الفصل السابع
ذلك ابتسام الطبيعة يا لؤلؤة ثغرها التي يسمونها القمر، وذلك جمالها الفتان الذي خُلقت المرأة لتصفه وتدل عليه فلها بها الناس وسحرت أعينهم حتى لم ينظروا إليه وإليها إلا على أنه مخلوق ليصفها ويدل عليها؛ فتصغر الطبيعة ما تصغر عند بعضهم وتكبر ما تكبر عند الآخرين، ولا تكون في الحالين أصغر ولا أكبر من امرأة جميلة.
ولو سألت تاريخ النفس الإنسانية عن كل أمر عسير مُشكل ثم سألتها عما هي المرأة الجميلة، لأصبت لكل سؤال جوابًا يَحسن السكوت عليه ولو تسامحًا، إلا جواب هذا السؤال؛ فإن المرأة الجميلة هي يفهمه كل إنسان منها بنفسه؛ لأن الجمال المتسلط بطبعه والحب الخاضع بطبعه، قد جعلاها في الطبيعة تعريف نفسها!
ولا شيء أقوى من الجمال والحب معًا إلا دموع هذه الجميلة بمرأي محبها؛ فإن كل ما في الطبيعة الإنسانية من حنان ورضى وحب وعبادة وعقل وجنون ونحوها مما تكسوه ألفاظ اللسان بحروفها ونبضات القلب بمعانيها — لو ذاب لما قطرت منه إلا تلك الدموع التي تنحدر كأنها كلمات سلسة تفسِّر لعين العاشق معنى روحه تفسيرًا صامتًا تجري فيه أحيانًا نظرات متفترة هي كل ما في تعبير الأرواح من البلاغة.
فليت شعر هل تستروح الطبيعة الجميلة كذلك إلى الدموع إذا كانت هذه الدموع من أقوى ما في طبيعة الجمال؟
أترى الطبيعة باكية وهي تلك التي ترسل بعض ضحكها دموعًا تتندى بها أجفان العيون النجلاء التي تجعل الرجال العظام صغارًا وهي عيون النساء والأطفال، لتبقى الطبيعة وحدها منفردة بالعظمة الرائعة التي لا يُداخلها الغرور بها ولا تداخل الضحك منها؟
وقد أحسب في أصل البكاء أن روح الإنسان لا تزال تتأذى أحيانًا مما يطيف بها من أدران المادة حتى إذا أرادت أن تُنحِّي ذلك عنها اغتسلت في باطنه بنور ينبجس لها من القلب ثم ينحدر عنها إلى العين فلا يخالط الجفنَ حتى تبتدر إليه الدموع فترسله وكأنه لما فيه من الحياة عاطفة قلبية أسرف عليها الهم في ضغطه فذابت؛ وقد يستطير ذلك النور في الابتسام فلا يذهب إلى العين بل يسترسل في طريق الدعاء والكلم الطيب من الفم ويكون في الشفاه معنى البكاء كما هو في الأجفان البكاء بمعناه!
ولكن ما بال هذه الدموع القذرة التي أصبحت رَقاعة أو صناعة في الأعين. وهل هي نور أو مادة سائلة تجري من القلب الخبيث كلما نكبه أمر فانقلب فهراق ما فيه؟ إننا لا نعرف من أمرها شيئًا، فإن الإنسان لم يهتدِ بعد إلى علم تحليل الدموع تحليلًا نفسيًّا، وما أحسبه سيهتدي؛ وهو على أن تاريخه في الأرض مغمور بالدموع كالأرض نفسها ثلاثة أرباعها مياه، فإنه لا يحسن إلى اليوم أن يرد العَبرات قبل انهمالها من أعين الباكين والمحزونين إذ ليس إحسانه من قوة الروح بحيث يتغلغل في مسالك هذه العبرات؛ وما تحليل الدموع إلا درس لمذاهبها في النفس؛ وهيهات ذلك في عالم المادة هيهات!
