الفصل الثامن

البطل الشعبي في المسرحية العربية

البطولة الشعبية هي ذلك المزيج المركب من الواقع والخرافة، فالأصل الواقعي لبطولات المقاومة يتجاوز في المخيلة الشعبية حدود الواقع وأسوار التاريخ ليجمع بعدئذٍ — في فرد واحد — خصال شعب وأغوار أمة. ولذلك كانت «الملحمة» هي أقدر القوالب الفنية على تجسيد البطل الشعبي لأن إمكانياتها الخاصة وأولها النسيج الشعري — البانورامي — قادرة بطبيعتها على نقل صورةٍ شاملة لشعب من الشعوب. ولكن العصر الحديث الذي لم تعُد الملحمة من أشكاله الأدبية المألوفة، مليء في واقع الأمر بالبطولات الشعبية الجديدة التي تختلف حقًّا عن البطولات القديمة وإن التقت معها في الكثير. وهذا اللقاء بين بطولات اليوم وبطولات الأمس هو الذي يملي على الفنان المعاصر أن يلتفت إلى «البطل الشعبي» في أيامنا التفاتًا عميقًا. إنه يرى في هذا اللون من البطولة تجسيدًا أمينًا لهذه المرحلة الملحمية — إن جاز التعبير — التي يخوضها العالم الحديث في مواجهة أبشع الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ البشري. وهو يرى في نفس الوقت أن الشكل الملحمي التقليدي لم يعد من ألوان الفن المقبولة في عصرنا. ولذلك كان الحل فيما أعتقد هو ذلك الشكل الفني المركب الذي أبدعه برتولت بريخت، وقد سماه بالمسرح الملحمي. جاء هذا المسرح حلًّا جماليًّا وفلسفيًّا لقضيةٍ شكلت تحديًا حقيقيًّا للأدب في القرن العشرين. ومن الطبيعي أن تظلل عيون بعض النقاد في الغرب غشاوةٌ لا يرون بسببها في المسرح الملحمي إلا «مسرحًا تلفيقيًّا مصطنعًا» لا يصدر عن تقاليد الفن المسرحي وتطورها لأن هذه العيون — من زاوية الفكر — لا ترى حقيقة ما جرى في العالم بظهور الاشتراكية كمجتمع ونظام لا كفكرٍ مجرد، فقيام المجتمع الاشتراكي في تصوري هو الذي «تحدى» الأدب أن يخلق بالفن المبدع ما يوازيه في مجال التطبيق لا في مجال النظريات. وفي تصوري كذلك أن العطاء العظيم للاشتراكية في حقل الأدب هو الاستجابة الواعية العميقة لهذا التحدي، كما تبلورت في المرحلة الملحمية من مسرح بريخت. فالحق أن هذه المرحلة هي التغير الكيفي الوحيد التالي لمسرح شكسبير مهما تعددت التجارب والاتجاهات على طول هذا التاريخ الطويل من شكسبير إلى بريخت. فلقد كانت أعمال شكسبير هي ضربة عصر النهضة للمسرح الأرسطي، ولا شك أن أعمال بريخت الملحمية هي ضربة عصر الاشتراكية للمسرح البرجوازي؛ بل إن هذا المسرح قد حاول أن «يحتوي» مسرح بريخت الملحمي كما يبدو ذلك واضحًا في تأثرات يونسكو وأوزبورن وجينيه وبنتر. ولكن هذا التأثر باء بالفشل العظيم، لأنه كان تأثرًا جزئيًّا ببعض الجوانب الجمالية، ولم يكن قط تأثرًا شاملًا بالأسس الفكرية التي قام عليها هذا البناء المسرحي الجديد. وربما يأخذ الكثيرون من نقاد الغرب والشرق معًا بعض المآخذ الفنية على المسرح الملحمي عند بريخت، وربما يبدع آخرون غير بريخت في إطار هذا المسرح إبداعًا يتجاوزه، ولكن هذا لا ينفي أن عصرًا جديدًا قد بدأ في تاريخ المسرح وأن أعمال بريخت الملحمية هي الحد الفاصل بين عهدين في هذا التاريخ.

لماذا؟ لأن بريخت قد أحس حتى الأعماق أن العالم يعيش عصرًا ملحميًّا جديدًا، ليس هو بالقطع العصر الملحمي القديم، ولكن الملامح الأساسية للصراع الملحمي كامنة بلا ريب في أحشاء هذه المرحلة الدامية التي يؤرخ لها عادةً بالحرب العالمية الأولى، والتي ما تزال تتخذ أشكالًا جديدة، فإذا كانت الحرب الأولى قد تمخضت عن ظهور الدولة الاشتراكية البكر، وإذا كانت الحرب الثانية قد تمخضت عن ميلاد النظام الاشتراكي العالمي الذي يضم تحت أجنحته أكثر من ثلث البشرية، فإن العالم لم يتخلص نهائيًّا بعدُ من الصراع المر والنضال الطويل الأمد، بل لعل حدة الصراع ومرارة النضال قد ازدادت على السنين، وكان لا بد أن يبعث من جديدٍ ذلك «البطل الشعبي» الذي ناضل الإقطاعي فيما مضى؛ بل من قبله ناضل الملوك والأباطرة مر والآلهة، لا بد له من بعثٍ جديد يرتبط حقًّا بالصراع الملحمي الذي عرفه عبر القرون والأجيال، ولكنه يتصل أوثق الاتصال بروح العصر التي لا ترتدي ثوب الملحمة القديمة لأنها ضاقت على الوجدان الحديث وأصبحت الدراما العصرية هي ثوبه الملائم. هذا البطل أو هذا النموذج، ما كان يمكن أن يعرفه المسرح البرجوازي منذ عصر النهضة العظيم إلى العصر الحديث لأنه في المراحل التقدمية لهذا المسرح لم يكن «البطل الشعبي» — المغمور أو المجهول — هو النموذج الذي تراه العين البرجوازية المجردة على خشبة الأحداث، وإنما كان «هاملت» هو البداية و«السوبرمان» هو النهاية؛ إذ كان برنارد شو — بكل ما يمثله من قيم التقدم — هو خاتمة المطاف. حتى شون أوكيزي بكل ما يمثله من تفوق على برنارد شو لم يتمكن من اجتياز الأسوار العالية «للبطل البرجوازي». أما في المراحل الرجعية المتخلفة لهذا المسرح، فقد استهدف «البطل الشعبي» لتجاهل البرجوازية عند حسَني النية من كُتابها الكبار، وللزراية والاحتقار من ممثليها المخلصين. ولم يقدر لهذا النموذج أن يبعث من مرقده إلا حين اعتلى بنفسه خشبة الأحداث مع نجاح الثورة الاشتراكية الأولى التي أثبتت أهليته للبطولة وجدارته في اعتلاء مسرح الحياة قبل مسرح الفن. ولم يقدر لهذا النموذج أن يبعث في موطن الاشتراكية الأول بعثًا فنيًّا عاليًا لأن انعدام المسافة الموضوعية بين العين الفنية والبطل يحرمها من الرؤية الصحيحة، بينما أتيح لعينٍ بعيدة عن الأحداث، هي عين بريخت الاشتراكية، أن تعايش البطل معايشةً عميقة خصبة أثمرت — بمقدرةٍ فنية عالية — هذا «البطل الشعبي» الذي نتعرف عليه في مختلف أعمال مسرحه الملحمي. هذا البطل الذي نتعرف عليه قبل أن ينتقل من الواقع إلى الفن، في مختلف أرجاء العالم المعاصر حيث لا تزال ملحمة الصراع بين الاشتراكية والاستغلال الرأسمالي تتخذ أشكالًا متعددة من بطولات المقاومة الوطنية. والملحمة عادةً ليست فن الاستقرار وإنما هي فن النزال؛ لذلك كانت روحها هي جوهر العصر الحديث، فالنزال بين قوتين هو قانونه الأساسي، ولذلك أيضًا كان المسرح الملحمي هو فن مرحلة الانتقال العالمية من البرجوازية إلى الاشتراكية، تمامًا كما كان شكسبير هو فن مرحلة الانتقال إلى عصر النهضة. وفنون مراحل الانتقال علامات الطريق الرئيسية في تاريخ الفن، لأنها تقوم «بعملية المخاض» الصعبة فتهدم الكثير وتبني الكثير، ترفض الكثير وتقبل الكثير، تقتل الكثير وتحيي الكثير، ثم تترك بصمات الهدم والبناء وتفاصيل الرفض والقبول على عصور وأجيال، إلى أن يحدث تطور عظيم جديد لبني الإنسان، فتحدث الدورة بتمامها من جديد. وهكذا يتطور الفن ويبقى ما بقيت له وشائج تصل ما بينه وبين الإنسان، وهكذا أيضًا ينحدر الفن ويتدهور ويزول كلما انحطت ووهنت العلاقة بينه وبين الإنسان. وكم من كاتب حطم الوحدات الأرسطية الثلاث بعد شكسبير، ولكن التاريخ لم يُفسح له مكانًا إلى جانب شكسبير، وكم من كاتبٍ اتخذ من الملحمة إطارًا مسرحيًّا بعد بريخت، ولكن التاريخ لا يضعه في صفٍّ واحد مع بريخت، وذلك لأنه يتبقى دائمًا ذلك الفرق العظيم بين الرائد الذي غامر بالخطوة الأولى في طريق مجهول، والتابعين الذين يسلكون نفس الطريق. وهو فرق يتحمله بعض أولئك بمرارة شديدة لأن أسبابه في أحيان كثيرة تخرج عن طوعهم، فمن بين الذين يسلكون نفس الطريق فنانون عظماء، ولكن لحظتهم التاريخية قد اختلفت في مدار الزمان عن لحظة التطابق مع نقطة التحول التاريخية التي تسمح وحدها — للرائد والمكتشف الأول — أن يكون شاهدها الوحيد.

ولا ينفي ذلك عن الفنانين الكبار الذين سلكوا طريقًا ممهدًا من قبل أن يبدعوا ويبدعوا وإن ضاعت عليهم فرصة الريادة الأولى لنقطة التحول، فإن إبداعهم كفيل بعديد من الريادات والكشوف في الطريق الطويل الذي ساروا فيه بعد غيرهم. ويكفيهم ذلك صدقًا مع النفس ومع التاريخ بدلًا من الافتعال والتصنع المبتذل. وهذا أيضًا هو الفرق بينهم وبين المقلدين عن قصور والمحاكين عن عجز. إن الفنان الكبير يخترق بنظرته النافذة حجب الواقع المتراكم فيرى غناه غير المتناهي، ويضيف من ثَم الشيء الكثير.

وفي عالمنا العربي الذي يعد مركزًا غنيًّا بالصراع «الملحمي» الذي أشرت إليه، يستطيع الكاتب المسرحي أن يضيف الكثير إلى تراثه المحلي. وهو إن أخلص لأرضه المحلية إخلاصًا فنيًّا وفكريًّا عميقًّا، فلا شك أنه سيضيف ملمحًا ما إلى التراث الإنساني. فالتفاعل بين النظرية العامة الشاملة — كهذه التي يقدمها لنا بريخت مثلًا — وبين الواقع الجزائري هي التي قدمت لنا إحدى عبقريات المسرح العالمي المعاصر من أرض الجزائر، وأعني بها عبقرية «كاتب ياسين»، وهذا التفاعل بعينه هو الذي ألهم كاتبًا مصريًّا أن يقدم شيئًا جديدًا على تراثنا المحلي، كهذا العمل الذي قدمه نجيب سرور.

وسوف أقتصر هنا على مناقشة أعمال هذين الكاتبين، اللذين أزعُم أنهما قد تأثَّرا غاية التأثر بما يسمى «المسرح الملحمي» وبخاصة أعمال الكاتب الألماني برتولت بريخت. ولكنهما في نفس الوقت — ومع اختلاف درجات الموهبة والثقافة والمعاناة — قد تفاعلا مع واقعهما المحلي تفاعلًا خلَّاقًا أضاف شيئًا إلى التراث الإنساني عن طريق كاتب ياسين، وأشياء إلى التراث القومي عن طريق نجيب سرور.

