الفصل الأول
أيها القمر!
الآن وقد أظلم الليل وبدأت النجوم تنضح وجه الطبيعة التي أعيت من طول ما انبعثت في النهار — برشاش من النور النديِّ يتحدر قطرات دقيقة منتشرة كأنها أنفاس تتثاءب بها الأمواج المستيقظة في بحر النسيان الذي تجري فيه السفن الكبيرة من قلوب عشاق مهجورين برحت بهم الآلام، والزوارق الصغيرة من قلوب أطفال مساكين تنتزعها منهم الأحلام، تلك تحمل إلى الغيب تعبًا وترحًا، وهذه لعبًا وفرحًا والغيب كسجلِّ أسماء الموتى تختلف فيه الألقاب، وتتباين الأحساب والأنساب، وتتنافر معاني الشيب من معاني الشباب، وهو يعجب من الذين يسمونه بغير اسمه ولا يعلمون أنه كتاب في تاريخ عصر من عصور التراب.
… والآن وقد بدأت الطبيعة تتنهد كأنها تُنَفِّس بعض أكدارها، أو هي تُملي في الكتاب الأسود أخبار نهارها، وبدأ قلبي يتنفس معها كأنه ليس منها قطعة صغرى. بل طبيعة أخرى، ولله ما أكبر قلبًا يسع الحب من قبلة اللقاء إلى ذكراها، ومن حياة الصبي الأولى إلى ما يكون من الجنة أو النار في أخراها، إن هذا لهو القلب الذي ترى فيه الطبيعة كتاب دينها المقدس، فإذا لحق العاشق الذي يحمله بربه تناولته وهي جاثية كأنها في صلاة الحزن، ثم قلَّبته متلهفة، ثم قلبته متخشعة ثم أودعته في مكتبة الأبد لأنه تاريخ قلب آخر، بل جزء من الموسوعات الكبرى التي يدون فيها الدهر تاريخ النفس الإنسانية على ترتيب بعينه تعلَّم الناس منه أن يبدِئُوا لغاتهم جميعًا بحرف «الألف» لا لأنه من أقصى الحلق … بل لأنه من أقصى القلب، بل لأنه من أقصى التاريخ، بل لأنه أول اسم «آدم» ذلك العلم الأول في تاريخ الحب.
… والآن وقد رقَّت صفحة السماء رقة المنديل، أبلته قُبَل العاشق في بعاد طويل، أو هجر غير جميل، وتلألأت النجوم كالابتسام الحائر على شفتي الحسناء البخيلة حيرة القطرة من الندى إذ تلمع في نور الضحى بين ورقتين من الورد؛ وأقبل الفضاء يُشرق من أحد جوانبه كالقلب الحزين حين ينبع فيه الأمل، ومرَّت النسمات بليلة كأنها قِطع رقيقة تناثرت في الهواء من غمامة ممزقة وأقبلت كل نفس شجية ترسل آمالها إلى نفس أخرى كأن الآمال بينهما أحلام اليقظة، ونظر الحزين في نفسه، والعاشق في قلبه؛ ونام قوم قد خَلَت جنوبهم فليس لهم نفوس ولا قلوب، ولبس الكون تاجه العظيم فأشرق عليه القمر.
والآن وقد طلعت أيها القمر لتملأ الدنيا أحلامًا وتُشرف على الأرض كأنك روح النهار الميت ما ينفك يتلَّمس جوانب السماء حتى يجد منها منفذًا فيغيب، فهلمَّ أبثك نجواي أيها الروح المعذب، وأطرح من أشعتك على قلبي لعلي أتبيَّن منبع الدمعة التي فيه فأنزفها. إن روحي لا تزال في مذهب الحس كأنها تُجهش للبكاء ما دامت. هذه الدمعة فيه تجيش وتبتدر، ولكن إذا أنا سفحتها وتعلقت بأشعتك الطويلة المسترسلة كأنها معنى غَزلي يحمله النظر الفاتر فلا تُلقها على الأرض أيها القمر، فإن الأرض لا تقدِّس البكاء، وكل دموع الناس لا تُبلُّ ظمأ النسيان ولو انحدرت كالسيل يدفع بعضها بعضًا.
أرأيت أيها القمر هذا النهر الصافي الذي يجري كأنه دموع السحر من أجفان هاروت وماروت. ويطرد بجملته كأنه قطعة من السماء هاربة في الأرض؛ وهل تُبصر في شاطئه تلك الشجرة الناضرة الممتلئة بالأوراق كأنها مكتبة يتصفَّحها الهواء؟ هذه هي مثال الفلسفة الطبيعية، فكل حكيم لا ينبت على شاطئ الدموع الشريفة فهو فيلسوف جافٍ كأنه مصنوع من جلود الكتب؛ وما دمعتي إلا النهر الذي نبتُّ في شاطئه، وهي أطهر شيء وأصفاه؛ لأنها مخلوقة من ثلاثة عناصر تقابل العناصر السماوية من الحب الذي يقابل عنصر النار، ومن اللين الذي يقابل عنصر الهواء، ومن البكاء الذي يقابل عنصر الماء.
