صورة البطولة في شعر المقاومة
إذا كان الشعر هو فن المقاومة بشكل عام، أي أنه أكثر الأنواع الأدبية قدرةً على امتصاص رحيق الكارثة ومقاومتها في حينها، فإن شعر المقاومة الفرنسية إبان الحرب العالمية الثانية، يحتل مكانًا خاصًّا في مقدمة القوائم التي تسجل دور الشعر في المعارك الوطنية ضد النازي. فالشعر بصورةٍ من الصور هو فن الذيوع والانتشار لما يحتويه بناؤه الموسيقي في اختيار الكلمات وطريقة وضعها إلى جانب بعضها البعض من قدرة على الانتقال من الفم إلى الأذن إلى القلب، ومن فم إلى فم إلى فم. ولعل شعر الحب وشعر الحرب، يأتيان في مقام الصدارة من قائمة الأشعار القادرة على الذيوع والانتشار فكلاهما يعتمد على حرارة الانفعال التي يسهل انتقالها بالعدوى إذا ما كان المناخ العام والخاص يهيئ المجتمع والأفراد لهذه العدوى.
وكانت المهمة الأولى أمام أراجون أن يعيد إلى الكلمات «سمعتها» الأولى بعد أن كادت الأحداث أن تشوه هذه السمعة وتمرغها في الطين. أي بعد أن كادت الهزيمة أن تجعل الفرنسيين ينطقون بكلمات لغتهم لغةً أخرى أو لغاتٍ أخرى فيحدث للروح الفرنسية ما حدث لبرج بابل القديم: السقوط العظيم. كان على أراجون أن يعيد المعاني القديمة إلى كلماتها فيصبح شعره دفاعًا عن الروح الفرنسية وحمايةً لها من السقوط في براثن الهستيريا؛ بل الجنون الذي أراده النازي لها، وكتب في إحدى قصائده يقول: «دعني أقول للجماهير: إن الشمس هي الشمس.» وتسترسل ظلال القصيدة في وجدان المتلقي فتستكمل رؤيا الشاعر، أجل: الموت هو الموت، والحب هو الحب، والوطن هو الوطن، وليست فرنسا الجريحة إلا وطني، وليست الحرية إلا حياتي أو موتي لأنها حياة وطني المسلوب أو موته. ويكتب في قصيدة «ورود عيد الميلاد» تحية إلى رواد الاستشهاد على يدي النازي:
تلك كانت أولى «مزايا» الحرب التي عني بها شعر أراجون خاصةً، والشعر الفرنسي إبان تلك الفترة عامة؛ فقد عادت إلى الكلمات معانيها الحقيقية حتى ما يعد منها عند البعض «مبتذلًا» في وصف التجارب الإنسانية، هكذا اكتسبت أشعار أراجون بساطةً وألفة وحياة لم تعرفها أشعاره السريالية السابقة وإن كان لتجربته السريالية أثر لا شك فيه انعكس على التكوين الشعري في مرحلته الجديدة، وأكسبه أبعادًا لا تستطيع «مجريات الحياة اليومية» وحدها أن تحتويها. كان عبء الهزيمة الرازح على القلوب هو أول ما تنبه إليه أراجون، وكانت «مجريات الحياة اليومية» في وضع لا يسمح للشعراء أن يصوغ «صورة البطولة» من نسيجها، فاتجه أراجون إلى التاريخ الفرنسي يستلهم صفحاته أن تجود بقوة الأمة الحقيقية، قوة المقاومة، ولكنه لا يجعل من التاريخ «عظة الماضي» ولا يتخذ من الحاضر «عصب الهزيمة»، بل هو يمزج حكمة التاريخ بمأساة العصر ليخرج من نسيجها المركب بقصيدة مثل «باريس»:
هو لا ينسب البطولة لأفراد، حتى لأولئك الذين عرفهم وعاش معهم لحظات عمره، حتى لأولئك الذين نالوا من العدو أقصى درجات التعذيب حتى الموت. إن صورة الفرد في خياله تتحول إلى «وجه فرنسا» بأكمله، الوجه الغائب في أتون المعركة من ناحية، وفي صفحات التاريخ أو طيَّات الحضارة من ناحيةٍ أخرى. لقد شارك أراجون بنفسه في المعارك، خدم كمساعد طبيب، وترقى إلى رتبة الملازم، ومن هذه المعاناة الخصبة لمعنى الحرب، ومعنى المقاومة، ومعنى الوطن، جاء شعره بمثابة خط الدفاع الأول عن الروح الفرنسية الكسيرة، حتى إذا استعار من إسبانيا، المظهر والقناع، فيقول في قصيدة «سانتا إسبانيا»:
ويعد الشعر الذي كتبه في ذلك الوقت تصويرًا حيًّا للمعركة مثل «بساط الخوف الأعظم» و«أغاني فرنسا المهزومة» و«ريتشارد قلب الأسد» و«الزنابق والزهور» وكلها تتصف بهذا القدر العظيم من الانفعال بالتجربة الإنسانية العميقة التي خاضها الشعب الفرنسي، تجربة المقاومة البطولية لجحافل النازي. ورويدًا رويدًا اكتشفت رقابة فيشي حقيقة الأشعار التي يكتبها أراجون فاكتفت في البداية بأن تنصح المجلات العلنية ألا تنشر شيئًا له، فاتجه إلى المجلات والصحف السرية، وإلى المجلات والصحف القادمة من سويسرا. وقد جمع بعد التحرير هذه القصائد التي نشرها سرًّا أو بأسماء مستعارة تحت عنوانٍ شامل «يقظة فرنسا»، وتتسم في أغلبها بما يمليه الحيز الضيق في الجرائد السرية من تركيز شديد يقترب من المباشرة أحيانًا، ولا يبعد عن جو المعركة لحظةً واحدة، ذلك أن الشاعر والمسئولين عن الطباعة السرية كانوا يعرفون جيدًا أن هذه «الورقة» تعرض حاملها للموت إذا وقع بين يدي البوليس. وجاءت الأغنيات والقصائد الطويلة في «يقظة فرنسا» صياغةً رائعة للألم العظيم الذي أحسه كل إنسان عاش تلك الأيام حيث كان كل فرد على استعداد لأن يموت فداءً للآخرين. يصف أراجون تلك الأيام: «لقد عانينا الكثير، وبصفة خاصةٍ من الناحية الروحية، فلا يمكنك أن تعرف معنى أن تعيش كل يوم وأنت تجهل ما سيأتي به الغد، فربما يختفي أحباؤك أو أهلك أو تختفي أنت نفسك، أو عندما تعرف أن كل كلمة وكل فكرة، وكل عمل في سبيل وطنك، وأي احتجاج في سبيل حرية التعبير قد يكون جواز سفرك إلى العالم الآخر. أو عندما ترى قوة مواطنيك المادية والمعنوية تتسرب وتضيع وتفتت عن قصد، وبإثم عدواني عن طريق عدو خبيث يدرك أهمية العقل، وقد درس بحذق كيف يقوم بتسميمه. وأنت تلاحظ هذا السم يقطر من جهاز دعاية واسعة النطاق، التي تحقن في عقول البسطاء من الرجال والنساء في كل مكان، وأنت تلاحظ أثر الشك والخوف القارص على هؤلاء الذين كانوا من الشجاعة حتى إنهم عادوا إلى القتال.» وكان من الضروري للشعراء — كما اعتقد أراجون — أن يكتشفوا طرقًا جديدة للتعبير لا أن يظلوا خرسًا؛ ذلك أنه إذا استمرت حركات القبض والإعدام فربما يخرس قادة فرنسا المثقفون، فتحرم حركة المقاومة النامية من قيادتها.
