذي اكتسبته البشرية منذ أن رسخت في وجدانها فكرة «الوطن» بدلًا من الدين. ولعل هذا هو الدافع الأول لأن يختار برنارد شو «جان دارك» — أحد رسل القومية الأولين — نموذجًا لبطولة المقاومة الوطنية، ولعله أيضًا هو الدافع الثاني لأن يختار بداية القرن الخامس عشر عصرًا تجري فيه أحداث التاريخ. ولأول وهلة يصطدم الباحث بما يمكن أن يُعد تناقضًا في شخصية جان دارك، هو أنها وهي الكاثوليكية التي تتلقى وحْيها من أصوات القديستين كاترين ومارجريت، فإنها في نفس الوقت هي رائدة النضال ضد الإنجليز وإخراجهم من «أرض الوطن» فرنسا. والحق أن برنارد شو كان واعيًا بهذا التناقض؛ بل جعل منه إطارًا فنيًّا للشخصية. لهذا نراه يردد لفظة «بروتستانتية» كثيرًا على أفواه اللوردات والكاردينالات، وهي اللفظة المرادفة دينيًّا للرداء الفكري الذي قام لوثر بتفصيله على الحركة القومية البازغة. ويبدو واضحًا على جان دارك أنها بالرغم من تلقيها الوحي من قديسات الكنيسة الكاثوليكية، وبالرغم من تقبيلها لأهداب ثوب الكهنة الكاثوليك، وبالرغم من تمسكها وإصرارها على أنها من رعايا البابا والكنيسة، إلا أن مجمل الحوار بينها وبين قُضاتها يؤدي إلى القول بأن العلاقة بين الإنسان والله ليست بحاجة إلى وسيط، وهذا لب البروتستانتية وجوهرها الأصيل. أما سماعها الأصوات مع دقات جرس الكاتدرائية فهو أقرب ما يكون إلى الرؤية الصوفية أو اليقين الذي ألهمها بروح الاستشهاد أن تقود حركة المقاومة حتى النهاية. والحق أن هذا ما يفسر لنا حماس الأساقفة الكاثوليك في طرد جان دارك من «حظيرة الكنيسة» وتسليمها بعدئذٍ للسلطة الزمنية؛ بل إن أحد القساوسة الإنجليز لم ينتظر الانتهاء من الإجراءات الشكلية قبل تنفيذ الحكم، فساقها إلى الجنود حيث كانت المنصة قد أعدت أثناء المحاكمة لإحراقها فور إعلان الكنيسة رسميًّا أنها لا تنشر ظل حمايتها على الفتاة. وهكذا استطاعت السلطة الإنجليزية أن تضم التوقيع الفرنسي جنبًا إلى جنب مع توقيعها في الحكم على جان بالموت حرقًا، وإن اختلفت البواعث فإنها تلتقي في النهاية، إن الكاثوليكية الفرنسية وقعت لأنها تدين الفتاة بالزندقة، والعسكرية الإنجليزية وقعت لأنها تدين الفتاة بمقاومة الوجود الإنجليزي على أرض فرنسا. ولكن الخاتمة واحدة هي «استشهاد» جان دارك فداءً «للفكرة القومية»، سواء ارتدت هذه الفكرة نسيجًا دينيًّا أو سياسيًّا، فإن رداءها الأصيل هو «المقاومة الوطنية».
ومسرحية برنارد شو مكونة من سبعة مشاهد. أولها لقاء جان حاكم المنطقة التي تسكن فيها، تستأذنه في التوجه إلى ولي العهد لتخليص أورليان من الإنجليز وتتويجه ملكًا على البلاد في كاتدرائية «راينس». وبينما يدخل أحد الفرسان هازئًا من «العذراء» التي تتصور أنه بالإمكان إخراج الإنجليز يفاجأ الجميع بقولها: «إنهم رجال مثلنا على أية حال، هكذا صنعهم الله كما صنعنا، ولكنه أعطاهم بلادهم الخاصة بهم كما أعطاهم لغتهم الخاصة بهم، ولن يرضى تعالى عن اغتصابهم لبلادنا، فرساننا يفكرون فقط في المال الذي سيجنونه من وراء الفدية التي يفرضونها على الأسرى والرهائن.» والمشهد الثاني هو لقاؤها مع شارل ولي العهد الذي يسمح لها بعد صعاب عديدة كادت تمزق الحوار بينهما أن ترتدي ثياب الجند وتمتشق السيف وتتوجه إلى أورليان. والمشهد الرابع هو لقاؤها مع القائد دنوا عند الشاطئ الجنوبي من نهر اللوار، ومنذ وصولها تحركت الرياح في اتجاه الغرب حيث الطريق إلى المعركة. وتكاد هذه المشاهد الثلاثة أن تتكامل فيما بينها على نحوٍ يصوغها في فصل مستقل عما يستجد من أحداث. وهو الفصل الذي تتبلور فيه شخصية جان تبلورًا يعيد إلى الأذهان الأبعاد التاريخية للعذراء التي أعلنت على الملأ أنها سمعت أصواتًا تدفعها إلى طرد الإنجليز من فرنسا. وفي مقدمة طويلة كتبها شو بعد عرض المسرحية لأول مرة، كاد أن يخطط مقدمًا لبناء هذه الشخصية تخطيطًا هندسيًّا صارمًا، كان يعكس في واقع الأمر رؤية الفنان خلال عملية الخلق للشخصية التاريخية، فالحق أن برنارد شو كان يعنيه في الكثير أن يمنح المسرحية بكاملها هذه النكهة التاريخية التي تتجلى بصورةٍ رئيسية في شخصية جان دارك. لهذا لم يخلع عنها نقاب «القداسة» الذي خلعته على نفسها ثم خلعته عليها الكنيسة الكاثوليكية بعد إحراقها بخمسة قرون، ولكن شو يستغل هذه الحالة من القداسة استغلالًا فنيًّا محضًا، أي كبديل موضوعي للرؤية الصوفية اليقينية، أو ما أسميه بروح الاستشهاد الذي يقود الشخصية إلى الموت، فلا يصبح مفاجأةً، بل نهاية متوقعة تتوج حياتها ونضالها، بل تبدو هذه الحياة أحيانًا وكأنها نضال «من أجل» الموت. لأن الموت في ذاته يكتسب معنًى جديدًا يختلف عن كونه مجرد «العدم» إلى النقيض تمامًا، إلى بعث الحياة في القيمة الجديدة الباقية بعد انعدام الوجود الشخصي «للبطل» الذي تجسدت فيه قبل الموت. وأزمة البطل إذن — كما هو الحال في جان دارك — تلازمه منذ أن يحمل أعباء البطولة، منذ أن يتلقى «الرسالة» بصورةٍ ما. وهي أزمة حياته مع «الرؤيا» وحياته مع «الواقع» في وقت واحد، وهي الأزمة التي تنتهي بانتهاء الوجود الشخصي للبطل، أي بموته. هذه الأزمة — على هذا النحو — هي مصدر الاتساق في بناء الشخصية، على خلاف أية أزمات أخرى من شأنها أن تكون مصدرًا للتناقض والانقسام والتمزق في كيان الشخصية، وتلك كانت مهمة برنارد شو في القسم الأول من مسرحيته، أن يقيم هذا التوازي المحكم في شخصية جان، بين إبراز أزمتها الروحية العميقة الغور في نفسها، وهي الأزمة التي تتخذ وجهًا واقعيًّا هو العمل السياسي المناضل لإجلاء المحتل الأجنبي، وبين إبراز الاتساق الكامل في شخصيتها الدرامية والإنسانية، فهي من زاوية رئيسية تتميز بالتكامل الواعي الدقيق بين مختلف عناصر تكوينها الفني والبشري، ولا تعاني بأية صورة من الصور توترًا أو انفصامًا. ويركز برنارد شو في لقاءاتها الثلاثة بحاكم المنطقة التي تسكنها وولي العهد وقائد الشاطئ الجنوبي على هذه النقطة تركيزًا واضحًا، يوحي بأن هذا هو جوهر الشخصية، جوهر البطولة البعيدة كل البعد عن أن تكون بطولةً تراجيدية. هناك متاعب لا حصر لها واجهت جان في بيتها الذي كاد سيده وإخوتها أن يقتلوها غرقًا، وفي قصر الحاكم الذي رفض أن يقابلها وهددها المرة تلو الأخرى بتسليمها إلى والدها، وعند العاهل الذي اختاره الفنان ضعيفًا غاية الضعف لا يستطيع أن يقدم لها عونًا مهما كانت قيمته، وعلى الشاطئ مع القائد الذي ينتظر من الريح أن تتحرك غربًا. ولكن هذه المتاعب لا تشكل «أزمة» الشخصية، إنها الديكور الذي تتحرك خلاله صفاتها المميزة، أما الأزمة فتبدأ حقًّا من حيث كان التصور غير الفني يقول بانتهائها، تبدأ الأزمة حين يوافق الحاكم على إرسالها إلى ولي العهد وتبيض دجاجته العاقر، وتبدأ الأزمة حين يوافق ولي العهد على إرسالها إلى القائد بعد أن اكتشفت وجوده رغم هيئته الزرية وتضليل حاشيته لها بشاب وسيم آخر زيف عليها شخصيته الحقيقية، وتبدأ الأزمة حين يوافق القائد البحري على تطهير أورليان وتتحرك الريح غربًا مع زوارق الحرب. أي أن الأزمة تبدأ حين تغلب «الرؤيا» الواقع، حين يتمكن الإيمان بالقيمة الجديدة أن يقول للجبل انتقل فينتقل، ذلك أن غلبة الرؤيا على الواقع وانتقال الجبل من مكانه ليس إلا إيذانًا بتجسيد الأزمة الحقيقية، أزمة استبدال الواقع بالرؤيا استبدالًا نهائيًّا. حينئذٍ تتطور الأزمة إلى نهايتها في القسم الثاني من المسرحية. وهو أيضًا يتكون من ثلاثة مشاهد.
فالمشهد الرابع هو لقاء بين السلطة الإنجليزية والكنيسة الفرنسية، وهو اللقاء الذي يجسد فيه برنارد شو رأيه في تشكيل المحكمة التي قضت بإحراق جان دارك من ناحية، ورأيه في الصراع بين الفكرة القومية والفكرة العالمية من ناحيةٍ أخرى. ويكاد هذا المشهد أن يقتصر على شخصيتين رئيسيتين، هما النبيل الإنجليزي واريك والأسقف الفرنسي كوشون، فالشخصية الثالثة للقس الإنجليزي ليست إلا امتدادًا متطرفًا لشخصية اللورد. ولقد برع شو في تجسيم التناقض شبه الثانوي في العلاقة بين اللورد والأسقف، والاتفاق الأشمل الذي يجمعهما. فالتناقض يبدأ في اللحظة التي يرى فيها اللورد «إعدام» العذراء بعين الواقع الذي يجب أن يتم بغير روتين ولو كان كهنوتيًّا، بينما الأسقف يرى في الإعدام عملًا من أعمال السلطة الزمنية لا علاقة له به، وإنما هو يكتفي بحدود سلطته الروحية التي قد تطرد الفتاة من الكنيسة فتئول تلقائيًّا إلى منصة الإحراق. ولكن هذه الأيلولة في ذاتها لا شأن له بها. إنه لا يحب لنفسه أن يقف موقف قيافا وحنان من صَلب المسيح، اللذين قاما بتحريض السلطة الزمنية ممثلةً في الحاكم الروماني — بيلاطس البنطي — ولكن هذا بدوره غسل يديه متبرئًا من دم «هذا البار» وسلمهم المسيح. هكذا أراد كوشون أن يكون — أو أراد له الفنان في واقع الأمر — قريبًا من شخصية الحاكم الروماني بعيدًا عن موقف رؤساء الكهنة اليهود. على أن التناقض في النهاية، سواء بين أحبار اليهود والإمبراطورية الرومانية عند محاكمة المسيح أو بين السلطة الإنجليزية والكاثوليكية الفرنسية عند محاكمة جان، هو تناقض شبه ثانوي. فالموقف الأصلي والأشمل هو «الاتفاق» حول التخلص من المسيح وجان دارك. وفي حالة جان فإن الاتفاق يأتي من «وحدة العالم المسيحي» التي يباركها البابا والنبلاء جميعًا. هكذا نطق اللورد واريك صراحةً: «الناس لا يستطيعون أن يخدموا سيدَين في وقتٍ واحد، فإذا هم انجرفوا في تيار خدمة وطنهم فقل على سلطة أسياد الإقطاع السلام، وعلى سلطة الكنيسة السلام.» ووفقًا لهذا التصور فإن سلوك جان من وجهة نظر اللورد الإنجليزي من شأنه «أن يدمر الكيان الاجتماعي للعالم المسيحي»، «إنها طريقةٌ ماكرة للقضاء على الأرستقراطية». أما كوشون فبالرغم من كل محاولاته ليبدو قاضيًا عادلًا مندوبًا عن السماء لا حاكمًا باسم الإنجليز فإنه ينتهي إلى أن يسأل اللورد: «ألا نستطيع أن نستبعد خلافاتنا في مواجهة عدو مشترك؟» والعدو المشترك أو العذراء جان حين تهدد بطرد الإنجليز من أرض فرنسا، إنما تعني في رأي الأسقف: «طول البلاد وعرضها حيث يتكلم الناس الفرنسية وعندها أن الناطقين بالفرنسية هم ما يصفهم الكتاب المقدس بأنهم أمة واحدة، وفي وسعك إذا شئت أن تسمي هذا الجانب من جوانب زندقتها قوميةً، فليس في استطاعتي أن أجد اسمًا أفضل، كل ما أستطيع قوله هو أن الفكرة ضد الكاثوليكية في الصميم لأن الكنيسة الكاثوليكية تعرف مملكةً واحدة فقط هي مملكة المسيح، فإن أنت قسمتَ هذه المملكة إلى أمم وشعوب فإنك تخلع المسيح.» وهنا يرفع واريك راية الانتصار على خصمه المؤقت فيعلن: «اتفقنا إذن، فتولَّ أنت حرق أنصار البروتستانتية، وعليَّ أنا حرق أنصار القومية.»
على أن المشهد الخامس هو مشهد انتصار جان و«الأمة» الفرنسية في موقعة أورليان، وها هي ذي تتوج شارل ملكًا على البلاد، ولكنها تحس بتغير حثيث يسري في عيون رفاق السلاح؛ بل في عينَي الملك المتوج توًّا في كاتدرائية «راينس»، كما تنبأت جان منذ البداية هذا التغير يطلب إليها أن تكتفي بما أحرزت وتتفضل مشكورةً بالعودة إلى قريتها «وهل يستسيغ كبار الأساقفة تنحيتهم عن مذابحهم في كنائسهم حتى بأيدي القديسين؟» كما قال لها دنوا غامزًا ما يحدث من حولها من همسات وإشارات تكاد تتحول إلى ضجيج، يأمر بطردها قبل أن تراها الحشود المتجمهرة خارج الكاتدرائية تلتمس رؤيتها. مجرد رؤيتها. لقد تحول أنصارها الذين انتصرت لهم في لحظة النصر إلى خصوم وأعداء، لأنهم تصوروا مزاحمتها لهم على مقاعد النصر. ولكن ليس هذا إلا مظهرًا خارجيًّا لأزمة التناقض بين الواقع والرؤيا في مرحلةٍ جديدة من بطولة جان، فلم يعد التناقض مقصورًا على العلاقة بينها وبين الإنجليز وإنما تعدى هذه المرحلة إلى التناقض بينها وبين رجال المقاومة الفرنسية أنفسهم، فالملك ومن حوله يكتفون بأورليان والتتويج، ومن ثَم يبرز مطلبهم الآن باختفاء جان من مسرح الأحداث، أما هي فترى الإنجليز في عاصمة بلادها فلا ترى التتويج إلا ناقصًا. إن مهمتها لم تنتهِ بعدُ وإنما ينبغي مواصلة النضال، أما الملك وأتباعه فيرَون في «معاهدة صلح» بينهم وبين الإنجليز طريقًا نهائيًّا للخلاص، فهم يرون في موقعة أورليان والنصر فيها «خطأً» لن يعود. والجميع يرون هذا الرأي مهما تعددت زوايا الرؤية، فالقائد دنوا لا يرى المسألة حظًّا من السماء فحسب؛ بل يرى «أن الله لا يعمل أجيرًا لحساب أي رجل، ولا لأية عذراء»، ولكنه من الزاوية العسكرية لا يرى في استمرار المعارك إلا نتيجةً واحدة محققة هي الهزيمة. أما جان التي تبلورت أزمة بطولتها طوال القسم الثاني من المسرحية؛ فإنها ترى في هذا المنطق أو ذاك استسلامًا للأمر الواقع لا تجاوزًا له، فمن الناحية العسكرية ترى في «الشعب» قوةً لا تقهر وتذكِّر الجميع بذلك اليوم الذي «رفض فيه فرسانكم وضباطكم أن يتبعوني للهجوم على الإنجليز عند أورليان! لقد أوصدتم الأبواب لتمنعوني من الخروج، وكان الذين يتبعوني هم أهل البلد وعامة الناس، فاقتحموا الأبواب وعلموكم كيف يكون القتال الجاد»، أما من ناحية السماء فإنها تصرخ في وجوههم جميعًا: «لا تظنوا أن في استطاعتكم أن تخيفوني بقولكم لي إني وحيدة. إن فرنسا وحيدة، والله وحيد، فأين وحدتي أمام وحدة بلدي وإلهي؟» ولا حل إذن لهذه الأزمة التي تطورت إليها الأمور، الأزمة التي ازدوج فيها التناقض فلم يعد مقصورًا على علاقتها بالغاصب الأجنبي، وإنما تعدى ذلك إلى علاقتها بقادة وطنها، فلا حل إذن سوى ما نطقت به جان من أعمق أعماقها: «سأخرج الآن إلى العامة من الناس.» وتلك بالضبط كانت قمة الأزمة التي عانتها بطولة جان في طريق المقاومة، فمنذ أن خرجت من لسانها هذه الكلمات التي ترتبط بجوهر المقاومة وأبعد أبعادها لا بمظهرها وأقصر طرقها، هذه الكلمات التي ترتبط على الفور «بقيمة» الحياة الجديدة التي تريد جان أن تحلها مكان القيمة القديمة السائدة، القيمة التي يمثلها الاحتلال البريطاني والإقطاع الفرنسي والكاثوليكية التي تظللهما معًا. هذه الكلمات هي التي أنهت كافة الوشائج التي تربط جان بالآخرين فأمست وحيدةً لا تستطيع أن تصنع شيئًا إلا بموتها. نعم، موتها فقط الذي يستطيع أن يصنع شيئًا من أجل وطنها، شيئًا يتجاوز حتى رفاق الطريق الذين ساروا خطوةً معها إلى أورليان وتخاذلت أقدامهم في المضي إلى آخر الشوط. وهكذا أقبل موتها «ضرورةً اضطرارية» ليس قدرًا مكتوبًا، وليس اختيارًا شخصيًّا وليس عبثًا في عبث، وإنما جاء تجسيدًا لروح الاستشهاد التي حلَّقَت طويلًا في معارك المقاومة، واستقرَّت أخيرًا أمام قضاتها في قاعة المحاكمة.