بيد أنَّا لو أبصرنا الملائكة حين تمر على أكثر من يبكون صناعة أو تصنعًا أو مصانعة، لأبصرناها بلا أنوف؛ لأن لها قوة التشكل فيما تختار من الهيئات، وهي تخشى أن تصعد إلى السماء وحشو آنافها من رائحة ذلك الدمع الرنيء الذي دَرِنَتْ به الأجفان المُترَعَةُ وكاد يكون صديدًا تقيحت به جروح العواطف فانفجر.
ابكِ أيها المحزون، فإنك ستجد من يكفكف دموعك كما وجدت من أرسلها، ولكنك لا تجد من يتداركها ويردفك منها خيرًا؛ لأن أهل الخير لا يعرفون حزنك — إن عرفوه — حتى تبكي بالعين الثَّرة، وحتى تتوسل إليهم بالطرف المغْرَورق؛ كالطبيب لا يعرف مرضك في صحتك ولكنه يبلو مرضك فيعرف كيف كنت وكيف تكون.
وقد قيل لفيلسوف أملق حتى ساء عليه أثر الفقر: من يدفنك إذا مت؟ فقال: من يؤذيه نتن جيفتي! … وكذلك لا يدفن دموعك إلا من يؤذيه منظرها من أهل النفوس الرقيقة، فإنهم لا يحتملون أن يروا من عينك جيفة هم تسيل بها وتَنزَى … وإذا أصبتَ في الناس لم يتسبب لإرسال دمعة من عين إنسان أصبت فيه من يهتاجه منظر الدمعة في عين الإنسان.
إن الأطفال يحبون فِطرة أن يعبثوا بالماء ويتغامسوا فيه؛ فلا أنكر على الرجال محبتهم أن يعبثوا بالدموع؛ ولكني أستنكر الإنسان يجعل قلبه شاطئًا لأرجلهم إذ يخوضون فيه خوفًا، ولا يجعله لجة تجيش على أعماق من نفسه وعواطفه فلا ينطوي لها شيء إلا طوته ولا يدافعها شيء إلا دفعته؛ ولست أصدق الضعفاء الذين يزعمون أن أحدًا من الناس لا يطيق أن يجعل الصبر على ما يُبتلى به من مجاهدة نفسه عنصرًا من عناصر الحياة، فإني لأرمي بعيني ولا أرى أحدًا إلا وجدته يتحمل أكثر الناس لضرورات الحياة الجسيمة، ولو هو رغب في الحياة النفسية لقضت عليه ضرورتها أن يحمل من نفسه ولو كارهًا بعض ما يحمله من الناس كارهًا أو راضيًا، والمرء حين يضل زمام النفس من يده إنما يُضل طريقه الذي اختطه في الحياة، وتعتسف به النفس طرق الآخرين فلا يزال فيها تابعًا أو مطرودًا، وهما خُطتا نُكر خيرهما وشرهما على الحر سواسية. وليت شعري ما هي الهموم؟
واهًا أيتها الحقيقة الإنسانية أين أنت من الإنسان وأين هو منك؟
وما بال هذه الأوهام التي يعتزم لها الإنسان المضِيَّ في فضائها كأنه منطلق، ثم لا يكون أمره وأمرها إلا كالفأرة حين يرسلها الهر الخبيث تحت أشعة عينيه المتعسرتين من الجوع، فتنطق المسكينة في فضاء … ولكنه محاط من كل جهة بالأظافر الحادة.
أيتها الحقيقة لا يظفر بك إلا سعداء الفطرة، وما الطبيعة كلها إلا إيمان بك ودليل عليك. فلو خلص الإنسان من وهمه لخلص من همِّه ولعرف كيف يقدِّر الحزن بسببه الحقيقي لا بالآمال المتوهمة التي زالت بوقوعه؛ فإن تقدير المصيبة بالأمل الذي كان يُرجى لو لم تقع أمر لا يحتمل حدًّا، بل لا يزال يتسع من ظن إلى ظن حتى يهيج السخط في نفس الحزين، والسخط مع المصيبة مصيبة ثانية.
