الفصل الثاني
وآه إن في «ضمير الطبيعة» وفي المعنى المستتر في الهاء والياء لسرًّا من الحب تتجدد في الناس معانيه المُعضلة كأن فيه حياة غريبة تغذوه بتلك المعاني، فهو في علم الروح كالروح نفسها في علم الإنسان.
وإذا تناولته نفس المحب وطَفِقت تعالجه رأيت المحب ذاهلًا كأنه حي بلا نفْس، وآنست من نظره عمقًا بعيد الغور كأنه الطريق الذي مرت منه نفسه؛ فهل يمكن أن يكون في يقظة هذا الإنسان نوع من الحلم؟
لقد غفلتُ الآن عن نفسي هنيهة أو هي غفلت عني؛ فما نبَّهني إلا اضطراب ينتفض له قلبي كأن حواسي كلها نهضت تستقبل روحي وقد انقلبت من سفر طويل تحف بها الحاشية العريضة من الأفكار والآمال.
فتلقتهن وجعلت تطرِف كل حاسة بتحفة نفيسة من هداياها وهن يتناهبنها، وأنا في ذلك كأنني مقسم إلى حزب أو مجتمع من حزب؛ وما لبث أن ردني إلى وحدتي النفسية حفيف كنجوى النسيم للزهر وليس بها، وكصوت القبلة المختلَسة على حياء وليس بها: وكأنه آهة رقيقة انبعثت من شفتي حورية سماوية فأرسلتها الملائكة إلى الأرض؛ لأنها دار الفتنة فما زالت على وجهها تتصفح كل وردة وكل خد كأنه من الوردة وكل شفة كأنها من الخد، حتى رأت «ليلى» وهي تبتسم فاختبأت في شفتيها وما تشك من طيبهما أنها رجعت إلى صاحبتها في الجنة.
سرى هذا الحفيف قليلًا قليلًا فلا والله ما منه نشوة الخمر ولا نفثة السحر ولا رجفة الطرب، ثم سرى قليلًا قليلًا فما هو إلا أن أصاب قلبي حتى انتفضتُ كأن قبلة حارة انطبعت عليه ومسته بشفتيها الرقيقتين؛ فكانت هذه الطرفة هدية الروح إلى القلب.
وما أسرع ما اجتمعت أشتات الحياة التي توزعتها الآمال لتنغمس في بقايا تلك القبلة العذبة التي صبها الهوى على القلب صبًّا كما تتناول السعادة قلب طفل حزين فتغسله بابتسامة من أمه، وسرعان ما انتبهتُ بعد ذلك فإذا أنا مستيقظ أو كالمستيقظ!
لا أدري أيها القمر كم هي تلك الفترة من حساب الزمن؟ فإني لم أنظر في ساعتي، أو بالحري لم أنظر وجه التاريخ، فقد أبغض الساعة لأنها ميزان تبين مقدار السم البطيء الذي ينفثه في الحياة ذنب (عقربها) بتلك الحمة المسددة إلى الساعات والدقائق.
ودع الناس يزنون بها الحياة لا الموت، فإن كل شيء في يد الإنسان أصبح لا يخرج منها إلا بثمن ومقدار، ولو عدَّ الله عليهم حب الغمام أو حب الأرض كما يعد بعضهم على بعض لهلكوا جميعًا كما يهلك اليوم بعضهم بعضًا، ولو تدبرتَ اختلاف أثمان الوقت في هذه الأجسام التي تشبه الحوانيت لتجارة الحياة لقضيت عجبًا من الإنسان، فرب دقيقة واحدة من حياة رجل تُبذل في ثمنها حياة بتمامها من رجل أو رجال.
ولي صديق فيلسوف يضحك عاليًا مِلْء فمه حتى ليخيل إليَّ أنه وُلد في يوم رعد قاصف. وذلك كلما حدَّث عن صاحب له واعده يومًا أن يُوافيه في ساعة معينة، ثم وافاه الفيلسوف وقد مرت الساعة ولحقت بها أختها، فقال صاحبه متململًا: أوليس …؟ فقطع عليه صاحبنا ما وراء السين وقال. دعني من اسم هذا الفعل الناقص وخبره، حينما يحرص الزمن على أن لا يخطئ في حسابنا نحرص على أن لا نخطئ في حسابه!