وإذا كانت صورة البطولة في شعر أراجون هي صورة «فرنسا» أو «باريس» وليست صورة الأفراد الذين اقتيدوا إلى ساحات الإعدام، فإن هذا لا ينفي «التجربة الخاصة» في حياته التي اتخذت صورها من ميدان القتال، ومن علاقته برفيقة عمره إلزا، على السواء. يقول في قصيدة «إلزا أمام المرآة»:
ويمكننا القول إنه «حتى إلزا» لم تكن في شعر أراجون فردًا من الأفراد؛ بل كانت صورةً أخرى لفرنسا التي استطاع أراجون أن يتمثل أغوار روحها العميقة، فاكتشف بطولتها في الهزيمة والانكسار، كما اكتشف هذه البطولة في سنوات المقاومة أو سنوات العذاب كما يسميها، واكتشف أخيرًا هذه البطولة في انتصارها العظيم حين أصر الفرنسيون على تحرير مدينتهم قبل أن تصل إليهم قوات الحلفاء. وفي أواخر عام ١٩٤٣م قررت جمعية الكتاب القوميين الدعوة لعقد اجتماع سري في باريس لإقرار تفاصيل الشكل النهائي لعملهم قبل الانتفاضة القومية. وفي محطة باريس كان في انتظاره صديق لم يرَه منذ أن ثار على السرياليين عام ١٩٣١م، ولكن «أقدار فرنسا وعذاباتها» وضعتهما معًا على الطريق من جديد. كان هذا الصديق هو الشاعر بول إيلوار. وكان هذا الاجتماع السري في باريس من أهم الاجتماعات التي عقدتها جمعية الكتاب القومية؛ فقد أصر أراجون على أن المقاومة في المرحلة الحالية ليست بحاجة إلى «عسكريين من الشعراء» وأنه مقتنع بأن دور الثقافة عمومًا، والشعر خصوصًا، لا يقل أهميةً عن حمل السلاح، وأدان بقسوة وعنف الشاعر جان مارسيناك في حضوره، لأنه حاول الانخراط في سلك الجندية، بينما ساحة الشعر في حاجة إلى كل موهبة «تحث الجموع على القتال ضد العدو». ويبرز بول إيلوار من بين جميع الشعراء الذين اصطفوا في كتيبة المقاومة «كبابٍ يتأرجح مفتوحًا لكلِّ من يعادي الظلم»، كما قال عنه كلودروا في كتابه عنه، وكما يقول هو عن نفسه: «إن لي قوة الوجود بلا مصير.» ولكنه — في صبر ومعاناة هائلَين — صنع لنفسه مصيرًا. وكان إيلوار قد التحق بصفوف المقاومة عام ١٩٤٢م ولم يكن حتى ذلك الوقت إلا شاعرًا كبيرًا من شعراء العاطفة الإنسانية العظام. فلما تحولت هذه العاطفة عبر مأساة الهزيمة إلى اللون الحزين الفاجع، لم يتخلف إيلوار عن «التأقلم» مع اللون السائد على العاطفة الجديدة التي اجتاحت الوجدان الفرنسي. لذلك حلت صورة «الحرية» مكان صورة «الحب» في قصائده التي اكتفت من حيث المظهر ببطولة العادي والمألوف ومن حيث الجوهر ببطولة «النفس الفرنسية»؛ بل «العاطفة الفرنسية» كما كان يصر دائمًا على القول.
ويبدو لنا للوهلة الأولى أن «الحرية» صورة مجردة خاصةً إذا جاءت في الشعر، ولكن شعر إيلوار بالذات يتمتع بهذه السمة البارزة في كل ما كتب وهي التقاء المجرد بالمجسد في جوهر واحد هو «الحرية»، وإذا عنت الحرية في الماضي «الخلاص بالحب» فهي الآن — أي منذ ١٩٤٢م — هي «الخلاص بالمقاومة»، ليست البطولة إذن في شعر المقاومة عند إيلوار، بطولة أفراد، كما أنها ليست بطولة تاريخ، وإنما هي بطولة «العاطفة الفرنسية» والتي لا تقهر، هكذا يخاطب إيلوار «الحرية» في القصيدة المسماة باسمها:
هذا اللقاء بين المجرد والمجسد هو النسيج الشعري الغالب على «صورة البطولة» عند إيلوار. والمجرد أو الحرية، لا يسوقها بالمعنى الفلسفي الذي يختلف حوله الكثيرون من المثقفين الفرنسيين الذين شاركوا في المقاومة مشاركةً فعالة من بوليتزير إلى سارتر، وإنما يسوقها مع فئات موائد الحياة اليومية، حياة الصراع الضاري مع النازية الهتلرية والميليشيا الفاشية التي نظمتها حكومة فيشي الموالية للغزو. ويبدو أن «إسبانيا» بكل ما يحمله أنينها على طول التاريخ هي القاسم المشترك الأعظم بين شعراء المقاومة. ولكن صورتها تختلف من أراجون الذي يرى فيها «صورة التاريخ» إلى إيلوار الذي يرى فيها أعمق العواطف وأنبلها، عاطفة الصراع الإنساني ضد الظلم. وفي «إسبانيا» هي قصيدة إيلوار «عن الحرية» لا عن إسبانيا وحدها:
بل إنه حين يتحدث «عن باريس» نفسها في قصيدته الطويلة «سبع قصائد حب»، فإنه لا يتحدث عن باريس مثل أراجون الذي يتخذ منها نموذجًا للروح الفرنسية، إنه يتحدث عنها في يأسها «كبطل» يُدعى الحرية:
ولعل إيلوار من أكثر الشعراء الذين واجهوا المأساة بشجاعةٍ كبيرة: «نحن بمأساتنا، لا نخجل من خجلنا.» ولكن هذا الوجه المهزوم، يعترف حقًّا، دون أن يستسلم لها:
ولعل «أنشودة نازية» من أروع قصائد إيلوار التي صور فيها الشجرة تنزف والربيع ينزف لأنه «آخر الفصول» لألمانيا الراكعة في الدم والصديد، في الجراحات التي حفرَتها في وجه الإنسانية.