والمشهد السادس هو مشهد المحاكمة، هو منظر «الشهادة» التي قدمتها جان صباح موتها. موتها الذي وصفه واريك بأنه «ضرورة سياسية قد تكون مؤسفةً ولكن لا مفر منها». موتها الذي صفت الكنيسة حوله باقات الزهور في صبر قضاتها الذي عمد شو إلى إبرازه ومحاولاتهم إثناءها عن «ادعاءاتها» كما وصفوا رسالتها. ويُعد مشهد المحاكمة هذا من أروع المشاهد التي عرفها تاريخ المسرح؛ فقد عرف الأدب العديد من المحاكمات الفنية التي تحولت في أحيان كثيرة إلى منابر للوعظ والإرشاد مهما اتخذت شكل «الصراع» بين الخير المطلق والشر المطلق. محاكمة برنارد شو أراد لها أن تكون «عادلة» و«موضوعية» فأحيا العصر أمامنا وابتعث التاريخ من مرقده لنضع كل شيء في مكانه من العصر والتاريخ. هكذا تمثل لنا كوشون عادلًا — من وجهة نظره — فقد استنفد معها كافة أساليب التهدئة والإقناع بالعدول ولم يستخدم معها قط أسلوب الإرهاب والتهديد. بينما لجأ لادفينو إلى استخدام هذا الأسلوب حين بلغ به الملل حد اليأس من المتهمة، فتساءل عما إذا كانت منصة الإحراق قد أُعدت. وهنا يصل مشهد المحاكمة بالمسرحية إلى أعلى ذرى التطور الدرامي، فما إن سمعت جان دارك عن مصيرها مجسمًا في نيران تفني الجسد حتى انهارت وأعلنت قبولها بما تراه المحكمة وتوقيعها على صك الاستنكار. تلك هي ضربة الفنان المقتدر فتشع الحياة بين جنبات المحكمة التي ترغب — كل الرغبة — في إنقاذ «روح» جان من جحيم الحرمان الكنسي، ولكنها ترغب بنفس المقدار في الحيلولة دون أن يستمر «جسد» جان على قيد الحياة السياسية و«الوطنية»، لذلك كان العفو عن روحها وحبس جسدها في سجن مظلم مدى الحياة هو المعادلة الفنية التي صاغ فيها الكاتب موقف الكنيسة حتى يستريح «ضميرها» وتريح «سادتها». ولكن جان دارك التي أراد الفنان بانهيارها المفاجئ أن يؤكد على «بشريتها» أمام الموت (فصورتها كصانعة معجزات ينبغي أن توضع دائمًا في إطارها «الإنساني») جان دارك هذه تتقدم بروح وقد استعادت الرؤية الصوفية اليقينية، تتقدم نحو قضاتها بقدم ثابتة وتختطف صك استنكارها وتمزقه إلى ذرات تتطاير في الهواء، ثم تتقدم بقدم ثابتة نحو منصة الإحراق ليشتعل جسدها ويفنى، ويبقى قلبها دون أن تمسه النار علامة الروح الباقية لتشعل نيران المقاومة حتى يتم إجلاء آخر جندي دنَّسَت قدماه الأرض الفرنسية. وهكذا تتخلص جان من «أزمة» بطولتها بتجاوز الهوة بين ما هو آني وعرضي وطارئ إلى ما هو باقٍ وجوهري وثابت.
وكان من الطبيعي أن تكون هذه «الذروة» هي ختام المسرحية، لأن البناء الذي اختاره برنارد شو منذ البداية ليس هو البناء الكلاسيكي الذي لا بد أن تنفرج فيه أزمة البطل انفراجًا تدريجيًّا ينتهي به إلى سفح الشعور حيث كان يقف عندما بدأ يقرأ أو يشاهد المسرحية؛ فقد كانت المشاهد الثلاثة الأخيرة بمثابة القسم الثاني للمسرحية، وهو القسم الذي تبلور فيه الحدث تبلورًا كاملًا ونهائيًّا لا تعوزه أية إضافات عامة أو تفصيلية. وأقبل التفاعل بين الشخصية والحدث صراعًا حيًّا محتدمًا طول الوقت. ولكن المفكر في عقل برنارد شو غلب الفنان في وجدانه وراح يكتب مشهدًا ختاميًّا قد يغطي الجانب التاريخي ولكنه يعري العمل الفني من أخطر خصائصه، أي قدرته على استبدال قيمة بأخرى مهما كانت النتائج، مهما كان الموت إحدى محطات الطريق، ومهما كانت البطولة في «أزمة» دائمة التعقد لا يحلها سوى الاستشهاد. ولكن برنارد شو أراد أن يكفر عن «الخطأ التاريخي» كما تصوره بأن «الإنسانية» — كما تصورها أيضًا — قد أعادت اعتبار جان على مر العصور حتى أصبحت عام ١٩٢٠م «قديسة» مقررة على المؤمنين في ظل الكنيسة الكاثوليكية. وكأن بطولتها في حاجة إلى الختم البابوي للإقرار بقداستها، أو كأن هذه البطولة «الشعبية» التاريخية التي جعلت من جان دارك واحدةً من «رسل القومية الأولين» — كما قال شو نفسه في مقدمته الضافية — بحاجة إلى تقديس الكهنوت حتى يعترف بها الشعب الذي بعثت من صلبه. لقد ضحى الفنان — بتأليفه هذا المشهد — بالنهاية الدرامية الرائعة في المشهد السابق عليه، وكانت تضحيته ثمنًا غاليًا لهذه المجموعة من الأفكار التي ترددت على ألسنة بعض الشخصيات في هذا المشهد الأخير، كالفكرة التي جاءت على لسان كوشون — في عالم الأموات — متسائلًا: «أمعنى هذا أنه لا بد من مسيحٍ يُعذَّب ويهلك في كل جيل لينقذ من لا خيال لهم؟» أو الفكرة التي خاطب بها دنوا روح جان: «لا بأس، السيوف يمكن إصلاحها. إن روحك لم تتحطم، وأنت روح فرنسا.» أو الفكرة التي قالها شارل راكعًا لطَيف جان: «غير الأدعياء يحمدونك، لأنك حملت عبء البطولة الذي ناءوا بحمله.»
هذه الكلمات الجميلة أقرب إلى ما يسميه النقد هذه الأيام بلُغة «الشعارات»، فالمسرحية لم تكن بحاجة أصلًا إلى هذه «التغطية التاريخية» لإثبات قداسة جان التي اتخذت في السياق الدرامي معنًى مختلفًا عن المعنى الذي قصدته الكنيسة حين «أعادت إليها اعتبارها». إن عظمة جان في عرف الكنيسة هي أنها اختِيرت ذات يوم لأن تستمع دون غيرها إلى أصوات القديسين، وعظمة جان في تاريخ الإنسانية هي أنها بلغت من الشفافية حدًّا استمعت فيه رغم ضجيج الكنيسة والنبلاء إلى صوت الشعب فاعتبرته صوت الله، فما كان من الكنيسة إلا أن ارتكبت جريمة قتل لا تغسل عارها مياه المحيطات ولا أمطار السماء، وتزيدها إثمًا على إثم هذه «المنحة» التي قدمتها بعد خمسة قرون فاعترفت بالقديسة جان. لقد كتب الكثيرون في الشرق والغرب عن جان دارك، ولكن مسرحية شو ستظل — بالرغم من سقطة المشهد الأخير — في طليعة المسرح الوطني الذي قدم لأول مرة صورة «البطل-الشهيد»، بل إنه بين أعمال شو الكثيرة ترتفع قامة جان دارك حتى لتغطي بهامتها على بقية الهامات.
•••
أزمة أخرى يعانيها بطل المقاومة في صمت يقترب به خطوةً بعد أخرى نحو «الشهادة» هي أزمته الداخلية التي تنشب بين ضلوعه حين يتعارض انتماؤه الشكلي إلى وطن بعينه، وانتماؤه الأصيل إلى الحرية بعينها. تلك هي الأزمة التي جسَّدها لنا الكاتب الفرنسي — الإسباني الأصل — عمانوئيل روبلس الذي يعد، إلى جانب ألبير كامو، من أكبر الأدباء الفرنسيين ذيوعًا في الجزائر، وتتخذ قضية الموت في أعماله أوضاعًا مختلفة، كهذه الأوضاع التي نصادفها في مسرحياته «أمام الموت، ليالٍ على العالم، أعالي المدينة، ذاك ما يُسمَّى الفجر، الحقيقة ماتت». إلا أن مسرحيته «مونسيرا» التي اتخذت لها في الترجمة العربية اسم «ثمن الحرية» لا تتخذ من الموت موضوعًا، ولا يتخذ الموت فيها وضعًا ما، وإنما يجيء الموت إلى بطلها الذي تسمَّت المسرحية باسمه تتويجًا لأزمة عميقة الجذور، شديدة التشابك والتعقيد. ويستمد الكاتب مادته المسرحية من وحي الإرهاب الإسباني في فنزويلا عام ١٨١٢م؛ إذ تمكن القائد الفنزويلي المناضل بوليفار من الهرب ليجمع أنصار الثورة على الغاصب الأجنبي، وذلك بواسطة ضابط إسباني يدعى «مونسيرا» رأى الحرية أثمن من أن تجزَّأ، فهو لا يستطيع أن يزعم أنه «حر» بينما يرى الفنزويليِّين عبيدًا تحت أحذية سادتهم الإسبان. وهكذا يتجاوز إسبانيته إلى أفق إنساني أرحب فيعمل على تهريب بوليفار في الوقت المناسب، ولا بد حينذاك من أن يتكشف أمره للمسئولين من رؤسائه، ولا بد له أخيرًا من أن يسوق قدميه مختارًا — أو مضطرًّا بالأحرى — إلى الموت. ولكنه بين تحريره لبوليفار وتقدمه إلى صليب الفداء، يجسم الكاتب أزمة الحرية والمواطنة بين أضلعه بهذه المجموعة من الرهائن البريئة التي جلبتها سلطات الاحتلال إلى غرفة مونسيرا لتقتلها أمامه إذا لم يرشد عن مكان بوليفار فاختار لها — أو اضطر إلى ذلك — أن تتقبل الموت معه هذه الشخصيات البريئة الست عن أن يُقذف إلى جحيم العبودية شعب بأسره. ويقول «ميشيل فوستر» مؤرخ بوليفار عن هذه الحقبة: «لم يكن عدد الجلادين كافيًا آنذاك، وكان يقع من ألوان الفظاعة والوحشية ما أثار اشمئزاز المقربين إلى مونتفيرد، ولكن القضية كانت في رأي الضباط الإسبان قضية معاقبة العصاة معاقبةً تنفِّر الشعب من الثورة إلى الأبد.» أما روبلس فيقول في مقدمة المسرحية: «ولما كانت هذه الفظائع والمذابح غير مختصة بتلك الفترة من التاريخ، ولما كان الألم نفسه يفجر صراخ البشر منذ قرون، وفي جميع أركان العالم، على الصلبان التي كان يحتضر فوقها رجال سبارتاكوس، أو على مقاصل مفتشي القرون الوسطى، أو في معسكرات التعذيب اليوم، فلا بد أن يفهم قصد المؤلف من أنه لم يستعِر التاريخ إلا وسيلةً وديكورًا ولونًا.» والمسرحية بالفعل تركز على البعد الإنساني تركيزًا واضحًا منذ اللحظة التي اختار فيها الكاتب بطله من ضباط «العدو»، تمامًا كما هو الحال في قصة فيركور «صمت البحر». إن أمثال هذه الأعمال وإن بينت صلابة الشعب المعتدى عليه وحقه في حياةٍ حرة يهون في سبيلها الموت، إلا أن البعد الإنساني يحتل مركز الضوء حين يعمد المؤلف إلى اختيار بطله من صفوف العدو لينحاز إلى حرية الشعب المغلوب على أمره. و«الإنسانية» هنا لا تعني تجريدًا عاطفيًّا مسرفًا في المثالية وإنما تعني أن إيمان فردٍّ ما بالحرية يتجاوز أحيانًا حدود الوطن الواحد ليشمل بقية الأوطان، باعتبار أن الحرية واحدة لا تتجزأ، فالقهر الذي يعانيه أحد الشعوب لا بد أن ينعكس على بقية الشعوب بصورةٍ أو بأخرى، ومنها الشعب الذي خرج منه القاهرون. وأيضًا باعتبار أن الإنسان هو الآخَر واحدٌ مهما تعددت ألوانه وأديانه وأجناسه، فما يحس به من ضيم في مكان ما من العالم لا بد أن يشعر به أي إنسان في أي مكان آخر من العالم. وتلك هي دلالة أن يكون الكاتب فرنسيًّا والشعب المحتل فنزويليًّا والغاصب الأجنبي إسبانيًّا. إن وحدة المصير الإنساني هي نقطة الانطلاق الفكرية في مسرحية روبلس. وسوف نلاحظ أن الشخصيات والحدث الرئيسي والمواقف المتفرعة منه، كلها تنطلق من هذه النقطة الحاسمة. فالضابط «مونسيرا» يبلور هذه النقطة بلورةً نهائية حين يصيح في وجه الكاهن (الأب كورنيل): «ألم تثُر قط لهذه الألوان من التعذيب والسلب والإرهاب؟ أنت الذي تقر انتفاضة شعبنا كله في إسبانيا ضد مرتزقة بونابرت، كيف يمكن لك أن تشجب أعمال هؤلاء الرجال الذين يريدون أن يقاتلوا فوق أرضهم ليكونوا أحرارًا ويعيشوا كما يعيش الرجال. إن الفرنسيين في إسبانيا هي مضطهدونا المكروهون الملعونون. وهنا، في هذه الأرض الجديدة، يخضع الجنود الإسبان شعبًا برمته لعبودية سوداء.» ولكن الكنيسة التي اتخذت موقفًا مناوئًا لحرية الشعوب لم تكن لترضى بالتخلي عن تبرير القهر والطغيان الملكي بأن هؤلاء العبيد ليسوا إلا أشرارًا نقتل الشر فيهم «إن رائحة جثثهم المريعة ليست إلا نتانة الشرير الملعون. فاسعد إذن يا مونسيرا، إذا شعرت وأنت تلم بخرائب قريةٍ ما بغضب الملعون العاجز ينبعث روائح فساد وانحلال» تمامًا كما قال الفرنسيون عن شهداء الجزائر في رواية «نجمة» لكاتب ياسين. منطق واحد يحكم أعداء الحرية في كل زمان ومكان، ومنطق واحد يحكم حركة الشعوب المستعبدة. ويحتال المؤلف على تجلية البعد الإنساني بهذه الحيلة المسرحية البارعة؛ فقد تفتق ذهن إيزكياردو عن خطة جهنمية تراءت له كحلٍّ مقطوعٍ بسلامة نتائجه مقدمًا. وموجز الخطة أن يستقدم بواسطة جنوده من الشوارع المجاورة، وبصورةٍ عشوائية ومفاجئة، ستة أشخاص أبرياء لا حول لهم ولا قوة ويهدد «مونسيرا» بقتلهم جميعًا أمام عينيه إذا لم يصرح بالمكان الذي يختبئ فيه بوليفار قائد المقاومة الفنزويلية ضد الإسبان، فهو الوحيد الذي يعرف هذا المكان لأنه هو الذي نقله إليه بعد أن علم بلحظة الانقضاض التي سيقوم بها زملاؤه على بوليفار، بالرغم من مرضه الشديد. ويظن مونسيرا لأول وهلة أنها نكتة ثقيلة الظل من نكات إيزكياردو لكنه يُفاجأ بعد قليل بستة أشخاص يدخلون، الواحد بعد الآخر، وهم لا يعرفون لماذا جِيء بهم إلى هذا المكان وأي مصير ينتظرهم. وهكذا يتحول المشهد إلى لوحةٍ كفكاوية أصيلة. من ناحية الشكل فهم متهمون في قضية لا يدرون عنها شيئًا، ولكنهم من ناحيةٍ أخرى في ارتباطهم غير المبرر منطقيًّا بمونسيرا هم متهمون وقضاة في محاكمةٍ يدرون عنها الكثير. ويختار روبلس الشخصيات الست اختيارًا واعيًا دقيقًا، فهم الذين سيحركون الحدث الدرامي إلى نهايته: هذا بائع، وذاك خزاف، وهذه أم، وتلك فتاة في سن الزواج، وشاب صغير، ومعهم شخصية إسبانية واحدة لممثل في إحدى الفرق المسرحية الوافدة. يضع إيزكياردو هؤلاء جميعًا في غرفةٍ واحدة مع مونسيرا ليقول لهم: هذا هو قاتلكم إذا لم يتكلم! ويزداد الارتباط غير المبرر بينه وبينهم وثوقًا ولا معنًى. لقد خلقت عداوة بينهم وبين شخص لا يعرفونه، فجأةً وبغير مناسبةٍ حقيقية. وتلك أبشع مراحل التعذيب التي مُني بها مونسيرا، فهو يستمع إلى مأساة كل منهم إذا مات وترك أبناءه اليتامى أو زوجته الأرمل أو أمه الثكلى، ولكنه لا يستطيع أن يتكلم لأن حياة هؤلاء لا تشفع لموت بوليفار. اختيار صعب ومرير، هذا الذي انطوى عليه الفصل الأول بمشاهده العشرة.