•••

ويعد كتاب «المسرح السياسي» الذي أصدره بسكاتور — الفنان الألماني الأصل — في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بمثابة الميلاد الأول لفكرة المسرح الملحمي التي أصبح بريخت علَمها الأول. وليس المسرح السياسي عند بسكاتور مجرد نظرية في الدراما بقدر ما هو تحقيق فني لنظرية في الإنسان، فالإنسان كما يقول في هذا الكتاب «كائن سياسي» أولًا وقبل كل شيء، ولا بد للمسرح من هذه الدلالة جيدًا حتى يتمكن من صياغتها في أدوات تكنيكية تلائم هذا الفهم للإنسان. ولذلك يفرق بسكاتور تفريقًا جوهريًّا بين أن يكون المسرح أو الفن عمومًا، مسرحًا وفنًّا سياسيًّا، وبين أن تكون السياسة نفسها مسرحًا أو فنًّا. فالمسرح السياسي يتخذ من الإنسان خامةً بشرية له. هذه الخامة هي الكائن السياسي الذي يُفصح عن نفسه في مختلف جزئيات الحياة وتفاصيلها وقضاياها الكلية ومشكلاتها الكبرى. ومعنى هذا أنه لا بد من خلق «المسرح الكامل» تكنيكيًّا، وهو المسرح الذي تتبلور فيه كافة منجزات الحضارة الفنية عبر العصور، فيستخدم وسائل الحركة السينمائية جنبًا إلى جنب مع وسائل التشكيل في النحت والرقص والأوبرا والموسيقى السيمفونية. هذه الأدوات جميعها تجعل من المسرح السياسي فنًّا أصيلًا على النقيض من أن تكون السياسة نفسها مسرحًا هاتفًا بالشعارات «ليست هذه الشعارات إلا عملية تسطيح مدمرة للإنسان والمسرح معًا». وقد أخلص بسكاتور لهذا المعنى الجديد في المسرح الذي كان ثورةً جارفة على المذهب التعبيري السائد في ألمانيا إبان العشرينيات والثلاثينيات من هذا القرن. وقد كانت مسرحية «هكذا الحياة» للكاتب الألماني تولار من أولى المسرحيات التي أخرجها عام ١٩٢٧م وهي تقدم صورةً شاملة للحالة السياسية في ألمانيا بعد الحرب. وكان آخر عمل قدمه عام ١٩٦٥م مسرحية اسمها «التعليم» للكاتب الألماني بيتر يتحدث فيها عن معسكرات الاعتقال وأفران التعذيب التي أقامها النازي. وأقبل ظهور بريخت كنقطة تحول حاسمة انتشلت أفكار بسكاتور وتجارب السابقين من أبراج الذهن المعلقة في الفضاء النظري وهبط بها إلى أرض الواقع التجريبي فيما دعاه بالمسرح الملحمي، وبالرغم من كافة الجهود التي بذلها من بعده بيتر فايس، فقد ظلت في جوهرها محاولات لاهثة للحاق ببريخت دون أن تصيب جوهره العميق، بل لعلَّها من بعض النواحي كانت انحرافًا عن هذا الجوهر. ولعل تجربة كاتب ياسين هي بالدقة الطرف النقيض لتجارب فايس، جاءت تطويرًا لبريخت وتعميقًا له، وإعلانًا صريحًا بأن الشعوب «المتخلفة» التي عانت طويلًا تحت ضغط النير الاستعماري هي الخامة البشرية المرشحة في عصرنا لتحقيق أحلام بسكاتور في «مسرحٍ كامل» وتحقيق أحلام بريخت في الانتقال العملي من نظرية «المسرح السياسي» إلى واقعية «المسرح الملحمي» وتصحيح رؤية بيتر فايس — في مسرحه التسجيلي — لمعنى الثورة، وهي الرؤية الضبابية الغائمة التي بلغت ذروة غموضها في «ماراصاد». كاتب ياسين يعي ملحمية الصراع الدامي في عالم اليوم من خلال الصراع الملحمي الذي عاشته بلاده، فإذا كان العالم المعاصر في مجموعه يعيش مرحلة انتقال حاسمةً في تاريخه، فإن الجزائر تعيش في كيان كاتب ياسين مرحلة انتقال أكثر حسمًا في تاريخها؛ بل إن التاريخ الشخصي لكاتب ياسين يقول إن عينيه قد تفتحَتا على نور الحياة الحقيقية في اليوم الثامن من مايو ١٩٤٥م، ذلك النهار الدموي الذي استقبلته الجزائر غداة انتصار الحلفاء في الحرب الثانية وقد ظن أهلها أن النصر الذي شاركوا في صنعه بدمائهم التي ناضلت ضد النازيين والفاشست هو يوم التحرير من ربقة الاستعمار الفرنسي الذي طال أمده أكثر من مائة عام. ولكن نشوة النصر أعمت المحتل فلم يرَ للحرية معنًى سوى أن يتمتع بها وحده ويسحق الثوار من أبناء الجزائر الذين استبسلوا إلى جانبه في الحرب ضد أعداء الحرية بمعناها الأرحب، حرية الإنسانية كلها. ولونت رصاصات الفرنسيين الثامن من مايو عام ١٩٤٥م بلونٍ قانٍ يشهد على أن إيمانهم بالحرية إيمان ناقص ومحدود بأهدافهم العاجلة والضيقة، وكذلك هو إيمان موقوت بموازين اليوم القوة والضعف.

•••

تفتحت عينا كاتب ياسين وأذناه على لون الدم وطلقات الرصاص، والجثث تتراكم فوق بعضها البعض، فتساءل من الأعماق ما إذا كانت هذه هي النهاية؟ لم تكن سنه قد تجاوزت السادسة عشرة حين أدرك في ذلك الوقت المبكر أنها لا يمكن أن تكون النهاية أبدًا، فالطغيان الهتلري نفسه قد لقي مصرعه ككل طغيان، وربما كان ما يتصوره المرء في عجلة من أمره أنه النهاية ليس إلا البداية الحقيقية لجولات المد والجزر التي تتبادل فيها الثورة مع الاستعمار مراكز الشد والجذب في صراعٍ بطولي هائل لا سبيل إلى تعريفه إلا بأنه صراع ملحمي. إن مسرحيته الأولى التي بدأ في كتابتها بعد ذلك اليوم المشهود في تاريخ الجزائر بسبع سنوات (١٩٥٢م) أو انتهى منها عشية انطلاق الثورة الجزائرية المسلحة (١٩٥٤م) لهي الدليل الناصع على أن وجدان كاتب ياسين قد عمل كالرادار، فالتقط الظواهر البعيدة عن مستوى البصر المألوف. لقد مر الثامن من مايو ١٩٤٥م أمام أعين الكثيرين وكأنه أزمة عابرة، ولكن البصيرة النافذة للفنان قد رأت في «مخزون» ذلك اليوم ما تلاه من أيام. فماذا تقول مسرحيته الأولى «الجثة المحاصرة»؟

تقول إن بناءها الدرامي يعتمد على دعامتين هما الشخصية والموقف، فالحدث أو الأحداث تكاد تنعدم. والشخصية ليست «كائنًا يتطور» ويتشابك مصيره الخاص ببقية المصائر، وإنما هي «حالة من حالات الوجود» دائمة الحركة حقًّا، ولكن من الداخل، والموقف ليس تتويجًا لمسار الكائنات والأشياء، وإنما هو «زاوية من زوايا الرؤية» التي تجسد بها الشخصية حالة وجودها. والشخصية تقف على الحافة الحرجة بين الواقع والأسطورة، فهي ليست كائنًا واقعيًّا محضًا كما أنها ليست كائنًا خرافيًّا محضًا، ولكنها «مركب» جديد من الواقع والخرافة. والموقف كذلك ليس مساحة من المكان، ولا مسافة من الزمان، وإنما هو ذلك التركيب المعقد من الزمان والمكان خارج نطاق الجاذبية الأرضية وداخل حدود المدارات الأرضية في نفس الوقت. والشخصية متمايزة عن الموقف حقًّا، ولكنها ليست منفصلة عنه مطلقًا. إن «الشخصية في موقف» هي عماد التطبيق الملحمي الخلاق في مسرحية كاتب ياسين الأولى، وهي من ناحيةٍ أخرى مسرحية تجريبية، لهذا فهي تتناول النظرية البريختية بالحذف والتعديل والإضافة وإن احتفظت بجوهرها الأعمق. فالمسرحية تتحول في بعض مراحلها إلى مونولوج درامي طويل يتبادل «الموقف» مع الكورس حينًا ومع الجمهور أحيانًا، ولكنه يحتفظ دائمًا «بمنطقة أمان» تحصن المتلقين من نشوة الاندماج وسحر الغيبوبة. والمسرحية تتحول في بعض مراحلها إلى شعر خالص يتبادل «الرؤيا» مع النثر الخالص، ولكنه يحتفط دائمًا «بنفحة شعبية» تحمي البطل من الانزلاق إلى وهاد الشعر العدمي، أو التحليق حينًا في سماء الشعر الغنائي.

فنحن مع «الأخضر» بين الجثث التي تراكمت على ناصية شارع شهير من شوارع حي القصبة بالجزائر. وصوت الأخضر الجريح هو الصوت الوحيد الذي ينبعث من ظلمات الشارع الذي يقبع في طرفه الأقصى بائع برتقال أمام عربته الفارغة. والموتى يلفظون أنفاسهم الأخيرة في يأسٍ تجسده حركة الأذرع والرءوس الهاذية. إذن فنحن مع الكاتب نعيش ما وراء الحدث الأصلي وهو المذبحة التي وقعت في هذا المكان، المذبحة التي نجمت عن قتال مرير غير متكافئ بين جنود فرنسا وثوار الجزائر. والأخضر، في تلك اللحظة هو «حالة من حالات الوجود» دائمة الحركة حقًّا، ولكن من الداخل: «هنا شارعنا، لأول مرة أشعر به ينبض كالشريان الوحيد المتدفق والذي أستطيع أن ألفظ أنفاسي الأخيرة دون أن أفقده. إني لم أعد جسدًا وإنما أنا شارع. لا بد لي الآن من مدفع لصرعي. وإذا صرعني المدفع فسأظل هنا وميض نجم يمجد الأطلال. وأي صاروخ بعد ذلك لن ينال مسكني إلا إذا تخلى طفل ناضج قبل الأوان عن الجاذبية الأرضية ليتبخر معي في عطر نجم في موكب ودي لا يكون الموت فيه سوى لعبة، هنا شارع نجمة، نجمتي، الشريان الوحيد الذي أقضي فيه نحبي. إنه شارع دائم الغروب تفقد فيه المنازل وضاءتها مثل الدماء بمثل عنف الذرة التي توشك على الانفجار.» بهذه الحالة من حالات الوجود تنتهي إمكانيات تطور الشخصية التي أمامنا ولا يتشابك مصيرها الخاص ببقية المصائر. ولا يعود ذلك لأنها «كائن يموت ولدته أمه على باب القبر» كما هو الحال في البطل التراجيدي القديم أو البطل العدمي الحديث، وإنما لأن الأخضر ليس شخصيةً مفردة يحركها في الحياة سلوكها الذاتي وحده، وهو أيضًا ليس رمزًا تجريديًّا يشف عن فكرة من الأفكار ولا علاقة له بالحياة النابضة باللحم والدم. إن الأخضر على وجه اليقين «حالة إنسانية» من حالات «الوجود الجزائري» أي أنها من أحد الوجوه تجمع بين الخاص والعام في شخصية الفرد والوطن وهي على وجهٍ آخر «حالة زمنية» تجمع أشتاتًا من الماضي والحاضر والمستقبل، بحيث تخرج بعض ملامحها عن حدود الزمان. لذلك يتوحد الكائن البشري «الأخضر» في الحيز المكاني «شارع القاندال»، يصبح توحدًا لا سبيل إلى فصمه حتى ليصبح الأخضر والشارع شيئًا واحدًا، فيه ولد وعاش، وفيه سيموت مضرجًا بدمائه التي امتزجت بذرات أرض الشارع امتزاجًا أبديًّا. هكذا الموت لعبة، ويتحول الطفل الناضج قبل الأوان إلى رمز شفيف، إلى مستقبل لا يخضع لناموس الجاذبية الأرضية، لعله أغلال المستعمر وقوانين المحتل الغاصب. وهكذا النجم الذي صار إليه ورافقه في جولة علوية فوق الأطلال، هو توأم «نجمة» الشريان الوحيد الممتد من الموت إلى الحياة، فنجمة هي معجزة المسيح الجديد الذي يعبر بدمه شاطئ الموتى إلى الأحياء. وما كان للفنان أن يصوغ هذه «الحالة» الإنسانية للوجود الجزائري إلا بالشعر، حيث يخلق التوتر الوزني والتصوير الداخلي هذه الوحدة الدينامية العميقة بين الخاص والعام في شخصية الفرد والمواطن، وكذلك الوحدة الدينامية العميقة بين الماضي والحاضر والمستقبل. فالأخضر ليس مجرد مناضل جزائري سقط في ساحة النضال، وإنما هو «البطل الشعبي» في لحظة انبعاث، حتى إذا سقط فإنه سيعود مرةً ومرات، أو كما تقول عنه نجمة: «واثقون أننا سننهزم وفي قلوبنا كبرياء من يشعرون بأنهم قوم لا يهزمون. وما دام الصديق الوحيد قد هلك، فسأنتظره أكثر من أي وقتٍ مضى.» فالأخضر على النقيض من البطل التراجيدي والبطل العدمي معًا هو بطل «يعيش» وإن مات، بل قد يكون في موته أكثر حياةً. وتلك هي السمة الأولى البارزة على جبين «البطل الشعبي» في مسرحية «الجثة المحاصرة».

والموقف الذي وجد فيه الأخضر نفسه وأوجد فيه نفسه أيضًا، لم يكن «نهاية الأحداث» أو تتويجًا لها، لأن هذه الأحداث لم توجد قط على طول المسرحية، وإنما كان الموقف المحيط بالأخضر هو مدى قدرته على تجاوز أسوار الموت، بمعنًى آخر مدى قدرة الثورة على الاستمرار. وبعيدًا عنه، هو الوحيد مع الموت والمزدحم الرفقة والصحاب مع الحياة، كانت بقية الشخصيات الصانعة للديكور الحي في المسرحية تصوغ هذا «الموقف» المرير: طهار أبوه بالتبني لا يرى في الجثث إلا تغريرًا من «الرفاق» لبعضهم البعض، أولئك الذين ينبذون الكتب المدرسية وأدوات العمل ليلحقهم الجنود «بزملائهم» من الشهداء. أما مصطفى، أحد هؤلاء الذين يرفضهم طهار، فلا يرى في الجثث شيئًا غريبًا على الشارع العتيد الذي رأى كثيرًا قبلها وسيرى كثيرًا بعدها ومن بينها جثة طهار نفسه، لأن الموت قانون الحياة فلا بأس من لقياه، ولكن بغير جبن أو «خيانة للأسلاف». وكانت هذه المرة الأولى التي يرِد فيها ذكر «الأسلاف» بالمسرحية، ولكنهم جزء لا ينفصل من نسيجها الدرامي كما سنرى. ويواصل مصطفى حديثه إلى طهار وجيله بأنهم معجبون بانتصارات الأجانب على «الأجداد» ولم يعد للنضال معنًى في عيونهم؛ فقد تدافعوا إلى عار الهزيمة بنفسية الخدم فتلذذوا بقبولها: «ودفعتكم إلى تغذية أحلام العبودية على حساب أولادكم اقتداءً بمستعمريكم، ولكنكم ستكونون آخر المخدوعين. إن أولادكم، على الرغم منكم، قد كبروا في الشارع. لم يكن لديهم وقت ليُستعبدوا، وسرعان ما رأوكم تنفقون مع أحلامكم السعيدة.» ويلتقط الأخضر عبر مونولوجه الطويل المكتوم خيط الأمل، وتنطلق من كلماته شرارة وعي نادرة وسط الهذيان والحشرجات المتوالية: «إني أسمع ضوضاء الدماء تعيش، وأعثر على صرخة أمي وقد جاءها المخاض. إنني أسمع القبيلة تعيش تحت ريح السموم التي بلغت عروقي، وأرتفع عند الغروب نحو أشجار الحور العتيقة التي يهتز قوامها ورقةً ورقة وفق اكتساح نباتي لا يمكن التصدي له.» وهكذا تفاعلت الشخصية مع الموقف الذي واجهته في دورة السؤال والجواب، دورة جدلية تضع «الشخصية في موقفها» من جديد، ولكن على نحوٍ أكثر تركيبًا، فالأخضر بالإضافة إلى أنه «حالة من حالات الوجود» هو شخصية في «موقف» بمعنى أن حركتها الداخلية تنطلق في إطار «زاوية من زوايا الرؤية» التي تجسد بها الشخصية حالة وجودها. ولقد حدد له لقاؤه بنجمة ومارجريت وحسن ومصطفى «زاوية الرؤية» هذه التي جسدت حالة وجوده، فنجمة الباحثة عنه في أعماق الكهوف: «وعرفت في مصادقة القتلة صيد القنفذ. لقد كنت دائمًا تفقدني.» هي العاشقة والمعشوقة منذ الأزل إلى الأبد، ولكنها أيضًا الهاجرة والمهجورة، أحبها منذ كانت تلك الابنة الحلوة للغانية الأجنبية وعشيقها، الجزائري المتيم، أحبها حين جمعت بين عراقة الأصل وحضارة الرحم وأحبته بمثل ما أحبها حتى هامت على وجهها باحثةً عنه بين الجثث تارةً والجرحى تارةً أخرى والمذعورين الهاربين تارةً ثالثة، لا تأبه لركلات أولئك الذين يشتهون رفس امرأة غريبة. ولكن الأخضر لم يكن هو الأخضر؛ فحين حملته مارجريت في ساعاته الأخيرة إلى منزلها أقبلت «نجمة» وقد ظنت به الظنون، وتجاوز الظن عند حسن مداه فأردى والد مارجريت برصاصة من مسدسه. على أن ذلك كله لم يكن في استطاعته أن يغير من جوهر الصراع شيئًا، لأن الأخضر دخل مرحلة الهذيان الأخيرة، فلم يكن ثمة بد من هجره لنجمة وهجر نجمة له، ولم يكن ثمة بد من أن يقتل طهار هذا «المجنون» في نظره، والشهيد في نظر الآخرين والبطل الشعبي في نظر التاريخ.