ولو كان المقامر يحزن على مقدار ما أضاعه دون المقادير الوافرة التي قامر عليها وكان يرجو أن يفوز بها، لما عاد امرؤ قط إلى المقامرة بعد الخسارة الأولى، وكذلك لو كان الإنسان يهتم للمصيبة على قدرها في نفسها لا بمقدارها في نفسه، لذهب بها وقتها، لأن الوقت يسير بكل شيء تدفعه فيه، ولكانت هذه المصائب في تاريخ الإنسان كأنها عُطاس يزعج قليلًا ثم يعقِب انتهاضًا من عثرة الرأس وراحة.
ولا يحسبن الإنسان أنه المستبد بالأرض يقوم عليها بنظامه ويبرأ منها، فإن الأرض تقوم عليه من قبل بنظامها. بل هو نفسه معنًى من هذا النظام الذي لا تَرَخُّصَ فيه وإنما يمضي على الإنسان وغير الإنسان بعزيمة واحدة وفيه الألم والراحة جميعًا.
ومهما نَعِم المرء فلن يبلغ مبلغ الزهرة النضرة العطرة التي تجتمع أوراقها وتتماسك مدةً بقوة الحياة العطرية ثم تُبلِم بها نسمة تستميت في تَخافُتها وتجيئها وهي من الضعف كأنها صدى قبلة الحسناء المذعورة، فتنثر أوراقها وتهدم هذه البنية الملونة كما تنهدم لذات الحلم بالحركة الضعيفة من جفن النائم ساعة يستفيق!
والحياة الأرضية في طبيعتها غليظة جافية مستحكمة لو ترك لها الإنسان كما هي؛ لأنشأته خلقًا أرضيًّا بحتًا، ولكن الله جعل فيها مواضع رقيقة تشف عن السماء وما وراءها إلى مصدر القوة الأزلي وهذه المواضع هي الآلام، فهي التي يرفع منها الإنسان يده إلى السماء بضراعة إنسانية متبرئًا من قوته مقرًّا بضعفه، وهي كذلك التي يرسل منها الإنسان نظرة إلى الأرض برحمة سماوية تنفذ إلى قلبه بالمعاني الجمة من شقاء الناس وبأساء الحياة؛ فلا يستروح هذا الإنسان من ألمه إلا وقد أكسبه الألم فضل الإنسانية وبر الفضيلة وصحة الإيمان وقوة النفس، وإن مرض يوم واحد تتوجه فيه النفس إلى الله وتعرف كيف تتنزه عن دنايا الأرض وشهواتها، لهو أجدى لها وأرد عليها بفضيلة الإنسانية من قطع دهر في دراسة كل ممتع من كتب الفلسفة.
وهذه الطائفة من الملحدين ومَن لا يلحد ولكنه يؤمن بلا إيمان … وإنما هم أنفسهم بعض آلام الإنسانية، فليس بِدعًا أن يكون في آلامهم ما يقتدح هذه الحقيقة النارية فيهم، وإلا فكيف يؤلمون الإنسانية إذن؟
على أن أكثر الناس لا يدركون هذه الحقيقة فيصبون عليهم من النسيان ما يصب الغاسل على الميت من الماء ليرسل معه بقية طهارته إلى الآخرة، ولو هم أدركوها لرأوا في هذه الثورة الإنسانية مظهرًا عجيبًا من حكمة الله، ولرأوا أن كل شيء يتألم حتى الديانات والفضائل، فإنها تتألم بسخط هؤلاء وجحودهم.
وليست كل الهموم التي تصيب الإنسان مما يلوي بها القَدَر عليه؛ فإن من ذلك سيئات يجنيها الإنسان على نفسه بسوء الخوف من الله واتهام رحمته وقدرته، كالتوقع لما يقع، والحذر مما لا يوقن بوقوعه، ومعالجة المستقبل، والاهتمام للمستحيل أو لشبه المستحيل؛ ثم المصيبة الآكلة التي لا تبقي على النفس إلا أسوأ ما فيها؛ لأنها محاولة استخدام القضاء وتصريف القدر على غير ما يريده الله، وهي الحسد!
فهذا وما أشبهه إنما هو من مصائب العقل الذي يحاول الملحدون تسميته إله الأرض فلا يكون قضاؤه على صاحبه إلا ما ترى.
