الديمقراطية والديكتاتورية
أتحول الآن من مناقشة الاختيارات الفردية إلى مناقشة الاختيارات التي تتخذها مجموعةٌ أنت أحد أعضائها.
(١) الموقف
«المجموعة» هي جمع لا يقل عن ثلاثة أفراد، مثل أسرة أو نادٍ أو أُمَّة. ولسوف أركِّز على مجموعة مسافرين مكوَّنة مني أنا وأنت ومونتمورنسي. على المجموعة الاختيار بشكل جماعي من قائمة مكوَّنة من عناصر محددة. وتعتزم مجموعتنا تحديدًا السَّفَرَ معًا، وعليها الاختيار من بين السَّفَر «جوًّا»، و«بالسفينة»، و«السيارة». ولسوف أفترض أن كل شخص في المجموعة عقلاني بالمعنى الذي أرسيناه في الفصل الثاني. وهذا يعني أن كل شخص له تفضيلات فيما يتعلق بعناصر القائمة، ويمكنه بالفعل تصنيف هذه العناصر. على سبيل المثال، قد يكون نمط تصنيفاتنا:
أنت | أنا | مونتمورنسي |
---|---|---|
أ | ﺟ | أ ب ﺟ |
ب | ب | |
ﺟ | أ |
لاحظ أن التعادل مسموح به؛ فعلى الرغم من أنك وأنا نصنِّف عنصرًا مفردًا في المقدمة، يصنِّف مونتمورنسي العناصر كلها في المقدمة.
سوف أتناول كيف أن اختيارات المجموعة تعكس تفضيلات أفرادها. وتعرف الطريقة التي توضع بها تفضيلات الأفراد في الحسبان في تحديد اختيارات المجموعة ﺑ «دستور» المجموعة؛ إذ تحدد هذه الطريقة الاختيارات التي تتخذها المجموعة لكل نمط من تفضيلات أعضائها. وهناك نوعان من الأسئلة يمكننا طرحها بشأن الدساتير؛ الأول: هل تَجمع اختيارات الأفراد بطريقة مقبولة؟ والثاني: هل الاختيارات التي تحددها مُرضية؟
(٢) الدساتير المقبولة
سوف أبدأ باستكشاف معنى أن تجمع الدساتير اختيارات الأفراد بطريقة مقبولة. ولعل أشهر الدساتير المعروفة هو الدستور الديمقراطي، والذي يعرف خلاف ذلك ﺑ «قاعدة الأغلبية»، والتي تنص على أن المجموعة تختار عنصرًا ما إذا ما صنَّفه على الأقل عددٌ من الأشخاص على رأس العناصر المتاحة كعدد الأشخاص الذين يُصنِّفون أي عنصر محدد آخر في المقدمة.
ومن الأمثلة الواضحة لذلك النظام الانتخابي «الفوز للأكثر أصواتًا»؛ فإذا حصل اليسار على ٤٠ بالمائة من الأصوات، وحصل كلٌّ من الوسط واليمين على ٣٠ بالمائة؛ إذن يتم اختيار اليسار. ولا يوجد شيء غير مرضٍ — بشكل واضح — بشأن قاعدة الأغلبية فيما يتعلق بالطريقة التي تأخذ بها في الحسبان تفضيلات الأفراد (وإن كانت قد تعتريها مشكلات أخرى مثلما سنرى).
غير أن هناك قواعد أخرى قد لا تبدو مقبولة للدرجة. تأمَّل «قاعدة بوردا»، التي سميت بهذا الاسم نسبة للضابط البحري والمنظِّر السياسي جان تشارلز دي بوردا (١٧٣٣–١٧٩٩). تنص هذه القاعدة على أن يعيِّن كلُّ شخص لكلِّ عنصر في القائمة الكاملة، كدرجةٍ، عددَ العناصر التي يعتبر أنها أسوأ من ذلك العنصر، ويتم جمع هذه الدرجات، وتختار المجموعةُ العنصرَ الأعلى من حيث إجمالي الدرجات.
يشار إلى هذه القاعدة في السياق الانتخابي بأنها (نوع من) التمثيل النسبي. وكان دي بوردا قد اقترح، في ظل معارضة عنيفة من نابليون بونابرت، أن تستخدم هذه القاعدة في انتخابات «أكاديمية العلوم». ولِتَعرفَ السبب وراء معارضة نابليون بونابرت، تأمَّلِ المثال التالي.
(٢-١) مثال بوردا
لقد اخترنا استخدام قاعدة بوردا حين تكون تصنيفاتنا هي:
أنت | أنا | مونتمورنسي |
---|---|---|
أ | ﺟ | أ ب ﺟ |
ب | أ | |
ﺟ | ب |
وعلينا الاختيار بين (أ) و(ﺟ)، فنختار (أ)، علمًا بأن درجة (أ) هي ٣، ودرجة (ﺟ) هي ٢، ودرجة (ب) هي ١. أما حين تكون تصنيفاتنا هي:
أنت | أنا | مونتمورنسي |
---|---|---|
أ | ﺟ | أ ب ﺟ |
ﺟ | ب | |
ب | أ |
وعلينا الاختيار بين (أ) و(ﺟ)، فنختار (ﺟ)، علمًا بأن درجة (ﺟ) ٣، ودرجة (أ) ٢، ودرجة (ب) ١.
المشكلة في هذا المثال هي أن اختيار المجموعة بين (أ) و(ﺟ) يتغير بتغير تصنيفاتنا، على الرغم من عدم تغير تفضيلات أي شخص بين (أ) و(ﺟ)؛ فالاختيار بين (أ) و(ﺟ) يعتمد على تصنيفنا للعنصر (ب) الخارج عن نطاق الأمر. وهذا يبدو غير مرضٍ. على سبيل المثال، إذا تم حذف (ب) من القائمة الكاملة — لنَقُل بسبب الطقس العاصف — إذن فالاختيار بين (أ) و(ﺟ) تحت كل نمط من التفضيلات في مثال بوردا يختلف عن الاختيار حين تكون (ب) في القائمة (عند حذف (ب)، يكون الاختيار تحت كل نمط من أنماط التفضيلات هو كلًّا من (أ) و(ﺟ)، وكلاهما درجته ١). ولتجنُّب مثل تلك المشكلات، قد نشترط أن يعتمد اختيار المجموعة بين أي عنصرين فقط على تفضيلات الأفراد بين هذين العنصرين. وعلى نحو مساوٍ، قد نشترط ألا يتغير اختيار المجموعة بين عنصرين استجابةً لأي تغير في تفضيلات أي فرد يترك تصنيفه لهذين العنصرين بلا أي تغيير. وهذا الشرط هو «شرط الاستقلال».
سوف يبدو شرط الاستقلال واحدًا من الشروط الدنيا لأي دستور. وحتى إذا استُوفيَ، فقد لا ننعم بالسعادة الكاملة.
تأمَّلِ «القاعدة الأبجدية» التافهة نوعًا ما، التي تنص على تصنيف عناصر القائمة بترتيب أبجدي، على أن تختار المجموعةُ العنصرَ المصنف على رأس العناصر المتاحة. من الواضح أن هذه القاعدة تَستوفي شرط الاستقلال، غير أن إحدى المشكلات بشأن هذه القاعدة تكمن في عدم تعاملها مع العناصر بشكل متماثل. افترضْ، على سبيل المثال، أن الجميع يفضلون (د) على (ﻫ)، وأيضًا يفضلون (ص) على (س)؛ إذن سوف تختار المجموعةُ العنصرَ (د) من الزوج (د) و(ﻫ)، ولكنهم لن يختاروا (ص) من الزوج (س) و(ص)، على الرغم من تصنيف الجميع لهذين العنصرين بنفس الطريقة المستخدمة في تصنيف العنصرين (د) و(ﻫ). ولتلافي هذه المشكلة، قد نشترط أنه إذا قام الجميع بتصنيف العنصرين (د) و(ﻫ) بنفس الطريقة التي يصنفون بها العنصرين (س) و(ص)، واختارت المجموعةُ العنصرَ (د) من الزوج الأول؛ فعليهم إذن اختيار (س) من الزوج الثاني. وهذا الشرط هو «شرط التعادلية». ويعد شرط التعادلية أقوى من شرط الاستقلال. إن التعادلية، أو الحياد، تشير ضمنًا إلى الاستقلال، وهذا أمر نابع مباشرة من التعريفات. وكما رأينا، توضح القاعدة الأبجدية أن الاستقلال لا يشير ضمنًا إلى التعادلية.