والأخضر في «الجثة المحاصرة» هو الشخصية التي تقف على الحافة الحرجة بين الواقع والأسطورة، فهو يقول لنجمة: «إننا جميعًا، في هذه المدينة التي لا يطيقها الأجانب، لا نطرد أحدًا على الإطلاق. أي فاتح بوسعه أن يطعننا مرةً أخرى ويخصب بدوره قبرنا، وهو يُعلِّم أيتامنا لغته، وهو مستقر في أمان مع ذويه دون أن تزعجه احتجاجاتنا، الاحتجاجات التي تصدر من العالم الآخر، فلا أحد يمكن أن يسمعنا. وليس هذا من عدم الصراخ، إننا لم نكُف عن أن ننادي بكل قلوبنا هذا المنفى الذي نعيشه مكانكم، فوق قبرنا، أرضنا السليبة. أمن الممكن أن تكون هذه خديعة؟» وتغلق نجمة فمه بيدها الممدودة حتى لا تسمع بقية الكلام، أما نحن فنفضل أن نقول له إنه بهذه الكلمات ليس كائنًا واقعيًّا محضًا ولا كائنًا خرافيًّا محضًا، لأنه من ناحيةٍ كان هو «الواقع» بعينه حين أبرز الوجه السلبي لأرض النضال المفتوحة لكل غازٍ، ولكنه من ناحيةٍ أخرى كان هو «الأسطورة» بعينها حين توحد مع الأسلاف في نداء خفي لا يتوقف من مدينة الموتى إلى عالم الأحياء أن يستيقظوا من سباتهم لمواجهة التحدي الأعظم في جولةٍ أخرى، ولعلها تكون الأخيرة. لم يعد الأخضر هنا هو المناضل الجزائري المحتضر في إحدى الزوايا المعتمة من زقاقٍ يعبر شارع القاندال بحي القصبة، وإنما هو قد أصبح لحاء شجرة البرتقال التي استند عليها بالقرب من البائع وعربته الفارغة، الشجرة التي تنذر «باكتساح نباتي» لا يقاوم، وهي الشجرة التي تسلقها ابنه علي، ابن نجمة في نفس الوقت، وراح بخنجر أبيه يقصف ثمار البرتقال من فوق أغصانها، وهي أيضًا الأغصان التي صنع منها نبلته وراح يصوب منها وابلًا من البرتقال في وجه الجمهور بصالة المسرح، بينما يدمدم صوت الكورس من بعيد: «أيها المجاهدون من حزب الشعب لا تغادروا مخابئكم.» هنا تؤدي الخرافة غايتها؛ إذ تعيد الدورة من جديد وتسلم زمام الرمز الشفيف إلى الواقع الحي ليعيد صياغته من جديد في «مركب» أكثر تعقيدًا من الواقع والخرافة، كما يبدو لنا من هذا الحوار الدال بين الأخضر ونجمة:

الأخضر :
وكجوالٍ على ظهره،
أقوم بالتسميد مختلطًا بك،
وأغمرك بفم مخيط،
مفعمًا بسحابك الممطر،
وكجوالٍ على ظهره،
أقوم بالتسميد مختلطًا بك،
أيتها الرفيقة التي لا يمكن التنبؤ بها،
أيتها الأرض التي أرهقها قمحها اليابس وقد ألقي على الأرض عنوة.
نجمة : أنا التي رأتك والمنجل يقطعك.
الأخضر :
ولكني سأخرج من صومعة الغلال،
ولن تعرفي بعد ذلك
أي هجمة قديمة تغطيك،
وسينسى
عريك
الشتوي!

والموقف هنا ليس مساحةً من المكان ولا مسافةً من الزمان، وإنما هو الفعل ورد الفعل الذي يتجاوز نطاق الجاذبية الأرضية كما نلحظ في قول مصطفى إنه: «منذ الطفولة ونحن نعلم أنه يجب أن نهزمهم. ومنذ استطعنا أن نجري أخذنا النبال ولذنا بالأدغال ولم يُجدِهم شيئًا أن يعلموا بضرباتنا قبل وقوعها. ولم يُغنِهم شيئًا أن نهلك نحن بدلًا منهم. إن قبرنا سوف يخصص لهم أبدًا. سيتساقطون مثل الذباب بتأثير غيابنا فقط. كيف يمكنهم الحياة بدوننا؟» فهذا القول الذي يبدو في ظاهره متناقضًا أشد التناقض، هو في باطنه يبلغ ذروة الاتساق لو جردنا الكلمات من أثقال المكان وتبعات الزمان وخرجنا بها فعلًا عن نطاق الجاذبية الأرضية التي تمسك بالحرف من أذن الواقع المرئي المحسوس، وترى الكلمة بعدسة العين المجردة. أقول إننا لو جردنا الكلمات من هذه الأثقال والتبعات دون أن نخرج عن مدارات الأرض لاستطعنا أن نضع كلتا يدينا على جوهر هذا التناقض الظاهري، وأعني ذروة الاتساق التي تصل إلى هذه الدرجة العالية من الدقة والنضوج، حين يتسلح المناضلون بالنبال والأدغال وحدها في مقابل المدافع والدبابات، وحين تتكشف ظهورهم للعدو بالخيانة تارةً وضعف وسائل الاتقاء تارةً أخرى، ومع ذلك «فلا جدوى» من بطش المستعمر، بل إن غياب المناضل بالموت هو الذي يفعل فعله في المحتلين إذ يتساقطون كالذباب، فصاحب الحق الضائع تواتيه شجاعة مضاعفة — إلى حد الاستشهاد — في وجه غاصبيه وجبنهم التلقائي إزاء موقفهم الأخلاقي الضعيف أمام أنفسهم وحقًّا «كيف يمكنهم الحياة بدوننا؟» إذا كان موتنا الجزئي الموقوت إيذانًا بموتهم الشامل الأبدي؟

على أن شخصية الأخضر متمايزة حقًّا عن الموقف الذي وجد فيه وأوجد نفسه فيه، ولكنه غير منفصل مطلقًا عن هذا الموقف، لقد أخذوه إلى السجن ما دام فيه عرق ينبض، لم تشفع جراحه في الرأفة به حتى نال منه التعذيب الوحشي أعز ما يمتلك بشر، فقد عقله وخرج من جديد أكثر هذيانًا، بل لعل هذيان الموت شيء مختلف عن هذيان التعذيب؛ بل لعل هذيان الموت هو هذيان القلب النازف الذي قارب التوقف عن النبض، أما هذيان التعذيب فهو هذيان العقل النازف الذي قارب الصمت. ولقد تشابكت جراح قلبه وعقله في نزيفٍ هادر يلاحق الكلمات قبل أن تنطفئ الجذوة، قبل أن يأتي عليها هجران الرفاق «حسن ومصطفى» وهجران الأحبة «نجمة ومارجريت»، وقبل أن يأتي عليها أخيرًا خنجر طهار ذو الطعنة القاتلة، نزف الأخضر هذه الكلمات التي ينفصل فيها عن الموقف ويتصل به انفصالًا واتصالًا ليس له من آخر سوى ما تتركه الكلمات من إيحاء لا يزول:

إن شعوري يزداد بالظلم الشامل،
الآن وقد أصبحت أقل كلمة
تزن أثقل من الدمعة،
إنني أرى بلدي، وأرى أنه فقير،
أرى أنه مليء برجالٍ هوت رءوسهم،
وهؤلاء الرجال أراهم واحدًا واحدًا في رأسي.
لأنهم أمامنا، والوقت ينقصنا للسير وراءهم.

تلك هي المشاعر التي اجتاحت الأخضر في عزلةٍ كاملة عن الموقف المحيط به، ولكن الوشائج بين هذه الوحدة العميقة والعالم من حولها هي التي تنفي عنها صفة اليأس المطلق؛ إذ هي وحدة القهر لا وحدة الاختيار، ليست وحدة مقدورة في لوحٍ مكتوب ولكنها وحدة الاضطرار التي تمليها روح الاستشهاد عند البطل الشعبي كجزء لا يتجزأ عن كيانه كبطل مقاومة. وهو البطل الذي تناديه أمه — أم الأخضر وأم كل ثائر — تنادي اسمه الذي يزداد في أحشائها ثقلًا حتى إنها فقدت ثلاثة فصول من أربعة «لكي تنجب وحشًا هاربًا» ما إن شب عن طوقه حتى رحل إلى فرنسا، ولكنها تعلم أنه عاد «إنه لا يقوم بزيارتي أبدًا، وهو يصر على أن يحيا في الشارع مثل قاطع طريق.»

إن «الشخصية في موقف» هي عماد التطبيق الملحمي الخلاق في مسرحية كاتب ياسين الأولى، وهي من ناحيةٍ أخرى مسرحية تجريبية لم تستوِ على قدميها إلا فيما تلاها من تجارب ومحاولات تتراوح بين الأخذ عن بريخت والعطاء للمسرح المعاصر، ولكنها في جميع الأحوال تتناول النظرية البريختية بالحذف والتعديل والإضافة كالاستغناء عن الحدوتة والأغنية الشعبية، وتحوير زاوية الرؤية للبطل التي دعوناها بالموقف، وإحلال «الأسلاف» أحيانًا مكان الآلهة، ولكن مسرحية كاتب ياسين في نهاية الأمر تحتفظ من مسرح بريخت الملحمي بجوهره الأعمق: البطولة الشعبية.

•••

وهي البطولة التي لا تمتزج بالحالة النفسية للكاتب، وإنما هو يضع فيها ما يسميه بريخت «حالة العالم»، إنه بعبارةٍ أخرى يضع فيها شيئًا يقوم على الملاحظة الموضوعية هو نقيض ما يُسمَّى عادة بالحالة النفسية. وهي أيضًا البطولة التي تمركز الشخصية وسط متناقضات متصارعة أبدًا، فهي إذا لم تكن في حالة تطور «كمي» في موازاة الأحداث الخارجية، إلا أنها دائبة التغير من الداخل حيث لا يوجد كائن إنساني — يقول بريخت — يستطيع أن يكون واحدًا في كل لحظة، فالظروف الخارجية لا تكف عن التغير «وتوازن الشخصية الداخلي يتعدل بالتالي، وما يُسمَّى بالأنا المستمرة مجرد أسطورة». إن وظيفة المسرح البرجوازي — كما يستطرد بريخت — هي تقييم ما هو غير زمني لأن تمثيله للإنسان يقوم على ما تعودنا تسميته بالإنسان الخالد: «فالحكاية يتم بناؤها الفني بطريقة تجعلها تخلق مواقف ذات مغزًى عام وتسمح للإنسان في كل عصر ومن كل أصل، للإنسان عمومًا أن يعبِّر عن نفسه.» فالظروف الخارجية — بالمسرح الطبيعي — تتغير والبيئة تتنوع ولكن الإنسان نفسه لا يتغير. ورغم ذلك — ويا للمفارقة العجيبة — نجد المتفرج في المسرح الدرامي (المسرح القديم في نظر بريخت، أي المسرح البرجوازي) يقول: نعم، ذلك ما أعانيه أنا أيضًا، هكذا أنا، هذا شيء طبيعي تمامًا، وسيكون دائمًا على هذا النحو، إن ألم هذا الكائن يهزني لأنه ما من مخرج له، إنه لفن عظيم، لا يوجد ما يصدمني هنا، إنني أبكي مع من يبكي وأضحك مع من يضحك. لذلك كان المسرح الملحمي على النقيض من هذه المفارقة العجيبة، ليست البيئة في إطاره وعاءً زجاجيًّا جامدًا تشكل الإنسان وفق طبيعتها فحسب، وليس الإنسان كائنًا خالدًا غير قابل للكسر والتغير مهما تقلبت البيئة في أنواء الظروف ورياح الوجود، وإنما يلغي المسرح الملحمي هذه المفارقة العجيبة بواسطة ما دعاه بريخت بالتبعيد أو التغريب، ويضرب لنا مثلًا للتقريب فيقول: «يتحقق التبعيد حين يسأل البعض: هل نظرت من قبل إلى ساعتك؟ إن من يسألني هذا السؤال يعرف غالبًا أنني أنظر إليها عدة مرات لكنه بسؤاله هذا ينتزع مني النظرة التي اعتدت أن ألقيها على ساعتي، هذه النظرة التي لم تعد تخبرني بشيء.» من هنا كان السرد في المسرح الملحمي بديلًا للحركة في المسرح الدرامي، وأصبح المتفرج رقيبًا يوقظ فاعليته الذهنية ويرغمه على اتخاذ القرارات بدلًا من أن يدخل المتفرج ضمن الحركة ويستنفد فاعليته الذهنية ويعطيه الفرصة لإطلاق مشاعره، فهو هنا غارق في شيء ما بينما المتفرج على المسرح الملحمي يتخذ مكانه أمام شيء ما، إنه لأول مرة يصبح «متفرجًا» حقيقيًّا، ولا يتحول بالاندماج السحري إلى جزء لا ينفصل عن الوهم الماثل أمامه على خشبة المسرح. إنه في المسرح الدرامي يشارك في الأحداث، وفي المسرح الملحمي يتخذ مكانه أمامها. والمحور الدرامي في المسرح التقليدي هو التجربة الحية والمشاعر المحفوظة كما هي والإيحاء، وهو في المسرح الملحمي «رؤيا للعالم» ومناقشة، والمشاعر تندفع إلى مستوى الوعي. ويصور المسرح البرجوازي الإنسان على فرض أنه معروف، والمسرح الملحمي لا يستخدم آلات التصوير لأن الإنسان لديه موضوع بحث وتحقيق باعتباره «عملية» لا أحد المعطيات الثابتة كما هو الحال في المسرح البرجوازي. إن الإنسان في المسرح الملحمي كذلك كائن اجتماعي يحدد الفكر على النقيض منه في المسرح التقليدي حيث الفكر يحدد الكائن. والمسرح الدرامي يصب اهتمامه على حل العقدة، وكل مشهد يمهد للتالي في نمو عضوي وتتابع في خط واحد وتطور مستمر، بينما المسرح الملحمي يصب اهتمامه على التتابع وكل مشهد قائم بذاته ويقوم كاتبه بعملية مونتاج كاملة في تتابع متعرج وقفزات. وأخيرًا فالمسرح التقليدي «شعور» أما المسرح الملحمي «فعقل» دون أن نغفل دور العقل في الشعور ولا أن ننقص العاطفة من العقل، إلى غير ذلك من علامات فارقة، بين المسرحين أحصاها في جدولٍ محكم البناء الناقد صبحي شفيق في إحدى دراساته الرائدة عن بريخت. وكذلك ما نستطيع تلمُّسه من فروقٍ أوردها بريخت نفسه إيجازًا وتفصيلًا في «الأورجانون القصير» و«المسنجكارف».