•••
وكانت الجبهة السوفييتية من أكثر الجبهات المناضلة ضد النازي قدرةً على الصمود، بالرغم من العشرين مليون قتيل الذين استشهدوا من السوفييت على خط النار وخلف خطوط القتال وفوق الأرض المزروعة وفي قاع المناجم؛ ذلك أن الاتحاد السوفييتي كان هدفًا رئيسيًّا ومباشرًا لهتلر، أعد له كل ما يستطيع من خطط وقوات. وكان المثقفون السوفييت يعيشون مرحلةً قاسية من تاريخ بلادهم التي كانت قد انتقلت من أول ثورة اشتراكية عرفها التاريخ الحديث إلى مجتمعٍ يعاني من ميراث القرون والأجيال وتناقضات العصر وحضارة القرن العشرين. وأقبلت الحرب العالمية الثانية لتحاول النيل من كل التضحيات التي قدمتها الشعوب السوفييتية في سبيل حياةٍ أفضل من المجتمع القيصري المتخلف. وعلى النقيض من الشعر الفرنسي الذي يتجه في معظمه إلى المجردات من المعاني والقيم، إلى التاريخ والروح والحضارة والعاطفة، يتجه الشعر السوفييتي في معظمه إلى صورتَين أساسيتين هما الإنسان والأرض، الإنسان الروسي والأرض الروسية. البطولة في حركة المقاومة هي بطولة هذا الإنسان بالذات، من أجل هذه الأرض بالذات. من هنا جاء الشعر في هذه المنطقة من العالم شعرًا حسيًّا وثيق الارتباط بالواقع، حتى ما حلق منه في سموات الرومانتيكية. وصدق أحد شعراء هذه المرحلة الدامية حين قال: «كنا نجد الشعر مكتوبًا في حياتنا لا يحتاج إلى المداد؛ فقد كتبناه بدمائنا.» وليس الاختلاف بين صورة البطولة في شعر المقاومة الفرنسية وصورتها في الشعر السوفييتي مقصورًا على زاوية التصوير وحدها — الإنسان والأرض — بل تجيء بعد ذلك مجموعة من التفريعات الهامة، كتركيز الشعر الروسي على بطولة «الفرد» وتركيزه على «التجربة الشخصية» ثم بتركيزه على «التفاصيل المادية المحسوسة». إن شعراء عديدين من الشعراء السوفييت حملوا السلاح جنبًا إلى جنب مع العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين في الجبهة، وعاشوا مختلف مراحل الكفاح الدامي بهزائمه وانتصاراته، ثم بطولاته بعد ذلك، البطولات المهزومة التي لقيت مصرعها وسط الثلوج والبطولات المنتصرة التي دقت أبواب برلين وقد داست في طريقها جثث النازي المدحور. كانت «التجربة الشخصية» بمثابة العمود الفقري للتجربة الشعرية في حياة شعراء المقاومة الروس، فيكتب ميخائيل لوكوني الذي عمل مراسلًا عسكريًّا في الجبهة طوال الحرب العالمية الثانية، إلى زوجته أو حبيبته يقول:
والتجربة الشخصية تعتمد على بطولة الفرد كإنسان يصارع في حلبةٍ جهنمية لا تمنحه الفرصة أن يتحول إلى أحد فرسان العصور الوسطى؛ بل لا بد له — لكي يكون بطلًا حقيقيًّا — أن يحسم اختياره بنفسه كتاتيانا التي أعدمها الفاشست بعد تعذيبٍ وحشي ثم ألقوا بها عاريةً في الثلوج حتى تجمدت وأصبحت كلوح الجليد. حينئذٍ تجد مارجريتا إليجر ضالتها — الشعرية — لتصوغ معنى البطولة، بطولة العروس التي زُفت إلى الثلج في وحدة فريدة بين الضعف والقوة الأبدية «لكي تصون شرف البطولة، فلتصبحي لنا معبودة.» فالفرد هنا بمعناه المادي البحت هو «الخامة» التي تستلهمها الشاعرة في رؤية الإنسان والأرض من منظور «المقاومة»؛ بل إن المستقبل الذي يتيح للمخيلة أن ترتاد المجهول بكل ما يحتويه من مجردات لا قبل بنا إلى تجسيدها، يحاول الشاعر ستيبان شيباتشوف أن يجد له «بديلًا موضوعيًّا» في أن مئات السنين التي تفصل بينه وبين أحفاده «ليست استحكامات حصينة، فعندما كان العدو يمطرنا بقنابله، كانت شظاياه تتطاير إليكم.» وإذا كانت الشاعرة مارجريتا إليجر قد وجدت بغيتها في تجسيد معنى البطولة عن طريق مأساةٍ واقعية حلت بفتاة دفنوها في الثلج، فهل يختلف الأمر عند الشاعر إيليا سيلفنسكي حين يرى ذات يوم سبعة آلاف قتيل، في أخدود من الجليد خضبه الدم كحديد علاه الصدأ؟ هل يختلف الأمر بينه وقد رأى بطولةً «جماعية» عن الشاعرة التي رأت بطولة الفرد فيما رأت؟ كلا، إن «البطولة الفردية» في شعر المقاومة السوفييتية هي ظاهرة فكرية وفنية معًا، حتى إذا انفعل الشاعر برؤية سبعة آلاف جثة استشهد أبطالها في «صورة واحدة». يقول إيليا سيلفنسكي في قصيدته «بعيني رأيت»:
تتأكد «صورة الفرد» هذه خلال «التجربة الشخصية» بمعناها الواسع لا بمعناها البطولي فحسب، فالشاعر سيمونوف يخاطب زوجته أو حبيبته بهذا الوجدان الفردي الممزق «انتظريني»، مهما آمن الأب والأم أنه «مفقود» ومهما أصاب الأصدقاء «الملل» وعاودوا الشراب أو تجرعوا النبيذ المر في ذكراه: «لا تتعجلي مشاركتهم الشراب، انتظريني ولسوف أعود.» هذه الحياة الخاصة التي يحياها الأبطال بالرغم من كل الأهوال التي يلقونها في الجبهة هي «باقة الزهور» التي يتوقون إلى شم عبيرها وسط الرياح العفنة القادمة من جوف القتلى. هذه الحياة الخاصة هي التي تدفع الشاعر إليكسي سوركوف إلى مناداة زوجته أو حبيبته: «الوصول إليك يشق علي، أما الموت فتفصلني عنه أربع خطوات.» هذه الحياة الخاصة أخيرًا هي التي تصوغ فردية الأفراد، أي بطولة الأبطال، ولكن في جانبها الإنساني الذي لا يفتعل البطولة الخطوط المستقيمة التي تجعل من الأبطال تماثيل جوفاء من خزف. إن «الأبطال» السوفييت من لحم ودم، يزهون بالانتصار حقًّا، ولكنهم يشعرون بالهزيمة حتى النخاع، وحين يصور الشعر لحظات شوقهم العارم إلى أنفاس امرأة أو ذراعَي أم أو دمعة صديق أو ذكرى حب، فإنما لينحت لنا صورة «الإنسان» فيهم، وإن تجسدت — ولا بد لها من أن تتجسد — في صورة الفرد. على أن الإنسان ليس إلا طرفًا ناقصًا في المعادلة الشعرية — إن جاز التعبير عند الشاعر السوفييتي — ولا بد للمعادلة أن تتكامل بالطرف الآخر وهو الأرض. فإذا كان للإنسان بطولات، فالأرض هي «المحك» الذي أعلن عن وجود هذا المعنى البطولي، والأرض — لذلك — هي العنصر الذي يشكل خلفية الصورة الشعرية في أدب المقاومة السوفييتية. وهي أرض بلا رموز، ربما يصفها الشاعر بأنها الأم، ولكن الصورة لا تكتمل إلا بأشجارها وجليدها وترابها، والأرض هي «الوطن» وليست «الطبيعة» كما سنرى في شعر بلادٍ أخرى. وترابها إذن هو تراب الوطن الذي يصفه ميخائيل إيساكوفسكي قائلًا:
ولعل شاعر «الطبيعة» الأول من بين شعراء المقاومة جميعًا هو شاعر تشيلي الكبير بابلو نيرودا. نيرودا يفترش أرض المقاومة بمعناها الأكثر شمولًا من الوطن بمعناه الضيق. ولقد حارب هو نفسه جنبًا إلى جنب مع الشعب الإسباني في قتاله التاريخي ضد الفاشية. ولم تكن إسبانيا بالنسبة له إلا صورةً أخرى من تشيلي، ومن كل الأوطان التي عانت وتعاني من القهر والطغيان. هكذا كانت إسبانيا عند مثقفي العالم، على أرضها استشهد كريستوفر كودويل وبين ثراها دُفن لوركا صريعًا، لم تفرق بين الإسباني والإنجليزي، تمامًا كما استشهد بيرون في أرض الإغريق وهي تناضل الغزو التركي. بابلو نيرودا شاعر «الطبيعة» بهذا المعنى، لم يستلهم ظلالها الرومانسية الوارفة؛ بل جعل منها «خلفية» الصورة الشعرية التي رسم فيها معنى البطولة على نحوٍ مختلف تمام الاختلاف عن المعنى الفرنسي، والمعنى السوفييتي. عمد نيرودا إلى «البطولة الفردية» حقًّا ولكن من خلال صور المثقفين الذين عاشوا أو استشهدوا في معركة الحرية، تجد قصيدته «إلى هاورد فاست» في سجنه هي صورة الشاعر الذي تأرجحت رأسه في الظلال، وأبواب إسبانيا مغلقة، والوحوش الدموية تجهز عليه. كما أنك تجد قصيدته «إلى ميكويل هرنندز» الشاعر القتيل في سجون إسبانيا، صورةً لهذه «البطولة» التي يراها نيرودا في إطار «الطبيعة»، التي لا تتخلى ألوانها وأشكالها وحركتها وسكونها عن المشاركة الإيجابية في رسم الصورة التراجيدية للمقاومة وبطولاتها:
وليس هذا هو اتجاه الشاعر الذي لقي مصرعه في أتون المقاومة، الشاعر الذي تغنى بحياته وبطولته وشعره، بقية شعراء العصر، الشاعر فيديريكو جارسيا لوركا. ولا شك في أن لوركا كان مولعًا بالطبيعة في شعره، ولكنه الولع القريب من روح الطفولة، وهذا ما دعاه لأن يكون قريبًا غاية القرب من التراث الشعبي بأغنياته ومراثيه وملاحمه. وهو يقترب من تكوين «صورة البطولة» في شعره النضالي من الشعراء الروس الذين يعنون كثيرًا بالتفاصيل المادية، الماضي هكذا نراه في مراثيه جميعها أو في معظمها على أقل تقدير. إنه في قصيدته «مرثية لإجناثيو سانشت ميخياس» يكاد يذكرك بمطلع قصيدة مايكوفسكي في رثاء لينين حين يقول: «في الخامسة من بعد الظهر …» إلى بقية التفاصيل الدقيقة التي تنتهي بالموت، فلا يترك الموت إلى ما وراءه من معاني الاستشهاد ودلالات المقاومة؛ بل يؤكده تأكيدًا «ماديًّا» صارخًا:
وكأنه يريد أن يعيد إلى كلمة «الموت» معناها الحقيقي — مثل أراجون — بعد أن كادت تصبح «خبرًا» عاديًّا لا «فعلًا» رهيبًا ضاريًا. وإلى جانب التفاصيل الدقيقة يقترب لوركا من الشعر السوفييتي وبابلو نيرودا على السواء في معنى البطولة، معناها الفردي الخاص، لا معناها الإنساني الشامل. ولكنه يميل إلى نيرودا في الابتعاد عن «الحياة الخاصة» و«التجربة الشخصية»، ثم يضيف بعدًا جديدًا هو ما يمكن أن ندعوه باللحظة التراجيدية أو هي — على حد تعبيره — ساعة الموت. لوركا يفترض فيك سلفًا أنك تعلم من يكون هذا «البطل» الذي يرثيه، ولماذا قتل، ولكنه يحرص غاية الحرص على تصوير، «القتل» أو «الموت»، إنه بعبارةٍ أخرى يجيب على السؤال: كيف قتل؟ ولا يعنيه أن يخبرك لماذا قتل. وتعميق «لحظة القتل» من شأنه جلاء بؤرة الصراع بين البطل والقوى التي يقاومها. ويركز لوركا على عملية «التعميق» هذه لأنها مصدر الاستجابة عند المتلقي، والتفاعل مع البطل، وأخيرًا الانفعال بالمأساة أو الدفقة الشعورية التي تنساب من وجدانه المأزوم في اتجاه الأزمة، أي صوب المقاومة. على أن لوركا — من أجل هذا الهدف؛ استجابة المتلقي — لا يعمد إلى استلهام سير الشعراء «الأبطال» كما يفعل نيرودا مثلًا؛ بل هو يقصد إلى شخصيات عادية، ولكنها حقيقية يعرفها الناس أو بعضهم. إنه أقرب ما يكون إلى الشاعرة الروسية التي صورت الفتاة القتيلة بين الثلوج. إنه لا يقتصر على «الصورة الخارجية»؛ بل هو ينطلق من المظهر الخارجي إلى ما هو أكثر فاعليةً في الوجدان. يقول في «مصرع أنتونيو ألكمبوريو»:
وتكاد لا تختلف قصائد لوركا الأخرى التي كتبها في المقاومة عن هذا المطلع من حيث الجوهر: التركيز على بطولة الأفراد حقًّا، ولكنهم الأفراد العاديون، التركيز على بؤرة الصراع أو اللحظة التراجيدية مع الاستناد على خلفية الصورة الشعرية الوافدة من الطبيعة وليس العكس، أي أنها ليست الطبيعة «الحالة» في الأشياء، وإن تضافرت معها في صنع الحدث. ونحن نعلم أن لوركا لم يغن للمقاومة الوطنية بمعنى الغزو، وإنما كان ينشد أغنيات المقاومة في الحرب الأهلية (وقد مات عام ١٩٣٦م) غير أن الحرب الأهلية الإسبانية على وجهٍ خاص، كانت حربًا بين الفاشست والديمقراطية، أي أنها كانت تصغيرًا مركزًا لمشهد الحرب العالمية الثانية بعد مصرعه بثلاث سنوات.
