أبطال المقاومة في المسرح المصري
تفرض الواقعة التاريخية نفسها فرضًا على الكاتب المسرحي إذا تصدى لمعالجة قضية المقاومة الوطنية، سواء عبَّرَت عن نفسها في بطولةٍ فردية بعينها أو في بطولة الشعب في مجموعه. ولعل العلاقة بين التاريخ وفن المسرح من أوثق العلاقات وأقدمها بين صفحات التاريخ وأشكال الأدب المختلفة، فالحدث التاريخي بطبيعته يقدم للكاتب نوعًا من المادة الدرامية الخام يتناولها أثناء الصياغة الفنية بشيء من التعديل وفق منهجه في التعبير ورؤيته في التفكير. وهو في جميع الأحوال يضيف «وجهة نظر» إلى الواقع التاريخي، مهما اقتصر عمله على «إعادة الصياغة» لأحداث التاريخ وبعثها من جديد أو تجاوز هذه الخطوة إلى اتخاذ هذه الأحداث هيكلًا رمزيًّا يومئ به إلى مشاهد حية ومعاصرة. وإذا كان «التاريخ» مفيدًا إلى هذا الحد بالنسبة للكاتب المسرحي بشكل عام، فإن فائدته تتضاعف حين تكون «المقاومة» هي المحور الدرامي للكاتب، حينئذٍ يمده التاريخ الوطني للشعب الذي ينتمي إليه ببطولاتٍ «جاهزة» لا حد لإغرائها وقدرتها على تجسيد الهدف الذي يرمي إليه الكاتب.
وربما كانت الفترة التي عالجها عادل الغضبان في مسرحية «أحمس الأول» هي أقدم الثورات في تاريخنا التي صيغت في قالبٍ درامي، إذا استثنينا «سقوط فرعون» لألفريد فرج، وهي لا تتخذ من «المقاومة» خامةً فنية، وإذا استثنينا «كفاح طيبة» لنجيب محفوظ، وقد صاغها في قالبٍ روائي، وإذا استثنينا مسرحية «إيزيس» لتوفيق الحكيم، والمقاومة فيها ليست ضد الغزو الأجنبي، وإنما هي أقرب إلى الصراع بين العدل والظلم، أو بتعبير صاحبها بين الخير والشر. أحمس الأول إذن، من هذه الزاوية وحدها، هي العمل الدرامي الوحيد الذي تناول مرحلةً نضالية موغلة في القدم في كفاح الشعب المصري، هي الثورة على الهكسوس عام ١٨٥٠ قبل الميلاد. وقد نشرت هذه المسرحية لأول مرةٍ عام ١٩٣٤م، ومثلتها فرقة فاطمة رشدي وعزيز عيد إبان الموسم المسرحي ١٩٣٥-١٩٣٦م بالقاهرة. وعلى النقيض من مسرحيات شوقي الشعرية التي اتخذ فيها من آلام الوطن خامةً فنية وركز من حيث يدري أو لا يدري على لحظات الضعف في تاريخنا، نجد أن مؤلف «أحمس الأول» قد اختار عن عمدٍ إحدى لحظات «القوة» التي انتفضت بها مصر وطردت المحتل الغاصب في أول ثورة تحريرية من ثوراتها. على أن المؤلف وقد اختار لحظة «القوة» هذه لم يشأ أن يجمد أحداث مسرحيته في إطار من الشخصيات الإيجابية المسطحة والمواقف اليسيرة المبتذلة، بل هو قد أيقن، والهدف يتراءى أمام عينيه أن يمجد بطولة الشعب المصري ويحفز نضال المعاصرين، أنها مهمةٌ شاقة غاية في الصعوبة أن يباعد بينه وبين «الهدف» خطوات تخلق مسافةً موضوعية يرى خلالها الفنان ما تستعصي عليه رؤيته عن قرب. فليس «النصر» هدفًا يسير المنال، وليست «المقاومة» وسيلةً هينة التحقيق، وليست «البطولة» زادًا يغتذي منه كل البشر. لهذا تبدأ أحداث الفصل الأول بكلمات منزوفيس — صاحب الخزانة — في حواره الحزين مع الوزير فرباس: «لا فائدة من إحياء ذكرى ما سلف، فلنا الساعة التي نحن فيها، حرب أتت على الزرع والضرع، وليس لنا من احتدامها بريق أمل في النصر. فهل أنتم مصرون على الذهاب فيها حتى النهاية؟» أي أنه من هوة اليأس يبدأ الكاتب عمله، فالاضطراب الداخلي والخزانة الخاوية وتمرد أهل النوبة، كل هذه تضافرت في وقتٍ واحد لتقطع الطريق على كل من يفكر في إنقاذ مصر من براثن الهكسوس. ولقد كان الفصل الأول من هذه المسرحية هو أوفى أجزائها بتجسيد المضمون الدرامي الذي استهدفه المؤلف. فهو لم يتورط حقًّا في شباك إحدى فترات الانحلال التي حاقت بالتاريخ المصري القديم، ولكنه حين وضع يديه على إحدى مراحل النصر، لم يستغرق في النصر حتى تغيم عليه الرؤيا وتتحول المسرحية إلى تحيةٍ ساذجة لذكرياتٍ غابرة. وإنما كان همه الأول هو الاستغراق في «المقاومة» التي أدت إلى النصر. من هنا يكاد الفصل الأول أن يكون أقرب الفصول إلى تحقيق هذه الغاية، فبارقة الأمل الوحيدة التي تخللت مشاهده هي تلك السطور القليلة التي جاءت على لسان حابي، رئيس العيون: «لو وقف صديقنا منزوفيس على ما وقفت عليه أنا نفسي من حماسة الشعب لأيقن أننا نستطيع أن نعد من ذلك الشعب جيشًا يفتتح السماء، كنت مارًّا أمس ببعض القرى والمزارع فرأيت الفلاحين والزرَّاع من شيخٍ وصبي وفتاة يتحدثون عن الحرب، وكلهم شعلة نار متأججة.» في هذه الأسطر وحدها تكمن بارقة الأمل التي يحدد بها عادل الغضبان الإطار الاجتماعي للثورة، فهي حقًّا ثورة مصر كلها؛ لأنها ثورة على الاحتلال الأجنبي، ولكنها في نفس الوقت ثورة مصر الكادحة التي تعنيها «أرض الوطن» أكثر مما تعني لدى مصر الأرستقراطية التي يتكالب قوادها على المناصب والشهوات، فالوطن عند هؤلاء يجذب ولاءهم ولكن للتسلط عليه. أما فلاحو مصر وزُرَّاعها وفقراؤها فهم يقفون صفًّا واحدًا ضد الغاصب، ليس طمعًا في سلطة أو نشدانًا لغواية أو لذة، وإنما لكونهم — ببساطة — أصحاب هذه الأرض الشرعيين. على أن الفصل الأول لا ينتهي إلا وقد مات الملك أثناء نزاله للعدو بالقرب من أسوار أفاريس التي يحتمي الهكسوس في قلعتها الحصينة، يفصلها عن مرمى السلاح الجبل والماء. هنا يبرز اسم أحمس على سطح الأحزان، فليست شقيقته نفرتاري — التي تستحق العرش — بالقائد والملك الذي يستطيع أن يحول الهزيمة إلى نصر. حينئذٍ يضطرم المسار الدرامي للأحداث بمزيد من التوتر؛ فابن قوش حاكم النوبة وصل إلى طيبة وهدفه السعي في الزواج من نفرتاري، وهو يطمع من وراء هذا الزواج أن يستقل بعرش النوبة أولًا حتى يتسنى له الطموح إلى الفوز بعرش مصر كلها. وهناك فيما يقول الوزير فرباس: «نفر من الحكام ورجال القصر ممن اشتراهم العدو بالمال، وفسح لهم في المطامع والآمال ينفثون سمومهم في البلاد. ويذيعون فيها أنباء الهزائم التي مُني بها جيشنا الباسل. ويثبطون عزيمة الشعب. ويحملون أخاك، رحمة الآلهة عليه، تبعة هذه الحرب وما جرَّته على مصر من خراب ودمار.» وكذلك يعلن صاحب الخزانة منزوفيس أن الدولة أوشكت على الإفلاس وأن المجاعة تهدد البلاد من أدناها إلى أقصاها. وليس من بدٍّ أمام الأمير أحمس إلا أن يتزوج شقيقته نفرتاري فيؤمِّن المال والرجال؛ إذ يستطيع أن يقترض للوطن من أموالها التي لا تحصى ولا تعد، ويستطيع أن يؤدب حاكم النوبة الطموح وأن يعزل قواد قصره الداعين للاستسلام إيثارًا لأنفسهم على الوطن. ولكن هذا الاقتراح الجامع المانع الذي يهيئ لأحمس — إذا توج ملكًا — أن يقود الحملة المقدسة ضد الرعاة الغاصبين، لا يعرف طريقه إلى التنفيذ بسهولة ويسر؛ ذلك أن أحمس قد وقع منذ بعيد في هوى «نزيتا» ابنة حابي الجميلة، وقد وعدها بالزواج، فكيف يتأتى له أن يهجرها ويسلوها، وكيف يتأتى له أن يزف إلى شقيقته وهو لا يحس نحوها بغير عاطفة الأخوة؟ ولا تفهم نزيتا الأمر على النحو الصحيح فتتهم أحمس بالغدر والخيانة، والقلب بين أضلعه يعتصره الأسى، يزف إلى أخته ويتوج ملكًا ويقود الجيش حول أفاريس المحصنة، تاركًا نزيتا نهبًا لمشاعر الحقد على الوزير فرباس وقد ظنت أنه الذي خطط مستقبلها الفاجع، تاركًا أيضًا طاهو رئيس الحرس يداعب رأسه الأمل في أن يحظى بالفاتنة ابنة رئيس العيون. ولكن أحمس الذي أضناه صدى الصوت المعذب، أصغى أخيرًا إلى هدير الشعب يهتف: «عاش أحمس الأول.» فلم يعد يولي الماضي انتباهًا، بل تولى قيادة الجيش والحكم مسلحًا بإرادة الشعب في الخلاص من الغاصب الأجنبي والفساد الداخلي، معًا وبغير انفصال. ويسدل الستار على الفصل الأول وقد تزودنا بمجموعةٍ معقدة من الصراعات التي تستلهم «روح» التراجيديا اليونانية، ولكن في قالبٍ أقرب ما يكون إلى الرومانتيكية الرامزة إلى هذا الصراع المر الذي عاشته مصر في أواسط الثلاثينيات. وهو الصراع الذي يتخذ من «قصة الحب» مرتكزًا لسير الأحداث وتطورها حتى تبدو «التضحية» من جانب الملوك ذات معنًى. والكاتب يبذل جهدًا كبيرًا في استلهام الأحداث الواقعية المعاصرة له، فالمناخ الذي يسود على مصر الواقع، بعيدٌ كل البعد عن المناخ السائد على مصر التاريخ، ولكنه قريب كل القرب من مصر الدراما. وهذا ما أشير إليه بالجهد الذي بذله عادل الغضبان في معادلة الواقع معادلةً فنيةً قادرة على امتصاص الحاضر بالاتكاء على الماضي واستشراف المستقبل، وقد أنقذته هذه المعادلة الموضوعية من «الاستغراق في النصر» خاتمة المسرحية من ناحية، ومن الاستغراق في «الهزيمة» بدايتها من ناحيةٍ أخرى. لقد آثر في الفصل الأول من هذا البناء المركب من «الاستغراق في المقاومة» حتى نلتقي في الفصل الثاني بقادة الجيش المصري على مقربة من أسوار أفاريس القاعدة الحربية للهكسوس، وعلى مرمى النظر منها مضارب خيام لجيش أحمس، والجنود قد تلهَّت في الغناء والطرب وثلاثة من القواد يتحاورون حول الموقف العسكري وقد تسربت إليهم الأنباء القائلة بأن طاهو رئيس الحرس هرب مع نزيتا ابنة رئيس العيون الذي مات همًّا، ويخلو الملك أحمس بقواده ليتعرف على مدى استعداد الجيش للقتال. ثم ينفرد بوزيره فرباس ليبثه شجونه خاصةً بعدما نما إليه من خيانة طاهو ونزيتا. ويفاجأ الجميع بالجنود يدخلون على الملك وبين أيديهم امرأة ملثَّمة أبت أن تفصح عن شخصيتها إلا بين يدي أحمس، ولم تكن سوى نزيتا التي وُوجهت بعاصفة من العداء إلى درجة المطالبة برأسها. ولكنها في هدوء واعتدادٍ طلبت أن تخلو إلى الملك، فكشفت له سرها. لقد ذهبت مع طاهو حقًّا إلى قلعة العدو، لا هربًا من وطنها، وإنما لتوغر صدور المصريين ضد أعدائهم ولتضع يديها على نقاط الضعف في خطط العدو. وها هي ذي قد جاءت اليوم لتقول إن ملك الهكسوس وقادتهم سيحتفلون الليلة حتى الصباح فيقيمون الولائم الفاخرة ويشربون الخمر المعتَّق. وإنها لتعلم بأن رئيس حرس البوابة الكبرى للقلعة صريع هواها، فماذا لو راودته عن نفسها حتى يفتح البوابة ويدخل الجيش المصري ساعة الحفل والسكر، فيطبق على عدوه من كافة الجهات ويطهر البلاد من رجسه إلى الأبد. ولكن أحمس يرفض هذه الحيلة من نزيتا وإن صدقها القول وغفر لها واستودعها مع جنوده في طريق عودتها إلى أفاريس، إنه يتخذ أهبته للهجوم الليلة حقًّا، ولكن بغير الحيلة «النسائية» التي رفضها مرتين؛ رفضها لأن البطولة في مقاومة العدو لا تتأتى عن طريق المكر والخداع وإنما بالمواجهة والشجاعة، ورفضها لأنه ما يزال واقعًا تحت سيطرة الهوى، فلا يسمح لنزيتا أن تعرض نفسها لخطر المغامرة. ولكن نزيتا حين تعود لا تتوانى عن التحضير لغواية رئيس الحرس ولا عن الصراع مع طاهو حتى وعدته بالزواج إن هو هجر العدو وقتل رئيس الحرس وانضم إلى قوات مصر وكانت هذه هي أحداث الفصل الثالث والأخير؛ فقد انتشى رئيس الحرس بالتمني الذي رسخته نزيتا في أعماق فؤاده، وتحول طاهو عن موقفه إلى جانب الأعداء إلى موقف أبناء وطنه، ورقصت نزيتا في حضرة ملك الهكسوس وكادت أن تُزف إلى الهاوية حين اكتشف سرها في اللحظة الأخيرة؛ فقد سمعها أحد القواد وهي تأمر طاهو: «اقتله.» فلما جاء الجند بنبأ مصرع رئيس الحرس أبلغ القائد مليكه بريبته في هذه المرأة الجميلة. ولكن الوقت كان قد فات ودخل أحمس بجيشه وانضوى طاهو تحت لواء هذا الجيش فقاتل حتى قُتل. وكذلك الأمر مع نزيتا؛ فقد أدت مهمتها على خير وجه ولكنها لا تجد لنفسها مكانًا في قلب حبيبها فتقتل نفسها هي الأخرى وتموت شهيدة الهوى والوطن. ويكاد أحمس أن يترنح من هول ما حدث، ولكنه يتمالك على نفسه ويخاطب الجميع: «أيها القواد والجنود، إن هذه الفتاة التي آثرت الموت على الحياة هي نزيتا ابنة حابي، رحمتها الآلهة. إنها لمثال يُحتذَى في الوطنية والتضحية وإنكار الذات. فخلِّدوا ذكراها وحيُّوا فيها إيزيس منقذة الوطن.»
والمسرحية على هذا النحو أقرب إلى روح التراجيديا اليونانية منها إلى روح الملحمة الشعبية العربية، ولعل البطولة فيها معقودة لنزيتا لا لأحمس الأول كما شاء المؤلف أن يعنون مسرحيته، فالحق أننا لا نلمح أية بطولة في شخصية أحمس منذ أن تُوج ملكًا وتزوج من شقيقته ليدرأ عن البلاد شر الفتنة، وما يتواتر إلينا من أخبار قضائه على مؤامرات حاكم النوبة ورجال القصر ينسج حوله بطولة «بالسماع» تبعد خطوات عن محور المسرحية، وهو النضال ضد الهكسوس. هذا النضال الذي يتجسد حقًّا في نزيتا ومأساتها التي بدأت خلال صراعها الداخلي مع النفس حين تخلى عنها أحمس ليتمكن من تولي شئون الجيش والحكم ثم تطور خلال «هربها» مع طاهو حيث تعرضت سمعتها عند بني وطنها إلى درجة الاتهام بالخيانة، وحيث تعرضت حياتها للخطر بين جدران قلعة العدو طمعًا في جمالها من ناحية، وحذرًا من كونها مصريةً من ناحيةٍ أخرى. وبين هذين الاعتبارَين القاسيَين بذلت نزيتا من هدوء النفس والتجلد بالصبر وقدح الذهن ما أحالها إلى ما يشبه «الهيكل العظمي»، فلم تنسَ لحظةً واحدة أنها بالرغم من كل ما أصابها لا بد أن تبحث لجيش بلادها عن ثغرة ينفذ منها ليقتحم على العدو حصنه الحصين. ولقد كانت شخصية «طاهو» من العناصر الدرامية التي أجاد الفنان رسمها لتكون بمثابة المرآة العاكسة لصراعات نزيتا مع نفسها ومع الوطن. ولولا أن الكاتب قد عمد إلى «تركيب» شخصية نزيتا على هذا النحو المعقد حيث يتداخل الحب الأصغر مع الحب الأكبر، وتختلط صورة الرجل بصورة الوطن، وتتشابك الأفكار والعواطف؛ لجاءت نزيتا نموذجًا للبطولة التراجيدية. ولكن المؤلف قد آثر أن يجعل منها بطلًا وطنيًّا تبدأ مقاومته — في مقدمة المسرحية — مع النفس، وتنتهي عند الخاتمة مع العدو الخارجي. ولولا الأسلوب الغنائي والصياغة اللغوية الكلاسيكية التي تباعد بين العمل الفني ولغة المسرح، لكانت هذه المسرحية في مقدمة الأعمال التي يؤرخ بها النقاد للمسرح المصري. على أنها بالرغم من ذلك تشق لنفسها مكانًا بارزًا ورائدًا في طليعة المسرح الوطني الذي يتخذ من المقاومة محورًا دراميًّا، ومن البطولة البشرية ينسج أزمة الصراع بين الحلم والواقع.
•••
وتعد مسرحية «الراهب» للويس عوض هي العمل الدرامي التالي مباشرةً لأحمس الأول، من حيث اختياره لمرحلة زمنية تالية لأحداث طرد الهكسوس، تلك هي مرحلة الثورة الاستقلالية التي نشبت في الإسكندرية عام ٢٩٦م بزعامة الوالي الروماني لوشيوس دومتيوس دومتيانوس الذي لقَّبه الإسكندريون بآخيل. وبالرغم من أن المسرحية تقول لنا إن المصريين — مسيحيين ووثنيين — هم الذين فجروا الثورة على روما، وكان آخيل كغيره من الولاة الآخرين في بقية أنحاء الإمبراطورية، على وعي نافذ بما آلت إليه روما من تفسخ وما أوشكت عليه من انهيار، فاعتلى الموجة الثورية التي قادها المصريون بالفعل ولكنهم التقَوا مع آخيل في نقطةٍ جوهرية، هي أنه يملك «الوسائل» للحصول على السلطة، ويتفق معهم في هدف مرحلي هو الخلاص من ربقة الطاغية دقلديانوس. وتُقدم المسرحية راهبًا متمردًا على الكنيسة الرسمية والبطريرك، هو «أبا نوفر» تقدمه بطلًا تجسدت فيه أحلام الشعب وتناقضاته، بينه وبين نفسه، وبينه وبين السلطة الرومانية، وبينه وبين السلطة الكنسية، وبينه وبين الرومان المتمردين على روما. ولقد عُني لويس عوض بإبراز بطولة أبا نوفر التراجيدية أكثر من عنايته بما يربط أبا نوفر بهذا الشعب الذي يمثله والذي جعل منه «بطلًا» أولًا، قبل أن يصبح بطلًا تراجيديًّا. أي أنه أولى اهتمامه «لأزمة البطولة» لا «للبطولة» نفسها، وتورط من ثَم في تناقض أصيل بين أن يكتب تراجيديا كلاسيكية يطبق عليها مواصفات أرسطو تطبيقًا صارمًا، وبين أن يكتب مسرحيةً وطنية تسجِّل نضال مرحلة شبه مجهولة في التاريخ المصري.