حينئذٍ نكرر القول تأكيدًا على أن كاتب ياسين في هذه الحدود قد حافظ على جوهر المسرح الملحمي، حافظ عليه في تطبيق خلاق لموضوعات خطرت على ذهن بريخت يومًا في «القاعدة والاستثناء» و«طبول في الليل» و«الإنسان الطيب» ولكنها استقت عند كاتب ياسين نبعًا ثرًّا جديدًا هو قضية الجزائر مع الاستعمار الفرنسي التي تختلف بلا ريب عن قضية الحرب والاستعمار والاشتراكية كما عرفها بريخت بين الحربَين، وكما عالجها بعد الحرب العالمية الثانية. وكذلك فالتراث القومي فكرًا وفنًّا عند كاتب ياسين مختلف أشد الاختلاف عن هذا التراث بالنسبة لبريخت.

فمن التراث الشعبي العربي استلهم كاتب ياسين شخصية «جحا» في مسرحيته التالية «مسحوق الذكاء». وهي كوميديا لا تعتمد مطلقًا على التراث الفرنسي في الهزليات الساخرة التي بلغت قمتها عند كاتب عظيم كموليير، وهو كاتب يحظى بشعبيةٍ كبيرة عند الجمهور الجزائري المتحدث بالفرنسية حتى وقتٍ قريب؛ بل لقد أثر تأثيرًا واضحًا في رواد المسرح الجزائري من أمثال «رشيد قسنطين» و«محيي الدين الباشطرزي». ولكن كاتب ياسين الذي تمثل التراث الفرنسي جيدًا قد وعى في وقتٍ مبكر أن تراثه القومي الخاص يستطيع أن يمده بزاد روحي لا ينفد لو أنه أكب على تطويره بما يتسق مع روح العصر شكلًا ومضمونًا. وكوميديا «مسحوق الذكاء» محاولة ناجحة في هذا السبيل، أي في تذويب التناقض الموهوم بين الأصالة والعالمية. فشخصية «سحابة دخان» المستمدة في قسماتها الخارجية من شخصية جحا الشعبية، تعمد إلى استخدام أساليب جحا المعروفة فولكلوريًّا من سخريةٍ لاذعة تنسجها المفارقات اليومية في الحياة إلى توجيه هذه السخرية نحو «الأقوياء» من البشر المستكبرين ذوي السلطة من الطغاة. سحابة دخان يبدأ «مساخره» مثلًا بمشاجرته مع الكورس ورئيسه الذي أصر على ترديد كلمة «سلام» أكثر من مرةٍ تحية إلى سحابة دخان فيضيق بهذه المبالغة ضيقًا شديدًا يدفعه إلى صفع رئيس الكورس. وحين يتوجهان إلى القاضي «يمثل» سحابة دخان المشهد الذي حدث بينه وبين المجني عليه فيوجه السلام إلى القاضي أكثر من مرة، بمناسبة وغير مناسبة حتى يضج القاضي ويغلي دمه ويفور فلا يكون من سحابة دخان إلا أن يكتفي بما حدث للقاضي دفاعًا عن نفسه. ثم يدخل مع الكورس في حوار آخر حول كلمة «إن شاء الله» التي لا تقل «ضراوة» في سوء الاستعمال عن كلمة «سلام». ولكن السخرية من بعض العادات الشعبية وتقليدها ليست هي المحور الذي تدور حوله كوميديا «مسحوق الذكاء»، وإنما السلطان والمفتي والعلماء، ذلك المحور الذي يقيمه كاتب ياسين كستار يختفي الغاصب الأجنبي من ورائه، فكان لا بد لمن يناضل الاستعمار أن يكافح عملاءه المحليين في وقتٍ واحد، وتلك هي القيمة التي يكتسبها «سحابة دخان» وإن ارتدى ثياب جحا الشعبية، فهو يجسد مقاومة الشعب الجزائري الحكم المطلق ممثلًا في السلطان، وحكم المال ممثلًا في المفتي، وحكم الدين ممثلًا في العلماء. ومن باب «الألاعيب السحرية» يدخل سحابة دخان إلى حلبة الصراع مع هؤلاء الأقطاب الثلاثة الذين يعوقون نضال شعبه ضد المحتلين الأجانب. هكذا يوهم دخان سيادة السلطان بأن حماره يغدق على المملكة ذهبًا لولا أن العلماء يفوتون عليه الفرصة بألاعيب سحرية مضادة. ولكنه يتحداهم في المرة التالية حين يوهم السلطان بأن لديه مسحوقًا أكيد المفعول في الدماغ؛ إذ يحولها من رأس صلد كالحجر إلى وهج دائم الإشعاع بالذكاء. ويستنشق السلطان «كيس الرمل» فيقول صراحة: «أحس بشعور غريب، يبدو أن هذا المجنون على حق أحس بشعور غريب ربما كان هو الذكاء.» ويستضيف سحابة دخان السلطان في بيته حيث يراود زوجته عن نفسها بينما يكون «الفيلسوف الشعبي» قد أخذ حذاءه خفيةً فغلاه وسلق نعله وأتى به مطبوخًا أمام السلطان الذي لا يشعر بشيء إلا عندما يهم بالخروج فلا يجد حذاءه. ويدخل المفتي في صراع مماثل مع سحابة دخان حين يصمم على الإيقاع به بمناسبة شهر رمضان فيوكل إليه مهمة إعلان بداية الصيام ونهايته؛ إذ لا بد أنه سيخطئ الحساب «ويرتكب هفوةً فتثير الشعب عليه» ويحضر سحابة دخان وعاءً ويطلب من زوجته أن تذكره بوضع حصوة صباح كل يوم حتى إذا اكتمل عدد الحصى جاء العيد. غير أن عاصفةً رمليةً تهب ذات يوم فتملأ الوعاء بالحصى وتفشل الحيلة، وعندما يثور الشعب ويأتي إليه متسائلًا عن يوم العيد يسألهم هو بدوره عما إذا كانوا يعلمون ما سيقوله لهم فأجابوا دفعةً واحدة «لا» فقال: إذا كنتم بلغتم من الجهل هذا القدر فماذا أستطيع أن أفعل لكم، احضروا غدًا. وفي الغد طرح عليهم نفس السؤال فأجابوه «نعم» فقال: إذن فلماذا جئتم، أنتم لا تحتاجون إلى كلامي، احضروا غدًا. وفي الغد يحتالون عليه بقول بعضهم «لا» والبعض الآخر «نعم» في وقتٍ واحد. ولكنه يكشف الحيلة قائلًا: بعضكم يعلم والآخر يجهل، إذن فليخبر العالمون من يجهلون. ولا يتبقى أمام سحابة دخان سوى رجال المال، فيقول ووجهه مرفوع نحو السماء (نحو بيت أحدهم على نحوٍ أدق): «يا إلهي سامحني إذا تضرعت إليك في الشارع؛ لأنني لم أجدك في الجامع.» ويطلب من الله مائة قطعةٍ ذهبية لحاجته الشديدة إليها وحتى يتثبت من أن الله هو إلهه حقًّا. وكالسلطان والمفتي اللذَين أرادا الإيقاع به من قبل، يحاول أحد التجار — وقد دعاءه — أن يوقع به فيسقط عليه من علٍ تسعًا وتسعين قطعةً ذهبية. فهل آمن سحابة دخان؟ كلا، بل وذهب إلى السلطان مع التاجر الذي طلب منه نقوده وإن دفعه الجشع إلى الادعاء بأنها مائة قطعة، تلك التي أخذها «الفيلسوف» ويصفعه على وجهه ويخرج. فما كان من «سحابة دخان» إلا أن صفع السلطان قائلًا: «حينما يعود خصمي رُد له هذه اللطمة بكل عدالة.»

على أن السلطان قد أحس بما لمسحوق الذكاء من مفعول سريع وحاسم فأراد أن يوقع بالفيلسوف الشعبي إيقاعًا لا مخرج منه بتعيينه مربيًا للأمير، حتى لا تتزايد شعبيته بين الجماهير فيهدد السلطنة في عرشها. وهي إشارة من المؤلف إلى محاولة السلطات غير الوطنية أن «تحتوي» أصحاب الأفكار الثورية بالجاه والمال حتى يفقدوا ثوريتهم على بساط الغواية والإغراء. ولكننا فجأةً نرى أشكال دائرة تتسع رويدًا رويدًا نتبين فيها صورة عقاب! هذا على الشاشة، أما على خشبة المسرح فنرى الضوء ينتقل ويضعف تدريجيًّا على شبح علي (ابن نجمة والأخضر)، ومرةً واحدة يتغير إيقاع المسرحية من إطار الكوميديًّا الشعبية إلى إطار التراجيديا الأسطورية، فها هو ذا «علي» وقد هام في الصحراء يتيمًا مشردًا، وطيف العقاب لا يكف عن مطاردته: «منذ ساعة الاغتصاب والهروب ومنذ ذلك الحين وبدون هوادة، أتربص وأغتال لأبعد الطائر عن الظلام والظلام عن الطائر، ولقد ذرفت دموع الجنون.» ويقرر رئيس الكورس أنه ليس لدى الشعب ما يؤاخذ به «عليًّا»، وذلك حين قفز علي مضطربًا من نومه صارخًا «ماذا جرى؟!» ويتبادل أفراد الكورس مع رئيسهم هذا الحوار:

الكورس : إنه بدون شكٍّ متمرد. صديق للشعب يضطر أن يعيش بدون أصدقاء.
رئيس الكورس : أو لاجئ فاقت تجاربه سنه، وجردته الحرب من إنسانيته.
الكورس : لا بد من سبب لكي يعيش المرء هكذا في الصحراء.

ويحاول علي أن يفسر بالأسطورة ألغاز الواقع الكثيف فيجيب: «الأسلاف تنبَّئوا لنا أنه حينما تحل الساعات الأخيرة للقبيلة، فإن على النسر النبيل القوي أن يتخلى عن مكانه لطائر الموت والهزيمة، لكنه أمر قليل الأهمية، طوطمنا قائم. إنه طائر صعب المراس.» ويشير رئيس الكورس إلى شجرة ويطلب من علي التوجه إليها: «هناك شخص مدخن للحشيش وفيلسوف شعبي، إنه يبحث عنك. إنه ينتظرك.» ويتعارفان. وقبل أن يبدأ سحابة دخان في إعطاء درسه الأول لعلي يطلبه السلطان فيترك صينيةً عليها حلوى مسمومة «لأحد المشتركين في المؤامرة على الدولة»، ويحذر عليًّا من الاقتراب منها، ولكنه لا يكاد يتوارى حتى يقبل عليها في نهم. وهكذا يدرك سحابة دخان حين يعود أنه «من هؤلاء التلاميذ الذين لا ينتظرون نهاية الدرس». وحينئذٍ تدلف إلى المشهد الأخير: شجرتان تمثلان الغابة، وقبة من الكريستال تمثل قصر الأمير، ورئيس الكورس يُلقي نظرتَين: إحداهما على الشريد القادم من الصحراء والأخرى على من يظن نفسه بمنأًى عن كل خطر، ثم يتساءل: «من منهما السعيد، وأيهما الشقي، حتى الحلم سلعة للتبادل.» فيجيه أفراد الكورس: «حتى الحلم صفقة ساخرة.» ويبدأ حوار بين علي والأمير ينتهي بأن يحطم علي زجاج القبة الكريستال، ويتبادل رئيس الكورس مع أفراده هذه الكلمات:

رئيس الكورس (في الظلام) : أخيرًا قد حطموا حاجز الأحلام.
الكورس : أخيرًا قد أصبحوا أحرارًا.
رئيس الكورس : إنهم يغوصون في الغابة.
الكورس : بناقص أمير.
رئيس الكورس : لقد أدَّى المتشرد رسالته.

ويومئ الكورس بالأحداث الكبيرة التي على وشك الحدوث، فلن يلبث الشعب يسير إلى العاصمة، والقبة الزجاجية اختفت، والسلطان حزين وهرم مستلقٍ على عرشه. ويقترب منه ثلاثة شبان من بينهم علي يقولون إنهم أصدقاء الأمير وإنه ليس بعيدًا عن هنا (فيظهر على التو ممرضان يحملان نقالةً بين أفراد من جيش التحرير يحرسون كل المنافذ)، ويذهل السلطان منكرًا أن يكون هذا ابنه، ولكن عليًّا يشرح الأمر في هدوء: «أنا متأسف. نحن متأسفون. أنت الذي أردت الحرب، فاختطفنا الأمير لكي نحميه من دسائسهم ولكي نضطرك أن تتفاوض مع جيش التحرير الذي كنت مصممًا على سحقه في حين أنه ساعد على تدعيم عرشك، لقد مات الأمير وأنت السبب.» ويهذي السلطان: «أنا السبب؟ أنا السبب؟» ويستكمل علي تفسيره لما حدث، فقد هاجم فرسانه كالجراد على مناضلي جيش التحرير الذين لم يتجاوزوا عدد الأصابع حين هزموا في هجوم: «كنا ننتظر الموت حين ظهر لنا العقاب.» وفي الهجوم الثاني كان قد جثم على صدر الأمير وضم جناحيه كأنما يريد أن ينام هو أيضًا. وهنا تعلو حشرجة الأمير ويحوم العقاب على الشاشة فيقول الكورس وسط الظلام إن الأمير يحلم حلمه الأخير «أيها العقاب ابتعد»، فيختتم الرئيس مشهد المأساة الأسطورية بنفس الكلمات: «أيها العقاب ابتعد، إنه يحلم حلمه الأخير!»