•••
فليست الحرب الوطنية وحدها هي التي تشحذ «المواطن» إلى المقاومة، وربما كان التمهيد للغزو يحرث لنفسه أرضًا في قلب «الوطن»، أفلا يحق لجنود الوطنية أن يذودوا عن أرضهم ضد العدو الداخلي بنفس القوة والقدرة التي يلاقون بها الغازي الأجنبي؟ هذا هو السؤال الرئيسي الذي وجهه الشاعر التركي ناظم حكمت إلى ضمير الإنسانية المعاصرة. وفي صياغةٍ أخرى نقول إن ثمة فرقًا بديهيًّا بين الحروب الوطنية والحروب الأهلية، بين الحروب التي تستهدف صد العدوان القادم من الخارج بقصد احتلال أرض الوطن وسلب سيادة أهله عليه، والحروب التي تستهدف التغيير الاجتماعي الداخلي بقصد تغليب نظام اجتماعي معين على نظام اجتماعي آخر. ولكن — هنا يتساءل ناظم حكمت في معظم أشعاره — ألا يمكن أن تكون هناك حروب «داخلية» من حيث الشكل، ولكنها تقوم من أجل صد عدوان خارجي له قواعده في الداخل من حيث المضمون؟ ويجيب أغلب النقاد المعاصرين: إن شعر ناظم حكمت يندرج في باب أدب المقاومة الوطنية، لأنه ألهب الوجدان الوطني في تركيا وغيرها من بلدان العالم المعادية للاستعمار، لكي تقاوم «الطغاة» من عملائه في الداخل. ويكاد شعر ناظم أن يتميز عن شعر المقاومة في مجموعه بأنه شعر «الحدث» لا شعر «الحادثة». وهو بهذا المعنى يكاد يلج أبواب الشعر الدرامي، بالرغم من أن أعمال ناظم حكمت الرئيسية هي أعمال سياسية مباشرة، أكثر مباشرةً من غيره من الشعراء الآخرين. وهو الشاعر الذي «تأثر» به الكثيرون من الشعراء العرب الشباب طيلة الخمسينيات من هذا القرن، أي في غمرة النضال العربي ضد الاستعمار. إلا أن أغلب شعرائنا لم «يتمثلوا» جوهره الحقيقي فأخذوا عنه «القشرة» السياسة دون اللباب الإنساني والفني. هذا اللباب الذي يمكن إيجازه في «الحدث الدرامي»، ربما كان هذا الحدث هو جماع جزئيات الحياة اليومية في حياة الطفل «منصور» في حرب بورسعيد عام ١٩٥٦م، وربما كان هذا الحدث هو إضرابه عن الطعام في زنزانةٍ مظلمة بإسطنبول، وربما كان الحدث متبلورًا في فارس، الشباب الأبدي الذي نلقاه في قصيدته «دون كيشوت»، حيث كانت بغلته البرصاء «حزينة ومشبعة بفكرة البطولة». إننا قد نجد عند ناظم حكمت، كما هو الأمر عند شعراء المقاومة جميعًا، ما يقترب من دائرة «السباب التقريري المباشر» لقوى الشر، ولكن تظل هذه السمة لديهم جميعًا، أمرًا عارضًا، لا يشكل ظاهرةً فنية مستقلة.
•••
ولعل مأساة الشاعر البلغاري «فابتزاروف» هي في ذاتها إحدى قصائد المقاومة البطولية ضد الفاشية؛ فقد انضمت الحكومة البلغارية إلى صفوف النازي في بداية الحرب العالمية الثانية وسمحت لجحافل الجيش الألماني أن يعبر أرض بلغاريا، وأقدمت الجيوش البلغارية على احتلال يوغوسلافيا لتخفف من أعباء الحرب على ألمانيا، وأحس الشاعر الذي تعلم من الحياة وحنَّكته التجارب، أن بلاده تتردَّى في حمأة الخيانة؛ فقد رفضت «معاهدة عدم الاعتداء» مع الاتحاد السوفييتي لتجر الشعب البلغاري إلى أتون حرب يجني ثمارها النازيون الألمان وعملاؤهم في الداخل. وفي هذا الصراع أدرك فابتزاروف أن المهمة الموضوعة أمامه وأمام رفاقه هي انتزاع الجماهير من بين أنياب الفاشست، وكان قد عُهد إليه بتحرير «صحيفة النقد الأدبي» فانهالت قصائده كالسياط على ظهور المعتدين، تكشف أوراقهم التي ضللت الشعب زمنًا قصيرًا، ما لبث أن أفاق، واستمع إلى شاعره المناضل يهتف من خلف الأسوار:
وسقط فابتزاروف شهيدًا وبقيت قصائده من بعده ترسم للبطولة صورًا لن ينالها الفناء، صورًا استلهم مادتها الدافقة بالحياة من أعماق «التجربة» التي عاشها حتى اخترق الرصاص صدره الواهن وانبجس الدم من قلبه الضعيف، فمن لون الدم وحرارته كتب قصيدته «إسبانيا»:
هذا هو «القاسم المشترك الأعظم» بين الشعراء الذين اتخذوا من إسبانيا وكفاحها المرير خامةً فنية لقصائدهم: هذا المزج العميق بين الصورة الرومانتيكية والصورة النضالية المتوهجة أبدًا بالدم. ولكن «مدريد» و«طليطلة» تتحول في وجدان الشاعر من مجرد بطاقاتٍ رمزية إلى عالم بأكمله من «القضاء والقدر» الذي يحتم على الشاعر فيما يشبه الخبر الصارم أن يأخذ نصيبه في معركة الإنسان الضارية من أجل الحرية، لهذا يحترق فابتزاروف بالفرحة التي تهزه حتى النخاع، تهزه بالرغم من الجسد الممدد بجانبه يسيل منه الدم وقد تشكلت من السترة الزرقاء واللون القاني ملحمة مركزة من ملاحم القرن العشرين، فهذا دمه هو الذي يجري في عروقه اليوم، وقد يسفحه البرابرة غدًا، هذا دمه هو الذي يسيل حارًّا وبغير انقطاع من قلب صديق «كنا والمجارف في أيدينا، نعمل في فرنٍ واحد»:
وهكذا كانت إسبانيا في شعره «عالمًا دراميًّا كاملًا» كما قيل عنه بحق، وليست مجرد رموز مجردة تومئ بالإشارة العابرة كشفرةٍ سرية، وإنما هي أقرب إلى «الكون الفني» المستقل نسبيًّا عن الوجود الواقعي، ولكنه يسكن مكان القلب هذا الوجود والإنسان الذي يعيش فيه. ومن أعماق هذا القلب يشعر فابتزاروف بوحدة المصير بينه وبين «الإنسان» في عالمنا:
ومن أعماق هذا القلب يشعر فابتزاروف برفيف رومانتيكية جديدة، تحتوي الواقع المر بكل عفونته، ولكنها تتجاوز هذا الواقع وتحلق في آفاق رؤيا جديدة لم تتشكل بعد: رؤيا، سقط الشاعر دون أن يراها وقد تحولت ببلاده إلى عالم جديد، رؤيا كانت في ضميره حلمًا يراوده في اليقظة والنوم، يقول:
لقد بقيت بلغاريا وإن سقط فابتزاروف «فليس المهم هو الشخص» كما يقول في إحدى قصائده، وقد سقط الألوف غيره «وليس المهم هو الاسم» كما يقول في نفس القصيدة. وفي ليلة الإعدام كتب فابتزاروف قصيدتين: أولاهما لزوجته، والأخرى لشعبه. وكأن الموت أضفى على ذهنه من الصفاء الروحي العميق، ما يدفع مخيلته إلى صياغة وداعه لزوجته في هذا الإطار:
بينما يصوغ نداءه لشعبه في إطار مختلف:
هذا الاختلاف «الشكلي» بين القصيدتين، هو اختلاف التكامل، وليس اختلاف التناقض، هو أيضًا ذلك المزيج المركب من رفيف الرومانتيكية وأصداء الواقع الصاخب، والحق أنهما يكملان بعضهما البعض كلونين في صورة واحدة أو كخطَّين يتوازيان أحيانًا ويتقاطعان أحيانًا أخرى، فالزيارة التي يستلهمها من مادة الحلم لرؤية زوجته بعد الموت هي الخط الذي يتكامل — بالتوازي أو التقاطع — مع الخط الآخر أو «العاصفة» التي يلتقي فيها دومًا مع الشعب المناضل. تمامًا كلونين في صورةٍ واحدة، لونها الأول هو «الحياة» التي ينبض بها قلب الشعب، واللون الآخر هو النهاية الفاجعة التي تفاجئ الفرد في خضم النضال، وبخاصة إذا كانت نهاية شاعرٍ غرد طويلًا للحياة.