ليس كل مَن عَصَر عينيه فقد بكى؛ إن البكاء لأشرف من ذلك، وكما يكون الضحك أحيانًا حركة في الأفواه تبعثها العادة كحركة الحواس الغليظة فيضحك المرء وقلبه صامت، كذلك يكون من البكاء ما هو حلم الأسى؛ لأن في العين حاسةً لا بد من تمرينها أحيانًا تُسمى حاسة الدموع.
وما إن لقيت باكيًا إلا رأيت وجهه مقبلًا عليَّ كأنه يسألني: ترى من أين يُذبح الإنسان إذا كانت دموعه هي دماء روحه؟ ذلك لأن الدموع لم تَعُد على طبيعتها دموعًا، بل هي علامات الألم أو السخط. الألم من المخلوق والسخط على الخالق، فهي ألفاظ من لغة العجز قد تكون أفصح منها في الأداء كلمات السفاه والغيظ والحنق وما إليها.
ولكن الباكي بها لا يجد من قوة الجراءة ما يرفع صوته من حفرة الحلق التي لا تمتلئ، مع أن نفس الحر تَئِدُ فيها كل يوم ألفاظًا كثيرة من عبارات الذل والتمليق فلا ينطق بها، وتئد فيها نفس الذليل كلَّ ألفاظ الإباء والأنفة فلا ينطق بواحدة منها، وذلك لعجز الباكي ولضعف إحساسه بالذل السياسي، أو لضعف قلبه بالتقوى التاريخية، فيرفع صوت روحه وهي تتكلم من العين بهذه المعاني السائلة التي نسميها الدموع.
أريد أن أبكي بكائي الطبيعي أيها القمر، لأنه يخيل إليَّ أن حقائق كثيرة تغتسل بدموعي؛ وإني لا أكون في حاسة إلى البكاء إلى حين تكون هي في حاجة إلى الدموع، ولقد شعرت مرارًا بحركة عقلي في تصفُّح الأسفار، واضطراب نفسي في متاحف الآثار، واختلاج قلبي في معابد الطبيعة التي قامت الجبال في بنائها لأنها أحجار؛ فما أفدت من كل ذلك ما أفدتُه من دمعة تفور في صبيبها كأنها روح عاشق يطاردها الموت بين يدي حبيبها فإن في هذه الدمعة ثواب كل آلامي، ويقظة كل الحقائق من أحلامي.
وما زلت حائرًا في أمر مشتبه لا أصيب الوجه فيه، فلا أدري إذا كانت هذه الدموع المتساقطة تنقض من بناء الحياة لينهد، أو هي تضاف إليه ليشتد: فإني أرى أقوامًا يحيَوْن بالدموع وآخرين يموتون بها، ولعل عين الإنسان مُلئت بالدموع من أصل الفطرة لتكون منها خنادق مستفيضة حول الروح فلا يقتحمها الفكر ولا يُرى أبدًا إلا ظاهرها، ولولا ذلك ما بقيت الروح من أمر الله، أولسنا نرى الذين يبكون كثيرًا من الحكماء والجهال على السواء يؤملون أن يدركوا من أسرار الروح كثيرًا إذ يرون تلك الخنادق قد أخذت تمجُّ ما فيها فكأنهم بالماء قد غِيض وكأنهم بالأمر قد قُضي؟
ولكن الإنسان ليس إله نفسه؛ فهو يبكي صابرًا ويصبر باكيًا، ومتى انكشفت أرض الخنادق الروحية ظهرت فيها حفرة القبر، وكانت آخر دمعة تجف منها هي دمعة الموت.
بيد أن الحقائق التي تهيئ للبائسين ذلك الأمل بكثرة ما تفيض أعينهم من الدمع، هي في رأي الناس علمٌ وفلسفة؛ لأن الجهل في الإنسان لا حدَّ له، فكل ما ظفر به عدَّه حدًّا علميًّا؛ أولا ترى أن أجمل ما في الديانات والشرائع قد تحول إلى حجارة البيع والصوامع والمساجد والأضرحة والحبوس وكثير من مثلها حتى صارت هذه الأبنية تفهِم الناس من ضروب المعاني أكثر مما تفهمهم الكتب السماوية في الأرض، والأرضية في السماء؟
ما لي ولك أيها القمر لا أحب أن أفيض عليك دمعتي فقد ترى فيها أشعة كثيرة من ألوان الأسرار المختلفة، بل أنا أراها في قلبي وقد اشتمل بها الخيال الحزين، خيالُ هذا الأمل الذي يسميه الناس «الحب» وتسميه الطبيعة «الحياة المعذبة» لأن الناس قد مضوا على أن لا يعرفوا الحقيقة إلا بأوصافها، ولا يعرفوا من أوصافها إلا ما يتعرف إليهم من ظاهرها الجميل، أما باطن الحقيقة الذي يحتوي السر المحزن فهذا يعرفه من يفهم لغة الطبيعة، وما لغتها إلا أفعالها.