والمسرحية في صميمها هي مسرحية هذا الاختيار الصعب، فلم يكن ثمة صراع داخلي في شخصية مونسيرا بين إسبانيته وعلاقته ببوليفار، وإنما هو كان قد تقمص شخصية بوليفار المفردة من ناحية، والشخصية الجماعية للأبرياء الستة من ناحيةٍ أخرى. هذا الازدواج في التقمص هو الذي كان يمزقه دقيقةً بدقيقة: «لكل منكم حقيقته التي يدافع عنها وحياته وما هو أهم من حياته. ولكن بوليفار يظل بعد الآن الأمل الوحيد، الأمل الأخير للفنزويليين بأن يتحرروا من الإسبان؛ فلئن أسلمتُ بوليفار، فإني لا أسلمه وحده، بل أسلم معه الحرية وحياة بضعة ملايين من البشر.» لم يعُد مونسيرا ضابطًا إسبانيًّا في جيش الاحتلال، وإنما أضحى من زاويةٍ ما بطلًا من أبطال المقاومة، وإن اتخذ من فنزويلا ميدانًا لهذه المقاومة. ولأن المنطلق في مقاومته إنساني النزعة وليس دفاعًا عن قوميةٍ محددة، فإن المؤلف يضعه في مأزقٍ إنساني بحت فيختار له ست شخصيات بريئة يهددها صمته بالقتل، فهو من زاويةٍ أخرى يصبح قاتلًا بالمجان، وإن اتخذت جريمته هذه الصورة العبثية للقتل. وهكذا يزاوج روبلس بين لحظة الاختيار الوجودي ولحظة القضاء العبثي في مركبٍ واحد لا سبيل إلى تجاوزه إلا بموقف قريب من جان دارك. وهو الموقف الذي صرخ فيه مونسيرا وكان صوته المعذب صدًى قديمًا لصوت التاريخ من فوق خشبة الصليب: «إن القضية هذا المساء هي أن ننقذ نفوسنا لا أجسامنا. إن القضية هذا المساء هي أن نموت لننقذ ملايين البشر، لننقذهم من الشقاء، ولنظلَّ من ثمَّةَ جديرين بتضحية المسيح.» إن جميع الذين «يختارهم» الله يجب أن يُعذبوا، هذا هو منطق مونسيرا، منطق الرفض لشخصية يهوذا، المنطق الذي يجسم نهاية التقمص المزدوج لبوليفار والأبرياء الستة، وأخيرًا هو المنطق الوحيد الذي «يتجاوز» ثنائية الاختيار الوجودي والقضاء العبثي في مركَّبٍ جديد هو المسيح أو جان دارك أو جيفارا، أي «البطل-الشهيد» الذي تملأ عينيه الرؤيا اليمينية الصوفية، فلا يرى سوى «الصليب» يعلق عليه آلامه وآلام المجموع في وقتٍ واحد، سواء كان هذا الصليب هو منصة الحريق التي استشهدت بنيرانها جان في العصور الوسطى، أو قتل برصاصها جيفارا في العصر الحديث. كانت الرؤيا اليمينية الصوفية التي تملأ عينَي مونسيرا هي أن ألوف الأطفال في هذه الساعة يولدون عبيدًا في كل مكان من هذا البلد فلم يرَ بدًّا من أن يحمل صليبه وعيناه تزدادان اتساعًا كأن رؤياه تملأ وجوده كله: «أنا أعلم، أعلم أن باستطاعتي أن أختار، وهذا ما يملؤني رعبًا في الحقيقة، إن هذه الحرية هي التي تعذبني في هذه اللحظة أكثر مما يعذبني يقيني بأني سأموت.» ولكن لعل هذه هي التجربة التي «يحفظها لي الله». لعل الله يعرف أحباءه حين يتركهم أولًا «لهذه الحرية». تلك هي مأساة مونسيرا إذن، أن يختار بين الحياة العابرة لشخصه وستة من الأبرياء، والحياة الباقية لبوليفار والملايين من الشعب الفنزويلي، وأن يكون محكومًا على هذا الاختيار مقدمًا بترجيح كفة الاستشهاد عبر الرؤيا اليقينية الصوفية.
ولما كانت الرؤيا الصوفية في جوهرها ثورةً على الصورة التقليدية التي رسمتها الكنيسة للعظمة الإلهية، فإن تحالفًا غير مقدس يتم فجأةً بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية، فيشترك الأب كورنيل مع الضابط إيزكياردو في «ارتكاب جريمة لا اسم لها ضد البشر وضد الله»، كما جاء على لسان الممثل الإسباني قبيل أن يأتي دوره في صف الأبرياء الصرعى. ومن اليسير على الكاهن الكاثوليكي أن «يبرر» جريمته بأن الملك هو ظل الله على الأرض وأن بوليفار قد عصى جلالته «فهو إذن عدو الله»، ومن ثَم يصبح واجب المسيحي هو التضحية بكل شيء ليتم أسر بوليفار، وعليه — هذا الممثل الذي قدِم مع الفرقة الملكية الإسبانية ولا يعلم شيئًا عن المقاومة الفنزويلية — أن يموت سعيدًا بهذا المصير «الإلهي». تتشابه النتيجتان اللتان يصل إليهما مونسيرا وكورنيل كل بطريقته تشابهًا غريبًا، فالله — في النهاية — هو الحل الوحيد للأزمة والشفاء لكل قلق وتردد. ولكن الله عند مونسيرا في صف المقاومة، بينما هو عند القسيس كورنيل في صف الملك، تلك هي الموضوعية الصارمة التي يستوحيها روبلس في بناء المسرحية، إنه لا يترك ثغرةً واحدة تنفذ منها سهام الرؤية الذاتية للأمور. هو يكتب «عن» و«من أجل» المقاومة، ولكنه يكتب أولًا وقبل كل شيء «مسرحًا» أي عملًا دراميًّا يجب أن تتدفق بين جنباته الحياة، ولا يحدث ذلك إلا بالموازنة الموضوعية الدقيقة بين عناصر الحياة. لذلك يدور الحوار بين الغريمين: مونسيرا وإيزكياردو على هذا المستوى:
هكذا موضوعيًّا يحسم الكاتب القضية كما حسمها باختياره البارع لشخصيتَي «إيلينا» و«ريكاردو» بين الأبرياء القتلى، فإذا كان البائع والخزاف والممثل قد أعمتهم اللحظة العابرة عما ينتظر حياتهم الباقية من شقاءٍ دائم أو حريةٍ دائمة. فإن الكاتب قد اختار الفتى ريكاردو والفتاة إيلينا يعبِّران عن أصالة الشعب الفنزويلي ضد اللحظة العابرة. إن ريكاردو يهمس: «إني أصدقك يا مونسيرا.» فقد قُتل أبوه حين كان صبيًّا، قتله الإسبان، فلا يملك إيزكياردو إلا أن يأمر الجلاد بأخذ الشاب قائلًا: «إن في رؤية بطل ما يحزنني دائمًا. فأنا لا أحب أن يجد المرء معاذير لكي يموت.» وفي بساطةٍ بالغة يلتفت ريكاردو في طريقه إلى الموت — بطلًا شهيدًا من أبطال المقاومة — إلى مونسيرا ليهمس من جديد: «إنني معك.» فلا يجد إيزكياردو مناصًا من أن يعترف — في إطار الموضوعية التي آثرها الكاتب — بأنه هذا الذي قَبِل مصيره وحدَه: «إنه الوحيد الذي يعتقد أن الموت يخدم قضيةً تتجاوز حياته في القيمة.» ويذكر الجلاد وقد عاد من وكر الجريمة ليأخذ إيلينا إلى مصيرها أن الفتى «مات بشجاعة. رفض أن تُعصب عيناه. ولكني مع ذلك أدرتُ وجهه إلى الجدار. وفي اللحظة التي كنت أهم فيها بإطلاق النار، صاح: لتعِش. لا أدري ماذا، لم يفهم أحد. ولكن لا بد أن العبارة كانت: لتعِش الحرية أو لتعِش الثورة.» ويكاد أن يتكرر نفس الموقف مع إيلينا بفارق بسيط يؤكد على بطولة هذه الفتاة الجميلة؛ فقد أغراها إيزكياردو بالإفلات من الموت مقابل اللقاء على فراش الحب، ولم يكن رفضها للعرض إصرارًا على عذريتها بقدر ما كان موقفًا من الجلاد، موقفًا إلى جانب مونسيرا وبوليفار والثورة.
واتساقًا مع «إنسانية» المسرحية فإن المؤلف الذي استعرض معنا ستة نماذج بشرية بريئة ماتت بغير ذنب جنته سوى أن مونسيرا لا يريد أن يفتح فمه بمكان بوليفار، فإنه قرب النهاية وهو يشاهد الجنود تصطحب إيلينا عنوةً إلى حيث يطلقون على شبابها الغض النار كاد أن ينهار ويصرخ: «إنه بيت منعزل على بعد خمسمائة متر من طريق يؤدي …» وما أشبه المشهد بموقف جان وانهيارها حين كتبت ما طلبوه منها. ولكن إيلينا لا تدع الفرصة تفلت وتحول في صرامة وقسوة دون انهيار «البطل» فيتمالك نفسه ويعود إلى تماسكه ولا ينطق ببقية العنوان الذي يختفي فيه بوليفار، تمامًا كجان حين سمعت الحكم بالسجن المؤبد فانقضَّت على صك عبوديتها ومزقته إربًا وتوجهت شامخةً إلى منصة الإحراق. ويموت الأبرياء الستة ويهدده الجلاد بأنه سيحضر ستةً آخرين حتى ينطق فإذا لم يتكلم فسيقتل آخرين وآخرين، ولو أدى الأمر إلى مصرع الملايين من شعب فنزويلا. ويخيل إليك أننا أمام جلاد دموي لا يرتوي من الدماء، ولكن روبلس الذي يتسم مسرحه بالبناء الموضوعي الصارم ينزع القناع الأحمر عن وجه إيزكياردو وعقله البارد فنراه مقتنعًا بأنه إنما يقوم بدور «الخادم المطيع» لصاحب الجلالة، فهو لا يفعل شيئًا سوى أنه «يؤدي واجبه»، وهو ليس إلا ضابطًا في الجيش الملكي ولديه الأوامر بأن يحافظ — بأي ثمن — على «سلطة جلالته في هذه البلاد، وأن جميع الفنزويليين الذين يثورون، حتى بالفكر، على هذه السلطة مجرمون»، وهكذا يلفت الكاتب أنظارنا بعنفٍ نحو حقيقة المأساة، فهي ليست نتاج مزاجٍ شخصي يتصف صاحبه بالتعطش إلى الدماء، وإنما هي نتاج «وضع شامل» بين سلطتَين ودولتَين فقدت إحداهما حريتها لمصلحة الأخرى، وما إزكياردو إلا «أداة تنفيذ» لها سماتها الخاصة حقًّا، ولكنها في النهاية «أداة منفذة» فقط، وقد أجاد الفنان تبيان سماتها الخاصة حين سرد علينا محنة إيزكياردو الشخصية إذ قبض عليه الثوار ذات مرةٍ ودفنوه حيًّا حتى العنق أربعة أيام بلياليها. ويكاد الانهيار أن يعاود «البطل» تحت وطأة الكابوس الذي صوره الجلاد بإمكانية إحضاره عشرات الأبرياء تُحصد أرواحهم في لحظاتٍ مقابل كلمة من فمه لا ينطق بها. هذا الوقوف على «شفا الانهيار» تأكيدٌ ملح من جانب الفنان على «بشرية البطل» لا على بذرة السقوط التراجيدي. فالقوتان اللتان تتنازعان روح فاوست الحديث — أو مونسيرا — ليستا قوتَين داخليتَين ملتحمتَين بالنسج الذاتي للشخصية، ليستا هما الله والشيطان، وليستا قوتَين علويتَين يربطان مصيره في الحياة والموت بلعنة الآلهة كالقضاء والقدر، وإنما هما قوتان خارجيتان نابعتان من الأرض لا من السماء، من أرض البطولات البشرية، بطولات المقاومة الوطنية ذات البعد الإنساني الرحيب. ومن هنا لا ينتهي الصراع إلى «سقوط» البطل بالرغم من وقوفه طويلًا على حافة الانهيار، وإنما ينتهي الأمر باستعادة الجوهر الكامن في أعماقه؛ تغليب الولاء للحرية على الولاء للوطن. ويساق مونسيرا إلى الموت والرؤيا الصوفية اليقينية تحول دونه ومعنى الموت: «إنني من هنا أسمع أنصار بيوبلا يهللون فرحًا لمقدم بوليفار. إنهم يهتفون له. إنني أرى الأعلام والزهور على النوافذ. إن نور الأمل يبزغ! وإن جميع الرجال يرفعون أسلحتهم! وإني لأسمع صيحات فرحهم! إن جميع الأجراس تدق، وجميع النساء يزغردن!» فإذا قال إيزكياردو والجلاد يصطحب مونسيرا إلى «النهاية»: «لقد انتهى كل شيء.» أجابه في صيحة فرحٍ حقيقي وإيمان عظيم: «بل كل شيء يبتدئ.» فالموت في التاريخ الشخصي لأبطال المقاومة ليس موتًا، إنه بمثابة «حل الأزمة» الذي يتجاوز به البطل أسوار اللحظة العابرة إلى الحياة الدائمة للملايين في ظل الحرية. لم يكن موت المسيح موتًا؛ فقد عمت رسالته بعد موته — وبموته — أرجاء المعمورة. ولم يكن موت جان دارك موتًا؛ فقد طرد الإنجليز من فرنسا، ورفعت الكنيسة روح جان إلى مصافِّ القديسين. ولم يكن موت جيفارا في عصرنا موتًا؛ بل كان تعبيرًا حيًّا وثوريًّا عن الطريق الوحيد الذي ينبغي أن يسلكه المناضل المعاصر ضد الاستعمار، وحين رفع شباب العالم صورته عاليًا في مظاهرات ١٩٦٨م كان ذلك إعلانًا قويًّا بأن جيفارا لم يمت. وكذلك الأمر في مونسيرا، إنه يموت لتبقى البطولة، ليبقى بوليفار والملايين من إيلينا وريكاردو، أبطال المقاومة الفنزويلية العملاقة. يموت ليخلف الأسطورة ويبقى «البطل-الشهيد» رمزًا مجسمًا للنضال. المشترك بين الإسباني والفنزويلي ضد أعداء الحرية، أو بين كل إنسان وإنسان ضد أعداء البشرية.
لقد آثر عمانوئيل روبلس ألا يظهر البطل الفنزويلي بوليفار طيلة المسرحية ليصوغ لنا أبطالًا لم يرسمهم التاريخ مقدمًا، ليصوغ لنا بطولة الشاب والفتاة اللذَين قدما إلى المكان فجأةً وبغير مبرر، وليصوغ لنا بطولة أحد ضباط العدو الذي تجاوز ولاءه للجنرال الإسباني متذكرًا إسبانيا تحت أقدام الفرنسيين، وتجاوز حياته في ظل اغتيال الحرية راضيًا بالموت لنفسه ولغيره من الأبرياء الستة حتى ينعم برقدة هادئة وهو يرى بعين الخيال بطل فنزويلا يواصل المقاومة والنضال. وهذا ما لا بد أن يكون قد صعق الأب كورنيل وهو يسأل الضابط: «عمَّ كان يحدثك أخيرًا؟ هل أظهر ندمًا؟» فأجابه إيزكياردو وهو يحدق فيه بابتسامةٍ غريبة: «كلا؛ بل كان يحدثني فحسب عن فرح الآخرين.»
•••
يصل البعد الإنساني مرتقى ذُراه في بطولة المقاومة كما يراها الكاتب الفرنسي رومان رولان. وبالرغم من أن رولان كتب المسرح والرواية إلا أن مؤرخي الأدب ونقاده يضعونه في طليعة كتاب السير والتراجم الشخصية؛ ذلك أنهم حين يذكرون كتبه عن بيتهوفن وميكل أنجلو وتولستوي لا يقفون طويلًا عند أعمالٍ عظيمة أخرى مثل قصته الطويلة «جان كريستوف» أو مسرحيتَيه الإنسانيتَين «الذئاب» و«سيأتي الوقت». أما المسرحية الأولى فكانت هجومًا ضاريًا على القضاة الفرنسيين الذين حكموا على «دريفوس» وأدانوه بغير إنصاف ولا تمحيص، وأما المسرحية الثانية فكانت هجومًا ضاريًا على الحرب الوحشية التي شنتها بريطانيا على جنوب أفريقيا وظلت زهاء ثلاث سنوات (۱۹۰۲-۱۸۹۹م) وعُرفَت باسم حرب البوير. والخيط الرئيسي الذي ينتظم هذه الأشكال الأدبية جميعها من سيرة ورواية ومسرحية هي الشعور الإنساني الغالب على وجدان رومان رولان، الشعور القائل بأن البشرية جسمٌ واحد إذا تألم أحد أعضائه سرى الألم مسرى الدم في بقية الأعضاء.
