الفصل الثامن
وكم ناجاك أيها القمر من عاشق قبلي، فإنك ما انفصلت عن الأرض إلا ليجعل الله منك أفقًا لآمال الإنسانية الجميلة، بل أنا لا أحسب عاشقًا من لا يناجيك ومن لا يأتي بدموعه وأحزانه وهواجسه وآماله فينطرح في هذه اللُّجة التي ترسلها من شعاعك وينغمس فيها ساعة ثم يخرج وكأنه جسم من نور يخفق في جنبه قلب كالنجم ويترك في نورك بقايا ظلمات نفسه الحزينة تراها السماء فترى بها كيف يكون ظل هذا القلب الإنساني المتألم، ثم تجمع أنت هذه البقايا وتدرجها في قطعة من شفق الفجر تشابه الدم الذي كانت تغتدي به من الحياة وتدع الزهرة الحسناء ترسل عليها نظرة من نظراتها الفتانة لتعرف أي ثمن من الأنفس والقلوب تُشترى به في الأرض ابتسامة كابتسامتها في السماء.
وبعد ذلك تروغ بها من وراء الصباح روغة ثم تدفنها في بعض الكواكب المنطفئة التي هي مقبرة الأبدية في غيب الله.
فلا يزال دأبُ العاشق الحكيم أن يذوب في شعاعك لكيلا يُبقي من نفسه غير المادة التي تذوب في شعاع الجمال، فيكون بجملته نفسًا روحية تتلقى الحكمة العالية عن النظرات والابتسامات كما تتلقاها عن الآداب والشرائع.
وقد نرى أقوامًا ممن يدعون الحب سفهًا وغلظة وإن أحدهم ليذهب فيقذف بنفسه في ابتسام الجميلات كما ترمي بالحجر في الماء العذب لا يعدو بطبيعته أن يستنقِع فيه.
وترى ذلك الجِلف لما يُعالج من شهوات الحياة كأنه قِدر تضطرم آخر النضج وهو لا ينفك يزعم أنه يشعر بالحب وأنه مبتلَى به ويقول لك حسبك من حب مضضه أشد على النفس من سُعار الجوع … ثم ترى أضلاعه وقد أحاطت بقلبه كالسياج حول المكان الخرِب. وهو قلب هدمه الحب حتى سوَّاه بمعدته كما يسوى الحائط المنقض بالأرض، ولكن الحب لم يبنِه؛ لأن القلب لا يُبنى على أساس من المعدة وليس في الرجل أمتن من هذا الأساس … لا بل ما أحرى ذلك القلب أن يكون معدة ثانية تؤتي غذاءها من سفاله ولؤمه فلا يدخله الطيب حتى ينقلب خبيثًا.
اشتراها من فقرها بماله، ومن تعاستها بقبحه؛ وكل تجارة الجمال في يدي الفقر والتعاسة، واشتراها وانقلب بها وكان لها — وا أسفًا عليها — خزانة من حديد حبست فيها لؤلؤة!
فيا أيها القمر، لقد زعموا قديمًا أن هذا المَحو الذي تراءى به هو عين ثرَّة، وأنها تفيض بقطرات من دموعها في الغلس على زهرة من أزهار الفجر؛ وزعموا أنها لا يفلح السحر إلا إذا وفَّق أهله لدمعة من دموعك يأخذونها من شفتي الزهرة كأنها كلمة القضاء؛ فأرسل أيها القمر كل ما في عينك على زهرات فجر الحب ليمتزج بندى هذه العيون الساحرة التي يبكي بها الجمال المحزون في أسره: وعسى يُفلح سحرها في أولئك البهائم فيمسخهم أناسًا يحسون بشعور الجمال الذي يُخلق في كل حسناء ليكون حياة لجمالها وجمالًا لحياتها فإن الله يأبى أن يجعل في الأرض أو في السماء قوة تجعل الحسان الجميلات يشعرن من الغلظة والفظاظة بما يشعر به أولئك البهائم.
رحمة لهذا الجمال!
وجه وضيء الطلعة كأنه السعادة المقبلة، يصل إليه دم الشباب من القلب فيتحول فيه إلى جمال وفتنة، كما تجول قطرات الماء في غصن الياسمين ثم تتحول في تلك الزهرة الطاهرة العطرة إلى جمال وابتسام وكأن معاني الحسن التي تتحير في خديه حقيقة إلهية تطل على النفوس من وراء الشفق.