وأنا لا أقول بإغفال الوقت وإرساله كأنفاس المختنق: لا تذهب من الحياة ولكن تذهب بها، فإن هذا قد كان في عهد آبائنا وآباء التاريخ حين كان الليل ساعة فلكية للطبيعة وكانت النجوم أرقامها ثم كانت دقاتها صياح ديك عند جماعة ونهيق حمار عند آخرين.
وإنما أريد أن لا يحاسب أحدنا ربه بالدقيقة؛ فإذا سبب له من وقته طربًا أو ساق إليه فرصة حظ من السعادة فليطرب ولينتهز من فوره ولساعته وليأخذ ما آتاه بقوة؛ فإن الدقيقة الواحدة التي يتفلسف فيها وقتئذ ربما كانت هي الطريق الذي تمر منه الفرصة إلى ما وراء الزمان فتلحق البعيد بالبعيد من الأبد حيث لا يتعلق بها شيء من أوهام ذلك الفيلسوف المفكر ولو خرجت روحه تشتد وراءها عدوًا …
فإذا اتفقت لي هنيهة كالتي انتهت الآن بهدية الروح إلى القلب فقلما يعنيني مقدارها، بل أنا أحسبها كما أشاء ولا أذكرها إلا ذكرة الهرِم يوم ميلاده بعد أن أسند في حدود المائة، فاعتبر مقدارها بسنة وبمائة سنة، ما شئت من قليل وما شئت من كثير؛ لأنها أصبحت لي لا للتاريخ ولا للساعة. وقد تكون لي ذكرى الحياة كلها فلا أسلمها في يد الغيب إلا مع آخر نفس من أنفاسي. ومع ذلك فإني أحرص على أن أجعلها كأنها نفس من حياة الآخرة خرج في الحياة الدنيا فتظل روحي واقفة على الجسم لحظة وهي قد فارقته حتى يبرد أثر القبلة التي انطبعت على القلب ويبرد الموت على جنبي، وحينئذ لا يبقى لها في الجسم شيء من الحب ولا أثر زفرة من زفراته فتصعد متباطئة …
لست أشك أن لليقظة أحلامًا. وإلا فما شأن الذاكرة إذن، وهل هي إلا بيت الأحلام؟
ولكن هذا البيت لا تقام فيه الحفلات إلا في أثناء الليل، فيموج بأهله حتى ما يرى العقل إلا أشباحًا متفرقة كأنها ما صَفَح عنه البلى من سطور كتاب قديم.
ومَن الذي يُنكر أن استبداد الملوك الطغاة وما إليه من استرقاق الشعوب وتعبُّد الضعفاء وظلم المساكين إنما هي أحلام مزعجة من أحلام الإنسانية المستيقظة.
إنك لتشتري الذهب بالفضة، وتستبدل الفضة من الذهب، ولكن البيضاء ينبغي أن تكثر في حالتيها حتى تساوي في القيمة ما تشتريه بها أو ما تشتريها به من ذلك المعدن النفيس؛ فإذا نقصت شيئًا قليلًا ولو درهمًا بقي الذهب سيدًا وذهب النقص بالتكافؤ بين الرتبتين.
انظر أترى ثمة شعبًا مُستَعبدًا يجتمع كما تتراكم الأنقاض ويتفرق كما تتبدد وليس منه في الاجتماع والتفرق إلا صورتان للخراب كالبومة والبومة في التشاؤم؟ إنك لتنظر الشعب الذي يحلم وهو مستيقظ؛ ألا تراه يعمل على السخرة ويطبع بالإرادة أو بالوهم الذي صار له كالإرادة، ويشك في أنه يخاف من المستبد أو يخاف من أن يَشك فيه، ويرجو على قوَّته ما يرجوه الأجير أن يملك يده ساعة ليتناول بها لقيمات يقمن صلبه، وأن ينتهي عمل يومه ليوقن أنه إنسان كالناس له يد يملكها؟
هذا دأب الاستبداد ودأب الشعب الضعيف الذي ابتُلي بالنقص عن مكافأة المستبد به ومساواته؛ وكثيرًا ما لا يكون هذا النقص فيه إلا بمقدار درهم واحد من الفضة التي نزلت عن مقدار الذهب.
ولكن أين هذا الدرهم المتمم؟ درهم واحد من الشعب يكون الشعب كله ويجعله مالكًا بعد أن كان مملوكًا، وحاكمًا بعد أن كان محكومًا، ويخرجه في التاريخ من رتبة إلى رتبة.