إذا نحن خلعنا عن سحابة دخان رداء جحا الشعبي ألفيناه بطلًا شعبيًّا من نوعٍ جديد، هو ذلك النوع الذي يقوم بدور الأنبياء في المسرح الديني، هو ذلك الصوت الصارخ في البرية مبشرًا بقدوم المسيح. وكأنه يريد أن يقول إنه بموت الأخضر لم يمت «البطل الشعبي»، ولم تختفِ قامته عن ساحة المقاومة الجزائرية؛ بل ترسبت في التكوين الملحمي لشخصية الجزائر وصراعها مع الظلم والاستغلال. والفيلسوف الشعبي إذن هو مرحلة «التمهيد» الوسيطة بين مقدمات النضال في «الجثة المحاصرة» ونتائجه في «الأسلاف يتميزون غضبًا». أي أنها مرحلة التحضير «للظهور الجديد للبطل الشعبي» حيث يعود أكثر تعقيدًا وتركيبًا. في خاتمة «الجثة المحاصرة» يشير المؤلف في وضوح إلى حزب الشعب ويطلب من المجاهدين ألا يغادروا مخابئهم، وفي خاتمة «مسحوق الذكاء» يشير بوضوح إلى جيش التحرير ويحيط السلطان علمًا بأن عرقلته لتقدم هذا الجيش هي التي أدت إلى قتل وحيده. وهكذا يواكب كاتب ياسين النضال الجزائري خطوةً خطرةً مبرزًا أهم السمات التي تميز هذا النضال. ففي «مسحوق الذكاء» يزدوج النضال بين جبهتَين: الجبهة الداخلية، وهي الأساس الدرامي في هذه الملهاة الشعبية، والجبهة الخارجية التي لا يركز عليها المؤلف إلا قرب الخاتمة ليصل بينها وبين آخر أجزاء الثلاثية «الأسلاف يتميزون غضبًا»، وعلى الجبهة الداخلية يناضل البطل الشعبي معوقات الكفاح على الجبهة الخارجية من حكم عميل وعبادة للمال واستغلال للدين.

فإذا خلعنا عن البطل الشعبي في «مسحوق الذكاء» ثياب جحا، والتفتنا إلى عناصر البناء المسرحي من ديكور وتمثيل وموسيقى، لَتأكد لنا الرداء الملحمي الأصيل لهذه المسرحية. يصف بريخت الديكور في المسرح الملحمي بقوله: «إن مناظره جُمل ذات مداولات عن الحقيقة. فهو يرسم خطًّا جريئًا دون أن يدع التفصيل غير الضروري أو الزخرف ينال من الجملة، التي هي جملة فنية وفكرية. ولكنه فيما يتعلق بالمعمار — أي عندما يبني الأشكال الخارجية أو الداخلية — يقنع بإعطاء إشارات.» ومنذ المشهد الأول في «مسحوق الذكاء» يقتصر الديكور على أقل ما يلزم: شجرتان وجانب جدار يكون حاجزًا، وشجرة أخرى منزوية، ونخلة جدباء، ثم يلعب الظل والضوء بالتبادل دورًا رئيسيًّا لا في تجسيد الليل والنهار ولا في التركيز على وجهٍ والتخفيف عن آخر، وإنما في إضفاء جو «الخرافة» على المشاهد بحيث تبدو الشاشة التي يظهر عليها العقاب أداةً طبيعية مكملة للضوء والظل وليست من «المسرح السحري» في شيء. إن لقاء الواقع بالأسطورة في هذا الجزء من الثلاثية يكاد يكون لقاءً تقريريًّا، فالخاتمة ليست نهايةً كوميدية تقليدية، وإنما جاءت همزة وصل بين الواقع والأسطورة؛ بين عنصرَي البناء الملحمي للبطولة الشعبية. ويذكر بريخت عن طريقة الأداء في المسرح الملحمي أنه يعتمد في الأساس على العقل قبل العاطفة، وعلى التغريب قبل المشاركة الوجدانية. ونحن نلحظ بلا ريب أن دور الكورس في مسرح كاتب ياسين يختلف في الكثير عن دوره في المسرح الإغريقي ويقترب في الكثير من المسرح البريختي. إنه يقوم — هنا — بدور «العازل الشعوري» بين المتفرج والتمثيل، وهو العازل الذي يحول بينه وبين «الاندماج». وكذلك الموسيقى التي كانت في الأوبرا الدرامية «تخدم» التعبير أمسَت في الأوبرا الملحمية «توصله» فقط، وكانت «تقوي» النص فأصبحت «تفسره» فقط، وكانت «تصويرية» فأضحت «تتخذ موقفًا»، إلى غير ذلك من خصائص تعرفْنا عليها في العرض الملحمي عند بريخت — كما أوضحها الدكتور أمين العيوطي في دراسة له بهذا العنوان — وقد تعرفنا عليها في مسرح كاتب ياسين كأوضح ما تكون في ملهاته الشعبية.

وتبدأ «الأسلاف يتميزون غضبًا» حيث تنتهي «الجثة المحاصرة» على وجه التقريب، وتصبح الملهاة الشعبية الساخرة وسيطًا بينهما، يحمل في تضاعيفه أحداث «الجثة المحاصرة» ويقوم بتوصيلها فيما يشبه الهمس إلى «الأسلاف». وحين أذكر الأحداث لا أقصد بها الخطوط الخارجية للزمان والمكان، وإنما أستهدف ذلك المناخ الملحمي الذي أنجب لنا بطلًا شعبيًّا صميمًا هو «الأخضر» من صلب الأرض التي تمور بالثورة، ومن صلب التاريخ الذي أنجب «المرأة المتوحشة»، وبهما معًا — ومن خلالهما — يولد «العقاب» طائر الموت ورسول الأسلاف، ذلك هو المحور الذي تدور من حوله الأحداث الجديدة منذ أن يهرب حسن ومصطفى من أسوار السجن الذي دخلاه عشرات المرات من قبل، إلى أن يتنكرا في ثياب الضباط الفرنسيين ليستدرجا «طهار» — قاتل الأخضر والإقطاعي الجزائري المعتمد على أسياده الأجانب — ثم يصرعه مصطفى برصاصة حتى يجف دم الأخضر بعد أن يتعرفا منه على وادي المرأة المتوحشة الذي تعيش فيه «نجمة» شريدةً بعد أن مات الأخضر، وحيدةً مع «العُقاب» الذي تلبس روحه. ولعلنا نذكر نهاية «الجثة المحاصرة»، إذ تسلق «علي» ابن الأخضر ونجمة شجرة البرتقال المرة وأخذ يقطف من ثمارها ليصوبها في نبلته على الجمهور، وأمه تحذره من هذا البرتقال المر. لو تذكرنا هذه الخاتمة وعُدنا إلى فاتحة الأسلاف نرى نجمة لا تزال عند شجرة البرتقال ذات الثمار المرة، وفي حوار مع الكورس تحدد لنا الدور الذي يلعبه العقاب: «حيثما يحوم فإن عظام الموتى تكون قريبة، وحينما توجد عظام الموتى، توجد الأسلحة.» ويحدد العقاب بدوره الدور الذي يلعبانه معًا: «زهرة وجذر لا يفترقان، اثنان عنيدان، إني أستيقظ معها، وكلٌّ منا يقضي لياليه في أحلام الآخر.» وبصورةٍ عامة يعترف العقاب بأنه طائر الموت ورسول الأسلاف، وبصورةٍ عامة كذلك تعترف نجمة أنه الأخضر وقد عاد من وطن الأموات رسولًا من الجد القديم قبلوت يحفز الأحفاد على مواصلة النضال والثأر للأجداد من الآباء الذين استسلموا يومًا وباعوا الدم بالماء. والعلاقة بين العقاب والمرأة المتوحشة هي نفس العلاقة بين الأخضر ونجمة حتى ليقول العقاب بالحرف الرامز: «مهما حاولت أن أطير فإن ظلي ما زال موغلًا في دم المرأة المتوحشة، وأشعر بأني نشوان، كما لو لم أنتشِ في حياتي.» وليس الدور الذي تلعبه المرأة المتوحشة إلا ذلك الدور الذي كان ينبغي على الأخضر أن يتمه لولا أن شاء كاتب ياسين أن يتحول به من بطلٍ تقليدي إلى بطلٍ شعبي يمزج الأسطورة بالمأساة في موكبٍ واحد تبين عنه كلمات نجمة: «أسلحتنا ساذجة ومخيفة شأنها شأن الشعب الذي يهرول بعد أن مسته النبوة، نعم سنغسل الهزيمة القديمة، وأرضنا وقد عادت إليها الطفولة، فإن حميتها القديمة ستتقد في كل أرجاء البلاد.» ويلتقط كورس الفتيات هذه النغمة المناضلة ليردد وراءها: عليكم أن تدربونا على استطلاع طريقنا بين النجوم، في أشواك الغابة حيث تكتمل ألوان الصيف الحمراء. وأخيرًا — كما يقولون — قذف عمالقة الغابة بالحصاد الكاذب في النار، ونستمع إلى صوتٍ يهمس بين الحين والحين «إنها الحرب».

ويرتدي حسن ومصطفى القناع من جديد، ويذكر مصطفى أن البعض ممن لا يكفون عن الثرثرة يقولون إن الحرب انتهت، ولكن حسن يؤكد أن الشعب يعرف أن حربًا مثل هذه لن تنتهي يومًا. ويتبلور الموقف شيئًا فشيئًا ويقول مصطفى: «في هذه الصحراء حيث لا نملك شيئًا ولا يحمينا شيء، حيث لا تصلح أساليب قتالنا، إذ لا مفر من الاشتباك في أرضٍ منبسطة مكشوفة ومن أن يواجه جيشٌ جيشًا آخر، في وضح النهار، في هذه الصحراء حيث نشعر أننا لاشيء، هذه الصحراء التي لم تحتفظ بآثار أية إمبراطورية، لا تستطيع أيه دولة أن تفزعنا أو أن تفسدنا. إن من عانى مما تصفعنا به الشمس من قنابل ساعة الظهيرة لا يخشى هجوم البعوض.» والأخبار تقول إن بعض البدو شاهدوا عند الحدود الغربية امرأةً في خمار أسود في صحبة أخريات كن يتبعن قافلة. ويجزع حسن ومصطفى مما حدث للمناضل عبد القادر، إذ وقع فريسة الخيانة وسُلم للعدو على الحدود، ويسرع الاثنان في طريقهما حتى يصلا مشارف المكان. وفي جنح الظلام يقتل حسن الجندي المرافق للقافلة ويسفران عن وجهيهما فتصيح نجمة، والعقاب يضرب جناحيه بغضب: «الأخضر، الأخضر، انتشلني، انتشلني. لا أريد أن أقع تحت سيطرة السلطان الذي خان جده جدنا، نعم، تذكر عبد القادر وكيف خانه في العام السابع عشر من أعوام كفاحه، السلطان الذي أثارت انتصاراته غيرته، نعم، السلطان السابق الذي يرسل اليوم خليفته كلابه في أعقابنا. إنه يستغل حدادنا كما يستغل الحرب ليساوم في ثمن صحرائنا نظير تراب جثثنا، هذا بعد أن سلم للشرطة أصابع يدنا الخمسة، نعم زعماؤنا، الخمسة الذين تسبب في أسرهم، نعم أتذكر الأخضر؟» وهما معًا يذكران الأخضر، بقلبٍ واحد يحتم عليهما — بعد انفرادهما بنجمة — الاختيار الهائل: أحدهما للموت والآخر للحياة، أحدهما للعقاب والآخر لنجمة. ويتبادل الصديقان «نظرةً صاعقة» لكليهما يوقنان بعدها أنه لا بد من أن يموت أحدهما ويطلقان الرصاص في وقتٍ واحد فيموت حسن. ولا يجد الكورس أفضل من تشبيه كل حرب بحرب اليونان من أجل هيلانة حتى لتصبح الحرب هي أقرب طريق بين الحب والموت. ويرتدي الكورس ثياب الأسلاف لينصح الأحفاد أن يأخذوا أماكنهم في مراكب الموت ويلحقوا بأسطول الأسلاف الذي لا يُقهر والذي أوشك أن ينتصر على الزمان والمكان. وتوجه رئيسة الكورس أنظارنا إلى مصطفى حيث لا يستطيع أن يقامر بمصير المرأة التي يحبها ولا يستطيع أن يتخلى عنها ولا يستطيع أن يوقظها أو ينقذها من العقاب ولا أن يحميها من المهاجمين «ولا يقرر القتل» وهو يقول في صوتٍ أذبلته المأساة: «أيتها المرأة المتوحشة، إن إراقة هذا القدر القليل من دمائك إنما هو الجريمة الوحيدة التي أراني محرومًا منها.» ويقبل صوت رئيسة الكورس كالصدى اليتيم والموجع في آن: «الويل للفاتح في كل فتح من فتوحاته، فالمرأة التي لا تقهر حدادها لا ينتهي.» وهنا — يقول كاتب ياسين — تحتل الأسطورة مكان الصدارة بالنسبة للتاريخ، فهذا جوهري لحل عقدة المأساة حيث تظهر الأسطورة أكثر صدقًا وأكثر وضوحًا من التاريخ: «هذا يشكل انتقام الكلمة القديمة وانتقام الشعر في المسرحية على المسرح.» ونحن نشعر مع الكورس أن نجمة قد أمست فريسةً تخلفت قليلًا عن موعد افتراسها ولكنها لن تفلت بأية حال، والكورس ينبه إلى أن أكثر من حيوان كاسر في انتظارها، فهو يبكيها مقدمًا: «لقد نهبك حب الرجال الذين كانوا يحملونك على مناكبهم أثناء القتال، والذين لن تقدم أيديهم على إنهاضك من سقوطك.» والعقاب يخط دائرة الانتقام وتتوسل رئيسة الكورس إلى زميلاتها أن يهربن، ويتلاحم المنقار الرهيب مع الخنجر في يد الرجل المقنع، ثم يعاود الطائر تحليقه ونتائج المعركة في منقاره تقطر دمًا: «لقد فقد الرجل المقنع حتى وجهه.» وتتوالى أصداء الحرب فيما يصل آذاننا من صوت الرصاص القادم تحت جنح الظلام، والجنود يسددون بنادقهم على أفراد الكورس، ومصطفى يتحسس طريقه — وقد فقد بصره وتلطخ قناعه بالدم — نحو المرأة المتوحشة التي يركلها الجنود ليتأكدوا من أنها فارقت الحياة ولا يمس مصطفى جثتها لأنه يتهاوى فاقد الرشد، ويظهر العقاب من جديد تاركًا الجثتين في ظلامٍ تام، ولكن الكورس يردد: «كلا، لن يموت. إنه من أولئك الذين يقضون أزهى سنوات حياتهم في السجن أو في مستشفى المجاذيب، إنها ليست المرة الأولى.» ثم يختتم الدراما الملحمية بهذا الوعد القادر: «كلا، لم يحِن الوقت لأنْ نموت، ليس هذه المرة، لقد ماتت المرأة المتوحشة ولكن الحرب اتخذت شخصيتها، والحرب في حاجة إلينا.» وتؤمِّن رئيسة الكورس على هذا الختام الواعد بقولها إن الأسلاف راضون، ومنذ أن توصلنا إلى حل رموز رسالتهم وإلى إذابة أغلالهم وإلى أن نحيا حلمهم نسهر على رقادهم، لم يعد في وُسع الأشباح أن ترفع جبينها من جديد، «ذلك أن الأسلاف راضون» كما يكرر الكورس للمرة الأخيرة.