فمن أحبَّ ورأى حبيبته من فرط إجلاله إياها كأنها خيال مَلَك يتمثل له في حلم من أحلام الجنة، ورأى في عينيها صفاء الشريعة السماوية، وفي خديها توقُّد الفكر الإلهي العظيم، وعلى شفتيها احمرار الشفق الذي يخيل للعاشق دائمًا أن شمس روحه تكاد تمسي: ورآها في جملة الجمال تمثال الفن الإلهي الخالد الذي يُدرَس بالفكر والتأمل لا بالحس والتلمُّس، فأطاعها كأنها إرادته واستند إليها كأنها قوته، وعاش بها كأنها روحه — فذلك هو الذي يشعر بحقيقة الحب ويفهم معناه السماوي، وهو الذي يقول لك صادقًا مصدوقًا. إن كل لفظة من لغة الطبيعة في تفسير معنى الحب كأنها صَلصلة الملك الذي يفجأ الأنبياء بالوحي في أول العهد بالرسالة.
ليس كل ما يعجبك يرضيك، ولكن كل ما يرضيك يعجبك، فالجمال الوصفي الذي يقاس بالنظر ويخرج منه الفكر بنسبة هندسية، جمال صحيح وحريٌّ أن يكون معجِبًا؛ ولكنه على كل حال بناء جسمي كالقصر المشيد الذي يعجب الفقير المعدِم فيتمناه، فإن هو صار له خاليًا لم يُرضِه، لأنه لا يلتحف سقوفه المموهة، ولا يفترش أرضه الموطأة، ولا يلبس جدرانه الموشَّاة، ولا يقتات من هوائه الطلق؛ أما الجمال الذي يُرضِي فهو الذي يشفُّ عن صورة روحك بغير ما يخيلها لك ماء الحياة العكر — هذا الذي لا يشفُّ عن شيء ولا يزال يضطرب فيجعل شبحك في اختلاطه كأشباح البهائم يُخلق كل منها خلقًا جديدًا كلما ضربت البهائم في الماء بأرجلها — فترى من ذلك الجمال كأن ملكًا هبط عليك من السماء وفي يده مرآه فنظرت فإذا صورتك بعينها ولكنها في يد ملك.
وقليل أن يجد الناس مثالًا من ذلك الجمال، فكثير منهم يجحدون ويرونه ضربًا من الوصف الشعري الذي يظهر في خلقه وإبرازه مقدار ما في الشعراء من روح الله؛ وإنما يجحد مثال الجمال الكامل من لا يستطيع أن يكون مثال الحب الكامل، وإذا كانت المرآة قد علاها الصدأ فكيف يعلوها الوجه الجميل، وكيف تخلُصُ إلى روحك من طين هذه الكأس الزجاجية (المرآة الصدئة) نشوة الجمال ولو سُكبت فيها حور الجنة كل ما في خدودها؟
فجمال هذه الضبع الذي جحدته المرآة كما يجحد الكافر رحمة الله وحسنها الذي أحالته المرآة قبحًا كما يخيل الطبع اللئيم كل حسنة تتصل به إلى سيئة. هما أشبه شيء بالعقل والقلب في المحب الأخرق الذي يحب حواسه فتجوع روحه وتشبع وتعتل بالتخمة أيضًا … وكم في الناس من مثل هذه الضبع، وكم في الحسان من مثل تلك المرآة!
أحس وما أحسب الإحساس إلا نكتة صافية في القلب تقابل نكتة العين التي يكون بها البصر، فكل ما انطبع في هذه انطبع في تلك، لكي تكون الروح بين مرآتين فيسهل عليها أن تدرس الحقيقة بالمقابلة، فإذا نزل الشاعر الدقيق الحِس بروضة غناء نضرة أحس بقلبه كأنما يخضر بعد يُبس، وإذا أطل في الغدير الصافي أحس بمعنى الماء ينساب في عروقه، وإذا نظر إلى وجه الجميلة الحسناء فلماذا لا يحس أن قلبه امتلأ جمالًا حتى كأنه لا يعشق منها إلا شيئًا في نفسه؟
بلى وأكثر من ذلك، فإن الشاعر ليكتب عمن يحبها فيرى كأنه ينفخ في كل كلمة معنى من الحياة؛ لأنه لا يكتب كلامًا بل يخط صورة قلبه؛ والعواطف الحية تبقى حية ولو كانت مرسومة؛ لأنها لا تجتمع في شكلها الذي تنتهي إليه إلا بعد أن تمر في أدوار الحياة فتألفها الأرواح وتصير كاللفظ المأنوس: ما هو إلا أن يُذكر حتى ترى معناه للذهن ماثلًا.
بلى ولقد يخيَّل إليَّ أيها القمر الجميل حين أكتب عمن أهواها أنك لفظ في ألفاظي تطلع من المداد، فإذا قلت: «وجهها» فهل تظن هذا اللفظ الذي هو جملة الجمال إلا قمرًا في الكلام؟ وإذا قلت: «ابتسامها» فهل ترى هذه الحروف التي تتنفس على القلب إلا أشعة الفجر الندي؟ وإذا قلت: «هي» فهل ترى إلا «ضمير» الطبيعة التي تأخذ عليها الإنسانية دينَها؟
آه لو تعلم أيها القمر من «هي»!؟