واعتبر ذلك بأن هذه المصائب لا تكون على أشدها فجيعة وألمًا إلا في أقوى الناس عقلًا وأضعفهم إيمانًا، مع أن المؤمن الساذج الذي يكاد يُعد في رأي العقلاء … حيوانًا يبيع نفسه ويشتري لها مشتريًا — لا يعتريه شيء منها بل هو في أمن من جميعها، وكأن حوله من قلبه سورًا مضروبًا على الحياة باطنه فيه الرحمة وإن كان ظاهره من قِبله العذاب؛ وهذا المؤمن يعرف بفطرته السليمة تلك الحقيقة الناصعة التي يجهلها أكبر الفلاسفة من الملحدين ويجهلها أكثر العقلاء فلا تكون كل المصائب الإنسانية التي يُنافح بها القوم بعضهم بعضًا إلا عقابًا عقليًّا على هذا الجهل، وتلك الحقيقة هي أن الله لا يُمسك عنا فضله إلا حين نطلب ما ليس لنا أو ما لسنا له.
ومع ذلك نظل نخادع أنفسنا بالآمال اللذيذة ونخرج عن الحقيقة ثمنًا لوهمها، كما يشتري السكيِّر أحلام نفسه بعقله، ثم تذهب الأحلام والعقل معًا، وتتركه الخمر برذائله وجنونه وأمراضه أصح تفسير لها بين العاقلين.
أما المصائب الإلهية فإن الله يرسلها برحمة، فيستلب فيها من الإنسان إحساسه أو أكثره، ويعطيه أسباب العزاء أو أكثرها، ويهيئ له من أمره ما يجعله يتلقى المصيبة بروحها لا بروح النعمة التي أصيب فيها؛ وبذلك لا يشعر أنه ضرب بيد الجبار ولكن بيد الرحيم، ولا يكون إلا كالذي يغمض عينيه عند الوَسنة ثم ينحدر إلى الأبدية وقد يتحطم في مهواتها وما أحس من آلام الموت ونزعه أكثر من غمضة العين.
وعلى هذه الصفة الرحيمة يفترس الحيوان ما هو أضعف منه؛ فيُستلب إحساس الضعيف حتى لا يدري ما هو من مُفترسه، ولا ما كان فيه مما يصير إليه، ثم يَكيد بنفسه وكأنه لا يحسُّ أن له نفسًا فتزهق روحه كأنما أبت هذه الحياة الميتة. وما أحسب هذا ونحوه إلا (تخديرًا) قبل (العمليات) الإلهية، فتبارك الله! لقد وسع كل شيء رحمةً وعلمًا!
ويح هؤلاء الناس! ألا يرون المصائب والآلام ترسل دفاقًا على الأرض كماء المطر وهي مع ذلك لا تصيب من تصيبه إلا قطرة فقطرة كأنه مكتنف من رحمة الله بفضاء واسع يجعله كهذه الطيور التي تُرسل عليها السماء من أقطارها وهي مع ذلك تلبث طافية على الهواء كأنها الأمواج التي يجيش بها البحر أبدًا ولا تغرق، ولو هي كانت في الأرض لأغرقتها بصقة من إناء مترع؛ أوليس في ذلك ما يردف الإنسان شغلًا بنفسه الضعيفة مما يذهب إليه في إلحاده وريبته إذ ينتحل شيئًا من الألوهية لينكر الألوهية أو ليشك فيها؟
أَوَ لا يستشعر الإنسان مما تُزلزله مصائبه وآلامه وأن روحه تتخطى مقرها في باطنه فكأنه يتزلزل بخطواتها، وقد يراها فصلت عنه حين تنتزي به الآلام المبرحة إذا انتهض من صرعته ونشط لما ينشط له الأصحاء رأى كأنه مُقبل على الدنيا من حدود الآخرة!