ولعلنا نلاحظ من الوهلة الأولى في هذا الجزء الأخير من ثلاثية كاتب ياسين أنه يركز على استخدام الكورس استخدامًا «شاملًا» إن جاز التعبير، فهو ليس مجرد ديكور سلبي يزين الأحداث ويمنح جوها مناخًا خاصًّا، وإنما هو أحيانًا يقوم بدور الرواية التقليدي في الملاحم الشعبية، وأحيانًا أخرى يعلق على ما يدور فوق خشبة المسرح نيابةً عن المؤلف أو عن الجمهور أو عن القدر المجهول كما هو الحال في المسرح اليوناني، وأخيرًا فإنه بتمثيله عدة أدوار كدور الأسلاف أو دور المناضلين أو دور الجنود إنما يشارك مشاركةً إيجابية في «تجسيم» العمل الفني بنفس القدر من المشاركة في «تجريده»، سواء بالتعليق أو بالرواية، هذا «الشمول» في استخدام الكورس تجريدًا وتجسيمًا يحقق أول ما يحقق تلك السمة البارزة في مسرح كاتب ياسين وأعني بها الطابع الملحمي الخاص الذي يأخذ الكثير من بريخت، ولكنه يعطي الكثير أيضًا يعطي البطولة الشعبية في المسرحية لحظاتٍ مفعمةً بالحضور الحي الخلاق، أي أنه يعطيها أبعادها الحقيقية الكامنة في تلك العلاقة الغريبة بين المرأة المتوحشة والعقاب، فالبطولة الشعبية «حاضرة» بالرغم من غياب البطل الشعبي: الأخضر. بل ربما يذهب الفنان إلى ما هو أبعد ليقول إن البطولة «تحضر» بغياب البطل. ولقد سبق أن قلنا عن نجمة — المرأة المتوحشة — إن لها من الجزائر الجديدة نصيب، ولها من الجزائر القديمة نصيب ولها من فرنسا نصيب، وقد تفاعلت هذه الأنصبة في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، فأثمرت هذه الثورة التي كشفت حتمًا الحجاب عن وجهها، ولكنها لم تنسَ قط أصلها ومنبتها. وإذا كانت نجمة قد باحت بسرها، أي بسر العقاب المزدوج الدلالة حيث إنه طائر الموت من ناحية، ورسول الأسلاف من ناحيةٍ أخرى، فإن هذا البوح يقتلها هي الأخرى، يقتلها بيد أقرب المقربين وأصدق الأصدقاء. ولكن قتلها لا يعني موتها، كما أن قتل الأخضر لا يعني موته، وإنما هي إحدى صور «الفداء» التي لم تتخلص منها أساطير الشرق القديمة والحديثة. وبالرغم من العلاقة الحميمة بين مسرح كاتب ياسين والمسرح الغربي، إلا أن عودته إلى هذه الشعائر البدائية والطقوس الموغلة في القدم هي عودة إلى جوهر المقاومة في هذا الجزء من العالم: الفناء هو الطريق الوحيد إلى البقاء والحياة الأبدية، وهو دائمًا فداء فردي وإن امتزجت الفدية بروح الجماعة. هكذا يحوم طائر الموت فوق ضحاياه من «الأفراد» مذكرًا بأن أجنحته العريضة السوداء التي تمتص رحيق الحياة من قلوبهم هي السبيل اليتيم أمام «بقاء الذات والآخرين» ولذلك كان طائر الموت رسولًا من الأسلاف في نفس الوقت، أي رسولًا من قبل الجماعة — ولو أنها ميتة — إلا أنها حية نابضة في صفوف الكورس من الرجال والنساء. ولذلك أيضًا كان الأخضر «بطلًا شعبيًّا» لا بطلًا فرديًّا، أي بطلًا ملحميًّا، لا بطلًا تراجيديًّا. هو بطل شعبي يناضل بالحياة عندما كان حيًّا، وهو بطل شعبي يناضل بالموت بعد انتقاله إلى وطن الأسلاف. والموت متجسدًا في شخصية «العقاب» إنما يقوم بهذا الدور المعقد والمرعب في آنٍ؛ هو يقوم بما كان على الأخضر أن يقوم به في حياته، فيقتل مصطفى «طهار» الذي طعن الأخضر طعنة الموت، ويجهز مصطفى على حسن غريمه في حب المرأة المتوحشة، ولكن مصطفى والمرأة المتوحشة كليهما تقضي عليهما «الحرب». وإذا كان مقتل طهار يشبه إلى حدٍّ كبير مقتل الضابط الفرنسي والد مارجريت من حيث إنهما التعبير الأمثل عن أعداء الثورة، فإن مقتل الأخضر وحسن ومصطفى والمرأة المتوحشة يشبه إلى حد كبير مقتل عبد القادر الذي سُلم على الحدود، ويشبه الزعماء الخمسة الذين تم أسرهم. مصرع الأولين هو مصرع الثورة المضادة، ومصرع الآخرين هو تدشين الثورة بالدم، أي ولادتها من جديد عبر «الفداء العظيم» الذي يكرس البطولة الشعبية للأخضر حيًّا وميتًا، إنسانًا وعقابًا، طائرًا للموت ورسولًا للأسلاف، وهي البطولة التي تحمل — على أكتاف الفرد — أعباء الجماعة، كما تحمل على أكتاف الحاضر أعباء الماضي والمستقبل، وهي التي حملت أولًا وأخيرًا مهمة إنجاز مسرح ملحمي حديث فوق أرض الجزائر. مسرح يعتمد على دعامتين هما الشخصية والموقف، فالأخضر ليس «كائنًا يتطور» وإنما هو «حالة من حالات الوجود» دائمة الحركة حقًّا ولكن من داخلها، وانتصار الثورة الجزائرية ليس تتويجًا لمسار الكائنات والأشياء وإنما هو «زاوية من زوايا الرؤية» التي يجسد بها الأخضر حالة وجوده أو بطولته الشعبية. والأخضر يقف على الحافة الحرجة بين الواقع والأسطورة، بين المرأة المتوحشة والعقاب، بين الأسلاف الموتى والمناضلين الأحياء، فهو ليس كائنًا واقعيًّا محضًا ولا كائنًا خرافيًّا محضًا وإنما هو «مركب» جديد من الواقع والخرافة. والجزائر ليست مساحةً من المكان، وثورتها ليست مسافةً من الزمان، وإنما هي ذلك التركيب المعقد من الزمان والمكان خارج نطاق الجاذبية الأرضية وداخل حدود المدارات الأرضية في نفس الوقت. والأخضر — كحالة من حالات الوجود — يتمايز عن انتصار الثورة كزاوية من زوايا الرؤية يجسد بها الأخضر حالة وجوده أو بطولته الشعبية، ولكن الأخضر في تمايزه عن الثورة ليس منفصلًا عنها مطلقًا. إن «الأخضر في الثورة» هو عماد التطبيق الملحمي الخلاق في مسرحية كاتب ياسين، وهو الإضافة العظيمة إلى النظرية البريختية وإن تمثل جوهرها الأعمق.

•••

يختلف الأمر بالنسبة لنجيب سرور اختلافًا عميقًا، لأن ارتباط كاتب ياسين بالتراث الفرنسي ارتباطًا مباشرًا يختلف عن ارتباط الكاتب المصري بالأرض المحلية في المقام الأول، وبالتراث الإنساني ارتباطات غير مباشرة. ومن هنا أقول إن إضافة نجيب سرور الحقيقية تتم في المستوى المحلي، بتأصيل المسرح المصري من ناحية، وانفتاحه على العالم من الناحية الأخرى. وهي بالتالي إضافة محلية لا ترتقي حقًّا إلى مستوى الإضافة الجزائرية ولكنها تسهم بدور جدي وفعال في تطوير المسرح المصري.

وأولى المنجزات التي حققها نجيب سرور في «ياسين وبهية» و«آه يا ليل يا قمر» على التوالي، أنه طوع الشعر الحديث تطويعًا روائيًّا ومسرحيًّا شارك في إنقاذه من الجمود والبوار. ولا شك أن المحاولات المسرحية في إطار الشعر الحديث قد سبقت تجربة نجيب سرور، ولكن هذا الشاعر المسرحي استطاع أن يحقق نجاحًا في التئام الجراح التي أصابت المسرح الشعري بأضرار بالغة في بنائه المزدوج. ذلك أنه كثيرًا ما تلاشى الوجه الدرامي للمسرحية الشعرية تحت سطوة المساحيق الغنائية التي تفتت الهيكل العام إلى مجموعة من القصائد المتناثرة لا يضمها سوى الخيط الواهي من الزمان أو المكان أو الموضوع. أما تجربة نجيب سرور فقد تلافت إلى حد كبير هذا المأزق، لأن صاحبها أراد منذ البداية أن يكتب مسرحًا خامته الشعر، وليس العكس. وثاني المنجزات التي حققتها «ياسين وبهية» و«آه يا ليل يا قمر» أن شاعرنا المسرحي قد استلهم التراث المصري استلهامًا جديدًا، لا يعتمد على «إعادة الصياغة» كمنهجٍ تعبيري يستوحي الفولكلور ولا يتجاوزه، وإنما يعتمد على «إعادة الخلق» كمنهجٍ يستوحي الفولكلور حقًّا ولكنه يتجاوزه إلى آفاق أكثر رحابة وعمقًا. وثالث المنجزات التي أحرزها نجيب سرور لمصلحة المسرح المصري هو هذه اللغة التي نجح في تسويدها على المسرح النثري ألفريد فرج، أما صاحب «ياسين وبهية» و«آه يا ليل يا قمر»؛ فقد صاغ منها لغةً شعرية جديدة قادرة على تمثل التعارض بين الشخصية وقناعها المسرحي، وقادرة كذلك على امتصاص التناقض بين الشعر والمسرح.

ولا سبيل إلى اعتبار «ياسين وبهية» روايةً شعرية كما دعاها المؤلف، كما لا سبيل إلى اعتبار «آه يا ليل يا قمر» مأساةً شعرية كما جاء على الغلاف؛ بل لا سبيل في النهاية إلى تقييم أي منهما على انفراد، فالحق أنهما عمل واحد أراه يمثل الخطوة الأولى الجادة في بناء مسرح ملحمي مصري. على ذلك تصبح «ياسين وبهية» — رغم طولها — مجرد برولوج إلى «آه يا ليل يا قمر»، وتصبح لغتها الشعرية الفصيحة واعتمادها المطلق على الراوي، أمرًا مبررًا وبالغ الأهمية في التمهيد للحلقة الرئيسية التي تلتها، وهي الحلقة التي تستبدل الراوي بالكورس والشخصيات المسرحية والحدث، وهي أيضًا الحلقة التي تسيطر عليها العامية المصرية في قالبها الشعري الحديث. أي أنني في هذا البحث أتناول عملًا «واحدًا» من فقرتين: الأولى هي قصة ياسين، والأخرى هي قصة أمين، وهما معًا يشكلان أزمةً واحدة ذات وجهين، الوجه الاجتماعي للثورة، والوجه الوطني، كما أراد نجيب سرور أن يبوب التاريخ النضالي للشعب. وهي في ظني أولى الأخطاء الفكرية التي أدت في تسلسلها المنطقي إلى بعض الأخطاء الفنية. وإذا كان اختيار الفلاح وجهًا اجتماعيًّا للثورة يعد اختيارًا موضوعيًّا؛ فقد كان اختياره للعامل وجهًا وطنيًّا للثورة أقل موضوعيةً وأبعد النماذج لتمثيل الفكرة الفنية.

وقد أخذ النقاد على «ياسين وبهية» عند صدورها في كتاب، أنها تبعد كثيرًا عن الموال الشعبي الشهير في الصعيد المصري، ويخيل إلي أن المسافة بين الموال المتداول والحكاية التي سردها الشاعر المسرحي هي «الإضافة» التي تحسب له لا عليه. فلقد نسج نجيب سرور بصبر أيوب تارة، وصبر بنيلوب تارةً أخرى هذا النسيج الجديد للموال الشعبي، فأخذ على عاتقه منذ البداية أن يتخلى في الكثير عن البناء الخارجي للموال، وأن يدخل في صميمه، يستلهم روحه في إعادة بنائه.