إننا نتعرف على أبا نوفر تعرفًا حقيقيًّا مع بداية الفصل الثاني حين يزف إليه النبأ الفاجع: لعنة الكنيسة التي أعلنها البطريرك حين سمع أن راهبًا من رعاياه يدعو العامة إلى حمل السلاح ضد الرومان. حينئذٍ فزع أبا نوفر صارخًا: «ماذا فعلت؟ الفداء، الفداء؛ هذا دين المسيح، أنا أقول كل مصري يفدي مصر بدمه يدخل الملكوت.» والراهب بهذا المعنى لا يمثل الوجه الرسمي للكنيسة المسيحية في مصر بالرغم من المسوح السوداء التي يرتديها، وبالرغم من أن هذه المسوح — وهذا هو التناقض الأول في حياته — هي التي تصل بينه وبين جماهير المسيحيين من حيث الشكل، بينما كانت دعوته إلى الثورة والاستقلال هي همزة الوصل بينه وبين كافة المصريين على اختلاف أديانهم من حيث المضمون. لقد هبُّوا جميعًا يهتفون: «أبا نوفر والحرية، مصر والحرية.» ولكن أبا نوفر إلى جانب كونه راهبًا «ضد الكنيسة» من أجل مصر، فإنه يكتوي بتناقض آخر هو كونه إنسانًا «يعشق الراقصة مارتا» التي تذكرنا من ناحية المظهر بتاييس غانية الإسكندرية التي عرفناها بين صفحات أناتول فرانس. وأن «يعشق» أبا نوفر، الراهب والثوري، فإن اللعنة هذه المرة لا تجيئه من الكنيسة، وإنما من نفسه أولًا ومن مارتا زميلته في الكفاح ثانيًا، ومن الرومان والمصريين والمحيطين به أخيرًا. ومهما صرخ: «أنا خدمت الله، خدمت الناس، ولا أطلب إلا حقي في الحياة.» فإن صيحته تذهب أدراج الرياح ما دامت اللعنة قد أمست لعنتين. وكما أنه تقبل لعنة البطريرك واستمر في النضال، فإنه تقبل أيضًا لعنته لنفسه وجاءت مارتا في الظلام «ثم انصرفت مع الصباح» واستقرت في بنائه دعائم السقوط. وبينما نتوقع سقوطًا «عظيمًا» لهذا البطل بمقتضى بنائه التراجيدي الكلاسيكي الذي يكاد يشابه في «لعناته» القدر اليوناني القديم، فإننا نفاجأ بالسقوط يتم لسبب أبعد ما يكون عن جوهر التراجيديا، هو أن أبا نوفر كان على صواب في خطته العسكرية لحماية مصر، من دقيانوس، وكان القادة الرومان على خطأ، ولكن خطأهم كان أسرع من صوابه فسقطت الإسكندرية وانتحر أبا نوفر. وتزايلنا المفاجأة حين نتذكر التناقض الأصيل في بناء المسرحية بين الصياغة التراجيدية للبطل، وبين الثورة الوطنية كمضمون للدراما. لقد كان لزامًا على أبا نوفر أن «يسقط» كأي بطل تراجيدي بالمعنى الأرسطي — الذي آثره المؤلف — ولكنه في مسرحية الراهب لم يسقط بطلًا «تراجيديًّا» وإنما سقط «بطلًا وطنيًّا»، كان السياق الأصيل يحتم عليه أن يكون «هو» مصدر مأساته، سواء كانت «هو» هذه قدرًا أم اختيارًا وإنما المهم أن يكون انقسامه الداخلي هو العامل الرئيسي في المأساة. لا أن يرسم له الكاتب قرب النهاية «دورًا» آخر: أن يموت فداء مصر وتصبح آخر كلماته: «اليوم كل مصري أبا نوفر.» وتنتهي المسرحية بمكتبة الإسكندرية وهي تحترق، فيقول الضابط أبيب للمؤرخ مانيتون: «لا تجزع على كتبك يا مانيتون. كم احترقت قبل الآن وكم ستحترق. هكذا تسخِّر الآلهة كل غاز يضرم فيها النار لتذكر الدنيا أننا عقل العالم وضميره، وما دام في مصر حي يفكر، فليحرقوا وليحرقوا، فلن نتعب من البناء.»
ومعنى هذا أن لويس عوض كان يرغب في أن يكتب «مسرحية وطنية»، ولكنه رغب في نفس الوقت في أن يكتب «تراجيديا كلاسيكية» فتناقض تكوين البطل مع تكوين الدراما، ولم تعد أزمة البطل أزمة «موضوعية» تجسد تناقضات حركة المقاومة المصرية آنذاك، وإنما تحولت إلى أزمة «شخصية» — ولا أقول ذاتية — عبَّرَت عن صاحبها أكثر من تعبيرها عن المرحلة التاريخية التي أراد أن يعالجها المؤلف. ونحن لا نكاد نجد للشعب المصري في المسرحية وجودًا حقيقيًّا إلا كأصداء خافتة من بعيد، أو كأشباح غيلان لا ترحم إذا وليت السلطة في محاكمة فتاة اتهمها أبا نوفر بالخيانة. ويبدو أن تعذر قيام بطل تراجيدي حسب المواصفات الأرسطية في عصرنا الحديث، وأيديولوجية الكاتب التي تناول على ضوئها جماهير الشعب المصري «كغوغاء»، وتصوراته الرومانتيكية التي لا يجيد الخلاص منها، وفكرته الميتافيزيقية عن «مصر» كروح وحضارة، ويبدو أن هذه العناصر مجتمعةً قد حالت بشكل واضح دون أن تكتمل لمسرحية «الراهب» مقومات البطولة الوطنية في مسرح المقاومة، فأضحت أقرب إلى أن تكون مسرحيةً فكرية تتخذ من التاريخ إطارًا فنيًّا لها. ولكن هذا لا ينفي أنها في هذه الحدود قد أضافت إلى حصيلة الأدب المسرحي في بلادنا عملًا يقوم بمهمة صعبة ومزدوجة، هي أن يغطي بالفن مساحةً زمنية شبه مجهولة في تاريخنا، وأن يقدم محاولةً رائدة في صياغة البطل التراجيدي المصري.
•••
وتُعد الحروب الصليبية التي حاولت بها أوروبا غزو الشرق العربي تحت راية المسيح هي المرحلة الثانية في كفاح شعبنا ضد الأجنبي المحتل، التي تمثلها لفيف من كُتابنا أو تنبه إليها بمحض المصادفة حين أعلن المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب عن مسابقة في كتابة مسرحية تسجل هزيمة الفرنسيين في المنصورة. والحق أنني لم أجد في مسرحية يعقوب الشاروني «أبطال بلدنا» عملًا دراميًّا يرتفع إلى مستوى الحدث التاريخي؛ بل كانت أقرب ما تكون إلى اللوحة الوثائقية بالرغم من حصولها على الجائزة الأولى. وكذلك جاءت مسرحية علي أحمد باكثير «دار ابن لقمان» عملًا يجانب الصواب فيما استهدفته تلك الحروب؛ فقد آثر أن يبرز الوجه الديني للمعركة، بينما كانت القضية فيما أظن معركةً ضد الاستعمار بمعناه الاقتصادي والسياسي.
لذلك كان لا بد لنا من أن نتجاوز عتبات تلك المرحلة التي يؤرخ لها بعام ١٢٥٠م إلى عتبات العصر الحديث الذي نؤرخ له بالحملة الفرنسية على مصر. وتكاد أن تكون مسرحية ألفريد فرج «سليمان الحلبي» هي العمل الفني النموذج في استلهام تلك الفترة الدامية من تاريخنا؛ ذلك أنه قد تناول المرحلة التالية لثورة القاهرة الأولى حيث كانت الأنقاض والخرائب والمقابر ما تزال ترسم الخطوط الرئيسية في خريطة مصر وصورة عاصمتها على وجه الخصوص. ولقد تخلص مؤلف «سليمان الحلبي» من الكثير من شوائب الجبرتي التي تزيد الضباب ضبابًا، ولا تبلغ بنا وجه اليقين. فلم يكن سليمان مجرد أحد «القتلة السياسيين» أو «مجاهدًا دينيًّا» ضل سواء السبيل، وإنما كان سلمان منذ اللحظة الأولى التي طالعنا فيها وجهه «بطلًا ملحميًّا»، أزمته جماع أزمات الوطن الذي ينتمي إليه، وبطولته هي بطولة الشعب الذي أنجبه من صلبه، فهو لا يعاني من أزمات «الذات الملعونة» مثل أبا نوفر، وإنما هو رادار بشري يعكس أزمة المجتمع الذي يعيش وسط تناقضاته انعكاسًا موضوعيًّا. والمسرحية لا تنتهي بفاجعة، على الرغم من المصير المحتوم الذي يواجه سليمان الحلبي منذ أن قدم من الشام إلى أن همس لأصدقائه بما اعتزمه من قتل كليبر، إلى أن أغمد خنجره في مكان القلب من ساري عسكر الفرنسيس. إن هذه النهاية التي أجابت عن سؤال سليمان: «الظلم أم العدل؟ هذه هي المعضلة.» لم تكن قط نهاية تراجيدية، وإنما هي الخاتمة التقليدية للملاحم، هي انتصار «الخير المطلق» على «الشر المطلق» مهما كانت التضحية «بالفارس»، فليست المقطوعات التي ترتفع إلى مستوى الشعر والنبوءة في مناجيات سليمان الحلبي إلا الديكور الطبيعي للفروسية، والمؤلف يصف لنا سلمان في تقديمه للمسرحية بأن «بطولته الحقيقية إنما تكمن في تصديه لاختيار الأفكار الخطرة، وفي استعداده لاحتمال الإجابة أيًّا كانت حتى إذا كانت تنطوي على أن يذوق الدم، أن يرفع الذراع ويغمد الخنجر فتنفجر الدماء وتتناثر بدفئها الرهيب على وجهه ويديه، وبطولة سليمان تكمن أيضًا في تصديه ليخوض كل المحنة بعد ذلك في التحقيق والمحاكمة والتعذيب وأبشع ألوان الموت. وأن يكون عارفًا بمصيره طول الوقت، يخوضه بعيونٍ مفتوحة وذهن حاضر ممتلئ بأفظع التوقعات، وفي أن يقدم بفعلٍ واحد، وفي لحظةٍ واحدة، إجابة شافية على أول تحديات الاستعمار الأوروبي للشرق في عصرنا الحديث.» ولقد ضلَّلَت هذه الكلمات بعض نُقادنا الذين تصدوا لتقييم المسرحية؛ ذلك أنها أومأت بأننا في حضرة بطل تراجيدي قريب الشبه من هاملت، ودعمت بعض المشاهد هذه الإيماءة بتساؤلات سليمان الحلبي واعتلائه مكانًا كالقلعة يناجي من فوقها الذات والمصير والآخرين. ولكن هذه كلها أفادت بناء المسرحية دون أن تحوله عن مهمته «الملحمية» الأصيلة إلى عالم التراجيديا، ومن هنا باءت كافة التقييمات التي اعتمدت على قوانين أرسطو بالفشل لأنها لم تتلمس جوهر البناء المسرحي. فالكورس أقرب إلى بريخت منه إلى الدراما اليونانية، والحدث المسرحي هو الثورة المقهورة لا «شخصية» سليمان الحلبي، والبطل لا يتمتع بلعنات القدر والمجهول، حتى إذا قال: «عرفت أقل مما يكفيني وجهلت أكثر مما أطيق.» فإن صراعه الداخلي ليس صراعًا «داخليًّا» وإنما هو صراع خارجي بين قوى الخير وقوى الشر، صراع وجد لنفسه مستقرًّا في نفسٍ شفافة ترى «نصف العدالة أنكى من الظلم»، وعلى الرغم من أن هذه المسرحية تعد إرهاصًا قويًّا بمسرحٍ ملحمي في مصر يتأثر في الكثير من زواياه بمسرح بريخت، إلا أنه يختلف عن بريخت في نقطةٍ أعتقد أنها جوهرية هي فكرة «البطولة»، فسليمان الحلبي — من هذه الزاوية — أكثر ملحميةً من مسرح بريخت، لأن البطل المسرحي يكاد أن يكون مرادفًا للبطل الشعبي في الملاحم والأساطير، هو «الفارس» الذي أوتي القدرة على «الفعل»، ولو كان فداء هذا الفعل هو الذات، ولو كان الفداء — وهو كذلك دائمًا — من أجل الآخرين. وألفريد فرج لا يصطنع مسافةً موضوعية بين الجمهور وخشبة المسرح بقصد كسر الإيهام كما هو الحال عند بريخت، ولا يسقط الحائط الرابع كما هو الحال عند بيرانديلو، وإنما هو ينسج الأحداث في خيوطٍ طولية أشبه بالسيناريو، وهذا ما يدعم بناءه الملحمي القريب عن تقسيمات الموال الشعبي والملاحم والقصص الشعري، والبعيد عن البناء المسرحي التقليدي. وهذه كلها خصائص تميز ملحمية «سليمان الحلبي» عن أية ملحمية أخرى، وتضفي على بطولتها قدرًا كبيرًا من الأصالة.