أتحول الآن إلى مشكلات محتملة من نوعية أخرى. ثمة مشكلة أخرى إضافية بشأن القاعدة الأبجدية هي أنها لا تحترم إجماع الآراء؛ فالمجموعةُ سوف تختار (س) من الزوج (س) و(ص) حتى إذا كان الجميع يفضلون (ص) على (س). وإذا كنا نريد أن نسمح لتفضيلات الأفراد بأن تشكل أهمية على الإطلاق، فسيبدو غريبًا لو لم تُحترم التفضيلات المجمَع عليها حين تتحقق. ولتلافي هذه المشكلة، قد نشترط أنه حال تفضيل الجميع لعنصر على عنصر ثانٍ، إذن تختار المجموعةُ العنصرَ الأول وحده من الاثنين. لاحظ أننا لا نشترط أن يقع الاختيار على الأول، فضلًا عن اختياره بشكل منفرد، إذا كان العنصران يعتبران متساويين ولو من قِبَل شخص واحد. وهذا الشرط هو «شرط الإجماع».
سوف يبدو هذا الشرط أحد الاشتراطات الدنيا لأي دستور. وحتى إذا استُوفي، فقد لا نسعد بشكل تامٍّ. تأمَّل «قاعدة باريتو»، نسبة للاقتصادي فيلفريدو باريتو (١٨٤٨–١٩٢٣)، التي تنص على أن المجموعة تختار عنصرًا ما إذا لم يكن هناك عنصر آخر يفضِّله الجميع. ولِنَرَى ما قد يمثِّل مشكلة في هذه القاعدة. تأمَّل المثال التالي.
(٢-٢) مثال باريتو
لقد اخترنا استخدام قاعدة باريتو حين تكون تصنيفاتنا هي:
أنت | أنا | مونتمورنسي |
---|---|---|
أ | ب | أ |
ب | أ | ﺟ |
ﺟ | ﺟ | ب |
فإننا نختار كلًّا من (أ) و(ب). أما حين تكون تصنيفاتنا كالتالي:
أنت | أنا | مونتمورنسي |
---|---|---|
أ | أ ب | أ |
ب | ﺟ | ﺟ |
ﺟ | ب |
يظل اختيارُنا هو كلًّا من (أ)، و(ب).
إن ما قد يعتبر خطأً في هذا المثال هو أن اختيار المجموعة لا يستجيب إيجابيًّا للتغيرات في تفضيلات المجموعة؛ فالعنصران (أ) و(ب) متعادلان تحت النمط الأول للتفضيلات، ويصعد (ب) نسبةً إلى (أ) في تصنيفي، بينما تظل تصنيفاتك ومونتمورنسي بلا أي تغيير، غير أن (أ) تظل تُختار تحت النمط الثاني. ولتجنُّب هذه المشكلة، قد نشترط أن: (١) يكون هناك نمط للتفضيلات يتم بموجبه اختيار كلِّ عنصر، و(٢) إذا تحرك عنصرٌ ما لأعلى فيما يتصل بعنصر ثانٍ في تصنيف أحد الأشخاص، بينما لا يتغير تصنيف أي شخص آخر؛ فحينئذٍ إذا كانت المجموعةُ قد اختارت العنصرَ الأولَ من البداية، فإنها تظل تختاره، وإذا كانت قد اختارت كلا العنصرين في البداية، فإنها الآن تختار الأول بمفرده. وهذا الشرط هو «شرط الاستجابة». ويعد شرط الاستجابة أقوى من شرط الإجماع. ومن السهل أن ترى أن الاستجابة تشير ضمنًا إلى الإجماع. وكما رأينا، توضح قاعدة باريتو أن الإجماع لا يشير ضمنًا إلى الاستجابة.
إذن لدينا أربعة شروط فيما يتعلق بالطريقة التي تؤخذ بها تفضيلات الأفراد في الاعتبار: التعادلية وشكلها الأضعف المتمثل في الاستقلال، والاستجابة وشكلها الأضعف المتمثل في الإجماع. ولسوف أُطلِق على التعادلية والاستجابة «شرطَين قويين»، وشكليهما الأضعف — الاستقلال والإجماع — «شرطَين ضعيفين». وهذه الشروط الأربعة معًا متسقة. ومن السهل أن ترى أن قاعدة الأغلبية تَستوفيها جميعًا. كذلك يعد الشرطان الضعيفان مستقلَّين، شأنهما شأن الشرطَين القويين. ومن السهل أن تجد قاعدة تَستوفي شرط الاستقلال، ولكن ليس الإجماع، وأخرى تَستوفي الإجماع ولكن ليس الاستقلال. بالمثل، من السهل أن تجد قاعدة تَستوفي شرط التعادلية دون شرط الاستجابة، وأخرى تَستوفي شرط الاستجابة دون شرط التعادلية.
(٣) الدساتير المعقولة
حتى الآن ناقشت فقط السؤال الأول من السؤالين اللذين نستطيع طرحهما بشأن الدساتير: هل تضم تفضيلات الأفراد بطريقة مقبولة؟ والآن أتحول إلى السؤال الثاني: هل الاختيارات التي تحددها مُرضية؟ سوف أحاول الإجابة من خلال التساؤل عما إذا كانت الاختيارات التي تتخذها معقولة أو عقلانية، بالمعنيين الموضحين في الفصل الثاني. وعلى وجه التحديد، سوف أنظر ما إذا كان بوسعنا توصيف الدساتير التي تَستوفي الشروط المتنوعة، وأيها يُنتج اختيارات معقولة أو عقلانية، كما قد يكون الحال.
قبل القيام بذلك، سوف أتحول سريعًا إلى قاعدة الأغلبية — ولو فقط لكونها معروفة للغاية — والتي تنص على أن المجموعة تختار عنصرًا ما إذا قام عدد كبير من الناس بتصنيفه في المقدمة على أي عنصر آخر. كما رأينا، تَستوفي قاعدة الأغلبية الشرطَين القويين، وكذلك تَستوفي اشتراطًا آخر إضافيًّا؛ ألا وهو معاملة الناس معاملة سواءً؛ بمعنى أنه إذا تبادل شخصان تصنيفاتهما، يظل اختيار المجموعة كما هو بلا تغيير. وهذا الاشتراط هو «شرط المجهولية».
والحق أن قاعدة الأغلبية لا تَستوفي فقط هذه الشروط الثلاثة، بل إنها القاعدة الوحيدة التي تفعل هذا. وهكذا يصبح لدينا توصيف كامل؛ فالدستور يَستوفي شروط التعادلية والاستجابة والمجهولية إذا، وفقط إذا، كان قاعدة الأغلبية.
ربما يكون هذا التوصيف كاملًا، ولكن هل له أية أهمية؟ الإجابة بوضوح وبلا لبس هي لا. وهذا لا يُعزى فقط إلى أن هذه القاعدة قد تخفق في إنتاج اختيارات عقلانية أو حتى معقولة، بل قد تخفق في إنتاج أي اختيارات على الإطلاق. ولرؤية هذا، تأمَّل المثال التالي.