هذه الروح هي التي دفعت الفنان لاختيار البيئة المصرية في «بهوت» إحدى قلاع الثورة على الإقطاع في ريفنا. وهذه الروح هي التي أملت عليه اختيار ياسين من بين جميع الرجال في بهوت ليكون علمًا على هذه الحكاية الدامية التي جرت أحداثها ذات يوم أسود من أيام نضالنا، ولكن ياسين — وهو رجل كبقية الرجال — لم يخرج على إطار الصورة الشاملة للقرية المكافحة؛ بل كان ابنًا عاديًّا من بنيها يفسح الشاعر لأزمته موقع البطولة من خشبة المسرح لارتباطه في الموروث الشعبي بقصة حبه لابنة عمه بهية، وبهية فيما يحاول الفنان الحديث هي مصر في انتصارها وانكسارها، في أفراحها وأحزانها. والزواج من بهية هو الامتحان الذي يعانيه الفقر والكدح في جيب ياسين وجسده، في يقظته ومنامه. وتنتهي اللوحة الأولى بهذا التعريف السريع لياسين وبهية، ذلك الصبور كالجمل، وتلك العاشقة للأمل. وتكاد هذه اللوحة أن تشتمل على أهم السمات الفنية لبقية اللوحات، فالراوي هو الشخصية الرئيسية وبالتالي فمنطق الحكاية هو المنطق الرئيسي. ولكن الراوي يتوارى حينًا لياسين وأحيانًا لبهية، حينًا لعمه، وأحيانًا للقدر. والمزاوجة بين الفصحى والعامية تتم من خلال السرد التقليدي للراوي، والحوار الذي يتخلله لبقية الشخصيات، حينئذٍ تتحول اللغة إلى صياغةٍ فصيحة للعامية. والتضمين هو صورة أخرى للربط بين اللغتين وبين المستويين، وبين الزمان والمكان، فالأمثلة الشعبية والأغنيات الفولكلورية ترِد بكاملها بين أقواس. ويتقيد الشاعر بالتفعيلة الواحدة وأوزانها في الشعر الفصيح، ويتحرر منها أحيانًا لحساب الشاعر المجهول، وكثيرًا ما يكسر هذه الأوزان وتلك ليقترب من النثر أو لاكتشاف وزن جديد، الأمر الذي لم يصل إليه على الإطلاق.

وتدور الجوزة بين الراوي والفلاحين، يصورون بهوت بنقيضيها: الفلاحون والباشا، وهي الصورة التي سبق أن تعرفنا عليها في الأدب الروائي وبخاصة في قصة عبد الرحمن الشرقاوي «الأرض»، وإذا كان الري هو محور العمل الفني في هذه الرواية الرائدة، فإن «بهية» وما ترمز إليه هي محور العمل الفني في «ياسين وبهية». والمحور الفني في كلا العملين هو همزة الوصل بين القضية العامة والقضية الخاصة. وإذا كانت مشكلة الري في «الأرض» من المشكلات العامة المباشرة، فإن مشكلة بهية من المشكلات الخاصة غير المباشرة. وغالبًا ما يقسم هذا المحور العمل الفني إلى نوع من الاستقطاب الفكري، فالفلاحون إلى جانب ياسين وبهية، أو أن العكس هو الصحيح، فياسين وبهية إلى جانب الفلاحين ضد الباشا الإقطاعي بكل ما يمثله من رموز خاصةٍ وعامة، أو على وجهٍ أدق الرموز المزدوجة.

غابت الشمس ونامت ظلمة القبر على كل البيوت،
هكذا تبدو الليالي في بهوت،
بسواد الكحل ما لم ينقذ الناس القمر!
من رأى في الليل عفريتًا بآلاف العيون،
كلها تقدح كالزند شرر؟!
هكذا القصر الكبير،
كان يبدو من بعيد!
الثريات شموس في النوافذ،
والمصابيح على السور نجوم،
غير أن الضوء لا يدخل منها في بهوت،
للحواري والأزقة،
والكهوف.

ومن أبلغ أدوات التعبير التي أجاد نجيب سرور استخدامها أداة الحلم، وهو بالطبع يختلف عن الحلم المونولوجي، أي الحلم بضمير المتكلم على حافة اللاشعور. ذلك أن الحلم في «ياسين وبهية» هو الحلم المروي وإن روته بهية بنفسها، وهو أقرب إلى حلم اليقظة في حالة الوعي. وكان أول أحلامها التي روتها لأمها أنها كانت تركب مركبًا في بحر لا يبدو له شاطئ، والمراكبي هو ابن عمها ياسين، يرتدي شالًا أحمر وقد حطت فوق رأسه حمامة بيضاء، ولكن ما إن بدا الشاطئ على البعد حتى هبت رياح مسعورة قلبت المركب، وبهية تغالب الموج بصراخها المتواصل، بينما ياسين يمضي فوق الموج سعيدًا. ولا يقتصر استخدام الفنان للحلم للتنبؤ بما سيكون، وإلا لتحولت بقية اللوحات إلى أدوات تنفيذية لا أكثر تصيبنا بالإرهاق والملل. وإنما يتجاوز الحلم في هذه المقدمة الشعرية الطويلة مهام النبوءة إلى ترسيخ فكرة «القدر» في الحياة اليومية للفلاح المصري، والمواقف التفصيلية إزاء هذه القوى المجهولة التي تتعارض وتتقاطع، تتناقض وتتلاقى إلى أن يتجسد القدر كفكرةٍ ميتافيزيقية مجردة في القدر الاجتماعي كفكرة واقعية مجسدة. ولقد فسرت الأم حلم ابنتها على نحوٍ متفائل، كما فسرت ضاربة الودع نفس الحلم على نحوٍ أكثر تفاؤلًا، وبهية وحدها هي التي أحس قلبها بانقباضٍ مخيف، أما ياسين فقد أطلق ضحكةً ساخرة من هذا الحلم ومن كل حلم.

ومن أهم أدوات التعبير التي أجاد نجيب سرور استخدامها الفلاش باك السينمائي، فهو لا يروي القصة من البداية مرورًا بالوسط إلى النهاية، وإنما هو يربط بين حادث عابر أو ذكرى طارئة وبين السياق الأصلي للحكاية بأن يفتت هذا السياق إلى مجموعة من اللحظات غير المنتظمة حقًّا، ولكنها تجري في تدفق نحو مصير محتوم مهما تفرع عن النهر هذا الجدول أو ذاك، ومهما تشابكت الروافد وتفرعت بين المنبع والمصب. هكذا لا نعرف كيف تعرف ياسين على بهية إلا قرب نهاية اللوحة الثالثة، كما لا ندري عن قصة أبيه شيئًا إلا في المنتصف تقريبًا. وهكذا يتقدم بنا الزمن لحظةً ويعود بنا لحظات، لا بالمعنى السيكلوجي الذي عرفته الرواية الحديثة في الغرب، ولا بالمعنى السينمائي البحت، وإنما لترسيخ فكرة «الزمن» المرادف الآخر لفكرة القدر. وهو تارةً الزمن الميتافيزيقي الذي لا يخضع لتصور «التتابع»، وتارةً أخرى هو الانعكاس الاجتماعي للزمن الذي يكاد لا يغير شيئًا من طبيعة هذه الفئة من البشر وكأن البؤس والتعاسة جزء لا ينفصل من هذه الطبيعة. وبالتالي كان اليأس هو المقدمة الحقيقية للمأساة في حياة ياسين وبهية.

ومن أهم أدوات التعبير كذلك التي أجاد نجيب سرور استخدامها، المزاوجة بين الخاص والعام في حياة هذه القرية الشقية وأحزان الشخصيات التي اختارها الفنان لحكايته، فهو يخصص كثيرًا من المشاهد عن بهوت بأسرها بفلاحيها وأرضها وتاريخها، ثم يخصص مشاهد أخرى عن ياسين وبهية. ولكنه يلضم بين المشاهد بخيطٍ سحري لا يُرى، يجعل منها مشهدًا واحدًا في ضفيرةٍ واحدة، بحيث تصبح قضية ياسين هي قضية كل إنسان في هذا الزمان وهذا المكان، كما تصبح مشكلة بهية هي مشكلة كل فتاة في هذه القرية. ياسين مثلًا هو صورة جديدة — مكرورة ولكنها جديدة — لصديقه أدهم وصديقه إبراهيم اللذين أحبهما «بعد بهية» حبًّا كالعبادة. ولم يكن هذا الحب إلا مشاركةً في البأس واليأس. وكذلك بهية التي طلب رب القصر المرصع بالمرايا أن تنضم إلى «القطيع» ليست إلا ككل بنت من بنات بهوت، تذهب إلى «هناك» لطيفة وخفيفة، وتعود ثقيلة «مثل قربة».

ولم تبدأ متاعب ياسين منذ أن رأى الوجوه من حوله وقد تجمعت فجأةً، وإنما تبدأ هذه المتاعب من قبل أن يولد، وترافقه طيلة العمر، وتبقى من بعد أن يموت. هذه المتاعب التي عني نجيب سرور بتجسيدها في «ياسين وبهية» هي ذلك الاستقطاب المر بين حياةٍ رغدة تحياها قلة من الباشوات في ريف مصر، وبين تعاسة وجوع وعُري الغالبية الساحقة من الجموع المهدودة ليل نهار. هذا الانشطار الحاد بين حياتين هو الذي أقام جدارًا عاليًا بين ياسين وأحلامه. وكم من مرةٍ حلا له في أويقات الحب اللذيذة تحت ظل النخلتين والقطار يمر بالعاشقين يقول كلامًا يتفق مع هواجس القلوب، كم حلا له أن يفكر في «الهرب» من بهوت، ولكن كيف، والمواسم تتابع في إثر بعضها البعض دون جدوى؟ دون أن يقدر هو على تحويش المهر ودون أن يقدر عمه على تجهيز البنت! وظلت «أحلام» ياسين معلقة في حالة تأجيل مستمر، إلى أن نطق القدر الاجتماعي بالحكم ممثلًا في طلب الباشا لبهية أن تنضم إلى قطيع خدمه من بغايا وعاهرات. حينئذٍ توقفت الأحلام عن التحقيق وانقلب الواقع وحشًا مفترسًا يلقي نظرة «كالرصاصة» على قصر الباشا بثرياته وشموسه. ولم تكن أحلام ياسين بمعزل عن أحلام القرية كلها، حتى جاء اليوم المقدور في حساب الزمان — الذي لم يكف عن التراكم لحظةً واحدة وإن بدا صامتًا لا يتحرك — وأقبلت معه كلاب الحراسة إلى حقول الفلاحين لتنهب وتنهب، وإذا بفأس تنتصب تتلوها فئوس، غابة من الحقد تزحف، تقابلها على الجهة الأخرى، غابة من الظلم. وانتصرت يومها البنادق الشريرة على الفئوس المظلومة انتصرت كلاب الحراسة على الفلاحين، وكانت الخسائر هذه المجموعة الهائلة من الجثث وتلك البرك من الدماء، ربما نحن نميز منها جثة ياسين والدماء التي افترشت شاله الأبيض، ولكن هذا التمييز الذي نصل إليه برفقة بهية وشعر نجيب سرور ليس تمييزًا لبطولة فرد من الأفراد، فالبطولة في «ياسين وبهية» معقودة للقرية المصرية المناضلة، وإنما نحن نستطيع أن نميز جثة ياسين وشاله الأحمر — وقد تحقق حلم بهية على نحوٍ مختلف أشد الاختلاف عن تفسير أمها له وتفسير ضاربة الودع ويكاد يقترب من الضحكة التي أطلقها ياسين ساخرًا ربما حين سماعه، فهو قد تعود على أن يكون الواقع عكس الحلم — نميز جثته وشاله إذن لأن ياسين يعبر عن أحد وجوه البطولة لا عن البطولة نفسها، يعبر عن جانب «الأزمة» التي تكاملت فيها قضيته الخاصة مع قضية بهوت. وهي الأزمة التي تمثلت له في أحد أحلامه، وقد شب في بهوت حريق هائل أتى على كل ما يملكه الباشا، وها هو يمتطي صاحب القصر كأي حمار مطيع ولقد شب الحريق حقًّا فاشتعلت الثورة في بهوت، ولكن الواقع ينتهي بعكس ما انتهى إليه الحلم فيسقط ياسين وغيره من الرجال في برك من دماء.

غير أننا لا ينبغي أن ننسى بهية، فهي بموت أحلامها لا تموت، لأن بذرة المقاومة قد تخمد ولكنها لا تموت. والمقاومة في شخصية بهية أن تغالب القهر وتقف على قدميها، أن تصمد في وجه أعتى العتاة ولو بالصبر، حتى لا تصبح دماء ياسين وغيره من الرجال دماءً بلا ثمن؛ ذلك أن بهية تضمر في تكوينها ذلك الرمز الشامل لبهوت كلها، بل ولمصر كلها. هي ذلك الامتداد اللاشعوري من جانب الفنان، لسنية في «عود الروح» وحميدة في «زقاق المدق»:

هي تدري أننا حين نموت
لا نعود،
لم يعد يومًا من الموت أحد،
لبهوت،
رغم هذا فالبذور
ليس تفنى، حين تدفن،
ربما الإنسان أيضًا، ليس يفنى
حين يدفن،
ولهذا قد يعود،
هو ياسين لها،
ذات يوم!
ذات يوم!

فليس ياسين بالنسبة لها — ولنا — إلا ذلك المعبود في رواية توفيق الحكيم، وعباس في رواية نجيب محفوظ، ذلك المناضل الذي لا يُرى في «عودة الروح» ويَلقى مصرعه في «زقاق المدق»، تختلف المواقع والأحجام والرمز واحد، رمز المقاومة الخفية والمعلنة، الجزئية والشاملة، الخاصة والعامة، بلورها مؤلف «ياسين وبهية» في تلك الأزمة اللاهبة للبطولة.