وتبدأ أزمة البطولة في حياة سليمان الحلبي منذ أن يسطو على وعيه هذا الحادث العرضي الذي يجابهنا به الكاتب في قصة «حداية الأعرج» الذي سلمه سلمان إلى حراس الأمن من الفرنسيين ليتقي المصريون شره ولتفوز ابنته بحياتها، ولكن هذا «الحل» لا يشفي بطلنا من حيرته وطموحه إلى اليقين؛ ذلك أن «حياة بنت في مقابل القصاص من لصٍّ نصف العدالة، هكذا تُهدر العدالة ثمنًا للعدالة، والشرع ثمنًا للشرع، وكبرياء الناس لحياتهم، ومآذن الأزهر الشريف ثمنًا للجهاد في سبيل الحق.» و«النصف» دائمًا — حتى ولو كان نصف العدالة — يتمدد في اتجاه السلب وينكمش في طريق الإيجاب. لهذا «تسقط» ابنة حداية في هاويةٍ أعمق من هاوية أبيها، لقد انتشلها سليمان من ظلمة صغيرة لتقذف بنفسها في ظلمةٍ أكبر، ولهذا أيضًا «يرتفع» حداية من مستوى البلطجي الصغير إلى مستوى سادته من الفرنسيين في البلطجة الكبرى. وهكذا ينتهي «نصف العدالة» إلى ظلمٍ كامل، ولا بديل للظلم الكامل إلا العدالة الكاملة. وهي قضية لا حكم فيها «إلا بناءً على برهان» كما قال له الشيخ عبد القادر. ويتبلور في وعي سلمان الحلبي قبل أن يكون «برهانًا» على عدالة يبحث عنها بين الأنقاض أن «الجوع هو الأب الشرعي لكل نذالة»، ولكن القضية لا تتكامل على هذا النحو من البساطة، فلو «أن في عالمنا سنابل قمح أكثر مما فيه من كلمات، وكلمات أكثر مما فيه من بنادق، وبنادق أكثر مما فيه من لصوص، ما جننت.» ولكن جنونه هو التوحد مع اليقين في مركبٍ واحد لا تنفصم عناصره الأصلية فيخاطب القاهرة: «إن كان يتعين على بعضك أن يكون ثمنًا لبعضك، فمن النذالة أن تُشترى الحياة بالشرف ولا تُشترى الشرف بالحياة! الرحمة! فإني مع ذلك غير متأكد. أين اليقين؟ ولعلي أنطق بلساني بينما إبليس هو الذي يتكلم في فمي!» فليست المشكلة عند ألفريد فرج أن يبعث إلى الوجود «قاتلًا سياسيًّا» اختلَّت قواه العقلية ولا يستهدف بشكلٍ قاطع أن يجعل من «الاغتيال الفردي» قانونًا للثورات، وإنما هو يطرح سؤالًا ملحميًّا يحتمل الهزيمة ولكنه يحتم النصر، سؤالًا لا يخطر على بال سعيد مهران في «اللص والكلاب» ولا يقفز إلى مخيلة تشن في «الوضع الإنساني» لأن مأساة هذا النموذج من البطولة في قصة نجيب محفوظ وقصة مالرو أنه لا يصيب الهدف مرةً واحدة وأنه يموت أخيرًا دون أن يحقق هذا الهدف، أما ألفريد فرج فيطرح سؤاله الملحمي على سليمان الحلبي هكذا: «ولكن من ستغمره المياه؟ القاتل أم المقتول؟ أتنكسر روح الجند مثلما تنكسر بيوت الناس؟ أي كفة ستهبط بما حملت: العدالة أم ثمن العدالة؟» أو بصياغةٍ أخرى يستجيب لها صدر سليمان من أعماق القلب: «أيستوي عند الله من يعف عن الشر، ومن يتصدى للشر؟» وتتخذ القضية صورتها النهائية حين تستوي الأزمة عملاقًا هائلًا «فقد يضرب المرء بعلم وهو يضرب بغير علم، وقد يكف المرء بغير علم، وهو يكف بعلم.» إنها على النقيض من عذاب «العبث» الذي فغر فاه كالوحش وابتلع سعيد مهران وتشن، ومن قبلهما سؤال هاملت التراجيدي الحاد «أن أكون أو لا أكون» رائد هؤلاء الذين يضربون الفراغ بعنف فيسقط الأبرياء بدلًا من العم الخائن عند شكسبير، والمناضل المرتد عند نجيب محفوظ، وتشانج كاي تشيك عند مالرو. قضية سليمان الحلبي تقف على الطرف النقيض من السؤال التراجيدي لهؤلاء الأبطال، لأنها تحمل في جوهرها سؤالًا ملحميًّا يتطلب إجابةً شافية وبرهانًا قاطعًا «وسخرية هذا العصر أن القتل يلبس رداء الإعدام، والإعدام يلبس رداء القتل، وقد خرس بينهما الحق» ومن ثَم كانت «الحياة نفسها هي هذه المفارقة: أن يلبس القاضي ثياب السفاح، وأن يلبث السفاح ثياب القاضي، وأن يكون كلاهما: سليمان الحلبي.» هذا هو الحل الملحمي للقضية، فسليمان الحلبي «يقتل» الجنرال كليبر، ويدفع الثمن! وهذا هو العدل المطلق الذي ابتغاه حتى إذا ذهبت حياته فداءً. والمصير المحتوم الذي اقتيد إليه ليس نهايةً «تراجيدية» كما تصور البعض لأن الخاتمة الحقيقية للرواية هي مصرع كليبر لا إعدام سليمان الحلبي، ومصرع كليبر هو «انتصار مطلق للخير المطلق على الشر المطلق» كما يصف مؤرخو الأدب ملاحم القدماء. وموت سليمان الحلبي لذلك لا يشبه في كثير أو قليل نهايات أبطال المآسي الذين ترتد سهامهم إلى صدورهم بعد أن أخفقت في إصابة الهدف. إن سليمان الحلبي يموت ليحل هذه المعادلة الرائعة التي صاغت أزمة بطولته منذ البداية «العدالة أم الظلم؟» ولكي يستقيم الجواب لا بد من أن يلبس القاضي ثياب السفاح، وأن يلبس السفاح ثياب القاضي، وأن يكون كلاهما: سليمان الحلبي، قاتلًا وقتيلًا. ولأن بطولة سليمان الحلبي بطولة ملحمية، تدرجت «أزمتها» في النهاية إلى الانفراج التام، أما «مأساة» البطل التراجيدي فإنها تستعصي على أية حلول من الخارج، وحلها الداخلي الوحيد مضمَر في تلك البذرة المجهولة التي تنمو في السر وفي بطء، وتثمر ثمرتها الدامية علانيةً وعلى عجل. ولأن بطولة سلمان الحلبي بطولة ملحمية فإن أزمته جاءت تجسيدًا موضوعيًّا أمينًا لأزمة الثورة المصرية حينذاك (١٨٠٠م) بغير أن يحتاج ألفريد فرج أن يعزل البطل عن أرض البطولة أو أن يكتفي ببطولات مجردة أو جماعية كما هو الحال في مسرح بريخت؛ حيث تقتصر الصياغة الملحمية على البناء المسرحي ودون أن يحتاج الأمر إلى «بطل فرد» ينفر منه الكاتب الألماني نفورًا شديدًا. ومن هنا كان «البطل» في المسرح الملحمي عند ألفريد فرج من الخصائص المستقلة الأصيلة عند كاتبنا المصري.
•••
إذا كانت وحدة النضال العربي هي التي ألهمت مؤلف سليمان الحلبي أن يختار بطله من أرض الشام، فإنها أيضًا هي التي أوحت إلى عبد الرحمن الشرقاوي أن يكتب «مأساة جميلة» من أرض الجزائر، وكلاهما تعبير عن الكفاح المشترك لشعوب هذه المنطقة ضد الاستعمار الأوروبي الحديث، في شكله الفرنسي. وقد أراد الشرقاوي أن يكتب تراجيديا شعرية، فصاغ لنا حقبةً دامية من المراحل الأولى للثورة الجزائرية، حيث كانت جحافل الاحتلال ما تزال في أوج قوتها أو كما عبر أحد المجاهدين:
وصاغ لنا الشاعر كذلك مجموعةً من الشخصيات التي خاضت أهوال المعركة بنفسها، وواجهت مصيرها في شجاعة وإقدام لتصنع من بعدها مصير الجزائر. وصاغ لنا المؤلف أيضًا بعض المواقف التي تراوحت قوتها وضعفها بين شد وجذب، فلم تتوالَ الانتصارات أو الهزائم وإنما تشابكَت هذه وتلك في ضفيرةٍ واحدة تلاقت فيها البسمات بالدموع. وأخيرًا صاغ لنا الشرقاوي مسرحيته شعرًا حديثًا يعتمد في الأغلب على وحدة التفعيلة، وفي القليل على العمود الخليلي وقوافيه. ولكن هذه الصياغة في تكاملها لم ترتفع بالمسرحية إلى مستوى «المأساة» إلا بالمعنى الدارج الذي تتوج فيه الأحداث بفاجعة؛ ذلك أن عبد الرحمن الشرقاوي لم يوجه إلى نفسه قبل أن يخط السطر الأول في الرواية بعض الأسئلة الهامة: ما هي الإمكانيات الحقيقية لصياغة تراجيديا عصرية؟ وما هي الإمكانيات الحقيقية لاستيحاء مأساة من ثورة الجزائر؟ وما هي الإمكانيات الحقيقية التي تمنحها شخصية جميلة بوحيرد لصياغة بطولةٍ تراجيدية؟ إلى غير ذلك من التساؤلات التي يطرحها العمل في تضاعيف بنائه الدرامي.