(٣-١) مثال الأغلبية
لقد اخترنا استخدام قاعدة الأغلبية حين تكون تصنيفاتنا:
أنت | أنا | مونتمورنسي |
---|---|---|
أ | ﺟ | ب |
ب | أ | ﺟ |
ﺟ | ب | أ |
لا يوجد عنصر يمكننا اختياره؛ فاثنان منا يصنِّفان (أ) فوق (ب)؛ ومن ثم لا يمكننا اختيار (ب) (سواءٌ بمفردها أو مع أي عنصر آخر)، فيما يصنِّف اثنان منا (ب) فوق (ﺟ)؛ ومن ثم لا يمكننا اختيار (ﺟ)، واثنان منا يصنِّفان (ﺟ) فوق (أ)؛ ومن ثم لا يمكننا اختيار (أ).
وهذه ليست بالمشكلة الهينة؛ فلعلك تذكُر من مناقشة الفصل الأول أن عدم اختيار أي عنصر (على عكس اختيار عنصر يسمى «لا شيء» أو «الوضع الراهن») لا معنى له. ومن ثم قد تكون قاعدة الأغلبية عقيمة لا معنى لها. ولا بد أن ننظر أكثر إن كنا نرغب في قاعدة مضمونة النجاح من الأساس، فضلًا عن إنتاج اختيارات عقلانية أو مقبولة.
سوف أبدأ بالاشتراط الخاص بأن ينتج الدستور اختيارات معقولة. نحن نعلم أننا إذا اشترطنا أن تكون الاختيارات الجماعية معقولة، فلا يمكننا أيضًا أن نفرض الشرطَين القويين وشرط المجهولية؛ لأن القاعدة الوحيدة التي تَستوفي هذه الشروط هي قاعدة الأغلبية، وهذه ليست قاعدة معقولة. إذن لا بد أن نخفف من شيءٍ ما. سوف أنظر أولًا ما يحدث إذا ما استبدلنا الشرطَين الضعيفين بالشرطَين القويين، ثم أتناول ما يحدث إذا ما تخلَّينا عن شرط المجهولية. (لن أتناول أيضًا التخلي عن الحد الأدنى من متطلبات الشرطَين الضعيفين.)
لنرى ما يحدث إذا ما استبدلنا الشرطَين الضعيفين بالشرطَين القويين، عُدْ إلى قاعدة باريتو التي تنص على أن المجموعة تختار عنصرًا ما إذا لم يكن هناك أي عنصر آخر محل تفضيل من الجميع. وكما أشرت من قبل، تَستوفي هذه القاعدة بوضوح شرط الإجماع والمجهولية، وتَستوفي، بوضوح مساوٍ، شرطَي الاستقلال والمجهولية، ولكن هل هي معقولة؟ لعلك تذكُر من الفصل الثاني أن الاختيار يكون معقولًا إذا كانت العناصر المختارة، في ظل وجود علاقةٍ ما من علاقات «جيد على الأقل مثل»، هي تلك التي تكون جيدة على الأقل مثل كل عنصر آخر (ويكون عقلانيًّا إذا كانت هذه العلاقة متعدية). وبموجب قاعدة باريتو، يوجد بالفعل علاقة كهذه؛ فعنصرٌ ما يكون أفضل من ثانٍ إذا فضَّل الجميعُ الأولَ، وإذا لم ينل أيُّ عنصر تفضيلًا بالإجماع على الآخر، فإن الاثنين سواء.
قد نلاحظ عَرَضًا أن هذه العلاقة ليست متعدية؛ ومن ثم فإن اختيار المجموعة غير عقلاني. ولرؤية هذا، عُد إلى مثال «باريتو» الذي كانت التصنيفات (الأولية) فيه:
أنت | أنا | مونتمورنسي |
---|---|---|
أ | ب | أ |
ب | أ | ﺟ |
ﺟ | ﺟ | ب |
نحن هنا نختار كلًّا من (أ) و(ب) من بين (أ) و(ب)، وكلًّا من (ب) و(ﺟ) من بين (ب) و(ﺟ)، ولكن نختار (أ) بمفردها من بين (أ) و(ﺟ). وهكذا تكون علاقةُ «جيد على الأقل مثل» كالتالي:
(أ) مساوٍ ﻟ (ب) |
(ب) مساوٍ ﻟ (ﺟ) |
(أ) مساوٍ ﻟ (ﺟ) |
وهي علاقة غير متعدية بشكل واضح.
غير أن قاعدة باريتو تُنتج اختيارات معقولة، وتَستوفي الشروط. والحق أن العكس أيضًا صحيح؛ فلدينا توصيف كامل؛ ألا وهو: أن الدستور الذي ينتج اختيارات معقولة يَستوفي شروط الاستقلال والإجماع والمجهولية إذا، وفقط إذا، كان قاعدة باريتو.
ولاستطلاع ما يحدث إذا ما تخلَّينا عن شرط المجهولية، ولكن احتفظنا بالشرطَين القويين، فسوف أقدِّم مفهوم رأس السلطة. أنت رأس السلطة في دستورٍ ما إذا كانت المجموعة دائمًا ما تختار العناصر التي تصنفها على رأس العناصر المتاحة، وتختار هذه العناصر وحدها ما لم يصنف الآخرون جميعًا عناصر أخرى في المقدمة، وفي تلك الحالة تختار المجموعة هذه العناصر أيضًا. والدستور المصحوب برأس للسلطة، والذي لا بد بالضرورة أن يكون متفردًا، يسمى «سلطويًّا». ويوضح المثال التالي هذا الدستور.
(٣-٢) مثال رأس السلطة
نختار هنا استخدام قاعدة رأس السلطة، وفي حالتنا هذه أنت رأس السلطة، وتصنيفاتنا كالتالي:
أنت | أنا | مونتمورنسي |
---|---|---|
أ | ﺟ | ب |
ب | أ | ﺟ |
ﺟ | ب | أ |
حين يتعين علينا الاختيار من بين (أ) و(ب)، نختار (أ)؛ إذ إنك تصنف (أ) في المقدمة بينما بقيتنا لا يصنف (ب) بالإجماع فوق (أ)، وحين يتعين علينا الاختيار من بين (ب) و(ﺟ)، يقع اختيارنا على (ب) لأسباب مماثلة، وحين يتعين علينا الاختيار من بين (أ) و(ﺟ)، نختار كلًّا من (أ) و(ﺟ)؛ إذ إنك تصنف (أ) في المقدمة بينما أنا ومونتمورنسي نصنف (ﺟ) فوق (أ). أما حين يتعين علينا الاختيار من القائمة الكاملة، فنختار (أ)؛ إذ إنك تصنف (أ) في المقدمة بينما لا يصنف بقيتنا بالإجماع أي عنصر آخر في المقدمة.
لاحِظ أن اختيار المجموعة في هذا المثال معقول؛ وعليه تكون علاقةُ «جيد على الأقل مثل» كالتالي:
(أ) أفضل من (ب) |
(ب) أفضل من (ﺟ) |
(أ) مساوٍ ﻟ (ﺟ) |
غير أن هذه العلاقة غير متعدية؛ ومن ثَمَّ فإن اختيار المجموعة، مرة أخرى، غير عقلاني. وبشكل عام، قد تكون الاختيارات التي تحددها القواعد السلطوية معقولة، ولكن لا يمكن ضمان أن تكون عقلانية.
يمكننا الآن أن نذكر ما يحدث إذا احتفظنا بالشرطَين القويين. إن الصورة كئيبة؛ فأي دستور ينتج اختيارات معقولة ويَستوفي شرطَي التعادلية والاستجابة لا بد أن يكون سلطويًّا.