هذه البداية شديدة الأهمية لأنها تركز الدلالة الرئيسية في مسرحية «سيأتي الوقت» التي نحن بصدد تحليلها كواحدة من الأعمال المسرحية التي تندرج في باب مسرح المقاومة، بالرغم من كل التحفظات التكنيكية التي تؤخذ عليها كعملٍ درامي. فالحق أن تغليب العنصر الإنساني على ما عداه من العناصر في قضية المقاومة الوطنية يكاد أن يكون موقفًا فكريًّا متكاملًا من جانب قطاعٍ عريض في الأدب الغربي. هذا الموقف الذي يترجمونه فنيًّا باختيارهم أرضًا مناضلةً غير أرضهم، وباختيارهم نموذجًا إنسانيًّا للبطولة من بين صفوف العدو، هكذا رأينا شتاينبك يختار النرويج، وإهرنبورج يختار فرنسا، ومن ناحيةٍ أخرى نرى فيركور في «صمت البحر» يختار ضابطًا ألمانيًّا نموذجًا إنسانيًّا، وكذلك روبلس يختار ضابطًا إسبانيًّا. أي أن الإحساس العميق بوحدة البشرية هو الموقف الفكري الذي يناضل منه وعنه الكاتب الغربي ضد العدوان أيًّا كان بعد ذلك: عدوانًا قوميًّا على الأرض أو عدوانًا دينيًّا على العقيدة أو عدوانًا عنصريًّا على الجنس. إن الفرشة الإنسانية تدثر كافة المعاني والأفكار والدلالات التي يضمِّنها الكاتب الغربي أعماله الفنية المناضلة ضد الاستعمار والغزو الأجنبي لوطن من الأوطان. ورومان رولان هو الكاتب الغربي النموذجي الذي كان يرى في العالم كله قريته الصغرى كما يقول ﻫ. ج. ويلز.
وإذا كانت هذه السمة «الإنسانية» تبدو واضحةً في مسرحيته الأولى التي كتبها عام ١٨٩٨م تحت عنوان «الذئاب» بانتصافه لقضية دريفوس، فإنها تبدو أكثر وضوحًا في مسرحيته «سيأتي الوقت» التي انتصف فيها للأفريقيين والمستوطنين الهولنديين ضد الغزاة الإنجليز. ولعل التناقض الرئيسي في البناء الدرامي ينبع من هنا، فالإنسانية الدافقة بين حنايا الشخصيات هي إنسانية مجردة، محسوبة ومفصلة حسب مقاسات الفكرة الذهنية الخافقة بين أضلع رومان رولان. فبينما كنا نتوقع شخوصًا من لحمٍ ودم حتى تتأكد لنا «إنسانيتهم» كخامة بشرية، فوجئنا بهذه الشخصية أو تلك رمزًا لفكرة مجردة تسبح مع الأحداث ولا تصدر عنها بالضرورة، وتطفو مع المواقف ولا تتولد منها فيما يشبه الحتمية. وإنما جاءت الشخصيات والأحداث والمواقف في مسرحية «سيأتي الوقت» أشباحًا ذهنيةً تحوم حول هذا المعنى الذي أراد الكاتب أن يصوغه حوارًا مسرحيًّا. وليس من ضيرٍ بطبيعة الحال أن «يجرد» الفنان مشاعره وأفكاره في مقولات ذهنية، ولكن الضير الحقيقي هو هذا الشرخ بين الشكل والمضمون بين الطابع الإنساني الكثيف لكل شحنات التجربة البشرية في سلبياتها وإيجابياتها، والبناء التجريدي القريب من أسلوب الشفرة. هذه هي الخلخلة التي تعانيها بنية المسرحية في الصميم، ويترتب عليها بقية ألوان الهزال والضعف التي مُنِيَت بها مختلف مراحل تكوينها.
ولقد أراد رومان رولان أن يختار نماذجه بحذقٍ بالغ، فاصطفَّت لدينا شخصيات من كل نوع على جانبَي النزال، جانب الوطن الأفريقي الهولندي المهزوم، وجانب الفاتحين البريطانيين. والمسرحية تبدأ في منزل سيدة هولندية مات زوجها في الحرب وتبقى لها طفلها الوحيد، وقد وصل إلى المنزل اللورد كليفورد قائد القوات الإنجليزية ليطلب إلى الأرملة أن تتيح له أن يتخذ ركنًا في منزلها مكتبًا له. وتحاول ديبورا أن تترجم هزيمة شعبها أمام الغزاة ترجمةً ترضيها هي وابنها دافيد والعجوز نريمي. فإذا تساءلت ديبورا لماذا ترك الشعب المدينة دون أن يدافع عنها أجابت نريمي بأن الشعب لم يهرب وإنما ترك العدو يسقط في الهوة ليحاصره ويشعل النار في كل شيء. وتردد ديبورا وكأنها في مونولوج: «ونحن نحترق إذا لزم الأمر. فلأمُت كما مات شمعون مع أعدائه.» أما كليفورد فمنذ الوهلة الأولى تبدو عليه سمات التفرد الشديد عن بقية الضباط والجنود، إنه يدرك فيما يشبه الحدس أن النهاية ليست في جمال المقدمة. إنه لا يرى سوى الطرقات الخالية من كل شيء سوى الكلاب التي تكشر عن أنيابها والدجاجات الهزيلة وبعض المتسولين «ويهود يهتفون تحيا إنجلترا حتى يكون لهم الحق في سرقتنا»، وخلف النوافذ وجوهٌ ممتقعة لنساءٍ تحفل نظراتهن بالكراهية «لا أحد يقاوم. عدو لا يمكن الإمساك به، يبتعد منا دائمًا». ويضرب رولان ضربته الأولى بالحوار بين هذا النمط الفريد والنمط الآخر الذي يمثل الأغلبية الساحقة من الغزاة. يوجه كليفورد حديثه إلى ميلز الطبيب المرافق للحملة:
ويبدأ حديث «السلام» بين كليفورد وأرملة الشهيد الهولندي، ولكن المرأة لا ترى فيه سوى هذه السترة العسكرية اللامعة برتبة الفيلد مارشال، أما هو فيرى فيها وفي طفلها شيئًا مختلفًا. يرى فيها زوجته التي ماتت مع طفلهما بالحمى التي أكلتها خلال الأيام الأولى من المجيء إلى هذه البلاد. وحين تعلم ديبورا بذلك كله تنتابها الحيرة البالغة العنف بين التعاطف مع زوجٍ أرمل وأب مات وحيده، وبين السخط والحقد على ضابط من الأعداء تسبب في مقتل زوجها وأبي وحيدها. ولكن الكاتب ينشغل عنها بتسليط الضوء مركزًا على شخصية كليفورد، سواء بإبراز نقيضه الجنرال جراهام الذي يرى أن أكثر الأساليب إنسانيةً هي أن تحارب بلا رحمة فتنتهي الحرب سريعًا، أو نسج الأحداث التي تصهر المعادن كأن يأتي إليه الجنود بمواطن من الأهالي يتهمونه في بادئ الأمر بأنه مزق العلم البريطاني وشرع في قتل أحد الجنود. ولكن كليفورد يحاور الرجل فيتبين له أنه نصف مجنون على الأقل وأنه لا يعني تمامًا ما قام به غير أن الطبيب يسرع إلى القول بأننا جميعًا مجانين بصورةٍ أو بأخرى. وهكذا يُساق الرجل إلى الإعدام رغم أنف القائد وأفكاره ومحاولاته «الغريبة». والكاتب هنا يلعب على ثلاثة أوتار: الأول هو أن هذا الشهيد المجهول الذي يتسم بالبلاهة أو الجنون إنما تؤكد محاولته الجريئة «مخزون اللاوعي» القابل للانفجار في أية لحظة، بأعماق هذا الشعب المهزوم. والوتر الثاني هو أن الطبيب الذي نفترض فيه ولاءً للإنسانية وآلامها أكبر من ولائه للغزو والاستعمار هو الذي يبرر إعدام الرجل. أما الوتر الثالث فهو أن الفرد — حتى ولو كان قائدًا — فإنه لا يستطيع أن يحرف منطق الأشياء والتاريخ. وإذا كان جراهام الجنرال، وميلز الطبيب يعبِّران عن النقيض المتطرف لكليفورد، فإن هذا النقيض لا يكتمل إلا لصاحب المصلحة الحقيقية في الغزو — لويس — الذي لا يعتقد أنه قد حدث في تاريخ العالم أن أديرت حرب بمثل هذه الإنسانية: «هل هناك أروع من التضحيات التي نبذلها لنفتح أمام الحضارة هذه الأرض التي كان يغلقها غباء أصحابها لندخل إلى الأرض بالقوة، التجارة والصناعة والدين. لنستثمر أخيرًا الثروة الهائلة التي وضعها الرب هنا كأمانة، والتي يعتبر عدم استثمارها كفرًا.» فيرد عليه كاريني محييًا هذه الأفكار النيرة: «هذا منطق جميل يا لويس. إنجلترا بنك الرب. مستثمرة أموال الرب.» ولا يعدم لويس هذا المنطق الجميل (!) حين يتساءل لماذا يخجل البعض من أنهم أكثر ذكاءً من الآخرين بينما الحرب — أي القوة — هي قانون التقدم وزينة الحياة، فكل أصوات الطبيعة من طنين الحشرة إلى هزيم الرعد إنما تعلق انتصارات أو هزائم في الصراع المجيد من أجل الحياة. فإذا انتقل الحديث إلى لسان مسز سمبسون قالت إنها سعيدة لمجيئها إلى هذه البلاد التي تحتاج إلى أناسٍ ذوي رسالة، تحتاج إلى تعلم الثقافة والأخلاق وكلمة الرب: «إن إنجلترا هي إسرائيل العصر الحديث، عهد الرب إليها برسالة خاصةً.» وعندما رفع الجميع كئوسهم صاحب المال والطبيب والمرأة ليشربوا نخب الوطن والإمبراطورية وغزو الأرض يهمس كليفورد لنفسه: «الأرض؟ ست أقدام من التراب.» هل تذكَّر مع طلقات الرصاص التي أردَت الرجل المجنون موتَ زوجته ووحيده ورقادهما تحت هذه الأرض التي جاء مع غيره قائدًا لغزوها؟
إن رومان رولان لا يصرح بشيء، والأحرى أن نقول عنه إنه لا يصرخ به، وإنما هو يوظف بعض أدوات التكنيك الحديثة كاستخدام الموروث الشعبي والديني والأقوال المأثورة عن كبار الاستعماريين ليدلل على ما يحتويه باطن الشخصيات فلا يخدعنا مظهرها، هو يدير على بعض الألسنة مختارات من التوراة، حين ينطق بها البعض أو يتمثلها إنما ينطق بروحٍ عنصرية متمثلًا بأسطورة شعب الله المختار، وعمود الضياء الذي كان يقوده في قلب الصحراء. وكذلك هو يدير على ألسنةٍ أخرى أقوال اللوردات الإنجليز مثل كتشنر الذي يشعر بأعمق العطف على آلام هذه المخلوقات التعيسة التي تقع مسئوليتها على «المتمردين وسلوكهم الشائن»، على أن الموروث الشعبي الديني لا يشكل وجدانًا شعبيًّا أو دينيًّا في شخصيات رومان رولان، وإنما هو أقرب ما يكون إلى «لعبةٍ فكرية» يستخدم فيها الطرفان المتنازعان كلاهما أسلوب التراث في التفكير. فهكذا رأينا الطفل دافيد يجيب على سيمبسون حين سأله عما إذا كان يعرف من هو دافيد مرددًا من صفحات التوراة: «قال داود لأعدائه تأتون إلي بالسيف والحربة والدرع. ولكني أنا أذهب إليكم باسم الرب الذي أهنتموه اليوم. الرب سيضعكم بين يدَي. سأقتلكم. سأقطع رءوسكم — وأعطي — اليوم، أجسادكم الميتة، لطيور السماء ووحوش الأرض. من أجل أن تعرف الأرض كلها أن لداود ربًّا، وكأن الطفل يتكلم باسم شعبٍ كامل، مضطهد ومغلوب على أمره.
وتكتمل الدورة الدرامية باشتداد أزمة كليفورد والمضاعفات التي ألمَّت بها، فالمعتقل الذي يجمع المواطنين من هنا وهناك يكاد يكون تمثالًا مجسمًا للدمار والعذاب. فقد استطاع جراهام أن يثني كليفورد عن المنشور الإنساني الذي كان بصدد إصداره واستبدال منشور وحشي به ينذر السكان من الإقدام على أعمال الثأر أو حماية من يقومون بهذه الأعمال باعتقالهم ومصادرة أملاكهم وحرق بيوتهم ومزارعهم. ذلك كله يدفع كليفورد مليًّا نحو التفكير في الاستقالة. وذلك أيضًا ما يدفع جنديًّا مثل «أوين» إلى العصيان عن تنفيذ الأوامر وعدم الاشتراك في الحرب، وكذلك «الإيطالي» الذي يصر على الهروب من البلاد نهائيًّا ولكنه يصاب برصاصةٍ أثناء المطاردة. ويصارح كليفورد نفسه وزميله الطبيب ميلز أن نفسه أضحت ميدانًا لمعركةٍ بين إرادتين: «لو كنت في حالتي الطبيعية لقررت ثم نفذت قراري مهما يكن، دون أن أسمح لعقلي بأن يناقش شيئًا. ولكني ضعفت إلى أقصى حد ممكن.» فقد حوصرت قوات المقاومة حصارًا لا ينتظر سوى المدافع الإنجليزية لتحصد الأرواح جملة، ومن بين المحاصرين زعيم هذا الشعب الذي لم ينفصل لحظةً واحدة عن قواته. ولا سبيل أمام البطل التراجيدي الذي لم يكتمل بناؤه إلا بأن يعطي مسدسه إلى ميلز ويأخذ عليه عهدًا بأن يطلق عليه النار فور إصداره القرار بحصد أرواح هذا الشعب. كقائد لا بد أن يضرب، فإذا ضرب فعليه أن يموت. تلك هي البنية التراجيدية في صميم تكوين شخصية كليفورد. ويكاد رولان أن يستكمل بناء هذه الشخصية حين يُجري هذا الحوار بين كليفورد وأوين:
ولكن أوين يدخل المعتقل لعصيانه الأوامر، ويموت آلان مقتولًا برصاصة الإيطالي، ويموت الإيطالي مقتولًا برصاصة آلان. ويمسك الطفل دافيد بمسدس كليفورد الذي وضعه ميلز على منضدةٍ مجاورة ويطلق منه رصاصةً واحدة تقضي على الرجل الذي عاش وحيدًا معذبًا طيلة المسرحية، وكأن هذه الرصاصة هي الحل الوحيد أيضًا لمأساة قائد الأعداء الذي قرر أن يكون إنسانًا قبل أي شيء، فكانت إنسانيته هي الأزمة التي بلغَت عند الخاتمة ذروة المأساة. ولعل شخصية كليفورد هي الشخصية التي أنقذت المسرحية من البوار. ولكن بطلًا تراجيديًّا بغير بناءٍ تراجيدي ينسف التراجيديا من أساسها. ولأن الخامة الرئيسية للدراما هي «المقاومة»، فقد أدى ذلك إلى انقسامٍ جوهري في بنائها بين العنصر الخارجي الذي يجسد قلب المسرحية ونبضها الخافق، والعنصر الداخلي الذي يجسد قلب كليفورد ونبضه الخافق. وكذلك الانقسام بين المضمون الإنساني والشكل الذي تحول أوين في كثير من أجزائه إلى «تجريد» يجعل من الشخصيات أبواقًا لفكرة من الأفكار. وتخرج من المسرحية بنظرية رومان رولان في الاستعمار أكثر من خروجك بمأساةٍ إنسانية. والنظرية تقول إن صاحب المال «لويس» يجند جيشًا لحماية استخراجه المال من جنوب أفريقيا «المتخلفة» بحجج عديدة، منها نشر الحضارة والدين والأخلاق والثقافة. فالمستعمر يمسك المسدس في يد والإنجيل في اليد الأخرى. ولقد ذهب كليفورد ضحية أزمة شخصية، هي وفاة ابنه وزوجته لحظة وصولهما إلى الأرض المغزوة؛ فقد نشب بين ضلوعه فجأةً صراع لم يهدأ — بين الواجب العسكري والشعور الإنساني — إلا برصاصة الطفل دافيد. ونحن لا نكاد نرى الشعب المهزوم في حالة مقاومة حقيقية، وإنما في حالة احتجاج إنساني عنيف تجسده مناقشات ديبورا الحزينة دائمًا لفقد زوجها، وحالة طفلها الذي يمسك المسدس في شجاعة غريبة ويطلقه على الرجل الذي كان يحبه ويحتضنه، وحالة الرجل شبه المجنون الذي مزق العلم البريطاني وشرع في قتل في قتل أحد الجنود الإنجليز، وحالة القائد الوطني الذي أُسر فلم يرتج عليه القول لحظةً في الدفاع عن وطنه. وهي جميعها حالات إنسانية عامة ومجردة يقف فيها الكاتب موقفًا منحازًا إلى القوى الوطنية، ولكن من وجهة نظر إنسانيةٍ خالصة.