هذا الدرهم هو الذي يبقى في يد القدر حتى يجيء يوم الحساب الذي وُعدت به الحرية المظلومة للانتصاف من ظالميها فيعطيه الله للشعب، ولا يكون إلا رجلًا ولكنه رجل إلهي.
أفتدري من هو هذا الرجل الإلهي؟ هو الذي لا تعرفه الحياة ولا يعرفه الموت فلا يذلُّ لأحدهما؛ تتبرج له الحياة فلا تغره، ويتجهم له الموت فلا يضره؛ ويُبتلى بكل ما يسوء ويسر فلا يسوءه ولا يسره …
هو رجل روحه في كفه — وهي العلامة الإلهية فيه — فما إن يزال يَثِب بها من كل قبر يحتفر له ولا يسقط أبدًا. وكل رجل إلهي لا يخطو إلا فوق القبور؛ حتى إن تاج الملك لينكشف عن رأس صاحب الجلالة إذا رآه وهو يهوي إلى الأرض عساه يكون لتلك الأنفة قبرًا ذهبيًا: فإن هذا الرجل الحق لا يجيء إلا عندما تقضي السماء على الأرض بحكم من أحكامها، فيخلق الله بين جنبيه قلبًا هو المعنى المتجسم من ذلك الحكم.
وتسبق مجيئه أعاصير ومِحن تَهُب على الأرض فتقيم الدنيا قيامة لا لظلم الناس ولكن لتمهد طريق الإعصار الساكن الذي يولد هادئًا منطويًا على حقيقته انطواء القنبلة.
وإنه ليخيل إليَّ أن هذه الأعاصير لا ترسل على الأرض إلا لغرض واحد هو من أمر الله؛ وذلك أن تَسْفِي من كل جهة في الأرض هَبوة من التراب فتجمع منه ملائكة الغضب كل ذرة قد كُتب لها في الأزل أن تكون في حفرة هذا البطل فيُنتزع قبره من الأرض، ويمين الله لو فُتحت له القبور كلها لما سقط في واحد منها بل يظل يخوض الموت خوضًا وكأنه يغسل رجليه في نبع بارد؛ ولو شبَّت حوله جوانب الأرض سعيرًا يتلظى لما عدت أن تكون نارًا يُنضج بها غذاء تاريخه الشره.
فمتى نفذ حكم السماء وتمت كلمة ربك واستغفرت الأرض من سيئتها التي نزل بها العقاب لأجلها، أحس ذلك الرجل أنه إنسان وأنه بدأ يعرف الحياة واستشعر ظلًّا يمر على نفسه وهو لا يعرف أنه تراب قبره الذي يتساقط إلى الأرض شيئًا فشيئًا حتى يجتمع، ولا يكون إلا ريث يتهيأ منه مقدار يواريه حتى يعرف الموت إذ يغدو على الأرض يتفقد الحفَر الخالية ويجمع منها الأوراق الذابلة التي نثرها القضاء من شجرة الأعمار.
هذا هو الرجل الإلهي الذي لا ينثني؛ لأنه الحق، ولا ينحرف؛ لأنه العدل، ولا يخاف؛ لأنه البأس، ولا يضعف؛ لأنه القوة، ولا يحيف؛ لأنه الإنصاف؛ ولو تعلق به أهل الأرض جميعًا لمشى بهم مطمئنًا؛ لأنه في نفسه كقطعة من نظام السماء الذي يجذب الأرض في فضائها.
وهذا هو الرجل الذي يتعرف به الناس معانيَ الاصطلاحات النفسية القوية، كالشهامة والنجدة والصدق والإخلاص والإيثار وما إليها من سائر المفردات التي يتألف منها معجم الفضيلة.
وهو في كل ذلك كأنه قاعدة من قواعد العلوم، تعطيك المثل الذي تريده لأنها هي ذلك المثل لا لأنها تعطي وتمنع.
فلو أريد ذلك الرجل على الخيانة واللؤم والجبن والتملق ونحوها مما يكون في المتشبهين به لزاد وفاء وكرمًا وإقدامًا وأنفة، كما يزيد طيبُ العود بإحراقه.