إذا اشترطنا أن يكون اختيار المجموعة معقولًا، كما يجب أن نفعل بكل تأكيد، فإن المجال المتاح أمامنا محدود. فإذا أردنا الاحتفاظ بشرط المجهولية (والشرطَين القويين)، فليس أمامنا سوى قاعدة «باريتو»، وإذا أردنا الاحتفاظ بالشرطَين القويين، فليس أمامنا سوى قاعدة سلطوية. إن قاعدة باريتو لا بأس بها إلى حدٍّ معين، ولكنها لا تستمر طويلًا؛ فبخلاف الحدث المستبعد من اتفاق الجميع على عنصرٍ ما، سوف تختار دومًا كلا العنصرين من أي زوج من العناصر، وهو ما لا يسدي عونًا كثيرًا. أما القواعد السلطوية، على الجانب الآخر، فتذهب إلى بعيد؛ إذ تختار بشكل شبه دائم عنصرًا واحدًا فقط، ولكن إذا لم تكن أنت رأس السلطة، فهل كنت سترغب في أن تحيا تحت قاعدة كهذه؟
(٤) الدساتير العقلانية
أتناول الآن ما يحدث إذا عززنا اشتراط أن يكون اختيار المجموعة معقولًا ليصبح اشتراطًا بأن يكون عقلانيًّا. إذا كنا سنستوفي هذا الاشتراط الأقوى، فسيكون علينا تخفيف أحد الشرطَين القويين أو كليهما. وهذا يُعزى إلى أن الدساتير التي تَستوفي الشرطَين القويين وتُنتج اختيارات معقولة، أي سلطوية، لا يمكن ضمان أن تنتج اختيارات عقلانية. وسوف أستكمل الطريق لنهايته وأستبدل كلا الشرطَين الضعيفين بنظيريهما القويين؛ فهذا من شأنه أن يتركنا مع الحد الأدنى من الاشتراطات لدستور مقبول.
ولاستطلاع ما يحدث في هذه الحالة، سوف أقدم مفهوم الديكتاتور. أنت ديكتاتور تحت دستورٍ ما إذا كانت المجموعة دائمًا ما تختار بالضبط العناصر التي تصنفها على رأس العناصر المتاحة. والدستور المصحوب بديكتاتور، والذي لا بد بالضرورة أن يكون متفردًا، يسمى «ديكتاتوريًّا». يبدو واضحًا أن الديكتاتور رأس السلطة، ولكن رأس السلطة قد لا يكون ديكتاتورًا. وثمة مثال واضح للدستور الديكتاتوري هو ذلك الذي تكون فيه اختيارات المجموعة هي نفس اختياراتك دومًا. وبما أنك عقلاني، فإن هذه القاعدة تنتج اختيارات عقلانية.
يمكننا الآن أن نذكر ما يحدث إذا فرضنا فقط أقل حدٍّ من الشرطَين الضعيفين. وقتها ستبدو الصورة أكثر كآبة؛ فأي دستور ينتج اختيارات عقلانية ويَستوفي شرطَي الاستقلال والإجماع لا بد أن يكون ديكتاتوريًّا.
تُعرف هذه النتيجة بنظرية آرو للاستحالة، نسبة لكينيث آرو (المولود عام ١٩٢١)؛ عالم الاقتصاد والفيلسوف الحائز على جائزة نوبل (وتسمى نظرية الاستحالة؛ نظرًا لإمكانية تفسيرها بأنها القول بأن من المستحيل امتلاك الخصائص الأربع: العقلانية، والاستقلال، والإجماع، وعدم الديكتاتورية). وتعد هذه إحدى أكثر النتائج أهمية وإزعاجًا في نظرية الاختيار؛ فهي تعني ضمنًا، على سبيل المثال، أن كل الحديث المثار بشأن «الصالح القومي» لغوٌ فارغ (بخلاف الحدث المستبعد المتمثل في اتفاق الجميع، والذي سيكون في هذه الحالة مجرد إطناب لا لزوم له).
والعلاقات بين نظرية الاستحالة والمفاهيم الأخرى الموجودة في هذا الفصل موضحة بالشكل.
ونظرًا للدور المحوري لنظرية الاستحالة، ولتوضيح نوعية الحجة المستخدمة في نظرية الاختيار، سأقدم دليلًا هذه المرة فقط. وإذا لم تكن مهتمًّا بتلك المسألة، يمكنك تجاهلها بأمان والتوجُّه إلى نهاية هذا القسم.
يتكون الدليل من أربع مراحل. وتتمثل الاستراتيجية في افتراض العقلانية والاستقلال (ضمنيًّا فقط)، والإجماع، وعدم الديكتاتورية، ثم توضيح ظهورِ تناقُضٍ كنتيجة لذلك. وهذا التناقض يشير ضمنًا إلى أن من المستحيل امتلاك جميع هذه الخصائص.
أولًا: سوف أقوم بتعريف مجموعة فرعية من الأشخاص داخل المجموعة بأنهم «جادُّون» فيما يتعلق بزوجٍ ما من العناصر، إذا وقع اختيار المجموعة على العنصر الأول فقط من هذا الزوج، كلما كان كلُّ مَن في المجموعة الفرعية يفضل الأول، فيما يفضل الآخرون جميعًا الثاني. ولسوف أوضح أنه إذا كانت مجموعةٌ فرعيةٌ ما جادَّة بشأن زوج من العناصر، فإنها جادة أيضًا بشأن جميع الأزواج. افترضْ أن مجموعةً فرعيةً ما جادة بشأن الزوج (د) و(ﻫ)، وتأمَّل التصنيفات الآتية للعناصر الأربعة الخاصة بجميع أفراد المجموعة الفرعية والآخرين:
المجموعة الفرعية | الآخرون |
---|---|
س | ﻫ |
د | ص |
ﻫ | س |
ص | د |
تختار المجموعة الأساسية (س) فقط من الزوج (س) و(د) بداعي الإجماع، وتختار (د) فقط من الزوج (د) و(ﻫ)؛ نظرًا لجدية المجموعة الفرعية بشأن هذا الزوج، وتختار (ﻫ) فقط من الزوج (ﻫ) و(ص) بداعي الإجماع. وعلى ذلك، تختار المجموعةُ العنصرَ (س) فقط من الزوج (س) و(ص)؛ لأنه اختيار عقلاني. ولما كان جميع مَن في المجموعة الفرعية يفضلون (س) على (ص)، فيما يفضل الآخرون جميعًا (ص) على (س)؛ فإن هذا يعني أن المجموعة الفرعية جادة بشأن (س) و(ص). ولما كان (س) و(ص) مطلقين، فإن المجموعة الفرعية جادة بشأن كل أزواج العناصر.
ثانيًا: سوف أعرِّف مجموعة فرعية داخل المجموعة الأساسية بأنهم «حاسمون»، إذا كانت المجموعةُ الأساسيةُ، بالنسبة لجميع أزواج العناصر، تختار العنصرَ الأولَ وحده من أي زوج من العناصر، كلما كان جميع أفراد المجموعة الفرعية يفضلون العنصرَ الأولَ (بصرف النظر عن تفضيلات الآخرين). ولسوف أوضح أنه إذا كانت مجموعةٌ فرعيةٌ ما جادة (بشأن أي زوج من العناصر)، فإنها تكون حاسمة. افترضْ أن مجموعةً فرعيةً ما جادةٌ وتأمَّل التصنيفات التالية لثلاثة عناصر، والخاصة بجميع أفراد المجموعة الفرعية، والآخرين:
المجموعة الفرعية | الآخرون |
---|---|
س | ص |
ص | س/ع |
ع |
حيث (س/ع) تعني أن (س) و(ع) قد يصنفان بأي شكل. الآن تختار المجموعة الأساسية (س) وحدها من (س) و(ص)؛ نظرًا لجدية المجموعة الفرعية، وتختار (ص) وحدها من (ص) و(ع) بداعي الإجماع. وعلى ذلك، تختار (س) وحدها من (س) و(ع)؛ لأنه اختيار عقلاني. ولما كان جميع أفراد المجموعة الفرعية يفضلون (س) على (ع)، وقد يكون للآخرين جميعًا تفضيلاتٌ ما بين (س) و(ع)؛ فإن المجموعة الفرعية حاسمة.