•••
ولعل الأدب المسرحي لم يعرف امتزاجًا عميقًا بين الأبعاد الثلاثة، الإنسانية والقومية والاجتماعية، كما عرفها في مسرحية الكاتب الأيرلندي «شون أوكيزي» الذي اختار عنوانها من رمز الحركة الوطنية الأيرلندية «المحراث والنجوم». ولكن إنسانية أوكيزي على النقيض من إنسانية رولان، ليست إيمانًا مجردًا بالإنسانية، وإنما اعتراف بجوانب النقص البشري ثم تعاطف مع لحظات الضعف في الإنسان. ومسرحه لذلك أقرب ما يكون إلى مسرح «الشخصيات» التي تتوالى عليها المواقف والأحداث لتختبر معدنها وتحدد مدى قيمتها. فالمقاومة هنا ليست إلا «مناسبة» يتعرف بها أوكيزي على إنسانية شخوصه، والبطولة «بهذه المناسبة» لن تكون في مجرد الاستشهاد الشجاع من أجل الدفاع عن الوطن، وإنما تتجاوز «بطولة المقاومة» في مسرحية أوكيزي هذا المعنى المباشر القريب إلى أبعاد عميقة الغور في الشخصية الإنسانية. ولقد اختار الكاتب منذ البداية أن تكون أرضيته الاجتماعية هي الفئات صاحبة المصلحة الأولى في الثورة، الفئات التي يبلغ بها الكدح والشقاء أن تقف دائمًا على حافة هاوية غير مرئية، فإذا تحركت إحدى قدميها طموحًا زلَّت وسقطت، وإذا تحركت القدم الأخرى تمردًا وتغييرًا للبناء الاجتماعي بأكمله لم تنجُ في أحيان كثيرة من السقوط أيضًا. تتكون هذه الأرضية الاجتماعية من عامل البناء جاك كليثيرو وزوجته نورا وعمها بيتر الذي ينتمي إلى الطبقة العاملة، ثم ألكوفي السباك — ابن عم جاك — وبيسي برجس بائعة الفاكهة المتجولة، ومسز جوجان الخادمة المتجولة أيضًا وابنتها المريضة بالسل مولسر، والنجار فلوثرجود. هؤلاء هم الخيوط الرئيسية في نسيج المسرحية، وهو كما نرى نسيج «القاع» الاجتماعي لأيرلندا المناضلة ضد الاستعمار البريطاني. ولكن أيرلندا بالرغم من أنها مستعمرة إنجليزية إلا أنها ليست «قاعًا» و«حضيضًا» فحسب، وإنما هي مجتمع متعدد الطبقات والصراعات، ولذلك فهناك إلى جانب هؤلاء الضائعين في خضم الصراع الاجتماعي من ينتمون إلى شرائح طبقية أعلى، ويشاركون من موقعهم في النضال الوطني، لأنهم أيضًا أصحاب مصلحة في طرد الاحتلال مهما تعارضت مصلحتهم في النهاية مع مصلحة الفقراء. ولا يركز مؤلف «المحراث والنجوم» أضواءه — وهو بصدد مسرحيةٍ وطنية — على التناقض الطبقي بين العمال المنضَوين تحت لواء «جيش المواطن الأيرلندي» والبرجوازيين المنضَوين تحت لواء «جيش المتطوعين الأيرلنديين»، فالمعركة التي يشتركون بدمائهم في أوارها توحد مصالحهم في ساحة القتال، ولو مؤقتًا. وإنما يركز الكاتب — منحازًا بغير شكٍّ إلى الطبقة العاملة — على المناخ «الإنساني» للمقاومة. يقول السباك ألكوفي: «ليس هناك شيء اسمه أيرلندي أو إنجليزي أو ألماني أو تركي، إننا جميعًا آدميون فحسب.» وهو شيوعي حديث العهد بالماركسية، وتنطبق عليه كل صفات حديثي العهد بالإيمان من الحماس المفرط والمبالغة الزائدة والسذاجة الشديدة والتبسيط المذهل. وهو على النقيض تمامًا من شخصية العامل العجوز بيتر، الذي يتلفع بأزياء القرون الوسطى ولا يرى فيما يردده الشاب ألكوفي إلا إلحادًا وجحودًا. وكلاهما يلتقيان في الاقتصار على «المشاهدة» السلبية للأحداث، ولذلك فهما بالرغم من توتر علاقتهما كثيرًا ما يجمعهما الود في لحظات. وكذلك الأمر بين الثلاثي النسائي نورا وجوجان وبيرجس. إن بيرجس تسخر من المعركة وتهتف للقصر البريطاني بالنصر وتقضي يومها في شجار مع جاراتها الأخريات. ونورا تكاد تُجن هيامًا بزوجها وحرصًا عليه ورغبة أكيدة في منعه من الانخراط في السلك العسكري جنديًّا أو قومندانًا بين صفوف رجال المقاومة، حتى إذا وصله الخطاب الرسمي بتعيينه قومندانًا بادرت إلى إخفائه عنه. ويغمز الكاتب شخصية كليثيرو حين يدفعه إلى التباهي أمام زوجته بأنه ترك جيش المواطن من أجلها، فتجيبه على الفور بأنه لم يترك الجيش إلا لأنهم لم يعينوه قائدًا. وعندما يصل الكابتن برينان ومعه قرار الترقية يبادر كليثيرو إلى حزام براون ويتمنطق به ثم يضع مسدسه في الجراب ويمضي بخطًى عسكرية! وفي إحدى الحانات المطلة على مكان الاجتماع الكبير لجيش المواطن الأيرلندي، يصوغ أوكيزي من البارمان والعاهرة والرواد «عجينةً إنسانية» تركزت فيها كل عناصر السلب والإيجاب. إن بيتر الذي يبرز وسط الأحداث كشبح من قبور العصر الوسيط يخلع عنه رداء السلبية قليلًا فيطلب كأسين، له واحدة ولصديقه فلوثر واحدة، ويتمتم للبارون في لهجةٍ متعجلة: «إن اجتماعًا كهذا يجعلني دائمًا أحس كما لو كنت أستطيع أن أعب بحيرة إيرن حتى أفرغها.» وهي عبارة تذكر القارئ العربي بعبارة أحمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ حين قال وهو يوقع على التوكيل الوطني عن الأمة الذي أثبت الوفد المصري شرعية تمثيله للشعب إنه يحس بسعادة دونها سعادته وهو يعب الكأس الثامنة بين فخذَي زبيدة. ويتراءى للجميع من نافذة الحانة قامة الخطيب الذي يُلهب الحماس الوطني للجماهير، بينما يثرثر ألكوفي عن فائض القيمة، وتتملق روزي الزبائن الفقراء بتعرية ساقَيها وقرب مخدعها حتى تتمكن من اصطحاب فلوثر إليه بدلًا من ألكوفي الذي أهانها. ثم يقتحم المكان كليثيرو والكابتن برينان والملازم لانجون. ويتعاطون كئوسًا في صحة الثورة التي يؤكد لانجون أنه قد حان وقت قيامها: «إن موعد المعركة الآن، ومكان معركة أيرلندا هنا.» ويظهر الخيال الطويل الداكن من النافذة فيصغي الجميع: «إن أعداءنا أقوياء، لكنهم مع قوتهم لا يقدرون على إبطال معجزات الله، الذي يُنضج في قلوب الشباب البذور التي بذرها شباب جيلٍ مضى.» وعندما تخرج روزي برفقة فلوثر من «استراحتهما» يدوي صوت أحد الضباط وهو يأمر المتطوعين الأيرلنديين بالاستعداد. وتشرع روزي في الغناء:
ثم يختلط صوتها بصوت كليثيرو وهو يأمر كتيبة ديان بجيش المواطن الأيرلندي أن تأخذ وضع الاستعداد. وهكذا يزاوج شون أوكيزي مزاوجةً حية رائعة بين الحلم الحبيس في مخيلة عاهرة، عن طفل مليء بالحيوية يصيح من أجل الزبد والخبز وبين الطريق إلى تحقيق الحلم، طريق النضال المسلح لشعب أيرلندا. فعندما تغني روزي أغنية الرفض لحبيبها الحائك الذي لم يستطع أن يفعل شيئًا من أجلها، فإنما تغني في نفس الوقت أغنية القبول لحب البحار العنيف كالبحر، وكأنها تنشد أغنية الثورة الهادرة في طرقات أيرلندا، وكأن الكاتب يقول إن للمومس حقًّا في مشاركة الملايين أحلامها، بل هي تستطيع أن تجسد أروع الأحلام؛ إذ لكونها تندرج في أسفل قائمة الضائعين بالحضيض الاجتماعي، فإنها تملك اللسان الحقيقي — والموجع — للمأساة.
وباحتدام المعركة يحتدم كل شيء، تتلاطم الذرات بعضها ببعض تتدهور صحة مولسر ابنة مسز جوجان، ويقرقع الرصاص في كل مكان، وتخرج بيسي وفلوثر للاشتراك في السلب والنهب، وتعود نورا بغير كليثيرو بعد أن بحثت عنه في كل مكان، تعود بغير عقلها، فقدته مع رؤية الدم والجثث واحتمال أن تكون جثة جاك من بينها. وينفجر كل شيء بدخول كليثيرو وبرينان ولانجون المسكين وهو ينزف. وتظن نورا أن عقلها عاد إليها. ويعود فلوثر مخمورًا بينما يهم كليثيرو باستعادة جأشه وبندقيته ليعود إلى الميدان، وتخر نورا على ركبتيها سجودًا للقدر. ولكنها لا تقوم من ركعتها أبدًا، لقد رجع زميله برينان مرتديًا ملابسه المدنية ومعه رسالة إليها، آخر رسالة من كليثيرو: «لقد ظللنا نقاتل حتى اشتعل المكان. أصابته رصاصة في الذراع، ثم في الرئة، ثم اضطررت أن أتركه لأنقذ نفسي، لقد لقي مصيره كرجل، كانت آخر همسة له هي: قل لنورا أن تكون شجاعة، إنني مستعد أن ألقى ربي، وإني فخور لأنْ أموت في سبيل أيرلندا، وعندما سمع قائدنا ذلك قال إن نهاية القومندان كليثيرو كانت ومضة مجد. لسوف ينقلب حزن مسز كليثيرو إلى فرحة حين تدرك أنها كانت زوجة لبطل.» ولكن نورا كانت قد فقدت عقلها للأبد بحيث لم تعد تستطيع أن تفرح أو تحزن، إنها فقط تستطيع أن تلتقط من ذاكرتها وميض الكلمات التي صرخت بها قبل أن يذهب. قالت له إن الجميع خائفون وإنهم يطلبون منه أن يرافقهم للحرب؛ إذ من المحتمل أن يصيبه الموت ويخطئهم. وها هو ذا برينان يعترف بأنه صلى عليه صلاة الموتى وهرب حتى لا يموت هو الآخر. فهل كانت هذه المرأة، المدلهة في حب زوجها، خائنةً لوطنها كدعارة روزي، أم أنها كانت في مستوى التنبؤ بما سيكون كحلم روزي؟ على أية حال، فإن الكاتب لا يجيب. وطوال المسرحية هو لا «يحكم» على أحد بشيء، وإنما يصر إصرارًا مذهلًا على تتبع تفاصيل التفاصيل حتى لا نطلق نحن الحكم جزافًا. وتموت مولسر من السل، وتُجن نورا من الصدمة العصبية، وتموت بيسي برصاصة تخترق النافذة فتصيبها وهي تسند نورا بذراعيها، وما يكاد النعش يخرج حاملًا جثمان مولسر تحت إشراف الجنود الإنجليز، حتى تبدأ مسز جوجان تنادي نورا لمساعدتها في إعداد نعش الجنازة الجديدة، بينما تتصل أصداء الجنود في الخارج بهتاف زملائهم في الداخل:
بهذه الأبيات يختتم شون أوكيزي مسرحيته الرائدة، التي لا تؤرخ حقًّا للانتفاضة الأيرلندية الوطنية ولكنها ترتفع إلى مقام النبوءة الفنية. وهي في فصولها الأربعة تكاد تنهج نهجًا كلاسيكيًّا خالصًا لولا أن «حدثًا» من الأحداث الكلاسيكية لم تعرفه «المحراث والنجوم» وإنما كانت المقاومة في حياة جميع الشخصيات «تجربة» إنسانية، سلبية عند بعضهم، إيجابية عند البعض الآخر. وربما كان هذا «المركب الموضوعي» هو أبرز وجوه المسرحية التي تعتمد في تخطيطها على شخصيات متناقضة حقًّا، ولكن تجمعها «الحياة الواحدة» بكل ما فيها من معارك وصراعات. يبدو هذا المركب الموضوعي واضحًا غاية الوضوح في كشف الأقنعة عن الوجوه وتمزيقها بصورةٍ قد تصدم المشاعر. فبالرغم من الانحياز الفكري لشون أوكيزي إلا أنه أراد أن يقدم لنا درسًا عميقًا عن الانحياز الأول والأكبر في الفن، وهو الانحياز للإنسان، لإنسانية الإنسان بما تشتمل عليه من قوة وضعف، وانتصارات وهزائم. وهو في النهاية يريد أن يقول لنا في بساطة ويسر إن البطولة ليست «أمرًا شاذًّا» ولا «قرارًا مرسومًا» وإنما هي عنصر كامن في النفس البشرية يتجسد دومًا في مسيرة الفرد والجماعة وفق معدلات الزمان والمكان، فالحياة في تدفقها اليومي الحار تقلب وضع عناصر النفس البشرية، فإذا بهذا العنصر دون ذاك يلمع فجأةً كنجم في سماء كان يظنها المرء ظلامًا في ظلام. لقد تغلبت عناصر الضعف على عنصر القوة في شخصية جاك كليثيرو حين ترك الجيش، ولكن عنصر البطولة حين واتته الفرصة قهر محبته لزوجته ومات صريعًا، بينما غلب حب البقاء في شخصية برينان وهرب قبل أن يُقتل. وكذلك الأمر مع بيسي برجس التي عاشت حياتها في شجار مع نورا ثم ماتت وهي تسندها بذراعيها. عنصر البطولة إذن ليس معدنًا نادر الوجود، ولكن «حركة الحياة» هي وحدها التي تمنحه فرصة الازدهار فيقاوم الفرد مقاومةً أسطورية، وهي أيضًا التي تخفيه أحيانًا عن عينَي صاحبه فيحتجب دوره الخلاق. ولكنه في ظهوره واختفائه معًا إنما يعبر عن دورة الحياة الأبدية.
•••
يتخذ بطل المقاومة وضعًا «إنسانيًّا» جديدًا في مسرحية الكاتب الفرنسي أرمان سالاكرو المسماة «ليالي الغضب». فهو يتصدى لهذه اللحظة التي درجت البشرية على تسميتها بالخيانة إذا تعارضت القيمة مع السلوك وفضل «الخائن» أن يغتال القيمة من أجل اللحظة العابرة أو وهم الحياة. وتختلف «ليالي الغضب» اختلافًا تكنيكيًّا واضحًا عما عداها من أعمال مسرح المقاومة، وهو ليس اختلافًا درجيًّا في المستوى، وإنما يكاد أن يكون اختلافًا كيفيًّا في النوع، فبالرغم من أن سالاكرو يشترك مع أبناء جيل ما بين الحربين في الرؤية «القاتمة» للحياة، تلك التي حتمتها نيران السعير الذي لم يخمد لهيبه عشرين عامًا بين الحرب الأولى والحرب الثانية، إلا أن «جحيم المقاومة» أمدَّه كما أمدَّهم بإيمان ويقين يقترب من حافة الرؤية الصوفية التي تغذي أبطال المقاومة بوقود «روح الاستشهاد»، حتى قبل موتهم، وهكذا تتميز «القتامة» في أعمال سالاكرو عامةً و«ليالي الغضب» خاصةً بروح التحدي والثأر روح «الانجذاب» إلى قيمةٍ بديلة يرونها حلمًا قابلًا للتحقيق يَهُون في سبيله الموت. وليس التكنيك الحديث في «ليالي الغضب» إلا تجسيدًا أصيلًا لهذا «الحضور المليء» للموت، وليس إلا تصعيدًا شاعريًّا عميق الدلالة لهذه المجموعة من القيم التي كان يحلم بها شباب المقاومة الفرنسية إبان أحلك الظلمات التي دهمت ديارهم مع جحافل النازي. وتكاد فرنسا لذلك أن تحتل بأدب مقاومتها المركز التالي للاتحاد السوفييتي مباشرةً من حيث غزارة الإنتاج المعبر أصدق تعبير عن أكثر لحظات البشرية سوادًا في ختام النصف الأول من القرن العشرين.