أرأيت إذن مقدار الدرهم الذي ينقص الشعب؟ إن أكبر رجال التاريخ لا يزِن أكثر من درهم واحد في ميزان الله.
ومن نكد الدنيا أنك لا تزال ترى المصلحين حيث ترى نفسك لا تفقدهم في مكان، ثم لا يزيد الأمر معهم إلا فسادًا؛ لأنهم مصلحون بالتشبه والتقليد أو بقوة الإرادة أو بإرادة القوة؛ وإن أحدهم ليريد أن يكون مصلحًا فيكون، ثم يبتغي أن يعمل عمل المصلحين فلا يبرح يبحث عن الفساد حتى يجده أو يُوجده، ثم لا يتخذ من الناس ما يتخذ الأطباء في تجاربهم من العقاقير، فيستحق طائفة ويمزج طائفة ويذيب طائفة؛ كل هذا والشعب يقيه بنفسه من التلوث بالقذَر كالبذلة في نطاق المتبذل؛ وهو دائب على أمره حتى تسفر التجربة عن مزيج ينظر فيه فيعرف من النظرة الأولى أنه عَرَق الخيبة التي تفصَّدت به من طول ما أجهدها في عمله …
خذ أحد القوانين مثلًا واقرأه ثم تدبره ثم أرسله من يدك وأرسل ألفاظه من روحك، فإنها ستنقلب رجالًا يتسللون، فأتبعهم قلبك وانظر أفعالهم وتغَلغل ما استطعت في مكامن النيات وأبعد إلى مطارح الظنون وكن منهم فطنة وحِذارًا كأنك تستنبئ أخبار كل نفس من مَلكيها، فإذا وَعَيت وتبينت واستبرأت كل ما تشك فيه إلى مُنقطع اليقين فامسخهم ألفاظًا كما كانوا واجهد جهدك في فهمهم بعد، فإنك ستعجب من لغة قانونية وُضعت لتفهم كما تثبت في أذهان واضعيها لا كما تتحول في أذهان الناس، وسترى ذلك القانون نفسه كأنه كتاب من كتب النحاة المتأخرين: قلما تعرض فيها قاعدة إلا كان أساسها «زيدًا وعمرًا وبكرًا وخالدًا …» فيدخل هؤلاء المساكين من كل باب ليطبقوا على القاعدة لا لكي تطبَّق عليهم … ولا يكون مأتى ذلك إلا من الفهم الميت في معاني الإصلاح، فإن المعاني نفسها تموت معه ويبقى كل لفظ كأنه قبر يتفاءل له بالرحمة وتجري عليه الدموع وتنشق المرارات وهو لا يجيب الناس على كل ذلك إلا بطلب ميت جديد.
لا مفر للخلق من العبودية، وأنى لهم المفر والسماء فوقهم والشرائع تحت السماء والقوانين تحت الشرائع والرذائل تحت القوانين والوحشية تحت الرذائل؟ فويل للمستضعفين الذين يفرون من كل فرجة بين المخالب والأنياب وفي أرجلهم القيود الثقيلة، وويل للإنسان الذي لا يكتفي بالله في سمائه حتى يستعبد لصفاته في أهل الأرض؛ فالجبروت في الملوك! والكبرياء في الحكام، والتقديس في القوانين عادلة وظالمة. والعزة في القوة وماذا بقي لله ويحك؟
أيها القمر الذي يشرق من بعيد كأنه وجه الحرية مهما بَعُد فآماله قريبة ساطعة على كل نفس حقيرة، إني أرى العبودية لله وحده؛ فإنما هي فكر الروح في مبدئها واتصالها به، وإن كان في الأرض عبودية شريفة فهي للحب وحده، وإنما هي فكر القلب في مرجعه واتصاله به؛ وكما يستبعد الأعمى لعكَّازته لأنه يرى فيها عنصرًا من النظر، والشيخ الهرم لعصاه لأنه يرى فيها عنصرًا من الشباب، والطفل الصغير للعبته لأنه يرى فيها عنصرًا من العقل — كذلك يستبعد عاشق الجمال للجمال؛ لأنه يرى فيه لروحه وقلبه نظرًا وشبابًا وعقلًا، فيبصر ويقوى ويعقل إذا عمي غيره وضعف وخرف؛ ويعلم حينئذ بنظرة الفكر القوية العاقلة أن العبودية للحب الصحيح هي مبدأ العبودية الصحيحة لله.