ثالثًا: سوف أُبيِّن أنه إذا لم تكن مجموعة من الناس حاسمة، فإن إضافة شخص آخر إلى المجموعة لن يجعلها كذلك؛ فنظرًا لأن أية مجموعة فرعية تضم شخصًا واحدًا فقط لا يمكن أن تكون حاسمة، وإلا فسيكون هذا الشخص ديكتاتورًا، فإن هناك بعض المجموعات الفرعية غير الحاسمة. اختر مجموعة فرعية كهذه، وفردًا ليس ضمن هذه المجموعة، وتأمَّل التصنيفات التالية لثلاثة عناصر، والخاصة بجميع أفراد تلك المجموعة، والفرد، وجميع الأفراد الآخرين:
المجموعة الفرعية | الفرد | الآخرون |
---|---|---|
س | ع | ص |
ص | س | ع |
ع | ص | س |
لا يمكن للمجموعة الأساسية الآن اختيار (ع) وحدها من (ص) و(ع)؛ نظرًا لأن الفرد ليس حاسمًا؛ ومن ثم تختار (ص)، ليس بمفردها بالضرورة، من (ص) و(ع)، ولا يمكنها اختيار (س) وحدها من (س) و(ع)؛ لأن المجموعة الفرعية ليست حاسمة؛ ومن ثم تختار (ع)، ليس بمفردها بالضرورة، من (س) و(ع). وعلى ذلك، تختار (ص)، ليس بمفردها بالضرورة، من (س) و(ص)؛ لأنه اختيار عقلاني. ولما كان الجميع في المجموعة الفرعية المكبرة التي تكونت عن طريق إضافة الفرد إلى المجموعة الفرعية الأصلية يفضلون (س) على (ص)، فإن المجموعة الفرعية الكبيرة ليست حاسمة.
وأخيرًا: أقوم ببيان التناقض. فإذا أضفنا فردًا إلى مجموعات فرعية غير حاسمة لعدد كبير بما يكفي من المرات، يصبح لدينا المجموعة الأساسية بأكملها كمجموعة غير حاسمة، ولكن المجموعة بأكملها لا بد أن تكون حاسمة بسبب الإجماع. وهذا التناقض إنما يعني ضمنًا أن من المستحيل أن تحوز جميع الخصائص الأربع: العقلانية، والاستقلال، والإجماع، وعدم الديكتاتورية. وهكذا يكتمل الدليل.
(٥) بعض الإضافات
لعل أكثر الانتقادات وضوحًا لنظرية الاستحالة أنها لا تتيح أي دور ﻟ «قوة التفضيلات»؛ فتفضيلي (س) على (ص) له نفس أهمية تفضيلك (ص) على (س)، على الرغم من أن امتلاك (س) لا يعني أي شيء يُذكر لي، في حين أن امتلاك (ص) بمنزلة مسألة حياة أو موت بالنسبة لك. وتعد هذه إحدى عواقب شرط الاستقلال، الذي يقضي بأن اختيار المجموعة بين العنصرين (س) و(ص) يعتمد فقط على تفضيلات الأفراد بين (س) و(ع). ولهذا الشرط مكونان؛ الأول: أن اختيار المجموعة لا يعتمد على تصنيفات الأفراد بين (س) أو (ص) وعنصر ثالث، والثاني: أنه لا يعتمد على أي جانب من جوانب توجهات الأفراد إزاء (س) أو (ص) بخلاف تصنيفاتهم، ولا يعتمد — بشكل خاص — على أي قوًى لتفضيلاتهم أو منافعهم.
لقد تعرَّضنا بالفعل للتبرير الأساسي للمكوِّن الأول في سياق مثال بوردا. في ذلك المثال كان الاختيار بين عنصرين يُعتقَد أنه معتمد على ما كان في القائمة الكاملة، إلى جانب هذين العنصرين، ولكن ما تضمُّه القائمة الكاملة هو أمر مطلق. فهل ندرج السَّفَر بالحمار إذا لم نكن نعرف ما إن كان هناك أي حمير متاحة أم لا؟ هل ندرج السَّفَر باستخدام تقنية لم تُطوَّر بعد؟ إذا فعلنا ذلك، فكيف نحدد كل التقنيات التي لم تُطوَّر؟
يبدو المكون الثاني، في ظاهره، غير ذي أهمية؛ فنحن نعلم من الفصل الثاني أن التفضيلات والمنافع قابلة للتبادُل. ولا غرابة في أن نظرية الاستحالة تظل سارية إذا ما أعدنا تفسيرها في إطار المنافع دون مزيد من القيود، ولكنها لم تكن ستسري لو أننا استطعنا تقييد المنافع بطريقة من شأنها أن تجعل منافعك ومنافعي قابلةً للقياس في إطارٍ ما، وقابلةً للمقارنة إحداها مع الأخرى؛ أي لو استطعنا أن نأخذ في الاعتبار قوى التفضيلات. على سبيل المثال، يستطيع الدستور أن يقضي بأن تختار المجموعةُ العنصرَ الذي يعظم المنفعة الإجمالية. ومن السهل أن ترى أن هذا الاختيار سيكون عقلانيًّا، ويَستوفي شرط الإجماع والمكوِّن الأول من شرط الاستقلال، وغير ديكتاتوري. وتعرف هذه المقاربة لاختيار المجموعة بالنفعية: «تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس.» وكان أول مَن طرح هذه الفكرةَ الفيلسوفُ جيرمي بنثام (١٧٤٨–١٨٣٢). وسوف أعود إلى هذه المقاربة في سياق عدالة التوزيع.
إن نظرية الاستحالة ليست النتيجة المزعجة الوحيدة في مجال اختيار المجموعة. ولسوف أقدِّم نتيجتين أخريين بإيجاز. وتشمل هاتان النتيجتان الليبراليةَ والتلاعبَ.
تعني الليبرالية ضمنًا أن كلًّا منَّا ينبغي أن يكون له مجال محمي. على سبيل المثال، ينبغي أن يعود الأمر لك في تحديدِ ما إذا كنت ترغب في قراءة هيوم أو كانط خلال الرحلة، شريطة أن تَعِدَ بألَّا تناقش ما تقرؤه مع بقيتنا. دَعْنا نستعِضْ عن عناصر القائمة الثلاثة؛ الطيران والسفينة والسيارة، بالعناصر الستة التالية:
الطيران بينما تقرأ هيوم |
الطيران بينما تقرأ كانط |
السفينة بينما تقرأ هيوم |
السفينة بينما تقرأ كانط |
السيارة بينما تقرأ هيوم |
السيارة بينما تقرأ كانط |
سوف تعني الليبرالية ضمنًا أن الاختيار بين «الطيران بينما تقرأ هيوم» (ط ﻫ)، و«الطيران بينما تقرأ كانط» (ط ك)، يجب أن يكون مآله لك. وبمزيد من الدقة، سيعني هذا ضمنًا أنك حاسم فيما يتعلق بمثل هذه الأزواج من العناصر؛ بمعنى أن اختيار المجموعة بين (ط ﻫ) و(ط ك) يكون (ط ﻫ) إذا كنت تفضل (ط ﻫ)، ويكون (ط ك) إذا كنت تفضل (ط ك)، مع اشتراطات مماثلة للاختيارات بين أزواج العناصر الأخرى ذات الصلة. وكحدٍّ أدنى، تعطي الليبرالية شخصين على الأقل مجالًا محميًّا (لاحظ أنه حتى تحت وطأة الديكتاتورية يكون للشخص الواحد مجال محمي). إذن سوف أقول إن أي دستور يَستوفي «شرط الليبرالية»، ما دام هناك على الأقل شخصان حاسمان فيما يتعلق بزوج واحد على الأقل من العناصر لكلٍّ منهما. وهذا بالفعل أدنى حدٍّ؛ فأصغر عدد معتبر من الناس فقط هم من يُشترَط أن يكون لهم مجال محمي، وكل مجال من مجالاتهم يكون صغيرًا بقدر الإمكان.