ونحن إذا تغاضينا عما يقول به بعض كبار النقاد من استحالة ظهور البطل التراجيدي في المسرح المعاصر، فإننا نقول إن الشروط الموضوعية لقيام المأساة، سواء في مقوماتها التقليدية أو تطويراتها المختلفة، لا تتوافر بأية صورة من الصور في مسرحية الشرقاوي. فإذا كان لويس عوض قد استمد مأساته من حدثٍ تاريخي قديم انتهت فيه مصر إلى نهايةٍ تراجيدية حادة، وإذا كان مؤلف الراهب قد صاغ بطله من شخصيةٍ لها تناقضاتها الذاتية المتجذرة في أعماقها، فإن مؤلف «مأساة جميلة» قد اختار — على النقيض من ذلك — أرضًا خصبةً بالصراع الملحمي بين الحق والباطل، وبين العدل والظلم، بين الخير والشر، ولسنا نرى في أعماق «جميلة» أية تناقضات ذاتية تمزقها بين موقف وموقف، كما أننا لا نرى في الثورة الجزائرية أية «نهاية فاجعة» تلصق بها صفة التراجيديا أو بأبطالها خصائص البطولة التراجيدية. ولربما كان اختيار الكاتب لشخصيةٍ «واقعية» سببًا مباشرًا في ابتعادها خطوات عن العالم التراجيدي، خاصةً وأن الكاتب لم يصنع بالشخصية شيئًا شبيهًا بما صنعه نجيب محفوظ في «اللص والكلاب»، إذ أضاف من عنده إلى الشخصية الواقعية ما يبتعد بها كثيرًا عن الأصل. أما الشرقاوي فآثر أن يضيف من خياله إلى «سير الحوادث» الشيء الكثير، أما «المضمون» الذي سِيقت من أجله جميلة إلى الزنزانة الجهنمية فإنه لم يتغير قط ما بين الأصل الواقعي والعمل الفني. وقد يتلوَّن «الحدث المعاصر» بلونٍ قاتم ينعكس على «الشخصية الواقعية» بدرجةٍ أكثر قتامة، كهذا اللون الذي نصافحه في وجه جميلة وهي ما تزال فتاة صغيرة:
وجميلة شخصية «نموذجية» للانخراط في سلك النضال، فقد استشهد أبوها في المعركة وقُتلت أمها فوق كوبري، وعمها يحمل الرسالة إلى أن يلقى مصرعه أمام عينيها، فهي إذن مرشحة «بالضرورة» لأن تكون مناضلةً جسورة، ولكنها لا تبدأ نضالها إلا في منتصف المسرحية تمامًا، وكأن الكاتب قد أراد أن يقنعنا بشخصيته فبذل مجهودًا ليست المسرحية فنيًّا بحاجة إليه، بل ربما قد أساءت إلى البنية الدرامية أبلغ الإساءات؛ ذلك أنه على الرغم من «الشعر الحديث» فقد تحولت أجزاء كبيرة من البناء المسرحي إلى مقطوعاتٍ كاملة من «الشعر الغنائي». وفي منتصف المسرحية تمامًا تبدأ جميلة حياتها الحقيقية؛ إذ أسندت إليها القيادة دورًا في نسف ملهًى يؤمه نفر من الضباط الفرنسيين الذين اشتركوا في مذبحة القصبة الليلة السابقة. وإذا كانت حيلتها في الثوب العاري قد نجحت مرة، فإنها تسقط بين أيدي العدو في المرة الثانية قرب المسجد وهي تمهد طريقًا للهرب. حينئذٍ تقع جميلة في قبضة الفرقة السوداء بقلعة برباروسه، وتقف أمام المحكمة الفرنسية — كجان دارك أمام الإنجليز — منهارة الجسد قوية الروح، وتنتهي جميلة كشخصيةٍ مسرحية، بينما يستقر في وجدان المتلقي أن الرأي العام العالمي قد أنقذ البطلة الجزائرية، ويستقر أيضًا ما هو أكثر من ذلك روعة: انتصار الجزائر. هذه النهاية «الواقعية» لم تجد مرادفها الموضوعي في المسرحية، وهذا هو التناقض الأصيل في «مأساة جميلة»؛ أنها استوحت المقدمات من أرض الثورة واستغنت عن النتائج لمجرد أن تكون هناك «مأساة»، ومن هنا يصبح اختيار «جميلة» بالذات اختيارًا لا يستهدف الفن، وإنما قد يفيد «تسجيلًا وثائقيًّا»، فالبطولة التي تتمتع بها جميلة مسرحيًّا لا يثقل وزنها على أية بطولات أخرى تزدحم بها الدراما؛ بل إن هناك بعض الشخصيات التي برر لها الكاتب دون أن يقصد أن تحتل عن جدارة مركز البطولة ولكنه أفسح هذا المكان عن قصدٍ لجميلة، والسبب في ذلك بعيد كل البعد عن أن يكون هدفًا فنيًّا يحتمه السياق الدرامي، وإنما يكمن هذا السبب في أن جميلة شخصيةٌ معروفة في العالم الواقعي، وقد نالت سلفًا قدرًا كبيرًا من الإعجاب والتعاطف. وإلا فبماذا نفسر أن تكون جميلة هي البطلة وليست «هند» التي حملت بين جوانحها حبًّا عظيمًا لزميلها في الكفاح، واعترفت على الجميع ثم أصيبَت بالجنون لا تفيق من المخدر الملعون الذي يحقنها به طبيبٌ مأجور في السجن؟ وكيف نفسر أن تكون جميلة هي البطلة وليس «جاسر» الذي تتردد أنفاسه طوال المسرحية ببطولاتٍ حقيقية يقود فيها الكفاح السري لمنظمة جبهة التحرير ويظل متماسكًا — بالرغم من حبه لجميلة — إلى أن يقع في أيدي العدو فيزداد تماسكًا وإصرارًا؟ وكيف نفسر أن تكون جميلة هي البطلة وليس «جان» الجندي الفرنسي الذي ضاع نصف حياته في الهند الصينية وها هو ذا النصف الآخر يضيع في الجزائر، وهو لا يدري هل سيعود إلى بيته في فرنسا أم سيموت برصاصةٍ قادمة من مناضل يعرف من ثيابه أنه عدو، وهو ليس كذلك على الإطلاق، إنه يعطف بالكلمة والفعل على هؤلاء «الضحايا» في نظره، ومن ثَم يتحتم عليه أن يموت برصاصة من رئيسه الفرنسي: الضابط بيير. ويتحتم عليه أن يقتل أيضًا «بيير» برصاصةٍ أخيرة؟ وكيف نفسر أن تكون جميلة هي البطلة وليست «سيمون» صاحبة الحان والملهى الليلي التي أتاحت لعزام أن يضرب ضربته دون أجر، لمجرد أن زوجها قد قُتل هو الآخر في الهند الصينية وتحول في الأرشيف إلى رقمٍ لم يمنحها هي والأطفال سوى الجوع، فكان الملهى ملجأها من الموت، ومساعدة الثوار رصاصتها التي انتقمت بها من الذل والفقر والضياع الأبدي؟ هذه الشخصيات جميعها ترشحها أزماتها لأن يكون أصحابها أبطالًا عظامًا في المسرحية، فهل قصد المؤلف أن يهدينا في شخصية جميلة «بطولة الإنسان العادي»؟ لا أعتقد، لأن الأصل الواقعي للشخصية ينفي عنها — للشهرة وذيوع الصيت — صفة العادي والمألوف، ويضفي عليها ثوبًا جاهزًا من قماش البطولة. ولا أعتقد مرةً أخرى، لأن أزمتها في لحظة الحضور المسرحي، تكاد تتلاشى إلى جانب الشخصيات الأخرى التي تقفز المقارنة بينها وبينهم تلقائيًّا وبغير عمد.