فيه حاجبان كأنهما تمثيل للانحناء الخطي في الهندسة السماوية التي وُضع الجمال على قَواعدها، يمتدان فما أدرى ما أمثِّلهما به غير أني لا أظن الفتنة القلبية تمتد مجتمعة إلا بمثل هذا اللطف، وينتهيان إلى طرفين دقيقين لا يغمز بهما إلا ثَقَبا القلب من جانبيه.
وتحتهما عينان تنظران — والله — بروح تكاد تنطلق ولا يُفهم عنهما إلا كأنها ناطقة، وتضطربان فكأنما يضطرب معهما جلال السماء إذ يلوح في صفائهما، وتغضيان تفتُّرًا ودلالًا فكأنما تلقيان على الروح فترة تحلم فيها من أحلام السماء وتستيقظ، وتدوران بما يشبه الحياة والموت كأنهما الكلمتان الإلهيتان «كن ويكون» في محجرين واسعين كأنهما في هذا الجمال منفذا القضاء والقدر.
وخدان تحير فيهما الجمال فوقف يتلفت عن يمين وشمال، وتظن من التهابهما بشعاع الجمال أن العقل الجميل انقسم فيهما إلى فكرين يتوقدان ليقبس منهما الشعراء نار النبوغ التي يضطرم بها العقل والقلب والروح فيصرن جميعًا شعلة واحدة تضيء بالشاعر على آفاق الحكمة والحب والإيمان، وتراهما أسيلين بارزين، فيالله! هل هما ثديان صغيران من الورد يرضعان طفل الحب — الذي هو النحلة الإلهية في لذع الأرواح وإطعامها — العسل والمعسول؟
وبين الخدين أنف جميل تنحدر عليه اللحظات الفاتنة وتلتقي إليه الأشعة الوردية فهو خلاصة الجمال، وتراه بين ذينك الخدين كالإنصاف بين القوتين، فالنظرة إليه وإليهما ترجع إلى قلب المحب بالخوف المطمئن الذي لا ينفك يخوفه الحب ويبعثه عليه.
ودون ذلك فم أصغر من فم الحقيقة، كأن في شفتيه الرقيقتين الحمراوين روح الدم، ولقد استدارتا على ثَغر هو الكأس التي يُسكب فيها حنين الروح ممزوجًا بلهفة القلب معطرًا بابتسامات العواطف الشريفة التي أزهرت في ربيع الغرام، ويُرشف كل ذلك في قبلة لا يراها العاشق السعيد إلا روحًا من الحب يُؤتمن عليها ضميره الشريف.
يا رحمة لهذا الجمال كله إذ يباع كأنه عَرض من العروض التجارية، وهل يُكفِّر عن جريمة القتل أيها الأغنياء أن تكون دِيَة القتيل كفنًا من خيوط الذهب؟
ألا بُعدًا ألا بعدًا! ولعمري أي سخرية من الجمال أقبح من إرسال الجميلة لتقلَم بألحاظها أظفار الوحش؟
غفرانك اللهم! أفَرَغَت السماء فلم يبقَ فيها رَجْم واحد يسقط على شيطان من أولئك الشياطين فيتركه عبرة خالدة في تاريخ التجارة بالجمال؟
أيوثق فؤاد الحسناء بالسلسلة الرَّبوض التي صيغت من كلمات الزواج ثم يُشد طرفها في يد الرجل الذي تكرهه أو ستكرهه شخص البغض ويقال مع ذلك إنهما ارتبطا برباط مقدس … ألا تسمع أيها البغيض صَلصلة هذه السلسلة في دموعها أو في تنهدها أو في أنينها وكل ذلك لعناتٌ تنسكب من جوانب روحها؟
سَوْأةً لك، أيعيد التاريخ نفسه وتكون أنت الصنم الذي تقرب له الذبيحة وعيناه جامدتان تبعثان الرعب والخوف وليس فيهما من كل تلك القدرة الكاذبة إلا جمود ينظر بهزء وتهكم تلك النظرات الميتة؟
عزاءً أيتها الجميلة التي يتغذى قلبها من البُغض ذلك الغذاء المسموم فينبسط على شبابها خيال موتها ويجعل حياتها نزعًا واحتضارًا، وتصبح في ظل ذلك الغنى كواطئ ظله في الرمضاء يحسبه الأحمق باردَ القدم؛ لأنها في الظل ولا يدري أنه الظل الناري يغطي الجمر بالدخان.
عزاءً أيتها الجميلة التي انفرد قلبها في هذه الدنيا الموحشة، وكل محبٍ يرى له قلبًا يخفق مع قلبه فكأنه يعيش فيها بقلبين يضاعفان اللذة والسرور في حياته، أما أنت فليس من قلب يخفق بالهوى مع قلبك، حتى ولا قلبك يخفق معك؛ لأنك لا تحسِين منه شعور الحياة في هذا الموت.