إن النتيجة المزعجة تتمثل في عدم اتساق الليبرالية مع أي شيء تقريبًا؛ فما من دستور ينتج اختيارات معقولة ويَستوفي شرطَي الإجماع والليبرالية. لاحظ أن المعقولية فقط، وليست العقلانية، هي المفترضة، وأن واحدًا فقط من الشرطَين الضعيفين هو المطلوب.
أما النتيجة الثانية المزعجة، فهي أكثر عمليةً في جوهرها. من المعروف جيدًا أن الناس قد يصوتون بشكل استراتيجي في الانتخابات؛ بمعنى أنهم حتى إذا كانوا يفضلون اليسار على الوسط، فقد يصوتون للوسط لإقصاء اليمين. هل يتعلق مثل هذا التلاعب بالعملية الانتخابية بشكل محدد، أم أنه أكثر تغلغلًا من ذلك؟ لعلك تذكر أن أي دستور ما هو إلا تحديد للطريقة التي تحدِّد بها تفضيلاتُ الأفراد اختياراتِ المجموعة. أما وقد ظهرت إمكانية التلاعب، فنحن بحاجة إلى مفهوم مماثل؛ ألا وهو «نظام التصويت»، وهو تحديد للطريقة التي تُحدِّد بها تفضيلاتُ الأفراد المقدَّمة اختياراتِ المجموعة؛ علمًا بأن هذه التفضيلات المقدَّمة قد تكون أو لا تكون حقيقيةً. وأي نظام تصويتي يكون «قابلًا للتلاعب»، إذا كان هناك، بالنسبة لنمطٍ ما من التفضيلات الحقيقية، شخصٌ واحد على الأقل يستطيع الحصول على عنصر أفضل بالقائمة، بتقديم تفضيلات مختلفة عن تفضيلاته الحقيقية حين يقدم الآخرون جميعًا تفضيلاتهم الحقيقية (بالمثل، يعد النظام التصويتي قابلًا للتلاعب إذا لم يكن تقديم الجميع لتفضيلاتهم مستدامًا بالمعنى الموضح في الفصل الخامس).
تتمثل النتيجة المزعجة في أن جميع نظم التصويت، في الواقع، قابلةٌ للتلاعب. ولتحرِّي الدقة، فإن كل نظام تصويت غير ديكتاتوري قابلٌ للتلاعب. لاحظ أنه حتى الشروط الضعيفة غير مطلوبة؛ فعمليات التصويت معيبة بطبيعتها.
إذن لا بد أن تكون جميع الاختيارات الجماعية إما ديكتاتورية وإما تنتهك بعض الاشتراطات الأساسية للغاية، ولا بد ألا تكون تحررية إلى أقصى الحدود، ولا بد أن تكون مفتوحة للتلاعب. كيف ينبغي أن نستجيب لهذه النتائج الكئيبة؟ تتمثل استجابة الشخص التحرري في اتخاذ أكبر عدد ممكن من الاختيارات بشكل فردي، واللجوء للاختيار الجماعي فقط حين لا يكون هناك مناصٌ من هذا. أما استجابة الشخص المستبد، فتتمثل في تفويض السلطة لديكتاتور أبوي، أو «ملك فيلسوف»، بحسب المفهوم الأفلاطوني. ثمة استجابة ثالثة هي التركيز على ما هو «صواب»، والذي لا يعتمد على آراء الناس، بدلًا من التركيز على ما هو «جيد»، والذي يعتمد على آراء الناس. ولكن هذه مجرد ثلاث استجابات محتملة. وعليك، كالمعتاد، أن تصوغ استجابتك الخاصة.
سوف أختتم هذا الجزء بالإشارة إلى أن الإطار الشكلي للاختيار الجماعي يمكن استخدامه أيضًا لاستكشاف بعض جوانب الاختيار الفردي. لنفترض أنك بصدد اختيار مهنة: «مهندس معماري» أو «مصرفي» أو «كاهن». هناك خصائص عديدة تبحث عنها في أي مهنة: الدَّخْل، والمرونة، والإشباع. فتقوم بتصنيف المهن وفقًا لمرغوبيتها طبقًا لكل خاصية، على سبيل المثال:
الدخل | المرونة | الإشباع |
---|---|---|
ب | ﺟ | ﺟ |
أ | أ | أ |
ﺟ | ب | ب |
وتجد أن اختيارك لا بد أن يَستوفي اشتراطين؛ الأول: ضرورة أن يعتمد اختيارك بين أي مهنتين فقط على التصنيفات المختلفة لهاتين المهنتين (وهو ما يماثل شرط الاستقلال)، والثاني: أنه إذا جاء تصنيف مهنةٍ ما فوق أخرى ثانية وفقًا لجميع الخصائص، فينبغي أن تختار الأولى (وهو ما يماثل شرط الإجماع). هنا تخبرنا نظرية الاستحالة أنك إذا اخترت بعقلانية، فسوف يكون عليك أن تتجاهل جميع الخصائص عدا واحدة (وهو ما يماثل الديكتاتورية). ومرة أخرى، هذه ليست بنتيجة مرضية.
(٦) بعض الإضافات الأخرى
لا شيء ذا أهمية يتغير بمعنًى شكلي إذا دخل الزمن إلى الصورة، غير أن دخول الزمن، فيما يتعلق بمسألة التفسير، يتيح إمكانية ظهور ديكتاتور متناوب. تخبرنا نظرية الاستحالة أن الدستور الوحيد الذي ينتج اختيارات عقلانية ويَستوفي شرطَي الاستقلال والإجماع هو دستور الديكتاتورية. ولكن ما الذي يعيب الديكتاتورية؟ ما يعيبها أن الديكتاتور يمكنه قمع الآخرين جميعًا. ولكن ماذا سيحدث لو تم تناوب دور الديكتاتور بشكل لا متناهٍ؟ فلو أنك الديكتاتور اليوم، سأكون أنا الديكتاتور غدًا، وهكذا. سوف تحذر من قمعي؛ لأنك تعرف أنني قد أقمعك فيما بعدُ، وهكذا. وتسري النظرية الشعبية التي وردت في الفصل الخامس هنا؛ ففي سياق الاختيار الاستراتيجي، تخبرنا النظرية الشعبية أن التكرار اللانهائي يحوِّل المنافسة إلى تعاون، وفي سياق الاختيار الجماعي تخبرنا أن التناوب اللانهائي يحوِّل الديكتاتورية القمعية إلى ديكتاتورية حميدة. والمثال على مثل هذا التناوب يوجد في دستور الاتحاد الأوروبي، الذي ينص على أن الرئيس، الذي لديه في الواقع سلطات ديكتاتورية على أجندة الأعمال، يتم تناوبه وفقًا لدورة محددة سلفًا مدتها ستة أشهر. لاحظ أن التناوب ليس متاحًا في الديمقراطية؛ فهناك الكثير من الديكتاتوريين المحتملين، ولكن لا يوجد سوى أغلبية محتملة واحدة فقط. وبمقتضى الديمقراطية، سيكون قمع الأقلية في صالح الأغلبية دومًا. وثمة مثال على ذلك هنا نجده في المحاذير المفروضة على الرياضات الخارجية.
أتحول الآن إلى الحبكة الثانوية الخاصة بتوزيع الثروة. يمكننا، في إطارٍ شكليٍّ، التعبيرُ عن مسألة عدالة التوزيع في إطار الاختيار الجماعي من خلال تفسير عناصر القوائم المختلفة كتوزيعات مختلفة للثروة، غير أن هذا ينطوي، من ناحية التفسير، على بعض الخلط بين تفضيلات الأشخاص وقِيَمهم؛ فقد يكون تفضيلك هو تعظيم ثروتك، فيما قد تقول قيمك إن الثروة ينبغي أن توزع بشكل عادل. تعكس الاختيارات الجماعية تفضيلات الأشخاص. ومن المتوقَّع أن تعكس عدالةُ التوزيع، إن عكستْ أيَّ شيء، قيمَ الأشخاص، غير أننا إذا فسرنا مسألة عدالة التوزيع بهذا الشكل، فإن نظرية الاستحالة تخبرنا أنه لا توجد طريقة مقبولة للاختيار بين مختلف التوزيعات؛ فلا يمكن تبرير إعادة التوزيع.