يا شقاء الإنسان ويا ويله إذ يُرسل الله على قلبه شعاع الرحمة والإيمان ويأبى من غلبت عليه شِقوته إلا أن يضرم من هذا الشعاع الإلهي نارًا يُنضج بها غذاء شهواته ويُطيِّبه فلا يزال يحتطب لها من كل خبيث جافٍّ حتى تراه كأنه قدر تَئِزُّ أزيزًا، وكأنه في باطنه شِظيِّةً من جهنم يسطع وَهَجها في عينيه فلا تقع ألحاظهما على شيء إلا رجعت منه بمعنى خبيث وتركت فيه معنى أشد من ذلك خبثًا، ولو زادت هذه النار في جوفه فخلق منها للناس شيطانًا، ولكنها — من رحمة الله بالناس — نار قليلة لا تكفي لشيء أكثر من عمله الشيطاني …
ذلك؛ فانظر الآن ماذا يترك الشعاع الإلهي الذي وصفْنا في قلب المؤمن بالله؟
إنه يجري في أحزانه كالماء يتدافع في مِسبله، وتراه يطَّرد وينعطف ويتمعَّج لأنه ينساب بالحياة فكأنه يبحث في جهات نفسه وأنحائها عن كل عاطفة ميتة فلا يترك على جانبي الحياة إلا ما ترك الماء على عِطفيه من خُضرة ونَضرة وبرد وسلام، فيخوض المرء فتن الدنيا ويرتكس فيها وهو مطمئِن يحمل في باطنه سلام الله، ومهما تكفَّأت عليه النوائب وعَصَفَت به الحوادث فإنها لا تجد منه إلا ظاهرًا أمسكه باطنه وباطنًا استمسك بيد الله، كالسفينة في البحر تُكتب لها السلامة فلا تجري إلا على قبرها ولا تنبعث خطوةً إلا كانت لها فرارًا أو ما يشبه الفرار من الموت وكأنها في ذلك البحر اللجيِّ إنما هي روح الأرض أنشأت تهتزُّ وتضطرب.
فلتكن أيها المحزون أكبرَ من همومك وأحزانك بالغة ما بلغت، وإذا كان الموت يعدُّ شرفًا لمن مات مدافعًا عن الحقيقة مهما كان وفي أي صورة تمثلت، فإن البقاء في الحياة يكون أحيانًا أعظم شرفًا منه لمن يدافع مصائب هذه الحياة عن ضميره فلا تستبيحه ولا تزعج الفضائل الإنسانية التي اعتصمت به.
وإذا اشتبكتَ أيها المحزون بهذه الآلام فكن قويًّا على مصارعتها، وقد تصرعك مرة إذا بَدَرتْ منك غفلة، فلا تكن حينئذ جبانًا في النهوض كما كنت جبانًا في الوقوع، وليست فضيلتك في أن تنزل على حكم كل ضرورة، فإنك عند حكمها طوعًا وكرهًا ولكن الفضيلة أن تعرف في نزولك من جهة كيف تصعد من جهة أخرى؛ وما دمتَ حركة من حركات الفلك فلا تحاول أن تقف به عن مسيرة لهوى يعترضك أو تحرفه إلى جهة تَعِنُّ لك فتتلاشى ويستمرُّ الفلك سائرًا، وإني رأيت دُوامة الماء لا تلتوي عن تيار النهر إلا لتفتح لنفسها قبرًا فيه، وإذا لم تكن قادرًا أن تنال ما تطمع فيه فلتكن قادرًا أن لا تطمع فيما قُطعت عنك أسباب نيله، فإن غاية القدرة في الحالتين الرضى، وأنت في أكثر ما تعاني إنما تتألم بأوجاع الناس من حيث تؤذي نفسك ولا تغني عنهم من شيء، فإنك لا تملك إلا نفسك ولا تملك نفسك إلا فضائلها، وأنت على ذلك تجاري بآمالك أقوامًا من الأغنياء هم أصابع الدنيا في كفيها وقدميها … لا يعرفون إلا فلسفة الحس ولا فلسفة لهم إلا أن كل حقائق الدنيا لو حللتها الفلسفة أو العلوم أو الأديان لألفتها على كل حالة حقائق ذهبية … هكذا اصطلح الناس كأن الله لا يعطي ولا يمنع إلا بعد أن يتواضعوا فيما بينهم على ما يسمونه إعطاءً وحظًّا مما يسمونه منعًا وحرمانًا، وكأن ليس في الأرض غني عقيم بلغ من الدنيا ومن الكِبر ومن العقم جميعًا، ثم نظر إلى كنوزه العريضة ونظر معها إلى طفل يلعب في بيت رجل فقير ويملؤه بالضحك فعرف من هذه الحقيقة الحية مقدار ذلك الوهم الميت الذي يسميه الغنى، وكأن ليس في الأرض رجل ذكي عبقري لا يملك إلا عقله وهمة نفسه وهو مع ذلك لا يسرُّه أن تكون له بهما كنوز فَدمٍ غبي له من المال وبلادة العقل وصغر النفس مقادير يُوازن بعضها بعضًا، وكأن ليس في الأرض محب دَنف يهوى غادة فاتنة وقد عرف ما هو الغنى في اصطلاح القلب كما عرفه الذكي في اصطلاح العقل وكما عرفه العقيم في اصطلاح النفس.