•••
على أن بطولة فابتزاروف، سواء تلك التي عبر عنها في شعره أو التي عبر عنها في حياته وموته، تظل في البداية والنهاية نموذجًا للبطولة «الشخصية» أو بطولة الفرد، وبخاصة في إطار دولة العدوان على الشعوب الأخرى، فصورة «البطل» الذي يرى في بلاده قاعدةً للعدوان، ويصبح هو في وحدةٍ قاسية مع ضميره الحر مقاتلًا في صفوف شعوب أخرى استهدفت للعدوان، هي صورة أقرب ما تكون إلى الصورة التقليدية للبطل التراجيدي وإن تغلب الخط الملحمي على بنائه من خلال حركة الصراع بينه وبين نفسه حينًا، وبينه وبين قوى الشر في معظم الأحيان. غير أننا في نهاية الأمر — مهما رجحت كفة الصراع الداخلي في لحظة أو كفة الصراع الخارجي في بقية اللحظات — نستقبل صورةً نموذجية للبطولة «الشخصية» أو بطولة الفرد. وعلى النقيض من ذلك تمامًا تصلنا صورة البطولة في شعر المقاومة الفيتنامية؛ إذ هي تمثل في عصرنا نموذج البطولة الجماعية في مواجهة أبشع ألوان العدوان الحديث الذي تقوده الإمبريالية الأمريكية على نطاق العالم أجمع. ولكن فيتنام وحدها، من بين جميع النقاط التي ركزت عليها الولايات المتحدة، تمثل «نقطة قوة» في كيان البطولة المناضلة ضد الوحش الأمريكي. فإذا كان «جيفارا» هو الصورة النموذجية لبطولة عصرنا على مستوى الفرد، فإن فيتنام هي الصورة النموذجية لبطولة عصرنا على مستوى الجماعة، والشاعر الفيتنامي المناضل، وقد ترسب في تكوينه هذه الحقيقة الهامة، تخلص تمامًا من تراجيدية الشاعر البلغاري ورومانتيكية جيفارا، ومنح الغلبة نهائيًّا للصراع الملحمي. وأقول «الصراع الملحمي» وليس البناء الملحمي، لأن الشعر الفيتنامي المعاصر لا يقوم بناؤه على أساس الملحمة في شكلها الخارجي؛ إذ هو من هذه الزاوية أقرب إلى نظام البالاد والسوناتا في الشعر الغربي. وإنما هو يستلهم من الملحمة جوهرها المحتدم بالصراع بين الفرد والقوى الخارجية.
ومن الطبيعي أن يكون مشهد «الحرب» هو الخط الأساسي في صورة البطولة التي يرسمها شعر المقاومة الفيتنامي، ولكنه الخط المركَّز القصير الذي يصل إلى هدفه من أيسر الطرق، ولعل قصر هذا الخط وتركيزه يضفي عليه شيئًا من المباشرة الصارخة، ولكن من ذا الذي يعيش فوق أرض فيتنام دون أن تتخلل حياته «الصرخات»؟ ومع هذا فإن الحرب — على الطبيعة هناك — ليست بمعزل عن الحياة اليومية؛ بل لقد أصبحت جزءًا لا يتجزأ من هذه الحياة بحيث إن الشاعر الفيتنامي لا يحس بأنه يهتف أو «يقرر» حين يصرخ سانه هاي في «أغنية المقاتلين»:
لا يحس الشاعر الفيتنامي بأنه خرج على أصول الفن التي تميل إلى الإيحاء بدلًا من الصراخ، ولكنا نظلمه ولا ننصف أنفسنا، إذ قرأنا هذا الشعر بمعزل عن تصورنا لما يجري على أرض بلاده، فهو يكتب القصيدة بيده اليمنى ويمسك البندقية بيده اليسرى، وهو ليس نموذجًا مفردًا شاذًّا؛ بل هو ذرة دم تجري في القلب الأكبر الذي يضخ الدماء كل لحظة بلا توقف. فالشعب كله هو هذا الشاعر، يأكل ويشرب ويحب ويقاتل في وقتٍ واحد. ولم يعد هناك وقت للحب وآخر للضرب، لأن العدو لا يمنحهم الفرصة لهذه التفرقة، فأصبحوا يحبون وهم يقاتلون، ويقاتلون وهم يمارسون بقية أشكال حياتهم الطبيعية، أي أن القتال جزء لا ينفصل من هذه الحياة «الطبيعية» وليس استثناءً، وهو يخص الشعب بأسره، وليست له جهة أخرى للاختصاص. هذه المعاني تتدفق من أعماق التجربة الفيتنامية في كتابة شعر المقاومة، فمن النادر أن نجد قصيدةً نضالية خالية من الحب ومآسيه. وبالطبع لا بد وأن تكون الحرب — لا القدر أو المجتمع! — هي مأساة الحب الأولى في فيتنام، فالأغلب أن العاشق أو الحبيبة يلقى أحدهما أو كلاهما مصرعه على يدي العدو. وأن تكون الحرب هي مأساة الحب، فإن الشعراء الفيتناميين يضيفون إلى الصورة الشعرية أبعادًا جديدة عرفها كل شعر عظيم في الماضي، ولكنها تستمد جدتها وحيويتها من طبيعة العصر وروح القرن العشرين الذي نحيا في ثلثه الأخير. في قصيدة سانه هاي «لقد عبرت الخط الفاصل» نعيش معه في حلمٍ أشبه بكابوس التقى فيه بحبيبته التي فارقها منذ بعيد فلم تتخذ لنفسها زوجًا آخر، ولكن الذراع التي كان يستريح عليها الرأس العاشق أصابها جرح من رصاص العدو؛ فلم يعد لها مكان تستند عليه:
في ضفيرةٍ واحدة من الماضي والحاضر والمستقبل، من الحب والحرب من الحياة والموت، نسج الشاعر هذه المأساة الموغلة في البساطة والتعقيد معًا، هي قصة حب بسيطة حقًّا، ماتت فيها الحبيبة وأصبحت ذكرى تتوهج في خيال الشاعر كلما أوى إلى فراشه لينام فيعبر الخط الفاصل بين الحرب والسلام ليعيش لحظاتٍ هانئةً مترعة بالحب، تتوسل إليه الذكرى بالذراع المكسورة أن يغط في النوم فلن يجد الرأس العاشق مكانًا يأوي إليه، ولكن ديكًا يصيح في مكانٍ ما يثقب فؤاده بالأسى لأنه سرعان ما يتنبه إلى حقيقةٍ وحيدة تملأ حياته كلها، نومًا ويقظةً، هي أن قلبه بمفرده هو الذي يعبر حدود «الخط الفاصل»، وبالرغم من بساطة البناء الدرامي في القصيدة، إلا أنه كلما توغلنا في هذا القلب الذي يرحل كل ليلة من «الجنوب الشهيد» ندرك أنه قلب شعب كامل يتوق في أحلامه إلى الحب، ولا يرى مفرًّا من الحب ليعبر الخط الذي يفصل بينه وبين السلام، وهو نفس المحور الذي تدور من حوله قصيدة «وطني» للشاعر جيانج نام، فقد أحب وطنه فيما مضى من كلمات الكتب وصيحات الطيور وصيد الفراش وجلد أمه له بالسياط. ويذكر فيما يذكر أن فتاة صغيرة شاهدته يبكي ذات مرةٍ على أثر «علقة ساخنة» من أمه. ثم انطلقت الثورة وبدأت «الحرب الطويلة» وانضم إلى صفوف المناضلين. وعاد ذات يوم ونظر في عيني جارته الصغيرة — التي لم تعد صغيرة — فأحس بالدفء بالرغم من انهمار المطر. وحين عاد مرةً أخرى أثناء فترة ساد خلالها الهدوء تصارحت العيون بما لم تشِ به الكلمات. وفي المرة الثالثة لم يجدها. قتلها الأعداء وألقوا بجثتها بعيدًا، لأنها لم تكن أقل منه «حياة» «ولا «وجودًا» في هذا الوطن:
هكذا ترتفع المرأة — أو تكاد — في القصيدة الفيتنامية المعاصرة إلى مستوى الأسطورة، إنها من الملامح الرئيسية في صورة البطولة التي يقدمها هذا الشعر لا لأنها المرأة التي حفل بها الشعر على مدى الزمان ولكن لأنها «المرأة الفيتنامية» التي جعلت للحب والحرب مذاقًا واحدًا، ومن الحياة والموت مشهدًا واحدًا. لهذه تكاد ترتفع إلى مستوى الأسطورة فهي «الوجه الغائب» بلحمه ودمه، الحاضر دومًا بروحه كأنه روح فيتنام كلها، روح المقاومة الجسورة الصامدة. إننا في معظم أشعار المقاومة، نلتقي بالمعاني المجردة كالحرية والثورة أو المعاني المجسدة كالأرض والعرض، أو معاني النضال المباشرة كالعقيدة والإيمان والحرب، ويحاول الشعر الفيتنامي الحديث أن يقدم صورةً جديدة هي أقرب إلى صورة «إلزا» عند أراجون، مع اختلاف بسيط، هو أن لكل شاعر فيتنامي «إلزاه»، بينما تغنى شعراء المقاومة الفرنسية بأشياء أخرى عديدة. إن المرأة والحب هي القاسم المشترك الأعظم بين شعراء فيتنام الجنوبية، وهي ليست المرأة «الأنثى» بقدر ما هي المرأة «النضال». هذا لا ينفي مطلقًا أن عبق الأنوثة يجذب أنف المناضل الفيتنامي إلى حبيبته، ولكن عطر المقاومة هو عرق جميع النساء وعطرهن الذي يشد المناضلين من الشعراء إلى تطريز أسمائهن من ضفائر الأسطورة. يستهل جيانج نام قصيدته «عبور قرية في الليل» قائلًا:
ويكاد أن يصف لنا صورةً تفصيلية لما جرى للقارب وتهديد العدو حتى وصوله بسلام، ليبرز شجاعة الفتاة من ناحيةٍ و«إنسانية» المناضلين من ناحيةٍ أخرى، فليس الأبطال تماثيل مجوفة باردة، ولكنهم بشر يحيون بطولتهم من خلال إنسانيتهم ولا يفقدونها إذا انساقت هذه الإنسانية مع الحب والمرأة وكافة المشاعر «الطبيعية» لبقية البشر. لا لشيء، إلا لأن البطولة في هذا الجزء من العالم ليست مقصورةً على «أفراد» بعينهم، وإنما هي بطولة كل كائن بشري يعيش ويتنفس، وبالتالي فليست هناك حاجة إلى أقنعةٍ تحمي البطولة من «عيون الناس» لتمارس حقوقها البشرية بعيدًا عنهم حتى تحتفظ لنفسها في أذهانهم «بصورةٍ غير بشرية جديرة بالتأليه». البطل هناك هو فيتنام، سواء تجسد في فتاة الساميان وهي تقود السفينة الصغيرة وسط أهوال الظلام وتربص العدو، أو وهي وقد احمرت وجنتاها حين تلامست يداها بيدي زميلها. إن البطولة ليست في امتشاق السلاح فحسب، وإنما تتجاوز هذه الخطوة اليسيرة على المواطن الفيتنامي إلى مقاومة الموت من الداخل. فالموت الخارجي على أيدي الأعداء، لم تعد له السطوة على النفوس كما هو الأمر في بلاد أخرى، وإنما الموت الذي يقاومه المناضل الفيتنامي في شعره وينتصر عليه في حياته هو الموت الداخلي، موت النفس، فأن يعيش الإنسان حياته العادية البسيطة بكل نقائصها وعيوبها هو نوع من المقاومة التي تنبع بطولتها من القدرة على «الحياة» مجرد الحياة الطبيعية بما تشتمل عليه — في أحد جوانبها — من نزوات.
ويمتزج الحلم بالواقع في الشعر الفيتنامي ليصوغ الشاعر تجربة النصر في إطار من الأمل يشبه اليقين، فلربما تموت الحبيبة أو يجرح العاشق في الحرب، ولكن الظلال القائمة التي تتمدد من قامة المأساة، ليست ظلالًا أبدية. والمرارة التي تخلفها ليست في طعم العلقم، وإنما هي مرارة مؤقتة. لذلك تشف ظلال المأساة حتى لتصبح خيالًا سرعان ما يتبخر مع أشعة الشمس، وكذلك تخف درجة المرارة حتى لتصبح لذعةً طارئة. هكذا يغني «فيين فونج» في قصيدته «سنتزوج في الربيع»، لقد تأهبت القرية كلها لليلة العيد فاستحم كل شيء في ضوء القمر وهاجت الأشواق تعربد في ذاكرته:
سؤالان، أولهما يتوجه إلى المستقبل، فالرياح التي تتجه إلى مشرق الشمس هي «المسار الزمني» في القصيدة، والثاني يتوجه إلى الماضي، فالجذور التي تمتص المياه من ينابيع الشمال هي «التحديد المكاني» في القصيدة، ولعل الوجه الغائب عني وعنك الآن، الوجه الحاضر أبدًا في ابتهالات الابن والأم هو الثورة، هو فيتنام التي لا ينفصل جنوبها — أو جذورها — عن شمالها أو ينابيعها، والتي يمتد شعاعها إلى قرص الشمس حيث الشرق هو مآلها ومثواها، فإذا كانت ديدان الأرض لا تحيا إلا فوق التربة التي تغذيها، وإذا كان طائر اﻟ «في» لا يعيش إلا في الغابة التي تُئويه، فإنه من حق فيتنام الثورة أن ترتوي من «ينبوع» شمالها وأن تلتمس الدفء في شمس الشرق وليس بين أحضان الولايات المتحدة. إن هذه القصيدة التي تعد من أروع قصائد شعر المقاومة الفيتنامية، إنما تستمد روعتها من هذا المناخ الفولكلوري الخصب الذي يربط بين «التراث» في حياة الشعب الفيتنامي و«المستقبل» الذي ينتظر هذا الشعب في أقصى القمم، عند تخوم الشمس عبر هذا «الحاضر» المجيد، حاضر الثورة التي ألهبت في خيال الأجيال المناضلة في شتى بقاع العالم حرارة الأمل في حياة حرة. وما الابن والأم إلا علاقة الأجيال ببعضها البعض، وما الظل إلا صورة التراث ترسمها قامة الشجرة المديدة، فيتنام العظيمة. وما الريح إلا تيار المستقبل، المتجه دومًا إلى حيث تشرق الشمس.