لو أنني على حق في أن مقارنات المنفعة بين الأشخاص لا يمكن عقدها، لَمَا كان هناك جدوى، في اعتقادي، من تأليف كتاب عن الأخلاق العقلانية؛ فالأخلاق حينها، كما يُصرُّ هاموند وهارساني وكثيرون آخرون، كانت ستصبح موضوعًا دون محتوًى جوهري.
لعل أكثر المحاولات تماسكًا لاشتقاق منافع قابلة للقياس وقابلة للمقارنة فيما بين الأشخاص هي «نظرية المراقب المثالي»، ويرجع الفضلُ فيها إلى جون هارساني، الذي تعرضنا له في الفصل الخامس. تخيَّلْ نفسك خلف ستار الجهل الذي وَرَدَ في الفصل الرابع؛ أي في «الوضع الأصلي». أنت تعلم العناصر الموجودة في القائمة، ولكنك لا تعلم أي دور ستجد نفسك فيه. على سبيل المثال، أنت تعلم أن بإمكان المجموعة اختيار السَّفَر «جوًّا» أو «بالسفينة» أو «السيارة»، ولكنك لا تعلم ما إن كنت ستكون نفسك، أم أنا، أم مونتمورنسي، ولديك خلف الستار تفضيلات فيما يتعلق ﺑ «أزواج العنصر-الدور»؛ أي فيما يتعلق بعلاقات العناصر والأدوار. وهذا يعني أن بوسعك مقارنة «السَّفَر جوًّا بينما تكون نفسك» (أو «ﺟ ص») مع «السَّفَر بالسفينة بينما تكون أنا» (أو «س س») وهكذا، وقد تفضل (ﺟ ص) على (س س)، أو (س س) على (ﺟ ص)، أو تكون على الحياد بين الاثنين. هذه التفضيلات هي «تفضيلاتك التقمصية»، وهي ليست كتفضيلاتك الشخصية التي تقارن فيها ببساطة بين السَّفَر «جوًّا» والسَّفَر عبر «السفينة» وهكذا.
على الرغم من عدم معرفتك أيَّ دور سوف تشغله، فإنك تعرف الاحتمالات. إذن، ولِكَونك عقلانيًّا بالمعنى الذي طرحناه في الفصل الثالث، تقوم بتعيين احتمالات للأدوار وللمنافع العددية، تمثل تفضيلاتك التقمصية، لأزواج العناصر-الأدوار. على سبيل المثال، قد تعين منافع عددية كالتالي:
(ﺟ ص) | ٤ |
(ﺟ س) | ٢ |
(س ص) | ١ |
(س س) | ٠ |
يمكننا تفسير زيادة المنفعة التي تعيِّنها ﻟ (ﺟ ص) عن تلك التي تعيِّنها ﻟ (س ص) بأنها المنفعة الإضافية لك من تغيير السَّفَر «بالسفينة» إلى السَّفَر «جوًّا» وهكذا. في هذه الحالة، تكون المنفعة الإضافية لك من تغيير السَّفَر «بالسفينة» إلى السَّفَر «جوًّا» (والتي تبلغ ٣) أكبر من نفس المنفعة لي (والتي تبلغ ٢). وقد يَعكس هذا، على سبيل المثال، حقيقةَ أنك تعاني من دوار البحر، ولكنني لا أعاني منه. علاوة على ذلك، وكما نعرف مِن طرح الفصل الثالث، فالمنفعة الإضافية لك أكبر من نظيرتها بالنسبة لي مهما قمت بتعيين منافع عددية. يبدو إذن أننا قد استطعنا مقارنة منفعتك بمنفعتي بطريقة منطقية.
غير أننا لم نصل إلى هذا بعدُ؛ فمقارنة المنفعة بين الأشخاص التي عقدناها هي مقارنتك أنت؛ فهي مستمدة من تفضيلاتك التقمصية. وقد تكون مقارنة مونتمورنسي مختلفة كليًّا؛ فبناءً على تفضيلاته التقمصية قد تكون المنفعة الإضافية لك أقل من نظيرتها بالنسبة لي. وللتغلب على هذه المشكلة، لا بد أن نلجأ إلى مبدأ هارساني الذي تعرضنا له في الفصل الخامس. يزعم هذا المبدأ أن أي شخصين لديهما نفس المعلومات ونفس الخبرات سوف يتصرفان بالضرورة بالطريقة نفسها؛ فخلف الستار نمتلك أنا وأنت نفس المعلومات، فيما نتجرد من كل الخبرات، ووفقًا لذلك يكون لدينا نفس التفضيلات التقمصية؛ ومن ثَمَّ نعقد نفس المقارنات بين الأشخاص. وأخيرًا نتمكن من مقارنة منفعتك مع منفعتي بطريقة منطقية، ويمكننا استخدام تلك المعلومات للهروب من قيود نظرية الاستحالة، وقد نستطيع أيضًا استخدامها لتبرير إعادة توزيع الثروة.
وبمزيد من الدقة، يمكننا القول بأن المنفعة الإجمالية سوف تزداد من خلال إعادة توزيع للثروة من هؤلاء الذين يحظَون بمنفعة حدية منخفضة للثروة، المفترض غالبًا أنهم الأثرياء، إلى هؤلاء الذين يحظون بمنفعة حدية مرتفعة، المفترض غالبًا أنهم الفقراء، وهي الحالة التي لا تتغير فيها الثروة الإجمالية كنتيجة لإعادة التوزيع هذه (وسواء أكان هذا يقدِّم أي تبرير أخلاقي أم لا، تلك مسألة أخرى منفصلة)، غير أننا لا نستطيع بعدُ قولَ أيِّ شيء عن الحالة الأكثر إثارة التي فيها تتضمن عمليات إعادة التوزيع المختلفة إجماليات مختلفة، وهو ما سيكون عليه الحال لو أن التوزيعات قد حدثت بطريقة تتطلب مشاركتنا، وأن تمنح بعض التوزيعات حوافز أكبر للمشاركة من غيرها. وللحديث عن هذه الحالة، لا بد أن نتقدم بالقصة لمدًى أبعد.
لا بد أن نضع افتراضين آخرين؛ الأول: أنك تَعتبر كلَّ دورٍ محتملًا بنفس القدر؛ هذا يعني ضمنًا أنه إذا كان هناك عدد (ن) من الأدوار، تكون الاحتمالية التي تعيِّنها لكلٍّ منها هي (ن/١). أما الافتراض الثاني، فيُعرف ﺑ «مبدأ القبول». يقضي هذا المبدأ بأن تفضيلاتك التقمصية بشأن أزواج العنصر-الدور التي يكون دورك فيها هو دوري أنا؛ هي نفسها تفضيلاتي التقمصية بشأن العناصر المماثلة؛ على سبيل المثال، أنت تفضل (أ س) على (ب س) إذا، وفقط إذا، كنت أنا أفضل (أ) على (ب).
إذن فأنت تختار خلف ستار الجهل بشكل عقلاني بالمعنى الموضح في الفصل الثالث؛ فأنت تختار العنصرَ الذي يعظِّم منفعتك المتوقعة. وعند حساب هذا تكون الاحتمالات ذات الصلة هي الاحتمالات المعينة لكل دور، والمنافع ذات الصلة هي المنافع المعينة لكل زوج من أزواج العنصر-الدور بموجب التفضيلات التقمصية المشتركة. وبسبب الافتراض الأول، تكون هذه الاحتمالات جميعًا ن/١، وبسبب الافتراض الثاني يمكننا الاستعاضة عن هذه المنافع بالمنافع المعينة لكل عنصر يقع تحت التفضيلات الشخصية للشخص القائم بالدور ذي الصلة. إذن فتعظيم المنفعة المتوقعة يعني تعظيم المنفعة (الشخصية) الإجمالية مضروبة في (ن/١)، وهو ذاته تعظيم المنفعة الإجمالية. وهذه هي النفعية؛ ضرورة إعادة توزيع الثروة من أجل تعظيم المنفعة الإجمالية.