ها أنت اليوم يا زينة الآمال كالباب المهدوم بين الماضي الذي كان قصرًا وبين المستقبل الذي هو من أنقاض هذا القصر، فما يرى الناظر من هذا الباب إلا كيف تنهدم الحياة وكيف يثور غبارها.
ويا الله ما أغلى الحقائق في هذه الدنيا إذا كان من ثمنها مثلُ هذا الجمال الغض الذي يرخص في شرائه القلب حين ترخص في شراء القلب الحياة.
الحقيقة الخالصة كالصديق الخالص المخلص؛ يجد الإنسان من المال والمتاع ما يبذله ثمنًا للدنيا فيحوزها ولا يجد ثمن الصديق إلا أن يبذل له ذات نفسه!
أي عدو لصيق نفذ إلى حياتك أيتها الجميلة، وقد تكفي نظرة واحدة من عينيك النجلاوين وابتسامة واحدة من فمك الوردي ليؤلف الشاعر من وصف تأثيرهما في نفسه كتابًا خالدًا في فلسفة الصداقة وجمالها، ولذتها في النفس وحلاوة آمالها؟ لقد أنفذوا في قلبك مسمارًا من الذهب … وأصبحتِ لا تشعرين من ثقل الحياة وآلامها إلا أن هذه الشمس مِطرقة ذهبية ترفعها الأقدار لتدق بها عليه من لَدن تُشرق إلى أن تغيب، فالألم الشديد في بقائه وأشد الألم في نزعه، وإذا انتزعه الموت أو غير الموت أو رقت لك الملائكة يومًا فجاءتك في ثياب الحدادين لمعالجته واجتذابه فهل يُنتزع من قلبك هذا الثقب العميق الذي أحدثه فيه وملأ غوره بالألم ومرارة الحياة؟
يا لها عداوة ثابتة بعقد وشهود … وبين القبول والرضى والبركات … وفي ثياب العرس أيضًا …؟
ويا لها سخرية فظيعة من القلب الإنساني وما فيه من الفضيلة والحب!
ويا له من نِفاق بارد يُراءى به الله خالق القلب، وتقابَل به الملائكة مَوئِل الفضيلة، وتواجه به هذه الحسناء عروس الحب في وقت معًا!
وكم من مر رأيت عالمًا يُوثِّق عقدة الزواج بخطبته، وكاهنًا يربط القلبين بكلماته رباطًا مقدسًا، فكنت أهتز من الفرق إلى القدم خشية أن تكون روح المصادفة العمياء في ثياب هذا العالم أو الكاهن، فإن ثلاثة تأتي إلى الإنسان من تلقاء نفسها وهو ينتفي منها جُهده: هذه المصادفة، والعداوة، والنحس؛ وقلما أحس إنسان بإحداها إلا فوجئ بثلاثتها جميعًا، وكذلك أشأم ما يعُدُّ في الشر تعدُّد شؤمِه!
وأنت أيها القمر حدثني بربك: ألست تسخر من هؤلاء الكُتَّاب والأدباء والمصلحين الذين يصفون داء الشرق المريض المحتَضر بمقالات أكثر عددًا من تراب القبر، ثم يريدون ليصفوا دواءه فتراهم من اختلاط آرائهم وتنوعها كأنما يحملون صيدلية بحالها إلى بيت المريض زعمًا أنهم مهما أخطئوا فلن يخطئوا أن يكون في بعض ما تحتويه من السوائل والعقاقير ما فيه شفاء … ولا يعلمون أن التاريخ الإنساني وإن لم يكن نسائيًّا غير أن المرأة هي التي تلده وترضعه بأخلاقها حتى يتماسك ويَدْرُج ثم يذهب يافعًا، وأن العظمة التاريخية وإن كانت مترجلة إلا أن في باطنها دائمًا روح أنثى، حتى إنها أعظم ما تكون إذا همَّت همَّها لشيء من آمال هذه الروح.
السفينة لا تزال تجري بمجدافيها ما اتجها في الحركة إلى جهة واحدة، فإن اختلفا وتدابرا في هذه الحركة الْتَوَتْ السفينة أولًا واضطربت ثانيًا وانقلبت آخرًا؛ وهل الرجل والمرأة إلا مجدافان في زورق البيت (العائلة) الذي يعبر بهما نهر الحياة!