وليس من شك في أن هذه «المقدمة» التي دعاها نجيب سرور «ياسين وبهية» تمهيدًا لمسرحية «آه يا ليل يا قمر» هي من الناحية الفكرية في غير موقعها. فالحق أنه بالرغم من أن النضال ضد الإقطاع في مصر قد واكب النضال ضد الاستعمار إلا أن العمل الفني يتخذ صيغة التعميم وهو في طريقه إلى التاريخ. لذلك كان الأوفق من الزاويتين الفكرية والفنية أن يبدأ الفنان بالنضال «الوطني» ضد الاستعمار الذي يتشابك بغير شكٍّ مع النضال الاجتماعي ضد الإقطاع، ثم يتلوه بالنضال الثوري من أجل مجتمع عادل، يتشابك بدوره مع النضال ضد الاستعمار، ولكن الصورة حينئذٍ تبدو أقرب إلى المنطق الفني والتاريخي معًا. فالصورة «الوطنية» لا تخلو من ظلال «اجتماعية» والصورة الاجتماعية لا تخلو من ألوان وطنية، ولكن الأحداث في إطار التعميم، أي في إطار الفن، تقدم الصورة الوطنية ككل على الصورة الاجتماعية ككل دون إغفال للظلال الثانوية والألوان الفرعية. غير أن الفنان في اعتقادي، كان يخطط لعمله الفني على أساس التقابل والتكامل بين القرية والمدينة، بين العامل والفلاح بين الإقطاعي والمستعمر، بين بهوت وبورسعيد. هذا التخطيط هو المنطق الذي يمكن اكتشافه وراء «ياسين وبهية» و«آه يا ليل يا قمر»، فياسين في بهوت يصبح أمين في بورسعيد، وقصر الباشا يتحول إلى معسكرات الإنجليز، وبهية تخلع عنها ثياب القرية وترتدي ثياب البندر. ولكن المأساة في نظر الكاتب هي هي؛ بل إنه يقولها بشكلٍ مباشر على لسان «أمين» أنه يلحظ علاقة القربى والنسب بين أشرار القرية وأشرار المدينة؛ ذلك أن الخاتمة واحدة في كلا الحالين؛ هناك يموت ياسين، وهنا يدفن أمين. ولا ريب أن هذا المنطق يخطئ من الأساس في تلك التسوية الظالمة بين الإقطاع والاستعمار، لا لأن الإقطاع «أفضل» فالمقارنة بين أشكال الظلم وفق منهج أخلاق لا تؤدي إلى تقييم موضوعي سليم. وإنما يمكن القول بأن المعركة مع «الأجنبي» تختلف جوهريًّا عن المعركة مع «المواطن» حتى ولو كان مواطنًا ظالما ظلمًا ربما يفوق الظلم الأجنبي. إنها «الهندسة الفنية» التي أغرت نجيب سرور بهذا المنطق الفكري الخاطئ. وبينما هو يصدق معنا إلى حد كبير في تصوير الظلم الإقطاعي لا يحرز نفس النجاح في تصوير الظلم الاستعماري. فنحن نلحظ انعكاسات الشر المتربع على عرش الثريات والشموس، ولكنا لا نلحظ بنفس المقدار انعكاسات الشر الإنجليزي. القضية كلها هي أزمة الضمير التي انتابت أمين «بهروبه» من القرية — ذلك الحلم القديم الذي داعب ياسين يومًا — فإذا به يجد بورسعيد كبهوت تمامًا، وما الفرق بين الباشا والخواجا إلا ذلك الفرق اللغوي بين كلمة «كلب» وكلمة «دوج»، وإذا كانت الجوزة في بهوت تؤدي دورًا يريح الأعصاب المكدودة من عناء الدوران حول الساقية كالثيران المعصوبة الأعين، فإن زجاجة «السكوتش» المعتَّقة لا تؤدي مثل هذا الدور، وإنما هي في أحسن أحوالها تفصح عن أزمة أمين مع نفسه: هو الرجل الذي يشتغل في كامب إنجليزي، بينما مصر تضج بالهتاف: «الجلاء التام أو الموت الزؤام.» فالجوزة في دوراتها المتتابعات تقول لنا لماذا ثار الفلاحون، ولكن الكأس في حياة أمين — إذا أغضينا البصر قليلًا عن أزمته الخاصة — لا تقول لنا لماذا يثور المصريون.

والفصل الأول بكامله من «آه يا ليل يا قمر» يكاد يقتصر على تبرير زواج بهية من أمين وسفرها إلى بورسعيد، وكأن ياسين لم يمت، بل إن الفنان يفصح عن هذا المعنى إفصاحًا مباشرًا حين يذكر أنه حين يثمر الزواج ولدًا سوف تدعوه بهية باسم ياسين، حتى القبر زارته قبل أن تودع بهوت. بل إن الكاتب يفاجئنا بهذا التصور عن موقف الأطراف المختلفة من زواج بهية بأمين، هذا التصور القائل على لسان بهية: «طيب يقولوا عني إيه الناس؟ والله كانوا ياكلوا وشي.» والقائل على لسان الأب: «لو ياخدها حد تاني، أبقى بادفن ابن أخويا مرتين.» والقائل على لسان المجموعة تغني: «لو نسيتوا ياسين تكونوا بتقتلوه.» والحق أن هذا الفصل ينبض بأنَّاتٍ إنسانية صادقة وأصيلة كأن تتحول بهية رويدًا عن الميت إلى الحي، غير أنه لا يؤدي دورًا فنيًّا ذا بال، وكان من الممكن للرواية أن تبدأ من الفصل الثاني وقد تزوجت بهية من أمين في برولوج قصير يتحاشى هذا التصور غير المعقول لغرام قديم وزواج جديد لم يشبه «الإثم» وهو الخطيئة التي يلحق بذويها العار في الريف المصري. ولكن نجيب سرور كان خاضعًا في هذه النقطة لحرفية — وقداسة! — الموال الشعبي مغفِلًا أنه يصنع شيئًا جديدًا كل الجدة. بل إنني أذهب إلى ما هو أبعد وأقول إن معنى الاستمرار في ملاحم البطولة والفداء لا تعني الإبقاء على الأسماء وإنما ما تدل عليه. لذلك كان من الممكن أن تبقى «ياسين وبهية» خلفيةً غنائية في «آه يا ليل يا قمر» يرِد ذكرها بين الحين والآخر بمختلف أدوات التعبير: الموسيقي والراقص والتشكيلي، ولكن دون أن تسيطر ظلالهما على الصورة الجديدة للكفاح المصري في بورسعيد حينئذٍ كان في استطاعة الكاتب أن يتخلى عن الارتباط الشكلي بمقدمة ووسط ونهاية للمقاومة المصرية، كان بمقدوره أن يتحرر من «المواقع» الزمنية وامتداداتها. ولكنه أراد فيما يبدو أن يكتب «ثلاثية»، ناسيًا أن أهم إنجازاته الحقيقية أنه أراد أن يكتب عملًا «ملحميًّا». ولا يحتاج البناء الملحمي في جميع الأحوال إلى هذا الرباط الشكلي بين مختلف مراحل المقاومة — كما هو الحال في كاتب ياسين — وإنما يحتاج في المقام الأول إلى هذه الوحدة الدينامية العميقة التي تربط الأوصال الممزقة بروح الأمة وكيانها.

ولقد كان من الأهمية البالغة ألا ينزلق الفنان وراء المغريات الجميلة حقًّا في الفصل الأول، وأن يتوسع عوضًا عن ذلك في تفصيل هذه الأبيات التي يرددها أمين قرب المنتصف بالفصل الثاني:

صدقيني يا بهية،
إحنا ما سبناش بهوت،
واحنا فيها،
لسه فيها يا بهية،
واحنا حتى ف بورسعيد،
الرصاصة هيه هيه،
والزناد والبندقية،
والصباع،
اللي داس فوق الزناد،
هو هو،
وكمان الصوت يا ربي،
هو هو،
بس دكها بربري،
دكها كان بيقول: «يا كلبة.»
واللي قدامي انجليزي،
بربري بيقول: «يا دوج.»
المسافة مش كبيرة،
فيه قرابة،
فيه نسب.

وكذلك الأبيات التي قالتها بهية عن «الكنال» والأجداد الذين ماتوا وهم يحفرونه، هذه وتلك «أبيات» قليلة لا تغني عن الصورة الكاملة التي كان لا بد لها وأن تحل مكان أزمة بهية مع كلام الناس، وأزمة الأب مع روح أخيه، وأزمة القرية مع دماء ياسين؛ ذلك أن «آه يا ليل يا قمر» في جوهرها هي ملحمة الصراع ضد الاستعمار البريطاني الذي بلغ ذروته في أوائل الخمسينيات. وهي ذروة جديرة بهذا البناء الملحمي، ولكن دون أن توزع جهود المناضلين على الدهاليز الجانبية. ولقد كان خروج العمال من معسكرات الإنجليز بمثابة العمود الفقري الذي اختاره نجيب سرور — في نهاية المسرحية — ذروةً فنية للمقاومة، بينما كان الأدق أن يحتل هذا المشهد الصورة بكاملها من البداية إلى النهاية. فهو المشهد الذي يبدأ بهجر العمال للمعسكرات وينتهي بعودتهم إليها، لا للعمل بها وإنما لنسفها بمن فيها. وهو المشهد الذي يختفي فيه العمال عن بيوتهم أيامًا وليالي لا يدري أهلهم بما يجري في الخفاء، حتى يموت أحد زملاء أمين وينكشف السر منذ توقف عن شرب الخمر، منذ توقفت أزمته عن أن تكون أزمة ضمير. والمشهد لا يختلف عن حريق بهوت، إلا في خاتمته حيث لا يفل النار إلا النار، فعندما تندلع النيران في القاهرة تنطفئ في بورسعيد. لقد أجاد المستعمر تصويب السهم التقليدي: ضرب الخناجر في الظهور. وكخاتمة «ياسين وبهية» حيث يموت ياسين بطلًا بين الأبطال لا بطلًا منفردًا بالبطولة، يموت كذلك أمين وقد ذابت أزمته الخاصة بأزمة مجتمعه وأمسيا أزمةً واحدة لا سبيل إلى فصم عراها.

وكما أن الفصل الأول يفقد أهميته الفنية لانعدام الصلة بينه وبين الصيغة الملحمية للبناء المسرحي، فإن الفصل الثالث والأخير الذي ينقسم إلى دموع بهية وابتسامتها يفقد تبريره الفني، لأنه لا يتصل أوثق الاتصال وأعمقه بالخاتمة الملحمية للأحداث. فالدموع على أمين وجثته الملقاة إلى جانب عشرات الجثث ليست دموعًا عليه بقدر ما هي دموع على الحظ التعِس لبهية، وهي ليست ترحمًا عليه بقدر ما هي استرحام للقدر العاتي الذي يجعل من «الموت» رفيقًا لعواطف الإنسان في بلادنا، حتى العواطف الجميلة المتفائلة. أما البسمات التي ازدان بها وجه بهية وهي ترى ذلك الحلم العجيب في خاتمة المسرحية، حيث ترى ياسين وأمين وآخر لم تتبين ملامحه — ربما كان بطل الجزء الثالث — وهم يضاحكونها وينادونها، أما هي في صحبة الشيخ الذي تمكنت معه أن تخطو فوق البحر والحريق والشوك، فقد كان أهم ما يشغلها هو ذلك القمر المضيء بين أيديهم، تمد يديها إليه لعلها تمسك به، وهي تزغرد وترقص إلى أن تختنق زغاريدها بدموعها ورقصها بيأسها، وتستيقظ من حلمها ولا تزال جثة أمين مع غيرها في الفناء وقد حرمت الحكومة أصحاب الجثث من استلامها وفضلت أن تدفنهم بنفسها حتى لا تتحول الجنازة إلى مظاهرة.

والحق أننا إذا استبعدنا الفصل الأول والفصل الأخير يتبقى لنا أهم المشاهد في هذا البناء الملحمي المركب. وهو المشهد الذي كان يجدر بالفنان أن يصل في نسجه إلى أغنى الرؤى، لولا أن اختياره للشخصية الرئيسية — التي كان عليه أن يستخرجها من أرض بهوت وفق تخطيطه الذهني المسبق — لم يكن يرادف موضوعيًّا معنى المقاومة الوطنية في مصر حينذاك. فالفن — مرةً أخرى — تعميم. ولذلك كان النمط الصالح فكريًّا وفنيًّا للصياغة هو أحد نماذج البرجوازية الوطنية، بينما كان أمين أصلح ما يكون نمطًا للثورة الاجتماعية. ولا ريب أن خروج العمال من المعسكرات الإنجليزية وتخريبها ومشاركتهم للحركة الوطنية واقع لا ريب فيه؛ بل إن المصلحة المباشرة للطبقة العاملة في التحرر الوطني تفوق أحيانًا مصلحة البرجوازية. ولكن «الفدائي» المصري النموذج إبان ذلك الوقت كان المثقف الوطني الديمقراطي. وهو النموذج الذي يمتص في أعطافه أزمة البطولة وأزمة المقاومة أكثر وأعمق من امتصاص أمين لها؛ بل إن الزجاجة «السكوتش صنع لندن» تعني له — وللمسرحية أيضًا — ما لا يخطر على تكوين أمين في بساطته وبدائيته.

على أن ياسين فأمين هما وجهان لنقطة ابتداءٍ واحدة نحو صياغة البطل الشعبي في المسرحية العربية. وهذا هو الإنجاز الأول من بين المكتسبات التي حققها نجيب سرور. فقد ظل البطل الشعبي طريدًا من جنة الأدب «الرسمي» أمدًا طويلًا، وحين استيقظنا على هذا المعِين الذي لا ينضب من بطولات المقاومة في الأدب الشعبي اتجهت البوصلة إلى «إعادة الصياغة» أكثر من اتجاهها نحو «خلق» البطولة الشعبية. وقد التزم شاعرنا المسرحي بروح البطولة حين صاغها في إطار الشعب لا في إطار الفرد. والتزم مرةً أخرى باستخدام الأمثال الشعبية والأغاني وتضمينها للنص المسرحي. والتزم أخيرًا بمسه العصب الحساس في تكوين هذه الأمة إذا تعرضت لعدوان على الأرض أو على العرض.

وكذلك نرى ياسين فأمين نقطة ابتداءٍ صحيحة الأصول لصياغة المسرح الملحمي، فهذا هو الإنجاز الثاني من بين المكتسبات التي حققها نجيب سرور. وإذا كانت «سليمان الحلبي» تُعد إرهاصًا بهذا المسرح فإن «آه يا ليل يا قمر» هي إيذان بأن الخطوة الأولى قد تم نجاحها، سواء باستخدام الكورس استخدامًا يقترب من بريخت ويبتعد عن اليونان، أو بتوظيف معنى الجدل في الفن توظيفًا يقترب من روح الملحمة ويبتعد عن روح التراجيديا. ولذلك كانت «آه يا ليل يا قمر» عملًا ملحميًّا لا «مأساة شعرية» كما جاء على الغلاف. عملًا ملحميًّا لا «ميلودراما» كما قال بعض النقاد. فالمسرحية خلت من المبالغات والمفاجآت التي تفتعل الجو الميلودرامي، وإن اقترنت الدموع فيها بالبسمات فليس ذلك إلا تعميقًا للسمات المصرية التي يتجاور فيها الحزن والفرح، المأساة والملهاة.

كما أن اقتصار الشعر على وظيفته الدرامية يعد في تقديري نقطة ابتداءٍ هامةً في بناء الدراما الشعرية باللغة العربية أو العامية المصرية. ولولا الإفصاح الممل والخروج على السياق والانزلاق إلى النثرية في كثير من المواضع — التي تعتبر نوعًا من التزيد والمباشرة يهبط تلقائيًّا بمستوى الشعر لقلنا إن نجيب سرور قد حقق للمسرحية الشعرية في مصر ما لم تحققه في تاريخها بعد، وهو خلوها من الغناء وامتلاؤها بالكيان المسرحي. غير أن تعبيد الطريق المجهول أعسر كثيرًا من السير على الدرب المطروق، ويكفينا الآن أنه قد أصبحت لدينا إشارة البدء — جلية وواضحة — لصياغة البطل الشعبي في مسرح المقاومة صياغةً ملحمية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