وتبدأ «ليالي الغضب» من نهاية الحدث الذي ينسج كافة المواقف المحيطة به، فالمؤلف يستخدم في ذلك الوقت المبكر ما نسميه بلغة السينما الفلاش باك. إن أحد المناضلين — هو ريفوار — يقتحم منزل برنار باريز فيقتله جزاء خيانته لصديق قديم له انخرط في سلك المقاومة، واضطر لأن يحتمي ببيته من عيون الألمان، فما كان من برنار وزوجته إلا أن استعانا بمن يدعى بيزانسون الابن ليتخلصا منه ويسلماه إلى الجستابو الذي يعمل بيزانسون الابن تحت ولايته. وها هي الستار لا تكاد ترتفع إلا وجثة برنار وجثة ريفوار وجثة بيزانسون الابن الذي استطاع أن يصيب قاتله برصاصة قبل أن يموت، تتجاور إلى بعضها البعض، وتتجاذب أطراف الحديث، فقد كانت الإضافة التي عمد الكاتب إلى دمجها بالفلاش باك هي هذه: إن الموتى يتكلمون. لقد أعطى لنفسه حرية الحركة بمختلف الرسائل التعبيرية، ليتيح لنفسه أن يقول كل شيء. وكان سالاكرو بهذا المشهد الافتتاحي الذي تتمدد فيه هذه الجثث — المتصارعة — أمامنا يود أن يلتقط صورةً نادرة لمأساة الإنسان، صورة من موقع الموت حيث يظن البعض أن الأمور تساوت في النهاية، كما تقول بعض الشخصيات فعلًا. فالموت هنا يبدو كطائرة محلقة في فضاء أسطوري، يبتعد عن الشخصيات بُعدًا لا نهائيًّا في الزمان، كما يبتعد عن المواقف بعدًا لا نهائيًّا في المكان، وهكذا ينفصل الموت عن الحدث انفصالًا قاطعًا، ويتصل به في نفس الوقت أوثق اتصال، فالموت موت هذه الشخصيات بالذات في هذا الموقف المعين بالتحديد، ولكنه أيضًا «الموت»، في جوهره المستقل عن كل ذات، والحقيقة غير القابلة لأي تحديد. أي أن هناك موتًا مطلقًا من كل قيد بشري في الزمان أو المكان، وهناك موت نسبي مرتبط بالفرد في اللحظة الآنية ومكانها. وليست الحياة إلا حوارًا بين الموت المطلق والموت النسبي، بين الحقيقة الكلية وتجسيداتها الجزئية. فالجزء هو التفسير المرئي والمباشر للكل أو هو التأكيد المستمر له، والكل ليس حاصل جمع الجزئيات، وإنما هو أقرب ما يكون إلى «عالم المثل» الأفلاطوني، عالمنا الصغير صورة له، علاقتها بالأصل هي علاقة «الانعكاس» بالمرآة أو علاقة الصدى بالصوت.
أقول هذا الكلام الذي يبدو ممعنًا في التجريد لأفسر تكنيك سالاكرو الذي جعل الموتى يتكلمون، مهما قام البعض بتذكير البعض الآخر بأنهم «موتى»، فموتهم لا يعني «انتهاء المشكلة» أو «حفظ القضية» أو تقييدها «ضد مجهول»، وإنما هم يتكلمون فقط من موقع الموت، ولا يستطيع موتهم الجزئي إلا أن يمتثل للموت الأكبر. وكأن هذا الموت الصغير محطة استراحة من عناء الرحلة المريرة يتساءل فيها كل فرد: ماذا أستطيع أن أفعل لو أنني عدت إلى الحياة؟ يدور مثلًا هذا الحوار بين بيزانسون الابن وريفوار:
ويفاجئه ريفوار أنْ نعم، يستطيع الإنسان أن يعيش مرتين، بغير «عالم آخر» يُزف إليه بعد الموت، وإنما هذا العالم نفسه الذي نعيش فيه يصبح عالمًا آخر يعيش فيه الآخرون، فهم ليسوا إلا امتدادًا حيًّا له؛ بل أكثر حياةً من أولئك الذين آثروا «الحياة الهنيئة» على مستوى الفرد واللحظة العابرة فلم يناضلوا من أجل الحياة الهنيئة الحقيقية التي يجني فيها الفرد ثمرة نضال الذين لم يخونوه. وهو بالتالي لن يخونهم؛ بل سيناضل مرةً أخرى — ربما في صورة مختلفة — من أجل الأجيال القادمة. هذا التناقض الأصيل بين البطولة والخيال هو المحور الفكري الذي تدور من حوله أحداث «ليالي الغضب»، فالخيانة ليست مقصورة على «بطل تهاوى» وكذلك البطولة ليست مقصورةً على معدنٍ خاص من الرجال، فإذا استراح برنار وزوجته إلى الحياة الوديعة الهادئة بجوار كاتدرائية شارتر يدمغون — في سرهم — كلًّا من النازي ورجال المقاومة «بالإجرام» لأنهم يقلقون راحتهم ويعكرون صفوهم وهم الذين آثروا هذه الحياة الشبيهة بحياة الكاتدرائية الراسخة في هدوئها واطمئنانها، إذا استراح برنار وزوجته إلى هذه الصورة من الحياة فإنها تجرهم تلقائيًّا إلى «الخيانة» لا إلى الحياة أو السلبية. والموت الذي كان يخشاه برنار ويرتعد من أهواله سعى إليه في داره، لأن حركة الحياة لا تمنح الإنسان هذه الراحة السلبية المحايدة، ولأن حرية الإنسان ليست على هذا النحو الساذج من الفرار. البطل والخائن نقيضان كالأبيض والأسود، ولا ظلال بينهما، وهكذا يشترك برنار مع بيزانسون الابن في وحدة المصير، وهو مصير مختلف كل الاختلاف عن مصير جاك وريفوار وديديه ولوكوك، بالرغم من أنهم جميعًا يرقدون في ظل الموت. لقد عاش برنار حياته. «مرعوبًا» من الموت، بل لقد عاشها ميتًا بالفعل، فهو بخوفه لم يعِش حياته ولو مرةً واحدة. أما جاك وريفوار وزملاؤهما فقد عاشوا حياتهم طولًا وعرضًا وعمقًا، خوفهم ليس الجزع من الموت، وإنما استباق الحياة إلى النصر. ويجسد سالاكرو هذا التناقض بين الحياتين، أو الموتين، في هذا الحوار بين جان وبرنار:
وتلك هي القضية التي يركز عليها الكاتب لا بحواره المجرد فحسب، بل ومن خلال الحدث الموضوعي أيضًا؛ إذ يموت هذا الرجل «المسالم» برصاصة أحد رجال المقاومة — ريفوار — موتًا حقيرًا إن جاز التشبيه؛ لأنه يموت «خائنًا» لصديقه ووطنه معًا. أما زوجته وأطفاله فالموت أيضًا ينتظرهم لأن نسف المنزل بأكمله أصبح أمرًا «تكتيكيًّا» محتمًا في حركة المقاومة. وهكذا تتشابك الأحداث وتتدرج بنا من الاختيار بين حياتَين لتنتهي بنا إلى إحدى ميْتتَين: ميتة متوقعة بين لحظةٍ وأخرى، ولكنها في نفس الوقت «حياة» نابضة، و«جسر» إلى حياة أروع، وميتة أخرى تبدو مفاجئةً ولكنها في الواقع خاتمة طبيعية لموت طويل يسميه أنصاره بحياة الهدوء والاستقرار والوداعة والبعد عن المخاطر. وهنا لا بد أن يخطر على الذهن العربي مسرحية يوسف إدريس «اللحظة الحرجة» حيث نلتقي بهذا النموذج الذي لا يتصور أن الموت يمكن أن يصل إليه ما دام «بعيدًا» عن جو القتال حتى يجيئه الموت وهو يصلي!
على أن الخوف في النهاية سمة إنسانية طبيعية وإن اختلفت صورته من شخصية إلى أخرى. جان نفسه — بطل المقاومة في «ليالي الغضب» وقد وشى به صاحبه القديم — يتذكر لحظات التعذيب الجهنمية التي لاقاها فور تسليمه إلى الجستابو ويعترف أن أفظع ما تعرض له في تلك الليالي هو الوحدة التي كادت تمزقه حين وصلت به إلى حافة التساؤل: مقاومة أي شيء؟ ولأي شيء؟ ولوكوك كثيرًا ما أحس بالخوف قبل كل عمليةٍ متسائلًا: ما الذي سيسقط مرةً أخرى على رأسي؟ فإذا نجا تساءل مرةً أخرى: ما الذي جلب لنا الحظ؟ ولكن هذا الحظ لن يدوم. وديديه يرغب في إعطاء معنًى لما يفعل فيجيبه ريفوار: إذا كنت تريد أن تعطي معنًى لكل شيء فسيفقد كل شيء معناه، في حين أن قنبلتك لها معنًى. ولحظات الضعف إذن لحظاتٌ مشروعة، بكل ما تشتمل عليه من خوف واضطراب وأحيانًا فقدان الاتزان.
وجان كوردو — على وجهٍ خاص — هو نموذج هذا البطل الوطني المعذب بين انهيار القيمة الإنسانية التي كانت تربط بينه وبين صديقه القديم برنار باريز، فقد كان عليه — وهو المهندس الكيميائي — أن يشرف على نسف قطارٍ حربي شحنه النازي بالبترول وسبقه على مسافة زمنية قدرها خمس دقائق قطارٌ للركاب يحتمي بسيره الألمان من قنابل المقاومة. ونجح جان في مهمته بالرغم من بعض التفاصيل المعوقة التي كان لها أثرها في جمع الشمل بعد انتهاء «العملية»؛ إذ تبدد المناضلون بصورةٍ تختلف عما كان متفقًا عليه، ونسف القطار حقًّا، ولكن السرعة الزمنية لم تكن مواتيةً لتجنب الدوريات الألمانية التي احتشدت على نواصي الطرق المؤدية إلى مكان الحادث. ومن ثَم كان على جان أن يطرق باب صديق الطفولة الذي لم يرَه منذ ثلاث سنوات، وأن يختلق له من الأعذار ما يبعث الطمأنينة في قلبه وقلب زوجته بالرغم من الدم الذي تنزفه ذراعه الجريحة، فهو لم ينجُ من رصاصةٍ نازية محكمة التصويب. إلا أن علاقة الأسرة بمن يدعى بيزانسون الابن — عميل الجستابو — تؤرجح مشاعر برنار وزوجته تأرجحًا مريرًا، فلقد عكر مجيء صديقهما القديم صفو حياتهما تعكيرًا مفاجئًا لم يعملا حسابًا له من قبل. حقًّا كان برنار في زمنٍ مضى يهيم حبًّا بلويز زوجة جان، ولكنها هي لم تكن تعير هذا الحب التفاتًا، لذلك كان من الطبيعي أن تطمئن علاقة الأسرتين إلى أن خللًا عاطفيًّا لن يحدث. وبخاصة وأن بييريت زوجة برنار قد أنجبت له ثلاث بنات هن الآن أعز ما تملك، إلى جانب الزوج القادر على توفير معيشة مستقرة لأهل منزله. عكر مجيء جاك إذن صفو الأسرة الصديقة القديمة في صداقتها، والراسخة في هدوئها رسوخ كاتدرائية شارتر. ولكن المشكلة تعقدت أكثر بمجيء بيزانسون الابن، لأن صداقته للأسرة لا تقل حظوةً عن صداقة جاك، ولأن علاقته بالألمان من ناحيةٍ أخرى توفر على أفراد الأسرة مشقةً كبيرة في الحياة تحت ظل الاحتلال. بمعنًى — أكثر تركيبًا — ثمة علاقة خفية وغير مباشرة بين أسرة برنار والجستابو؛ ومن هنا كان اختيار جاك لهذا البيت دون بقية البيوت اختيارًا لقدره. فما ذنبه إن تحوَّل طرق النجاة دون أن يشعر إلى مصيدة؟ وما ذنب برنار إن تحولت ذكريات الغرام القديم إلى طعم يغري الشباك؟
تلك هي التساؤلات التي كان يطرحها سالاكرو بالتبادل — إن وجدت — طرحًا مجسمًا، أي أنه يقوم بتجسيم السؤال في مشهد والإجابة في مشهدٍ آخر، ويبادل بين السؤال والجواب، أو بين مشهد وآخر في حريةٍ كاملة لحركة الانتقال المعروفة سينمائيًّا بالفلاش باك. إن جميع الشخصيات تلتقي مع بعضها البعض، ولو كان البعض ميتًا، والبعض الآخر في أعماق السجون، لا لشيء إلا لأن الكاتب يعرض القضية أولًا من موقع الموت حيث يتضح أن الموت لا يسوي بين الجميع، وأن الحياة السابقة عليه تختلف باختلاف صورته، فإذا كان موتًا كهذا الذي انتهت به حياة برنار فإنه يشكل نهايةً ساخرة إلى أبعد حد من هذه الحياة. ولأن الكاتب يعرض القضية ثانيًا في مستوى المواجهة والتعرية الكاملة للذات وللآخرين. أي أن الصراع هنا ليس صراعًا كلاسيكيًّا يضمر المفاجآت ويصوغ الحبكة الدرامية بعيدًا عن العيون، وإنما هو صراع مكشوف يؤكد مرةً ومرات أنه لا مفر من وجوده خفيةً أو علانية.
إن جان كوردو يمثل شخصية البطل-الشهيد وإن لم تنتهِ حياته أمامنا بالموت، فلا ريب أن الجلاد النازي قد أذاقه ألوانًا من الموت لا تخطر على بال. وجان يدرك حقيقةً جوهرية من حقائق البطولة والمقاومة ويصهر أزمتها الكامنة حين يتساءل: «هل أنا فخور بنفسي؟ كلا. هل أنا خجول من نفسي؟ كلا. لا فخر ولا خجل. هذه هي المعركة، عندما يبعث الجنرال برجاله إلى ساحة القتال فهو يعلم جيدًا أنه سيكون هناك موتى، ولكي يتغلب على الضيق الذي يحس به، ألا يعرض نفسه أحيانًا للموت بين أولئك الذين يموتون؟» إن الموت في ذاته لا يشكل فاجعةً درامية، وإنما هو إن جاز التعبير: موقف من الحياة ورؤية لها في نفس الوقت. الموت في حياة جان «شريعة المقاومة» لا يصنع البطولة وإنما يعبر عنها. أما البطولة فتصنعها إرادة الرجال في تحرير أنفسهم وأوطانهم، هذه الإرادة التي يصوغها جان في كلمات: «منذ أن هُزمت جيوشنا لم نعد رجالًا. إن مستقبلنا لم يعد إلا مستقبل القوادين والبلطجية، وأنتم هل تظنون أنفسكم على قدر كبير من المهارة عندما تقولون إنكم تحولون جنس السادة إلى عبيد؟ أنا أريد أن أكون رجلًا نظيفًا لا سيدًا ولا بلطجيًّا، ولكن رجلًا بين الرجال.»
•••
تكاد هذه الكلمات أن تكون هي نفسها التي رددها أوريست عند صخرة الموتى قبل أن يحسم أمره ويخلص أهل آرجوس من خطيئتهم الموهومة، قال لأخته إلكترا مبررًا عزمه على الإقامة ولو مؤقتًا بدلًا من الرحيل على الفور: «أريد أن أكون رجلًا ينتمي إلى بقعة من بقاع الأرض، رجلًا بين الرجال.» وربما كانت هذه الكلمات قبل غيرها هي التي صاغت البعد الواقعي لشخصية أوريست بعد أن كادت الصياغة الأسطورية في الأجزاء الأولى من مسرحية «الذباب» لسارتر أن تخفي معالم هذه الشخصية لحساب الوجه الفلسفي الذي أبرزه على جبينها. ولكن، ما أبعد الشقة بين سالاكرو وسارتر بالرغم من معايشتهما لعصر واحد، ومعالجتهما لقضية واحدة، وربما انطلاقهما من «حالة» واحدة هي الشعور العميق بالعبث واللاجدوى. ولعل عبارة أوريست القريبة من عبارة جان كوردو لا يكتمل بعدها الواقعي— والذي يختلف به سارتر عن سالاكرو — إلا إذا تذكرنا الجملة التي فاهت بها إلكترا حين أخذ يصف لها حبه لكورنثة وجمالها، قالت: «أما أنا فيدهشني أن أكون فخورة ببلدي.» لقد رأى سارتر فرنسا الراكعة على قدميها تجرع كئوس الندم حتى الثمالة، وكانت هذه الرؤية مصدر الاختلاف الجوهري بينه وبين كاتب آخر رآها تقف على قدميها، حتى «الخائن» عند سالاكرو يخون بالصدفة، بينما يعمد إيجست وكليتمنسترا إلى الخيانة عمدًا، وبينما يعبر خائن سالاكرو عن قطاع من الشعب الفرنسي — وكل الشعوب — يريد أن يعيش حياته هادئًا في ظل الحرب والاحتلال، ومأساته أنه يتوهم أن بقدرته تحقيق ذلك. فإن خائن سارتر يعبر عن النظام الفرنسي الحاكم والعميل للاحتلال النازي في نفس الوقت.