ويختلف الشعر الوطني الأفريقي في كثير من صفاته عن خصائص شعر المقاومة في أوروبا وآسيا؛ ذلك أن تاريخ القارة السوداء مع الاستعمار من ناحية، ومع الحضارة من ناحيةٍ أخرى، قد أفرد لفنها صفحةً جديدة تمامًا في تاريخ الأدب، تكاد كل كلمة فيها أن تكون ناقوسًا يدق بغير انقطاع لمقاومة الغاصب الأجنبي. إن تاريخ الأدب في أفريقيا، والشعر بخاصةٍ هو نفسه تاريخ المقاومة الأفريقية، ولذلك كان أدب المقاومة، والشعر في طليعته، ذا جذورٍ عميقة في الأرض السوداء، وتقاليد غائرة في الوجدان الأفريقي، فهو ليس حدثًا طريَّ العود، وليس ضيفًا عابر المقام، وإنما هو يستمد قوته وضعفه وتاريخه من القوة والضعف والتاريخ الأفريقي. وإذا كنت أتخذ قصيدة الشاعر الغيني كونتيه «سايدون تيدياني» نموذجًا للدارسة في هذا البحث فليس ذلك لأنها تختلف من حيث القيمة الفنية عن إنتاج الشعراء الأفريقيين العظام، وإنما لكونها تجمع بين أهم الخصائص الفنية والفكرية في الشعر الأفريقي الذي يختلف في الكثير عن شعر الأمم الأخرى، ولأن الشاعر صاحبها يكاد أن يكون غائبًا عن مجلدات الشعر الأفريقي ومختاراته التي تخضع في صدورها لأهواء دور النشر في أوروبا وأمريكا. والقصيدة عنوانها «الشهداء» وقد نشرت بالعدد الأول من مجلة «الأدب الأفريقي الآسيوي».
يفتتح «كونتيه» قصيدته بقوله:
حين قلت إن هذه القصيدة تجمع «أهم» الخصائص في الشعر الأفريقي التي يختلف بها عن أي شعر آخر، لم أكن أقصد بالطبع أن هناك قصيدة واحدة يمكن أن تمثل شعرًا بأكمله. ولكني قصدت أن هناك شعرًا قد يبلغ في القصيدة الواحدة أبياتًا قليلة العدد، ولكنه وهب هذه الصفة النادرة في كل شعر، أنه يجمع أهم الخصائص «القومية» في الشعر الأم. ولما كان الشعر الأفريقي بأكمله هو شعر «قومي» أولًا وقبل كل شيء فإنه في إمكان القصيدة الموهوبة أن تمنحنا هذه السمات التي لا تختلف بها وحدها وإنما يختلف بها الشعر الذي تنتمي إليه، عن أي شعر آخر.
وقصيدة «الشهداء» تقول في افتتاحيتها إنها من الشعر الموهوب في تقديم «النموذج» المفرد الدال على الكل، الدال على الجوهر أو الخط العام. فالعمود الفقري في بناء هذه الافتتاحية، وبقية مقاطع القصيدة هي «الصورة» الحسية ذات البعدين في الزمان والمكان. وبالرغم من هذا البعد المزدوج، فإنها صورة مباشرة تقطع المسافة بين الكلمة والرمز بأن تجعل قاموسها هو معجم الواقعية بكل كثافتها، فالدم «يسيل» على الرمال، و«يخصب» الأرض. وليست هذه مجردات من قبيل المجاز، فالإخصاب الذي يحدثه الدم للأرض هو إيمان عميق الغور في نفسية الأفريقي وتاريخه الحضاري. في اللغة العربية تقول إن الدم يروي شجرة الحرية من قبيل البلاغة اللفظية، ولكن الشاعر الأفريقي حين يتلفظ بالأرض والدم، فهو يجتر تاريخًا كاملًا على شفتيه، وهو يجتر إيمانًا عميقًا من الوجدان. وهذا ما لا يجعل من كلماته «رموزًا بلاغية أو كنايات» وإنما هي ذرات الواقع الحي الذي عاشه ويعيشه، عاشه في الماضي تاريخًا، ويعيشه الآن حضارة. وليس «الموتى المغمورون» أو ملايين الشهداء مجرد أسماء مجهولة تقام لها النصب والشواهد، وإنما هم يعودون إلى «التجسد» في أوراق الشجر، تجسدًا أقرب إلى الرهبنة والتبتل في معبد المقاومة. لقد سفحوا دماءهم على الأرض فأخصبتها، وأورقت الأشجار بحرارة أرواحهم التي لم تفارق «العالم الأفريقي» ولا خياله، وإنما هي تشارك من موقعها «ولو بالذكريات».
فذكريات الموتى ليست موالًا ولا نايًا يستدر الحنين من الحنايا، مناضلون لا يكفون عن المقاومة بالرغم من النصر المؤقت الذي يحرزه العدو بسفح دمائهم. والشاعر هنا يستغل أقصى إمكانيات الذخيرة الوجدانية عند الأفريقي يستغل خرافاته وأحلامه وأشواقه وعقائده، في صياغة «الخنجر» الذي عليه أن يغرسه في ظهور الأعداء «الذين تطهروا من لوثات الدماء، في ولائم الأحشاء السوداء» فهو يستنفر روح الثأر والغضب والعنف التي يتصف بها الأفريقي على أنها سوءات التخلف، يستنفرها من كيانه الفردي ليوحد «روح الجماعة» في ثأر كبير مشترك، في غضب عظيم مشترك، في عنف واحد مشترك، لينزل بضربة قاضية على الجلادين الذين غنوا أغانيهم وصمتوا:
فالموتى، الشهداء الأحياء، هم الذين ينسجون البنية الدرامية في القصيدة، الذين يقيمون أعمدة البناء بدمائهم التي سالت على الرمال السوداء، وأرواحهم المنبثة في أوراق الشجر، واقتحامهم لليل الذي بلا نجوم حتى يفيق هواه «أكل أحشاء السود» الذين نسوا موتانا وقتلاهم، شهداءنا وضحاياهم. فإذا اجتمع الموتى جنبًا إلى جنب مع الأحياء باتت دروع العدو رقاقًا كالشمع:
ولا ينبثق هذا التفاؤل من أوهام المنى، وإنما يوحي بها الاتساق الشعري في القصيدة منذ البداية. لهذا لا يجيء التفاؤل «مفاجأة» درامية أو نشيدًا انفعاليًّا متحمسًا، وإنما استكمالًا عفويًّا يتماسك مع ضرورة الفكر والوجدان السائد على روح الشاعر والمتلقي معًا.
وبعد، فالشعر هو «فن المقاومة» في لحظة حضور، نادرًا ما يتنبأ بالكارثة، وقليلًا ما يؤرخ للهزيمة، ولكنه دائمًا في خط النار؛ بل خط القتال الأول من الجبهة. والشعر هو فن المقاومة بمعناها الوطني، ونادرًا ما يتخذ أبعادًا إنسانية شاملة، وقليلًا ما يرتكز على أبعاد اجتماعية واضحة، ولكنه دومًا هو رسول الدفاع عن الأرض وإنسانها. لذلك كانت صورة البطولة في شعر المقاومة أقرب ما تكون إلى السيرة الذاتية للشاعر متمثلًا أعمق خصائص الفرد، وأشمل جوهريات الوطن.