ثمة نقد مباشر لهذه النظرية يكمن في قابلية الاختيارات للملاحظة، على الأقل من حيث المبدأ، في حين لا يسري ذلك على التفضيلات؛ فأنت تحدد تفضيلاتك بين أيِّ عنصرين من خلال مساءلة نفسك أيًّا من الاثنين ستختار. وليس واضحًا كيف ستختار، حتى كتجربة فكرية، بين «السَّفَر جوًّا بينما تكون نَفْسَكَ» و«السَّفَر بالسفينة بينما تكون إياي». يرتبط بهذا صعوبة تبرير مبدأ هارساني. فلمَ لا يمكنك تفضيل السَّفَر «جوًّا» على السَّفَر «بالسفينة» (على سبيل المثال؛ لأنه يخلق مزيدًا من الوظائف) أيًّا كان دورك، وأفضل أنا السَّفَر «بالسفينة» على السَّفَر «جوًّا» (على سبيل المثال؛ لأنه يسبب تلوُّثًا أقل) أيًّا كان دوري؟
ربما نلاحظ أيضًا أنه حتى لو كانت إعادة التوزيع من هؤلاء ذوي المنفعة الحدية القليلة للثروة إلى هؤلاء ذوي المنفعة الحدية العالية لها ما يبررها، فإن ذلك في حد ذاته لن يبرر إعادة التوزيع من الأغنياء إلى الفقراء. فلو كان للأغنياء منفعة حدية أعلى (على سبيل المثال، بسبب الرغبة القهرية في الرفاهيات، أو — مثل رينتون — حاجة إدمانية للهيروين)؛ لَتَطلَّب ذلك إعادة التوزيع من الفقراء للأغنياء.
علاوة على ذلك، حتى لو كانت النظرية سليمة فقد كانت ستخاطب ما يختاره الأشخاص، وربما هو «جيد»، ولكن ليس ما هو «صواب»؛ فحقيقة أنها تزيد المنفعة — لو كانت تلك حقيقة — لا توفِّر في حد ذاتها تبريرًا للأخذ منك وإعطائي. ثمة رأي بديل هو ذلك الذي تَعرَّضنا له في الفصل الرابع، من أن إعادة التوزيع تكون عادلة إذا كانت نتاج أفعال إرادية، وليس أي سبب آخر.
ليس لدينا أي خيار سوى الاعتماد على مقياس مُجمَع عليه قائم بالفعل في المجتمع قيد الدراسة، إذا كنا نريد أن يتوافر معيار مشترك لمقارنة المنافع بين الأفراد؛ فمحاولة هارساني الشجاعة للدفع بأن ظروف الموقف الأصلي تخلق مثل هذا المعيار تبدو لي مفتقدة تمامًا للإقناع عند استطلاعها عن كثب.
وإذا كان هناك «مقياس مُجمَع عليه قائم بالفعل في المجتمع»، فليس هناك حاجة جمة للمقارنات بين الأشخاص؛ وإذا لم يكن، فإن نظرية المراقب المثالي تبدو قليلة النفع في تبرير مثل هذه المقارنات (قد نلاحظ بشكل عابر أنه إذا كان بينمور محقًّا على كلا الصعيدين، فإن «الأخلاق مادة دون محتوًى جوهري»).
لا بد أن تصوغ رؤيتك الخاصة بشأن حجة نظرية المراقب المثالي. فإذا كنتَ قانعًا بها، تَفْقد نظرية الاستحالة تحكمها، وأيضًا تصبح إعادة التوزيع مبررة. أما إذا لم تكن على استعداد لابتلاعها، إذن فلا بد إما أن تجد حجةً أفضل لتبرير المقارنات بين الأشخاص، وإما أن تقبل نظرية الاستحالة وتنسى إعادة التوزيع.
أخيرًا، عليك أن تلاحظ أن الطرح الخاص بعدالة التوزيع في هذا الكتاب كان معنيًّا فقط بمسألةِ ما إذا كان بإمكان نظرية الاختيار تقديم أي تبرير لإعادة التوزيع. إن حقيقة أن النظرية لا تدعم إعادة التوزيع كثيرًا لا تعني عدم وجود حجج أخرى قد توفر هذا الدعم (على الرغم من أن معظم المحاولات الجادة لتبرير إعادة التوزيع، في الواقع، كانت قائمة على نظرية الاختيار). علاوة على ذلك، الطرحُ الوارد بهذا الكتاب معنيٌّ فقط بإعادة التوزيع الإجبارية؛ فهو لا يذكر شيئًا، أيًّا ما كان، عن إعادة التوزيع الإرادية. وبالعودة إلى نقطة بدايتنا في الفصل الأول نقول: «لا يتنافى مع العقل بالنسبة لي أن أختار أن أَهلِكَ تمامًا كي أمنع أقل قدر من الانزعاج عن هنديٍّ.»
(٧) ملخص
يستطلع اختيارُ المجموعة خصائصَ الدساتير؛ أيِ الطرق التي «تؤخذ بها تفضيلات الأفراد في الاعتبار في تحديد اختيارات المجموعة.»
يقضي شرط الاستقلال بأن اختيار المجموعة بين عنصرين لا يتغير استجابةً لأي تغيُّر في تفضيلات أي فرد يترك تصنيفه لهذين العنصرين بلا أي تغيير.
يقضي شرط التعادلية بأنه إذا قام الجميع بتصنيف العنصرين (د) و(ﻫ) بنفس طريقة تصنيفهم للعنصرين (س) و(ص)، ووقع اختيار المجموعة على (د) من الزوج الأول؛ فإنها تختار (س) من الزوج الثاني.
يقضي شرط الإجماع بأنه إذا فضَّل الجميع عنصرًا على ثانٍ، تختار المجموعةُ العنصرَ الأول فقط من العنصرين.
يقضي شرط الاستجابة بأنه: (١) هناك نمطٌ ما للتفضيلات يتم اختيار كل عنصر بموجبه، و(٢) إذا صعد عنصرٌ ما لأعلى بالنسبة لعنصر ثانٍ في تصنيف أحد الأشخاص، بينما لا يحدث أي تغيير في تصنيف أي شخص آخر، وإذا كانت المجموعة قد اختارت في الأساس العنصرَ الأولَ؛ فإنها تستمر في اختياره، وإذا كانت قد اختارت كلا العنصرين؛ فإنها تختار الأول فقط الآن.
شرط التعادلية أقوى من شرط الاستقلال، وشرط الاستجابة أقوى من شرط الإجماع.
يوصف دستورٌ ما بأنه سلطوي إذا كانت المجموعة تختار دومًا العناصر التي يصنفها فرد معين (رأس السلطة) على رأس العناصر المتاحة، وتختار هذه العناصر فقط ما لم يصنِّف الآخرون جميعًا عناصرَ أخرى في المقدمة، وفي هذه الحالة تختار المجموعة هذه العناصر أيضًا.
أيُّ دستور يُنتج اختياراتٍ معقولةً ويَستوفي شرطَي التعادلية والاستجابة هو بالضرورة دستور سلطوي.
يوصف أي دستور بأنه ديكتاتوري إذا كان اختيار المجموعة يقع دومًا على العناصر التي يصنفها فرد معين (الديكتاتور) على رأس العناصر المتاحة.
أيُّ دستور يُنتج اختياراتٍ عقلانيةً ويَستوفي شرطَي الاستقلال والإجماع هو دستور ديكتاتوري بالضرورة.