إن الطبيب الحكيم لا يجاري العليل ولكنه ينظر إلى العلة، وإن الله سبحانه وله العزة لا يبالي باصطلاح الناس ولكنه ينظر مصلحتهم حين يعطي ويمنع، فليس في الأرض فقير قط إلا عند نفسه، ولو اطلع كل إنسان على الغيب لما اختار إلا ما هو فيه.
وكذلك لا تَنْسِل أيها المسكين المحزون ريش جناحيك اللذين تطير بهما لتنظر لون ما تحته من الجلد فتترك نفسك بلا إيمان وتدع قلبك بلا توكُّل وتسقط آخر الأمر مع هؤلاء الذين لا يرتفعون عن الأرض في طيرانهم نحو السماء إلا مقدار ما يرتفع غبار الأرجل في طريق السابلة.
ويحي! كيف ترامت بي شجون الحديث أيها القمر الضاحك الطروب حتى جعلتُ غبار الأرض بيني وبينك، بل غبار الأرجل في طريق السابلة؟ لقد شبَّهت عليَّ هموم الإنسان هذا المحو الأسود الذي يزين جبهتك حتى لحسبتُه عاطفة من عواطف الرحمة رسمتها بعض الغضون في تلك الجبهة المتهللة كأن السماء تجاوب بها نظرات المحزونين في الأرض، فاعترضتُ، هذه النظرات أراها وأخبرها لأعلم علمها فما ألقيت عليَّ حتى صرت همًّا متجسمًا، وانتظمت تلك اللحاظ في قلبي فما هو إلا صفحة وما هي فيه إلا أبيات القصيدة الإلهية التي ترجمتها بلساني هذه الترجمة الضعيفة كما يعبِّر لسان المتألم عن أوجاعه بعض الأنين والزفرات.
وليت شعري أين أنا من مَبلغ ذلك، وهل في الأرض من يستطيع أن يضع منطقًا للغة القلب الإنساني فيترجم به قصيدة الآلام التي تسيل رقة لأن كلماتها كلها (عيون)، والتي تنسكب فيها كل قوى النفس المختلفة كما تتدفق الجراح على نمط واحد بدم واحد، ويكون ألم الحب أبلغ معنى فيها وتكون أنت أيها القمر بضيائك وجمالك وآمال العشاق فيك وابتسامات الحِسان لك فلسفة الخيال لهذا المعنى اليتيم؟
أيها القمر! إن كان في الناس من يظن أن الفلسفة تكون دين المستقبل الراقي فإنما هي فلسفتك المؤمنة الجميلة التي تجمع الإيمان وهو الحب السماوي، وبين الحب الذي هو الإيمان الأرضي، وغاية الرقي لهذا المستقبل البعيد أن يكون أفق آماله أدنى إليك بطهارته وجماله، وما من رجل حكيم يحلم بهذه المعيشة السماوية على الأرض أو يفكر فيها إلا وهو يقرأ تاريخ أحلامه في سطور أشعتك، ويرى هذه الأشعة نفسها كأنها معاني ذلك المستقبل تهبط كل ليلة إلى الأرض لتعتاد الإقامة فيها، ثم لا تلبث أن ترى الناس قد هبُّوا من مضاجعهم حتى تفر إلى السماء مذعورة وتتوارى مع الأحلام كأن الناس تشابهوا عليها وهم نيام فلما رأتهم منبعثين رأت أكثرهم ليسوا من الناس …