ولقد كانت «الذباب» التي صدرت عام ١٩٤٣م علامةً فارقة بين تفكير سارتر قبلها وتفكيره بعدها؛ ذلك أنها سجلت التطور الخطير الذي أحدثته الحرب والأسر والمقاومة في عقله ووجدانه، كما يذهب ألبيريس في كتابه «سارتر والوجودية» وهو يفرق بين مرحلة «الغثيان» حيث كان البطل هو روكنتان الذي يعتبر انشغال الناس وانهماكهم شيئًا غريبًا مضحكًا، ومرحلة «الذباب» حيث البطل هو أوريست الذي يتمنى أن يجد عملًا يكسبه حق المواطنة بينهم، وينتهي ألبيريس إلى القول: «إن سارتر قد اكتشف في الفترة التي تفصل بين صدور الكتابين، الحرارة والتضامن الإنسانيَّين كفكرة قادرة على أن تمنح الحرية محتوًى وواقعًا عمليًّا وميدانًا للفعل.» أجل، فحرية الفرد المعزولة في قوقعة صدفية لا يخترق جدارها الصلب شيء — وتلك كانت حرية روكنتان وغثيانه جنبًا إلى جنب — غير حرية الفرد المسئولة عن الآخرين، ولم يلق تبعة إلزامه على أحد، وتلك كانت حرية أوريست الذي اتخذ قرارًا فرديًّا خالصًا بقتل القتلة وتحمل مختارًا أثقال آرجوس. إن مرونة سارتر هي التي منحته هذه القدرة على الحركة، ولكن أصالته أيضًا هي التي توحد دفقات تفكيره في مجرًى رئيسي واحد. أي أن فكرة «الحرية» التي بدأ منها غثيان روكنتان هي بعينها التي أضاف إليها فكرة الالتزام الفردي بسقوط فرنسا تحت سنابك الوحش النازي. وتتعدد الإضافات بعدئذٍ — بتفاعل سارتر مع الأحداث تفاعلًا حيًّا وإيجابيًّا — حتى ليقف مع حركة الشعوب خارج فرنسا، مع الجزائر وكوبا وفيتنام. ولكن الجذر الفلسفي الغائر في أعماقه هو هو لم يتغير، مهما تكاثفت عليه الشعيرات المختلفة الأحجام ومهما أثمر من أغصان وفروع. هذا الجذر العميق هو أن الإنسان «حر» في هذا العالم غير ملتزم بقيم سابقة على أفعاله. وعندما تتردد كلمة الحرية عشرات المرات في مسرحية «الذباب»، وعندما يلجأ إلى الصياغة الأسطورية في معالجتها الفكرية والدرامية، فإن ذلك كله يعني أولًا وأخيرًا أن التعاسة بلغت بفرنسا مبلغها، وأنه لم يعد في إمكان القوقعة الصدفية أو جدارها الصلب أن يحمي حرية روكنتان من العبث بها والسخرية منها بأقدام ألمانية، وأنه لا بد لهذه القشرة الصلبة أن تتفتت قبل أن تنكسر عنوة وتضيع، تتفتت بمحض اختيارها كالفراشة التي تمزق شرنقتها وتخرج باستقلالها الفردي الخالص لتدفع عن نفسها غائلة العدو المشترك بينها وبين جميع بني جنسها. إن حريتها — كما لا بد أنها اكتشفت فجأةً — في حرية الآخرين، إنها تمزق الشرنقة بنفسها وتخرج من قبرها الحريري معلنةً حدوث المعجزة التي حققتها المقاومة البطولية للشعب الفرنسي، والخيانة البشعة لحكومة فيشي. وهي لا تعود إلى الشرنقة أو القوقعة الصدفية مرةً أخرى، ولكنها لا تصنع مع الآخرين أيضًا شرنقةً جديدة كبيرة تضم الجميع. لقد تحررت حقًّا والتزمت بهذه الحرية، فهي لن تبددها شيوعًا كما لم تبددها غثيانًا.
هكذا أوريست، أقبل مع مربيه على آرجوس وهو يعلم مقدمًا أن أباه كان مليكها منذ خمسة عشر عامًا حين قتلته زوجته غداة مجيئه منتصرًا في حرب طروادة، ثم تزوجت أخاه إيجست وفق مؤامرة بيَّتاها معًا، وشم الشعب رائحتها ولكنه انطوى على السر واختار حياة الندم وارتدى السواد واحتفل بعيد الموتى — والمؤرَّخ له بيوم اغتيال أجاممنون — وتزعَّم إيجست طقوس الندم وتبعته في ذلك الملكة كليتمنسترا وأبت ابنتها إلكترا أن تسلك معهما هذا السبيل. ويصل أوريست والقوم يعدون أنفسهم للاحتفال بعيد التكفير حيث يدحرج الكاهن الأكبر صخرة المعبد فيخرج الموتى للقاء أقربائهم ويقضون الليلة معهم. ولكن جوبيتر كبير الآلهة يلتقي بأوريست منذ البداية متخفيًا تحت اسم «ديمتريوس»، فيتعرف عليه بعد فترة ويدور بينهما سجال مرير هو الصراع الخالد بين الإنسان والقوى العليا. وبينما كانت إلكترا هي الحافز الذي ألهم أوريست طريق «الفعل» الذي اختاره واعيًا بكافة ما يلقيه عليه من التزامات، نراها تنكص في منتصف الطريق وتتخلى عن «فعلها» وتركن إلى جوبيتر رعبًا من زبانيته. وذلك بعد أن أقدم أوريست على قتل إيجست وأمه بالرغم من تحذير كبير الآلهة للملك، بل بسبب هذا التحذير الذي كشف فيه جوبيتر أوراقه وأوراق كافة الآلهة والملوك، وهي أن البشر أحرار بالطبيعة، ولكنهم لا يعلمون ذلك، ومهمة الآلهة والملوك حفاظًا على عروشهم أن يدعموا الجهل الإنساني بهذه الحقيقة. ولكن بعد فوات الأوان؛ فقد كانت هذه الحقيقة التي انقضت على أوريست كالصاعقة هي الحرية، لهذا لا يشعر بالندم كبقية أهل آرجوس، على النقيض من إلكترا التي يصيبها الرعب من أهوال هذه الحرية فتنصاع مقهورةً لشعائر الندم والتكفير، خلاصها الوحيد من ذباب جوبيتر وزبانية الجحيم. ويرفض أوريست مغريات جوبيتر التي يطلعه عليها، وفي مقدمتها عرش أبويه مقابل «قليل من الندم» ويرفض تهديده بالجماهير المحتشدة عند باب معبد أبولون الذي يحتمي به. وكما رفض عرش كبير الآلهة، رفض أيضًا عرش الشعب، ويمضي في سبيله وحيدًا مع الحرية، تمامًا كما جاء لا يملك سواها، ولكنه الآن لم يعد وحده الحر؛ فقد هزم جوبيتر وذبابه وزبانيته حين أبلغ الجماهير بسر الأسرار، بأنهم أحرار منذ ولدوا وأنهم أبرار من خطيئة لم يرتكبوها، وأن موتاهم ليسوا إلا موتاه هو، وهو الكفيل بالذباب والزبانية التي مضت من خلفه لا تني عن الصراخ والعويل.
يقول فيليب تودي في كتابه عن سارتر: إن السياسة الرسمية لحكومة فيشي كانت تقول للشعب الفرنسي إن الهزيمة في عام ١٩٤٠م جاءت كعقاب عادل لطيش الفرنسيين في فترة ما بين الحربين، ومن ثَم عليهم أن يستعدوا لنيل جزائهم. وكانت هذه السياسة تحصل على تأييد جانبٍ من الكنيسة الكاثوليكية، مما دفع سارتر إلى إظهار الدين وهو يتعاون مع الحكومة القائمة في آرجوس. والمسرحية تقول — في رأي تودي — إنه لا توجد قيم جاهزة لإرشاد الإنسان إلى الاختيار الأخلاقي الذي يجب أن يقوم به، وعلى كل إنسان أن يختار بمفرده ما يفعل، ولا يمكن لإنسان أن يتلقى أوامر من أية علامة لأنه هو الذي يقرر معنى هذه العلامة. ويشير الناقد بذلك إلى تلك العلامة التي طلبها أوريست والعلامة الأخرى التي طلبتها إلكترا، فما كان من جوبيتر إلا أن استجاب لكلٍّ منهما. غير أن أوريست فسر تحقيق العلامة بمنطق الإنسان الحر فلم تعد المعجزة الغيبية قيدًا يكبله، بينما انهارت إلكترا فور مصرع أمها، وهي التي قضت معها العمر تغسل لها ثياب العار، ثيابها الداخلية التي ترقد بها مع إيجست على فراش أجاممنون، إمعانًا في إذلالها. لذلك يقرر فيليب تودي أن الإنسان في مسرحية «الذباب» يتخذ قراره في عزلة وقلق، وهو الوحيد المسئول عن قراره، وحتى ولو كان الله موجودًا فلا توجد مبادئ أخلاقية يمكن اشتقاقها من وجود الله نظرًا لأن حرية الإنسان تجعله مستقلًّا عن الله الذي خلقه. وهو هنا يشير إلى الصراع المر بين أوريست وجوبيتر بعد أن أفضى كبير الآلهة بسره إلى إيجست، سره وسر جميع الملوك والآلهة، فقد وعى أوريست من هذا السر أن هذه الممالك التي أطلعه عليها جوبيتر لا تعني شيئًا بالنسبة له، لأن كبير الآلهة هو إله الصخور والمحيطات وكل ما في الوجود سوى الإنسان فهو ليس ملكًا عليه. وحتى إذا كان قد خلقه كبقية الموجودات فإنه بمولده لم يعد في نطاق سلطانه؛ بل انفصل عنه وأصبح موازيًا له لا يلتقي به ولا يتماس، ويعانيان كلاهما كربًا واحدًا وعزلةً كاملة ووحدةً مطلقة. وليس اكتشاف الحرية — يستطرد تودي — بالشيء البهيج، وإنما هي تحقيق لعزلة الإنسان وهجره. والاختيار الصحيح الوحيد هو الذي يفضي بالإنسان إلى حرية أكبر له وللآخرين، وكل محاولة لإنكار المسئولية إنما تؤدي إلى إنكار الحرية: «إن الرسالة السياسية لمسرحية الذباب واضحة: حارب ضد الغازي الألماني والفرنسي المتعاون معه ولا يأخذنك الندم لما قد تظنه جريمة، وأن جميع الطغاة يخافون من الناس لأنهم يعرفون أنهم أحرار، وإذا أدرك الناس أنهم أحرار فمن المؤكد أن مصير الطغيان إلى الزوال. وأن هذا التفاؤل السياسي يعكس الحماسة التي كان المثقفون اليساريون قادرين بها على الاشتراك في الحرب ضد الألمان.» ولا شك أن هذا المغزى قد أدركه الفرنسيون من المسرحية حين عُرضت في ظل الاحتلال النازي في صيف ١٩٤٣م، ولا شك أيضًا كما يقول موريس كرانستون — في كتابه عن سارتر بين الفلسفة والأدب — أن اختراع سارتر «لطقوس الإثم القومي» في آرجوس التي تخيلها هو هجوم على النفسية الرسمية لفرنسا فيشي، الأمر الذي نبه الرقابة النازية إلى ضرورة وقف العرض المسرحي. أي أن الألمان رأوا — بمعاونة بعض الفرنسيين — أن إيجست هو رمز الاغتصاب النازي وأن كليتمنسترا هي رمز الخيانة الفرنسية.
ولكن نهاية المسرحية أثارت عند نقاد سارتر نقاشًا حادًّا حول الرمز الكامن في مغادرة أوريست لآرجوس وهو يقص عليه حكاية مدينة سيروس التي أصيبت ذات صيف بوباء الفيران فراحت تلتهم كل شيء حتى أيقن أهل المدينة أن حينهم قد حان، إلى أن كان يومٌ جاءهم فيه زامر ناي فوقف في قلب المدينة هكذا — ويمثل أوريست المشهد — وأخذ يلعب على الناي والفيران تتراكم حوله من كل صوب. ثم أخذ يمشي بخطواتٍ واسعة هكذا — يوالي أوريست المحاكاة — صائحًا في وجوه أهل سيروس أن يفسحوا له الطريق — فيفعل أهل آرجوس كالمنوَّمين — حتى رفعت الفيران رءوسها مترددةً كما يصنع الذباب، وفجأةً يصيح أوريست: «انظروا، انظروا إلى الذباب.» ثم يستأنف: وتدفقت في أثره الفيران دفعةً واحدة. واختفى لاعب الناي ومعه الفيران إلى الأبد، هكذا. ويخرج أورست من بين الصفوف وقد اندفعت الإيرنيات من خلفه معولات. يتساءل النقاد وفي مقدمتهم جانسون في كتابه «سارتر بقلمه» ما إذا كان التزام أوريست — أو بطل المقاومة الفرنسية — قد انتهى بتحرير فرنسا، فيجيب سارتر بأن القضية الرئيسية فعلًا في حياة رجال المقاومة — فيما عدا الشيوعيين — كانت بالدقة: «إننا نحارب الألمان، لكن هذا لا يعطينا أي حق بالنسبة للحقبة التي ستلي الحرب.» ولكن جانسون لا يبدي اقتناعه التام بهذه الإجابة مرجحًا أن السبب هو أن رؤيا المقاومة عند سارتر هي أنها «مخاطرة شخصية» لكل مقاوم، فتبدو — من ثَم — كما لو كانت اختبارًا للحرية التي لم تواجه حتى الآن من استجابةٍ سوى نوع من «بطولة الضمير».
وربما كانت مسرحية «الذباب» على وجه التحديد هي التي تحمل الرد الأمثل على ما جاء في كتاب لوك لوفافر «سارتر والفلسفة» من أن «إنسان سارتر يعمل من دون إرادة حقيقية، وإذا وجدت الإرادة عنده فهي لاحقة للفعل، وبالتالي لا معنى لها. إنه إنسان لا يعمل بحرية، بل هو مدفوع وملزم من الداخل. وليست حريته سوى تلك العقوبة التي تكلم عنها برجسون والتي هي محض اندفاع حيوي». وأقول إن المقاومة في مسرحية «الذباب» فعل وقيمة معًا، وبطولتها في «موقف» أوريست لا في شخصيته نفسها. «بالفعل» حرر نفسه أولًا ملتزمًا بتحرير الآخرين، ومن ثَم أصبحت الحرية «قيمة» في حياته وحياة الآخرين. وهذا فيما أعتقد الفرق الحاسم بين أوريست سارتر من ناحيةٍ وأوريست اليوناني القديم من ناحيةٍ أخرى، وهاملت شكسبير من ناحيةٍ ثالثة. فأوريست اليوناني القديم كان مجرد أداة في أيدي الآلهة لتنفيذ القدر المكتوب في لوح السماء، وهاملت شكسبير وقف على حافة الفعل دون أن يغامر بإنجازه. من هنا كان أوريست عند إسخيلوس — في حاملات القرابين — نقيضًا لأوريست عند سارتر، بطلًا تراجيديًّا مقهورًا كتب بمأساته شهادة الوفاة لحرية الإنسان، وكذلك كان هاملت عند شكسبير نقيضًا لأوريست عند سارتر، بطلًا تراجيديًّا كتبت مأساته شهادة العبث للفعل الإنساني. أما أوريست السارتري في «الذباب» فكان بطلًا من أبطال المقاومة في مستواها الرمزي الشامل، أو بمعنًى أدق كان «نظرية في البطولة» اضطر سارتر إلى صياغتها صياغةً تجريدية. لهذا كان الشكل الفني في «الذباب» شكلًا اضطراريًّا ليس مقصودًا في ذاته، وإن حقق هذا الشكل غايته على مستويين: المستوى الفلسفي الذي يجعل من الحرية قوام «المشروع» الذي يتكامل مع كل «فعل» ومع هذا لا يكتمل أبدًا إلا بانتهاء حياة صاحبه. والحرية هنا هي الوجه الآخر للالتزام الفردي الخالص. والمستوى الواقعي الذي يجعل «الإنسانية» بديلًا «للعنصرية»، والإنسانية بصفتها «مشروع حر دائم التطور» لا بصفتها طبيعةً ثابتة أو مثلًا أعلى، والعنصرية بصفتها تصورًا قبليًّا يشبه الجبر الصارم والحتمية الثابتة.
ويستعير سارتر بعض الملامح من الفكرة المسيحية على جانبٍ كبير من الأهمية: أولاهما أن أوريست يتقدم مختارًا ليحتمل عذاب شعبه فيقول لإلكترا يوم الاحتفال بعيد الموتى أمام الغارة والجماهير التي تنتظر فرقًا صحوة موتاها السنوية: «أصغي إلي: هؤلاء الناس الذين يرتعدون خوفًا في حجراتهم المظلمة، ماذا ترين لو أخذت على كاهلي جميع خطاياهم، لو أردت أن ألقب عن جدارة بسارق الندم.» ويجيب بنفسه عمليًّا أمام أهل آرجوس الذين ينتظرون والحجارة في أيديهم عند باب معبد أبولون فيقول لهم بشجاعة منقطعة النظير: «ألقوا عليَّ بخطاياكم وبندمكم: بالضيق الذي يقض لياليكم وبجريمة إيجست، وليضطلع بها كاهلي، لا تخشَوا موتاكم فإنهم موتاي.» كان جوبيتر وإيجست قد استطاعا أن يخدعا الجماهير المسحوقة عن حقيقة أمرها فأصبحت ترى فيمن يهدد «ندمها» عدوًّا لدودًا. وكان أوريست قد صارح إلكترا: «ما بال جوبيتر وبالي؟ العدالة من شئون البشر، ولست في حاجة إلى إلهٍ يلقنني ذلك»، «والعدل تخليص أهل آرجوس من سلطانك، والعدل أن يرد إليهم شعورهم بالكرامة»، ثم واجه جوبيتر بعد ذلك فقال له: «لست السيد ولا العبد، وإنما أنا حريتي، لم تكد تخلقني حتى خرجت من نطاق سلطانك»، «ولن أعود إلى طبيعتك ففيها ألف طريق معبدة وكلها تؤدي إليك. ولكني لن أسير في غير طريقي؛ ذلك أني إنسان يا جوبيتر، وعلى كل إنسان أن يخترع طريقه.»
وطريقه هو أن يفتح عيون أهل آرجوس مهما أصابهم ذلك باليأس، لأن «الحياة الإنسانية لا تبدأ إلا على الشاطئ الآخر من اليأس»، فإذا خاطب أوريست إحدى الإيرنيات «حتي الممات سأظل وحدي» اكتملت صورة المسيح على الصليب وقد أدى شهادته عن العالم، في تلك اللحظة تحققت حريته، كما تحققت حرية الآخرين، ولكن المسئولية بكاملها تقع على كاهله وحده: «وقد فهمتم أن جريمتي هي جريمتي وأنا صاحبها، أصر أمام وجه الشمس على نسبتها إلي، وهي كنه حياتي ومعدن كبريائي، وإنكم لا تملكون لي ثوابًا ولا عقابًا، ومن ثَم كان خوفكم إياي.» وكذلك فإن جوبيتر حين يعرض عليه عرش آرجوس يذكرنا بالشيطان حين أخذ المسيح على مرتفعٍ عالٍ وعرض عليه ممالك الأرض، فاشترط الأول قليلًا من الندم واشترط الآخر ركعةً أور كعتين، ولو أن أوريست أو المسيح قد استجاب لهذا الشرط أو ذاك لسقط، لأن المنفى الاختياري لأورست والصليب الاختياري للمسيح هما «قمة الموقف الإرادي للبطولة والمقاومة»، بغيره تصبح جريمة أوريست جريمةً فردية مهما كان دافعها «الثأر»، وتصبح خطيئة المسيح خطيئةً فردية مهما كان دافعها «يهوذا». وإنما تكتسب بطولة أوريست والمسيح معناها الحقيقي من أنها مقاومة للواقع من أجل المثال ومقاومة للجزئيات من أجل الكل ومقاومة للنسبي من أجل المطلق. هذه الرؤية الصوفية اليقينية هي التي دفعت أوريست بروح الاستشهاد إلى منفاه، ورفعت المسيح إلى خشبة الصليب، بدلًا من عرش آرجوس أو عرش الإمبراطورية الرومانية.