•••
على غير هذا النحو عالج سعد الدين وهبة في مسرحية «المسامير» إحدى المراحل الهامة في تاريخنا الحديث هي ثورة ١٩١٩م؛ فقد حاول أن يزاوج بين الحدث التاريخي والحياة المعاصرة في مركبٍ واحد من الماضي والحاضر. أما التاريخ فيقول إن الحالة تفاقمت في كفر الشيخ والقرى المجاورة لها، فأوفدت السلطات البريطانية صبيحة ٢٦ مارس ١٩١٩م فصيلة من الجنود الإنجليز عسكرت في مبنى إحدى المدارس وراحت تنهب البيوت والمحلات التجارية والحقول، وتفرض على الناس إتاوةً من نوعٍ غريب هو الجلد. وفي موضعٍ آخر يذكر عبد الرحمن الرافعي أنه حدث في بلدة نزلة الشوبك أن قبض الجنود البريطانيون على أربعةٍ من الأهالي ودفنوهم في الأرض حتى أنصاف أجسادهم — بدعوى التحقيق معهم — ثم قتلوهم رميًا بالرصاص. يتناول الكاتب هذه الواقعة في إطارٍ ممعن في البساطة يكاد أن يقترب شكلًا من السامر الريفي، لولا أنه يفتقد تلقائية السامر، ذلك أن مؤلف المسامير كان صارمًا في وعيه باختيار الشخصيات والأحداث والمواقف، فمنذ أن قال زقزوق: «المنادي كان عمَّال يقول في البلد، كله حاينجلد إلا اللي عنده أرض، والمستوظف في الحكومة، والمتعلم لحد الابتدائية.» كان علينا أن نستقبل مجموعةً متباينة من الشخصيات، بعضها ينتمي إلى فئة الملاك، وعلى رأسهم زيدان، وبعضهم فلاحون صغار، وأُجَراء من المزارعين وعلى رأسهم عبد الله، وبعضهم من المثقفين أو «المتعلمين» بتعبيرٍ أدق، كإمام القرية الشيخ عبد الصمد، والمدرس رمزي. ولا يقتصر التباين بين الشخصيات على تكوينهم الطبقي، وإنما تتباين كذلك مواقفهم وفق تكوينهم النفسي والذهني. ولا يظل التباين طيلة العرض المسرحي راسخًا لا يتزحزح؛ بل إن ثمة «شيئًا ما» يطرأ على مسار البعض فتتطور مواقفهم من النقيض إلى النقيض، وعلى ضوء هذا التنوع في تكوين الشخصيات تتنوع مواقفها من الحدث الفرعي والحدث الأصلي على حدٍّ سواء. أما الحدث الفرعي، وهو الجلد، فقد تنوعت بشأنه المواقف: «اللي حداه أرض نفد بجلده، واللي متعلم قاعد يفتي مش حيطوله الضرب، واللي معاهش أرض ومعاه فلوس قاعد يدور على واحد يأجره ينضرب بدله.» كما قال الشيخ عبد الصمد. وأما بالنسبة للحدث الأصلي فقد حزم أولئك الذين لا يملكون أمرهم على «القتال» ما دامت حياتهم قد أصبحت نهبًا للمستعمر ليل نهار، لا يأتمن أحدهم عمره أو عرضه أو محصوله في أية لحظة تبرز فيها أنياب المحتل، حزموا أمرهم على لقاءات سرية تكفل لهم التأهب والاستعداد ورسم الخطط. وبين أولئك المعدمين أصحاب المصلحة أنفسهم سوف نلتقي بضعاف النفس والذين يؤثرون الاستسلام. وبينما نجد إمام القرية ينضم إليهم، نجد أن المدرس يتهرب منهم، وناظر العزبة يتحرش بهم، والمالك يقدمهم لقمةً سائغة إلى سادته من المحتلين. ولكن الأحداث تطور الشخصيات معها، فيتوجه رمزي إلى مركز البوليس «ليحتج» على تحويل الجنود للمدارس إلى إسطبلات لخيولهم. ويفاجأ هناك بأهل قريته والدماء تنزف من جلودهم التي تهرَّأَت تحت ضربات السياط، فيقوده عسكري إلى الحجز وتتبخر من رأسه تخيلات «الحضارة» التي يغفر بها للإنجليز احتلالهم. وفي الحجز يلتقي «بمثقفين» من نوعٍ مختلف. فهذا هو وكيل النيابة الذي أفرج عن كل فلاحٍ مظلوم، وهذا مهندس الري الذي رفض أن يقطع المياه عن الحوض الغربي حتى لا تموت أرض الكَفر من العطش، وهذا كاتب صحة المركز الذي أثبت في شهادة الوفاة أن الفلاح قُتل برصاص الإنجليز، وهكذا «ما فيش دلوقت كبير، فيه معاهم وفيه عليهم». وتتوالى حوادث الهجوم المفاجئ على الإنجليز، ويبرز اسم «عبد الله» من بين جميع الأسماء، كقائد لهذا الزحف السري من الفلاحين، ولكن تبرز زوجته «فاطمة» وعمها «سالم» كمناضلين حقيقيين يواجهون المعركة وأتُونها بقلوبٍ صامدة جسورة. وفي إحدى المرات يتمكن الإنجليز من القبض على علوان ومنصور وسالم، اثنان من الذين كانوا يؤثرون الاستسلام، والثالث هو «البطل» الذي يملأ وجهه صفحات المسرحية كلها بأمل كبير في الغد. هؤلاء الثلاثة هم الذين يحاكمهم الإنجليز وقد دفنوا أنصاف أجسادهم في الأرض، وبقيَت الأنصاف العلوية تتلقى الرصاص وتنزف الدماء التي أضيفت إلى دماء الأجيال في محاولةٍ جديدة لإذابة المسامير بحرارتها، المسامير التي غرسها الاستعمار في أرضنا «المسامير اللي في الأرض ساحت سيحها الدم اللي نزل فوقها، دم الغلابة اللي عايزين يعيشوا ويفوتوا غيرهم يعيش». ولا تنتهي المسرحية بمشهد الإعدام، وإنما بمناجاة فاطمة مع الأحياء والأموات، وطلقات الرصاص القادمة من المجهول: «اضربوا كلكم، الأرض حرير ما فيهاش مسامير، والسما حمياكم ما فيهاش غربان، وإيدكو حديد، وقلوبكم حديد، اضربوا، الدنيا كلها بتتفرج عليكم، شايفاكم وسمعاكم، خلاص ما فيش كرابيج، ما فيش مسامير، بلدنا بتاعتنا، بتاعتنا احنا لوحدنا.» وهي الكلمات — أو طلقات الرصاص — التي يشارك بها سعد الدين وهبة في حلبة الصراع الدائر حول معركتنا الأخيرة مع الاستعمار الأمريكي والصهيونية، إنه يجيب عن سؤالنا «ما العمل؟» بأنه لا طريق أمامنا سوى القتال، والحرب المسلحة. وهي إجابة ثورية حقًّا، أعوزها البناء المسرحي القادر على تجسيدها. فالحاجة إلى مشهد من ثورة ١٩١٩م تكاد تنتفي تمامًا، لأن هذا المشهد لم يمد المؤلف إلا بفكرة «الجلد» وهي فكرة لا تبلغ من الخصوبة حدًّا يملي ضرورتها. وتكاد هذه الحاجة تنتفي مرةً أخرى لأن المسرحية لا تمنح الملتقى قدرًا — أي قدر — من مذاق ثورة ١٩١٩م ونكهتها التاريخية. وإذن فالاعتماد على ركائز من هذه الثورة للإيحاء بمشهدٍ حي ومعاصر هو استناد على شيء غير قائم بالفعل من ناحية، ولا تربطه بلحظتنا الحاضرة أية وشائج من ناحيةٍ أخرى. المحور الدرامي في مسرحية «المسامير» يدور حول مشكلتنا الراهنة بغير لفٍّ أو التواء، بغير حاجة إلى رموز أو كنايات، ولم يستطع المشهد الذي استعاره من كتاب عبد الرحمن الرافعي أن يقدم تبريرًا مسرحيًّا للنتيجة الثورية التي انتهى إليها، فلا المعركة الجزئية في كفر الشيخ ولا ثورة ١٩١٩م كلها انتهت إلى هذه النتيجة الرائعة. ومن هنا كان يتحتم على المؤلف أن يواجه الواقع المعاصر مواجهةً مباشرةً دون اللجوء إلى مشجب تاريخي ليس في حدود إمكانياته الواهية أن يتحمل عبء ثيابنا الثقيلة أو مساميرنا الجديدة.
ومن ناحيةٍ أخرى فإن بطولة عبد الله التي تتحدد على طول المسرحية هي بطولة «بالسماع» وبالقول لا بالفعل، فالبطل — أيًّا كان — لا بد أن توضع بطولته على المحك العملي حتى نقتنع به قائدًا لهذا الصراع الدموي الجبار، ونحن لم نتعرف على عبد الله إلا في مناقشاته مع الفلاحين أو في غيابه عن الجلد أو في الحديث عن ذراعه المكسورة. ولكننا تعرفنا على أبطال حقيقيين آخرين كفاطمة زوجته، وسالم عمها، هذان نموذجان واضحان للبطل في حالة فعل، في لحظة حضور، ولقد هيأ سعد الدين وهبة لمسرحيته منذ البداية أن تكون شيئًا قريبًا من المسرح الخالي من البطولة الفردية، ولكنه انحاز — قولًا — إلى جانب زعامة عبد الله وقيادته كمرادف حرفي لصورة ذهنية غير متحققة فنيًّا في المسرحية، بينما الأحداث ترشح شخصياتٍ أخرى كفاطمة وسالم للتعبير عن أزمة البطولة وحيويتها. ومما ينبغي تسجيله بالتقدير لمؤلف «المسامير» أنه لم يفتعل مناخًا تراجيديًّا لتربية البطل على نحوٍ خاص؛ فقد ترك الأحداث البسيطة تعبر عن أزمتها البسيطة في بطولات بسيطة. وإن كان التوفيق قد جانبه في تركيز نقطة الضوء على شخصيةٍ معينة دون مبرر فني، فإن هذا لا ينفي الأصالة الشعبية العميقة في أغوار «الأزمة» التي واجهت البشر في هذا الحيز من المكان وذلك الإطار من الزمان، وهي الأصالة التي انعكست بدورها على النسيج الزاخر بالعفوية والدفء وكأنه صياغة «فطرية» لمسرح الإنسان في بلادنا.
•••
وقد حاول يوسف إدريس في مسرحية «اللحظة الحرجة» أن يجيب عن أسئلة النقاد بشأن الإمكانيات لكتابة تراجيديا عصرية، فاختار لنا أحد شباب المقاومة في بورسعيد أثناء حرب السويس عام ١٩٥٦م. ولكي يثبت أن أرض الثورات ليست بالضرورة هي أرض الملاحم، وإنما قد يولد البطل التراجيدي من صلبها، استبعد المشهد الرئيسي للحرب كمحور للصراع بين البطل والعالم الخارجي؛ بل حاول أن يصوغ بطلًا يعاني عذابًا مقيمًا في داخله كالسعير الملتهب تزيد الحرب من ضراوته اشتعالًا، فهو يقف من والديه موقفًا صارمًا إزاء تطوعه في معسكرات التدريب: «عدو عاقل أحسن منكم والله. ولَّا حتى مجنون. دا انتم إيه؟! أنتم عبيد. أخلاق عبيد وفلسفة عبيد. حتى ربنا بتعبدوه عن خوف. كل عيشتكم ليها محور واحد بس هو الجبن.» وتحتد الأزمة بين سعد وأسرته قرب خاتمة الفصل الأول حين يقبل شقيقه محمد من الخارج ويعلن أن الحرب قد بدأت وتهلل سوسن الصغيرة لأن هذا يعني في رأيها أن القيامة قامت. أما الأم فقد أيقنت من صدق هواجسها بأن رياح الحرب وشيكة الهبوب، والأب فاجأته الصدمة لأنه لا يصدق أن الإنجليز يعودون وقد خرجوا من قبل، ولو أممنا القناة. وكانت الحرب قبل أن يعلن محمد نشوبها بالفعل مجرد حلم يراود خيال سعد أشبه ما يكون بالأمنية التي يرتدي فيها البدلة الكاكي ويحمل البندقية. أما الآن وقد أصبحت واقعًا مثقلًا بالنار والدم والخراب والجثث، فإنها تختلف عند سعد اختلافًا عميقًا، ذلك أنها ببساطة تعني له شيئًا واحدًا أن يرتدي البدلة ويحمل البندقية ويتوجه إلى الميدان، قد يعود منه أو لا يعود، وإذا عاد قد يكون كسيحًا أو عاجزًا أو أعمى، وقد يعود سليمًا، ولكنها في جميع الأحوال مشكلة تطلبت من زميله سامح أن يذكره بحماسه وهو يأكل الطعمية قائلًا: «أنا مش ممكن أخاف. أنا الأقوى. هو جاي يسرق بلدي وأنا بدافع عنها. هو غريب وأنا في أرضي. هو بيحارب بماهية، وأنا بحارب بإيمان هو اللي هيخاف الأول.» وهي أيضًا المشكلة التي أحس بها شقيقه سعد، تلون وجهه بألوان غير مطمئنة وغير مريحة فقال له: «تعرف المشكلة إيه يا سعد؟! إنت مش خايف. كل الحكاية إنك خايف لاحسن ساعة الجد تخاف.» ويكاد أن يتحول الفصل الثاني إلى «جسم» للأزمة فيحسم والده هذه المشكلة بأن يحبسه في غرفة النوم بعد أن تظاهر بأنه سيودعه إلى المحطة بنفسه ثم أغلق عليه الباب. ولا تجدي صيحات سعد وصراخه: «عايز أعرف أنا أستحق أكون راجل ولَّا ما استحقش. عايز أعمل حاجة. عايز امتحن نفسي. عايز أشوف ساعة الجد الواحد يبقى ازاي.» وكانت هذه الصرخة بالذات، بمثابة المؤشر الذي أمسك به المؤلف وغرسه في قلب الأزمة التي يعانيها «البطل» والحق أن سعد مثَّل دور المحبوس في الغرفة تمثيلًا «لاواعيًا» إن جاز التعبير، فهو يعلم دون شك بما قالت به أمه في حوار مع أبيه:
في هذا الوقت بالذات كانت شقيقته «كوثر» التي اعتادت في حياتها اليومية أن تقف إلى جانب النافذة ترقب «الأحباب» كما اعتادت أن تقتل فراغها في شجار لا ينتهي مع زوجة أخيها «فردوس»، في هذا الوقت كانت كوثر تملأ صفائح المياه من الترعة وتقوم بتوصيلها إلى أماكن المحاربين. وفي هذا الوقت أيضًا كان «مسعد» الأخ الأكبر الذي يمضي أيامه في صراع لا يهدأ بين زوجته وأسرته، ويمضي لياليه في الورشة يكد ويعرق، كان مسعد هذا قد حزم أمره على شيء واحد على أثر انفعاله بكلمات أخيه عن مصر والحرية والاستعمار، حزم أمره على أن يحمل السلاح فحمله، وأن يحارب فحارب وكاد أن يلقى مصرعه، ولكنه عاد جريحًا يسيل الدم من ذراعه اليمنى. والأم لا تزال عند موقفها العاطفي الحاني على «الأولاد» ومستقبلهم، والأب لا يزال يكابر في عناد غريب قائلًا إن الإنجليز ليسوا مجانين حتى يضربوا من لا يتعرض لهم. غير أن سحابةً من الحزن والقلق تغشى عينيه لا يدري مصدرها. ألِأنه حرم سعد من المشاركة في الحرب؟ ولا تسعفه المبررات العقلية التي حالت بينه وبين السماح لابنه بالانخراط في سلك المقاومة. إلى أن يصل الجنود الإنجليز داخل بيته وهو يصلي وسعد محبوس في غرفة النوم ومسعد هو الآخر في غرفته بين زوجته وذراعه الجريح والباب مغلق عليهما. وتتحول لحظة وجود العسكري الإنجليزي في الصالة إلى لحظة الامتحان الأكبر في حياة سعد، إنه يرتدي البدلة الكاكي وهي عند الجندي البريطاني كاللون الأحمر عند الثور، فلا يدري إلا وهو يخلعها ويخفيها. إنه يعلم بوجود المسدس الذي يملكه أبوه في الدولاب وهو سلاح ذو حدين قد يصيب به العدو ولكن العدو أيضًا قد يقتله، ولا يدري إلا وهو يسحب المسدس ويدسه في الثياب ويخفي كل شيء وينبطح تحت السرير في رعب هائل. لقد حاول مرارًا أن يخدع نفسه، حاول ذلك حين اصطنع الضجيج في منتصف الليلة التي كان قد اعتزم فيها السفر مع سامح فاستيقظ أبوه وانتهى الأمر بحبسه في الغرفة. وحاول مرةً ثانيةً حين تناسى أن باب الغرفة سهل الفتح وأنه يستطيع — ولو بطلقة نارية — أن يفتحه ويذهب إلى الميدان. وحاول في هذه المرة الأخيرة ولم ينجح، لأن الميدان انتقل إليه بكامله في شخص العسكري الإنجليزي. لقد تحول البيت أمامه فجأةً إلى ميدان، وهذه هي اللحظة التي تمناها طول العمر، ولكنه سقط في الامتحان، وكان سقوطه عظيمًا. أطلق جورج رشاش مدفعه على الأب الأعزل وهو يصلي، وحاول سعد أن يخدع نفسه للمرة الأخيرة: «إيه ده؟ دي رصاصة. في المليان. مش معقول؟ دي برة في الشارع. أوعى تتحرك أحسن أبوك يضيع.» ولكن الأب قد مات وذهبت محاولات خداع النفس عبثًا. مات الأب بعد أن تحول في ومضة عين من ذلك الرجل الحائر بين عقله وقلبه، إلى الرجل مفتوح العينين الذي يتبين أن حزنه الثقيل لم يكن في أنه منع سعد من الخروج إلى المعركة، وإنما لأن سعد كان «لسانًا» فقط، ولم يكسر الباب ويخرج عنوة! وتتحول الأم هي الأخرى إلى نمِرة تطلب الثأر لزوجها وبلدها. ولا يجرؤ سعد على الانتحار حين اختطف المسدس ليقتل نفسه وتركه أخوه متحديًا أن يفعل. ويتجه إلى مسعد ويعانقه ويخفي رأسه في صدره ويقول بصوت مخنوق بالبكاء: «إذا كان ما قدرتش أضرب الغريب، ح أقدر أضرب نفسي!» ولكن جورج يعود وقد أكلت قلبه سوسن الصغيرة وهي تغمس أصابعها في دم أبيها، فهو يرى فيها شيرلي ابنته التي تركها في سوثهامبتون، وهو يصاب، بما أصيب به زملاؤه من قبل: الملازم توندر في رواية شتاينبك، والشاويش جان في مسرحية الشرقاوي، يصاب بالجنون القاتل: قتل توندر على يدي زوجة مناضل استشهد، فأحبها. وقتل جان على يدي الضابط بيير حتى لا يسيء إلى سمعة العسكرية الفرنسية ويفشي أسرارها ويعطف على ضحاياها، وقتل جورج بالطلقة الأخيرة التي بقيت في المسدس وقد أطلقها عليه رجل، سقط في الامتحان منذ لحظات ولكنه في سقوطه سكب أعماقه على الملأ، كان الخوف يعشش في قلبه فانهار من علٍ وانهار «الخوف» معه فأمسك بالمسدس وأطلق رصاصته الأخيرة على جورج. ويهرول سعد مسرعًا وسط الزغاريد إلى الخارج حيث تخفت حدة الزغاريد وتعنف أصوات المدافع وجثة الأب تتمدد في الداخل جنبًا إلى جنب مع جثة الجندي الإنجليزي الذي انتحر عقله قبل أن يتوقف قلبه بوقت طويل.
لقد تصور كثير من النقاد أن يوسف إدريس قدم لهم «بطلًا سلبيًّا» في خضم المعركة فانهال عليه بعضهم بالرجم، والحق أن مؤلف «اللحظة الحرجة» أراد أن يقدم لنا بطلًا تراجيديًّّا معاصرًا فتعثرت المحاولة في غمرة «التحليل النفسي» الذي أفاق البطل على أضوائه الشديدة فأوجز في كلمات ما تطلَّب من شكسبير العديد من الصفحات وهو يخرج بهاملت من دائرة «الشك المعلق» إلى حافة اليقين المطلق. إن تبدد «الخوف» من صدر سعد بصورةٍ مفاجئة وإقدامه على «الفعل» هو نوع من «التزيد» أو التجاوز، فقد انتهت التراجيديا بمصرع الأب وإحجام الابن، وليست الرصاصة الأخيرة إلا امتدادًا غير منطقي لتطور الأحداث. ولم يعد خروج سعد إلى المعركة إلا تحطيمًا لإطار التراجيديا ودخولًا في منطقة الدراما التقليدية: أزمة تتطور إلى أن تصل إلى الذروة، ثم تأخذ في الانفراج من القمة التي تنحدر بالتدريج إلى السفح. وهي شيء مختلف عن أزمة البطل التراجيدي التي تتجرثم في تكوينه الأصيل منذ البداية، فتنتهي — فيما يشبه الحتمية — نهايةً فاجعة، ومن ثَم تتمدد طاقتها الانفعالية وحرارتها إلى داخل ذواتنا فتحدث الظاهرة التي يدعوها أرسطو بالتطهير، أما أن يحلل الكاتب بطله تحليلًا نفسيًّا يلفظ معه سعد كافة السموم التي مزقت أحشاءه، فإن هذا البطل يصاب بالشفاء المفاجئ ويتخلى عن بطولته المأساوية التي تدثرت بها دماؤنا على طول الدراما، ويتحول إلى بطل تقليدي تطهَّر «هو» من أزمته و«استراح» وتحولت معه المسرحية إلى أنشودة وطنية وذكرى جميلة.
•••
يتضح لنا من هذا التقييم للمسرح الوطني في مصر، أن علاقته أوثق ما تكون بالتاريخ حين يخرج المنقول إلى المعقول، ثم حين يتطور من المتعقل إلى المتخيل، فلو أننا نصبنا محاكمةً تاريخية لعادل الغضبان ولويس عوض وألفريد فرج لخسر ثلاثتهم القضية، لأنهم فيما استلهموا من أحداث التاريخ وشخصياته ومواقفه، لم يرتدوا قط قلنسوة المؤرخ؛ بل تلفعوا بمسوح الفن. وهنا تثور المناقشة التقليدية حول علاقة الفن بالتاريخ فنقول: إن الفنان قد يختار من المادة التاريخية أكثرها تجسيدًا لرمز من الرموز، وقد يختار من هذه المادة أكثرها إحكامًا في تخطيط الحدث الدرامي، وقد يختار من هذه المادة أكثرها قدرةً على تفسير فكرة من الأفكار وتقديم البرهان «التاريخي» على صحتها وقد يختار الفنان مرحلةً تاريخية بعينها ليقوم هو بتفسيرها على ضوء نظرية من النظريات، وقد يختار الفنان مشهدًا من التاريخ أو موقفًا يستهوي حاسة الخلق فيه لمجرد أن يبعث هذا المشهد أو ذاك الموقف أو تلك الشخصية بعثًا مجسمًا جديدًا. ولكن الفنان في هذه الأحوال جميعها لا يقيده شيء من التاريخ، ويقيده كل شيء من الفن. ليس هناك أدب «تاريخي» بالمعنى الدقيق للكلمة، لأن أحداث الحاضر التي يتخذها الفنان المعاصر خامةً لفنه، هي جزء بدورها من المسار اللانهائي لمجرى التاريخ. فالتاريخ هو الحياة بعينها وقد ارتدت ثياب الماضي أو الحاضر أو المستقبل، والفن إذن في ارتباط دائم وثيق بالتاريخ في حدود هذا المعنى. وهو مستقل تمام الاستقلال عن التاريخ إذا نظرنا إليه على أنه شيء مستقل عن مجرى الحياة وجوهرها. ولهذا كانت مسرحيات سعد وهبة والشرقاوي ويوسف إدريس، «أعمالًا تاريخية» وإن لم تتخذ لنفسها أسماء وشخصيات ومواقف من وثائق المؤرخين الأكاديمية. ولكنها كغيرها من الأعمال الملثمة بأقنعة المؤرخين — سواءً بسواء — تستمد أصالتها من تعبيرها الحي المتجدد عن الحياة في تشابكها المعقد، والواقع الإنساني المركب الذي يتجاوز التاريخ — بمعنى الماضي — خصوبةً وغنًى.