ألست تعلم أيها القمر وأنت ابن الصحة والعافية الذي هرم ولم يزل فتي، أنه ما دمنا لا نرى عند رأس هذا الشرق المريض إلا لحًى وشوارب فإننا لا نرى ثمة إلى أعشاش الجراثيم الاجتماعية … وأنه إذا وُجد هناك نساء من أمهات الحب والفضائل وُجد معهن من يلدنَهم من رجال العزم والمبادئ الثابتة؛ وهل الحب والفضيلة والعزم والمبدأ المخلوق منها جميعًا إلا عناصر الطبيعة الحية في التاريخ الذي لا يموت من بقاء مادته من الإنسان.
واهًا لهذا المريض الذي يوثقونه بتلك الرُّبُط الممزقة من المقالات ويدفنونه في هذه الأكفان المنشورة من الصحف ولا يَدَعونه يتنفس إلا من جراثيم اللحى والشوارب التي تُريه ظلال الآخرة … وهو في كل ذلك الكرب الذي أخذ بأنفاسه لا يجد السبيل إلى روح من الحياة الطيبة في نفَس امرأة فاضلة.
الشرق المريض
•••
•••
•••
•••
آه يا قمري الحبيب، بل يا حبيبي القمر، إن الحب لا يخلق إلا الحب ولكن جمالها الرائع يصور لي مَقابح الناس ومعايبهم كأن عيني منذ صار فيها شيء من نور ذلك الجمال الساطع صار فيها شيء من نور الألوهية الذي يخرج منه كلَّ ليلة فجرٌ جديد ولا يفنى، فلا أنظر إلى خلقة المعاني ولكن أنظر إلى تركيبها الخلقي، ولو كانت لك أيها القمر هذه النظرة في شؤون الناس وحيل الأعداء وأحوالهم لارتمضتَ واخترمك الهم من زمن بعيد، ولما بقيت إلى اليوم بهذه الطفولة الإلهية التي تملأ السماء ضحكًا وغبطة.
صُبَّ ظلام الليل كله في قلبي وقني من عداوة لئيم تسوَّد وجه الدنيا في عيني وتجعل قلبي من يأسه وانقباضه كأنه مملوء بالدم الغليظ الفاسد الذي ركد وخبث بعد أن سال من جروح الصداقة! ولك الله أيتها الصداقة الشريدة في هذا العالم فلا تُلمَّ بأحد في حوادث الحياة إلا كما يلم ضيف البيداء إذ يتغطى بملاءة النهار نائمًا فمتى أظلمت الفِجاج المسفِرة انطلق عليه سواد. وهل أشد وأوجع لعمري من سقطة إنسان يتغفل عنه صاحبه حتى يستنيم إليه ويرتبط معه ثم يثب به فجأة وقد خذله خذلانًا ناريًّا وقدت عداوته؟ ومن الذي يستطيع أن يتوقى هذه المفاجأة، بل كيف يستطيع؟ وأية قوة في الأرض تمنع سقوط أحد العِدلين المتوازنين على ظهر البعير السائر إذا خف الآخر وأخل بالموازنة فلا يكون قد دفعه ثقله أكثر مما يدفعه الثقل الذي فقده؟
يا لله! أنَجد عداوة ثابتة ولا نجد صداقة كالعداوة على الأقل … لقد أصبحت هذه الصداقة جسمًا حيًّا بنوع من الحياة المادية يتمثل في كل صديق، فترى علامة حياتها وقوتها في الأصدقاء أن يصافح بعضهم بعضًا بالأيدي ويدوس بعضهم بعضًا بالأرجل، فكأنهم إذا اكتفوا بالمصافحة واجتزءُوا بها مما عدا ذلك خافوا على أرجل الصداقة من الشلل إن هي منعت من الحركة، أما القلب الذي تحيا به هذه الصداقة الخالدة … فهو الحب الثابت الذي لا يتغير ولا يتحول ولا ينقص بل يزيد كما يصفه الأصدقاء فيما بينهم، ذلك الحب الذي تسميه أقوالهم أسماء منتحلة، ولكنك حين تتعرفه من أعمالهم لا تجدها تعرف له إلا اسمًا واحدًا وهو الطمع … فاضحك الآن من صداقة الناس أيها القمر الذي يعيش بالطفولة الإلهية، وها أنا ناظر إليك فعسى أن يسقط إلى قلبي شيء من هذا الضحك، فإن لم يكن فمعنى منه يجعل الفكر ضاحكًا، فإن لم يكن فلا أقل من أن يحرك في ذاكرتي ذلك الهواء العطر الجامد في بعض زواياها فيندفع إلى قلبي بذلك الرنين الذي حفظته الذاكرة من ضحك تلك الحسناء الفاتنة قبل أن تحق النوى وينصدع الشمل وأبقته على نفسي لتسمعها منه في هذا الفراق الطويل ألحان الحب والأمل.