ولكن سارتر ليس مفكرًا مسيحيًّا على الإطلاق؛ بل هو يمزج هذه الفكرة بأكثر الأفكار بعدًا عن المسيحية وهي فكرة نيتشه الصارخة بأن الله قد مات، فيستكمل قولة أحد الإخوة كرامازوف: «إذا كان الله قد مات فكل شيء جائز.» بأنه: «وحتى لو كان موجودًا فنحن أحرار.»
على أن «الذباب» ليست إلا «نظرية في البطولة» اضطر كاتبها إلى صياغتها على هذا النحو الأسطوري في ظل الاحتلال، أما تطبيقاتها فجاءت بعد ذلك بثلاثة أعوام — أي بعد التحرير — في مسرحية «موتى بلا قبور» حيث كانت تجسيدًا واقعيًّا لمفهوم المقاومة والبطولة التي طرحها سارتر فيما سبق. ولكن الواقع يختلف عن الأسطورة في الكثير لأنه يخلو من «المناخ التاريخي» ويمتلئ أكثر فأكثر «بروح العصر»، ومن ثَم تزداد الأهمية البالغة لمسرحية «موتى بلا قبور» كلما توغلنا بين سطورها نكتشف هذه الروح.
وقد كتب سارتر «موتى بلا قبور» عام ١٩٤٦م وإن كانت أحداثها تدور إبان المقاومة الفرنسية ضد النازي عام ١٩٤٤م. ويختلف النقاد السرتريون أنفسهم حول قيمة هذه المسرحية اختلافًا شديدًا، وبخاصة حين يتوجه التقييم إلى الصياغة الفنية، فالبعض يراها أضعف ما كتب سارتر، والبعض الآخر يراها من أنجح مسرحياته. هذا بينما لا يرى فيها جابرييل مارسيل إلا تعذيبًا مقيتًا للذات، ونوعًا من السادية. على أنه مهما اختلف النقاد فيما بينهم، فإن تاريخ المقاومة في الأدب الفرنسي لن يغفل هذا العمل الهام الذي صدر في آونة يصعب خلالها أن يفتح الكاتب المناضل فمه إلا بشق النفس، فالجستابو والخونة من العملاء الفرنسيين ما كانوا يسمحون لمثل هذه المسرحية أن تُكتب أصلًا، لولا أن كاتبها قد أوتي حقًّا من شجاعة الضمير أن يلتزم «بالحرية». وقد جاءت «موتى بلا قبور» التزامًا عميق الدلالة بمجموعة القيم التي سبق له أن أرساها في «الذباب». فها نحن نلتقي بمجموعة من المناضلين الفرنسيين المنظَّمين في صفوف المقاومة السرية وقد ألقت عليهم سلطات الاحتلال القبض ورمت بهم في غياهب السجن. ومن بين هؤلاء المناضلين الفتاة لوسي وأخوها الأصغر فرنسوا. وتتتابع مشاهد التعذيب والاستجواب الوحشي — الذي اقشعر منه جابرييل مارسيل — للإرشاد عن زعيمهم جان، ولكنهم، وهذه هي الخطة الدرامية التي تفتَّق عنها ذهن الفنان، لا يعلمون عن مكانه شيئًا. أي أن التعذيب هنا، بلا ثمن، لأنه لا يكشف شيئًا عن معدن هذه الشخصيات. لذلك كانت أزمة بطولتهم في نقطة البداية التي امتدت في خط سيرها امتدادًا غير متوقع بوصول مناضل جديد إلى السجن، ولم يكن سوى «جان» المطلوب القبض عليه، ولكن سلطات النازي لم تتعرف على حقيقة شخصيته بعد. بوصوله يصبح لدي بقية المناضلين ما «يرشدون» عنه، ما يقولونه، ما يحل أزمة بطولتهم حلًّا عادلًا.
وتختلف «مواقف» الشخصيات وتتفق. تختلف باختلاف «الفرد» بكل ما يمثله من ذاتية وتوحد — وهذا هو الجذر الفلسفي الأول في تفكير سارتر — وتتفق جميعها في معنى المقاومة كتعبيرٍ أمثل عن الحرية والمسئولية، وهذا هو الجذر الآخر في فلسفة سارتر. أما سوربييه فيقذف بنفسه من النافذة في غفلة من الحراس، ويموت. ولم يكن هذا «الموقف» انتحارًا، بقدر ما كان تجسيدًا لزاوية الرؤية التي اختارها — بكامل إرادته — موقعًا للمقاومة؛ ذلك أنه يموت وقد انتصرت هذه الإرادة على الإرادة المقابلة، إرادة التعذيب والقهر فلم يفضِ بشيء عن حقيقة جان وحقق بذلك نوعًا من البطولة، بديلًا للأزمة الضارية أما هنري فيواجه الأزمة في ذروتها، يقبل المقامرة بشروطها ويكسب الرهان. يواجه التحدي بالعذاب ولا يبوح بشيء. هذا نمط آخر للبطولة، لا يقول سارتر إنه أكثر أو أقل أهميةً من سوربييه؛ ذلك أن معيار البطولة في حياة هنري لم يكن قط مدى قدرته على احتمال التعذيب، بقدر ما كان يتحدد بموقفه من «حبيبته» لوسي. ويتدرج الكريشندو بدور لوسي الذي يجيء وقد حزم جان — زعيمها وحبيبها — أمره على ألا يكشف عن شخصيته حتى لا يتسبب في أضرار لا حصر لها لبقية أفراد المقاومة خارج الأسوار. هو يعلم مدى الهمجية التي سيعاملون بها مثل هذه الفتاة الوديعة الجميلة، سوف يهددونها بكل ما يملكون أدوات جهنم وأساليب الشياطين، سوف يذلونها كأبشع ما يكون الذل والهوان، سوف يسلبونها شرفها، ولكن ماذا يستطيع جان أن يفعل؟ إنه بين حبه لها والتزامه بالمقاومة يراه فداء للحرية، حريتها وحريته وحرية الآخرين، تلك هي مسئوليتها ومسئوليته. وتعود لوسي وقد هتكوا عرضها، ولكنها حين تسمع أخاها فرنسوا يصرخ بأنه سيعترف: «إنهم لم يلمسوني، لم يلمسني أحد، لقد تحولت إلى قطعة من الحجر، ولم أشعر بأيديهم وهي ترغمني، كنت أتطلع إلى وجوههم وأفكر في أن شيئًا لم يحدث، كلا، لم يحدث شيء، لقد كنت في النهاية أذيقهم طعم الخوف، إنك إذا اعترفت يا فرانسوا فإنهم يكونون في الواقع قد هتكوا عرضي.» أما هنري فقد سارع إلى قتل الصبي الصغير، دون أن يعترض عليه أحد. ويقبل دور جان ويقبل معه الأمل في إطلاق سراحه، فيخبر الجميع بأنه سوف يضع أوراقه الخاصة في جيب قتيل يوجد على مقربة من المكان الذي يعذبون فيه، وهكذا يستطيعون النجاة بجلودهم إذا أرادوا بالاعتراف عليه، بعد أن يطلقوا سراحه. ويوجه جان حديثه إلى لوسي قائلًا: «إنني ألمح الجفاف في عينيك وأدرك أن قلبك يحترق، ولكن لا يبدو عليك أثر للألم، ولا لقطرة من دموع. لقد استحال كل شيء فيك من فرط التوهج إلى بياض، ينبغي أن تتألمي من كوناك لا تحسين بالألم، لقد فكرت كثيرًا فيما تعرضت له من تعذيب، فما كنت أتصور أن التعذيب يمكن أن يكسبك كل هذه الفظاعة من كبرياء الألم.» وتجيبه لوسي: «قطرة من دموع؟! إنني لا أتمنى غير شيء واحد؛ أن يأخذوني مرةً أخرى ويضربوني، حتى ألوذ من جديد بالصمت وأسخر منهم، وألقي في قلوبهم الرعب، ترى هل كان الذنب ذنبي؟ إنهم هم الذين جرحوا كبريائي، إنني أمقتهم، وإذا كنت في قبضة أيديهم، فإنهم أيضًا في قبضة يدي، إني أشعر أنني قريبة إليهم أكثر من قربي منك.» ذلك أن الذين يريدون أن يخربوا في الإنسان كل ما هو جميل وشريف وقيم — كما يقول أنور المعداوي في كتابه «كلمات في الأدب» — ينتظرون اللحظة التي تنبثق منها رغم أنف الإرادة بادرة من الضعف، إنها بالنسبة لهم، لحظة الشعور بهزيمتنا وانتصارهم. إننا في قبضة أيديهم، هذا صحيح، والأصح منه أنهم أيضًا في قبضة أيدينا. إنهم لن يطلقوا سراح حريتنا، وعلينا أن نعاملهم بالمثل، ألا نطلق سراح حريتهم، حريتهم في أن يرونا يومًا وقد عرفنا الذل والخضوع. إنهم أسرانا، تمامًا كما نحن أسراهم، بهذا نشعر أن وجودنا شيء حقيقي ومجسم، ونشعر أنفسنا بأن وجودهم لا وجود له. ومن الواجب أن ننتصر على أنفسنا، وذلك بأن نلغي من قائمة عذابنا معنى الإحساس بالألم، هذا الألم يجب أن ينهزم، هذا هو المفهوم البطولي للتجربة. تجربة الكبرياء.
ويثور هنري الذي قتل الصبي فرانسوا على فكرة البقاء حيًّا بعد ذلك. وتثور معه لوسي بنفس المقدار والعنف، وهي وإن كانت لا تنسى أنه قتل أخاها، إلا أنها لا تنسى كذلك ما لحق بها على يدَي البربرية النازية، ومن ثَم تدرك إدراكًا عميقًا أن لا حياة لها بعد الآن. وكما كان تعذيبهم في مبدأ الأمر بلا ثمن، لأنه لم يكن لديهم ما يقولونه أو يرشدون عنه، فإنهم كذلك في الخاتمة ينظرون إلى عرض جان على أنه هدية بلا ثمن لأنه يوفر لهم الحياة في وقتٍ لم يعودوا بحاجةٍ إليها، إنها حياة بلا ثمن. ولكن سارتر يحسم هذه المناقشات والخواطر بدخول ضابطٍ نازي عليهم يتغلب على شكه فيهم وحذَره منهم برميهم جميعًا بالرصاص.
والمسرحية في هذا الإطار — كما يقول أمير إسكندر في كتاب «سارتر مفكرًا وإنسانًا» — يمكن أن تعتبر دراسةً لسيكلوجية المقاومة من جانب، وسيكلوجية التعذيب من جانبٍ آخر. وليس في المسرحية أفكار فلسفية جديدة بارزة، ولكنها تتضمن مواقف أخلاقية — لها أساسها الفلسفي بالطبع — حين يواجه كل فرد تجربة التعذيب، فيدرك أنه حر ومسئول ووحيد في أي قرار يختاره وهو على حافة الموت. ولعل هذا الموقف يبدو مركزًا غاية التركيز مثيرًا للانفعال العنيف في الفصل الثالث والأخير من المسرحية حين لا يتبقَّى من الزمن سوى بضع دقائق يحسم فيها كل فرد من أفراد المقاومة أمره ويختار بين الصمود والتسليم.
•••
هل يحق لنا الآن أن نستخلص من مجموع هذه الأعمال، بعض الخصائص التي تميز مسرح المقاومة عن غيره من الأشكال الدرامية المألوفة؟ أعتقد أن الإجابة لن تكون بالنفي، ولكن هذا لا يعني تلقائيًّا أنها بالإيجاب. فلا شك أن المعالم الرئيسية في مسرح المقاومة ليست خروجًا على المسرح الدرامي التقليدي في كل زمان ومكان، ولكني أعتقد أن ثمة إضافةً حقيقية أمكن لفكرة المقاومة — كمحور فني — أن تضيفها إلى الأبنية المسرحية المعروفة. هذه الإضافة — في إيجازٍ يلخص السمات الجوهرية — أن بطل المقاومة ليس بطلًا تراجيديًّا كما أنه ليس بطلًا ملحميًّا؛ بل هو ليس بطلًا لإحدى المطلقات أيا كانت، دينية أو عرقية أو أيديولوجية. ذلك أن المقاوم قد يموت حقًّا كالقديسة جون ولوسي، ولكنه ليس موتًا «تبريريًّا» لبذرة الانقسام الداخلي، كما أنه ليس موت الصدفة العبثية التي تصم الكون باللامعنى والحياة باللاجدوى، وإنما موت محتمل، موت اضطراري، نتيجة «النسبية» التي تربط البطل ببقية الأطراف، وفي مقدمتها الأرض. والموت في حياة المقاوم هو جسر بين الواقع والحلم، هو استباق لقيمةٍ جديدة يرسيها مكان القيمة القديمة؛ لذلك كان رؤيا وشهادة. وبطل المقاومة، شهيدًا، هو في الطليعة من أنبياء التحرير الوطني، فهو لم يتردد على حافة الفعل متعلقًا بحبل مشدود ومتسق من «الأفكار»، هو لم يعانِ هذا الانفصام بين الفكر والعمل. وإنما هو يحمل أفكاره بين جنبيه ويذهب إلى رحلة التحدي، رحلة الموت والحياة. فالموت على الشاطئ الذي يقف عليه قبل أن يبحر، شاطئ السكون الأبدي للفكرة وهي بعدُ جنينًا ستاتيكيًّا يجول بالخواطر، والحياة على الشاطئ الآخر الذي يصل إليه بعد أن يتم الإبحار، شاطئ الحركة الخلاقة للفكرة وقد تحولت إلى مرحلة النضج والديناميكية، هذه الرحلة التي قطعها أبطال برنارد شو وروبلس ورولان وأوكيزي وسالاكرو وسارتر، فمات بعضهم وعاش البعض الآخر، ولكنهم جميعًا في حياتهم وموتهم أعطونا علامةً على الطريق الصحيح، وهو الطريق «التاريخي» في بعض هذه الأعمال، «الأسطوري» في بعضها الآخر، «الواقعي» في معظم الأحيان. ولا تدل «العلامة» التي أُعطيت لنا على الماضي فحسب، بقدر ما هي إلهام للحاضر والمستقبل.
وعلامتنا تقول إن بطولة «الفرد» في المقاومة، ليست بطولة «فردية» وإنما تنسجها الجماعة في وحدة وصراع لا ينتهيان. وتقول أيضًا إن الاستشهاد ليس امتيازًا لرجل أو امرأة مفطورة على البذل والفداء، وإنما هو رؤيا يقينية تكاد تقترب من الرؤيا الصوفية. وتقول العلامة أخيرًا إن أزمة البطولة في المقاومة ليست أزمة من نوع فريد خاص يتميز به البطل دون سواه من البشر، وإنما هي إحدى أزمات الإنسان العادي في حياته اليومية وقد اكتسبت معناها الحقيقي وأبعادها في حياته النضالية.
وقد انعكست هذه «العلامات» على الصياغة الجمالية للمسرح، فباعدت بينه وبين البناء الكلاسيكي خطوات، ومهدت لما نسميه اليوم بالمسرح الملحمي. فالمسرح السياسي الذي نادى به المخرج الألماني بسكاتور هو الجذر النظري للمسرحية الملحمية، ولكن المقاومة — كقضية سياسية في المقام الأول — تبرز في واقع الأمر كواحدة من أهم الشعيرات الجذرية التي أمدت المسرح السياسي ومِن بعده المسرح الملحمي بماء الحياة. ولعلنا نلاحظ أن المقاومة — أو ثورة التحرير — قد أمدت العمل المسرحي بثورات متلاحقة في مجال الفن، ولقد احتوت هذه المجموعة من أعمال مسرح المقاومة التي عرضنا لها أهم هذه الثورات من تحطيم للوحدات الأرسطية الثلاث، إلى استخدام الفلاش باك والمونولوج الداخلي، إلى توظيف الأسطورة توظيفًا حيًّا خلَّاقًا. وعلى الرغم من أن المقاومة تعني «الاستقطاب» بصورةٍ من الصور، بين قوتَين متعارضتَين، إلا أن «الحركة» المسرحية في أدب المقاومة قد تغلبت على ما يمكن أن يبدو من تصنيف متعسف لقوى الخير والشر في الإنسان. هكذا كانت جان دارك «إنسانًا» تتنازعه عوامل الصمود والتسليم، وهكذا كان مونسيرا ضابطًا في جيوش الأعداء ولكن «ضميرًا» له قد استطاع تجنيده إلى جانب الثوار. فالمقاومة ليست «أبيض وأسود» لأنها تخرج عن دائرة المطلقات الكلاسيكية الرومانسية، الواقعية والغيبية، إلى تخوم النسبية بين الإنسان والكون، بين المواطن والأرض. وهي العلاقة التي ندعوها باسم «الحرية».