على أن المسرحية الوطنية في مصر لم تكن مجرد تسجيل وثائقي للماضي ولكنها حاولت أن تواكب الحركة الوطنية المصرية منذ الثلاثينيات حتى الخمسينيات. فلا شك أن مسرحية «أحمس الأول» كانت صدًى مركزًا لمرحلة التحلل التي رافقت جيل ثورة ١٩١٩م، ومرحلة الأمل التي رافقت الجيل الجديد بعد إبرام معاهدة التهادن عام ١٩٣٦م. ولذلك فهي مسرحية عمادها الأول هو «النبوءة» فضلًا عن التسجيل والمواكبة التاريخيَّين، إنها مسرحية دافعة لحركة التاريخ إذا أسقطنا أحداثها على مسرح الأحداث الواقعية التي يتوسطها الاحتلال البريطاني لمصر. فما الهكسوس الرابضون في أفاريس وسط الدلتا إلا الإنجليز في عصرنا الحديث. بينما يمثل «سليمان الحلبي» إلى التأريخ للماضي مع قليل من الرمز إلى الحاضر، فلقد استرعى انتباه مؤلفها في المقام الأول «الحبكة الدرامية» في قصة سلمان الحلبي كما جاء بها الجبرتي، وربما كان تفسير الكاتب المسرحي لهذه القصة التاريخية هو ما عناه في المقام الثاني، أما ما تدل عليه من أحداث عصرنا فتأتي في المقام الثالث. ولكنها تتوقف عند هذه الحدود لا تتجاوزها إلى مرحلة النبوءة. وهكذا مسرحية «الراهب» التي أرادت أن تملأ بالفن ذلك الفراغ التاريخي في وجداننا، كما أرادت أن تُزاوج بين اختيار مرحلةٍ تاريخية بعينها، وتفسيرٍ محدَّد لهذه المرحلة قد يمتد صداه إلى عصرنا الحديث دون أن يتخطاه إلى أعتاب «النبوءة» الفنية. أما المسرحيات «المعاصرة» في واقعيتها، أي هذه التي تستلهم مشاهد التاريخ القريب، فإنها تتراوح بين المسرحية التسجيلية «مأساة جميلة» التي يكاد مؤلفها أن ينحت تمثالًا لبطلتها، والمسرحية المواكبة لحاضرنا «اللحظة الحرجة» التي يكاد كاتبها أن يصوغ بها علامة استفهام أمام هذا الحاضر، والمسرحية التي تتنبأ «المسامير» بما ينبغي أن يكون عليه مستقبلنا القريب. إن هذه الأعمال جميعها تنتمي إلى التيار الحديث في المسرح المصري، التيار الذي تأثر من إحدى الزوايا بتوفيق الحكيم. ولكنه تأثر أساسًا بالتقاليد التي حاول أن يرسيها بنفسه مع بداية الخمسينيات. ولا شك أن مسرح الحكيم يواكب واقعنا، سلبًا وإيجابًا، مواكبةً فنية واعيةً برسالة الكاتب المسرحي إزاء جمهوره فهو أبعد ما يكون عن التسجيل أو التنبؤ، ولكن المسرح المصري الحديث — والمسرح الوطني جزء منه لا ينفصل — يستمد قدرته على التسجيل وطاقته على التنبؤ من ذلك التفاعل الخصب والمزدوج في آنٍ: التفاعل مع التطورات الحضارية الجديدة التي وفدت على مجتمعنا منذ قيام الثورة والإرهاص بها، ثم التفاعل مع التيارات المسرحية القادمة من أوروبا والتي يغلب على رؤية كتابها معاني التجاوز والتخطي.
بقيت نقطة أخيرة يثيرها تطور المسرح الوطني في مصر، هي غلبة نوع من البطولات على تكوين الشخصيات في هذه المسرحيات. فبينما يغلب على معظمها اتجاه الفنان إلى رؤية «نقطة الضعف» في تكوين البطل، هو الحب غير المشروع وطنيًّا في «أحمس الأول» ودينيًّا في «الراهب»، وهو الخوف من الموت في «اللحظة الحرجة»، تنحسر نقطة الضعف هذه عن مجال الرؤية في «سليمان الحلبي» وتكاد تتلاشى في «المسامير» ولم توجد قط في «مأساة جميلة». وقد تفاوتت قيمة «نقطة الضعف» بين أن تكون «بذرة سلبية كامنة» في نفس البطل من الممكن أن تتحول به إلى مستوى البطولة التراجيدية كما هو الحال في «الراهب» و«اللحظة الحرجة»، وبين أن تكون ضعفًا طارئًا قصد به المؤلف تلوين شخصية البطل باللون «البشري» الذي يحل التناقض بين البطولة والإنسانية كما هو الأمر في «أحمس الأول» و«المسامير»، ولكن «ضعف» البطل الوطني في المسرح المصري لم يتحول في هذه الأعمال جميعها عن هدفه الأصيل، وهو تصوير المد والجزر في ملحمة الصراع بين البطل والقوى الخارجية المعطلة لكينونته الوطنية، قوى الشر والعدوان على أرض الوطن، فمن خلال العدوان على الأرض يتمدد الشر إلى أن يهصر الذات هصرًا أليمًا قد تعبر عنه لحظات «الفعل الإيجابي» كما تعبر عنه لحظات «الفعل السلبي»، سواءً بسواء، فإذا رجحت كفة الفعل الأول دعَونا صاحبه بطلًا، وإذا رجحت كفة الفعل الثاني دعَونا صاحبه ضحية الطريق المرير، وبالرغم من قيام الفعلين جنبًا إلى جنب في الشخصية الواحدة، إلا أن الصراع الجوهري في شخصية البطل يتم بينه وبين القوى الخارجية لا بينه وبين نفسه؛ بل إن تناقضاته الذاتية لا سبيل إلى حلها إلا عن طريق البوتقة الأخرى التي ينصهر فيها صراعه، ومع أن صراع الداخل مع الخارج يشي ببناءٍ ملحمي للمسرحية الوطنية، إلا أن معظم كتابها قد نجحوا في خلق نمط درامي مستقل عن البناء الملحمي وإن تواجدت روح الملحمة في مسرحية «سليمان الحلبي» وقد دبت هذه الروح البريختية في كيان المؤلف المصري للدرجة التي أرهصت بقيام مسرح ملحمي في مصر. غير أن «النمط الدرامي المستقل» هو السمة الرئيسية للمسرحية الوطنية المصرية التي تميزها شكلًا ومضمونًا عن التكوين التراجيدي أو التركيب الملحمي، فالملاحظة الأولى على بطولات هذه المسرحية، أنها تنتهي غالبًا بموت الفرد، البطل. ولكن موته ليس امتدادًا لبذرة سلبية كامنة، وليست بفعل قدر غيبي سابق على تشكيل الفرد البطل، وإنما يموت البطل الوطني — إذا مات — بفاعلية القوى الخارجية المجسدة في شرور العدوان على الأرض، وليس بفاعلية اللعنة الأبدية عند اليونان أو الخطيئة الأصلية عند المسيحية. إن «الموت» إذن لا يصوغ بطولة تراجيدية في هذه الأعمال، ولكنه لا يصوغ أيضًا بطولة ملحمية، لأن «النصر» ليس ضرورة حتمية في بناء المسرحية الوطنية، بينما هو يشكل جوهر الملحمة، وإنما تنسج «المقاومة» جوهر المسرح الوطني، سواء انتهت بالنصر أو بالهزيمة، بالموت أو بالحياة. ولكنه في الحالين ليس نصرًا ملحميًّا ولا هزيمة تراجيدية، لأن «بطل المقاومة» في أصله الواقعي ليس بطلًا تراجيديًّا يجسد مأساة الإنسان مع الكون، وهو أيضًا ليس بطلًا ملحميًّا يجسم فروسية الإنسان في العصر الوسيط، وإنما يستمد بطل المقاومة بعض عناصر المأساة من كون مقاومته عرضة للصواب والخطأ، للنجاح والفشل، فإذا ألمت به «الكارثة» لم تكن قط لعنةً مكتوبة في لوح القدر، ولم تكن قط نتيجةً مسبقة لنزال الكائن البشري مع سر الأسرار. وكذلك فإن بطل المقاومة إذا كان يستمد بعض عناصر الملحمة — وهو أقرب إليها من التراجيديا — لصراعه مع القوى الخارجية، فإنه لا ينتهي بهذا الصراع إلى نفس النتيجة الملحمية القائلة بحتمية الانتصار. وبخاصة إذا كانت هذه الحتمية المنتصرة تسيطر على خيال شاعر الملحمة منذ البداية، فيشكل بطله وهو لا يزال جنينًا تشكيلًا متفردًا بعيدًا عن تكوين «بطل المقاومة» الذي لا يخضع لمواصفاتٍ معدة سلفًا، لأنه يخضع أولًا وأخيرًا لمتطلبات «معركة» لم يرسم دوره فيها منذ ولد، ولم يرسم له دوره فيها أحد. وتلك هي العلامة الفارقة بينه وبين أبطال المآسي، ولأنه «بطل نسبي» لا يمثل الخير المطلق في مواجهة الشر المطلق وإنما يجسد موضوعيًّا سلبيات المعركة وإيجابياتها جنبًا إلى جنب في صراعٍ مستمر تمليه مقومات الدراما، فإنه يبتعد خطواتٍ عن أبطال الملاحم. إنه يشبه البطل الملحمي في «نزاليته» لأن المقاومة في جوهرها نزال، ويشبه البطل الملحمي ثانيةً في أن نزاله نوع من الذود عن الحق ودفع للباطل، ولكن هذا النزال في جميع الأحوال يقترن بجوهر نسبي، هو جوهر المقاومة الوطنية التي لا تنضوي تحت لواء المطلقات، بل هي تتأرجح في مشروعيتها بين المد والجزر وهي حركة قوامها «النسبية» لا المطلق، لأنها ترتبط بالأرض والواقع والإنسان، وجميعها عناصر نسبية في خامة «المقاومة» التي لا علاقة بينها وبين القدر والخير والشر والمصير، وجميعها عناصر مطلقة تنتمي من أحد الوجوه إلى الخامة الميتافيزيقية، والمسرح الوطني في مصر لم يقتصر على البعد القومي وإن ركز عليه، فلعلنا نتلمس آفاق الرؤية الإنسانية الرحبة في «الراهب» و«اللحظة الحرجة» و«سليمان الحلبي»، وكذلك آفاق الرؤية الاجتماعية الواضحة في «المسامير» أي أن مسرح المقاومة المصرية قد اشتمل في معظمه على الأبعاد الثلاثة الرئيسية، القومية والإنسانية والاجتماعية، وإن ضمها إطار واحد هو المقاومة الوطنية.