رحلة أفريقيا
رحلتي لأفريقيا جاءت متأخرة، رأيت أوروبا وأمريكا وآسيا قبل أن أرى أفريقيا، مع أن قارتنا هي أفريقيا، ونحن نعيش عليها، وجذورنا ومنابع نيلنا تمتد من قلبها.
لكن عيوننا ووجوهنا كانت دائمًا تتجه نحو البحر الأبيض وأوروبا وأمريكا، وظهورنا ناحية أفريقيا، ناحية أنفسنا. حينما يدير الإنسان ظهره ناحية نفسه، حينما يخجل الإنسان من بشرته السمراء أو السوداء ويحاول أن يخفيها بمسحوق أبيض، كيف يعرف نفسه؟! كم أساء الاستعمار الأوروبي للإنسان الأفريقي حين استنزف موارده وثرواته، لكن الإساءة الكبرى كانت ذلك السهم الذي صوَّبه الرجل الأبيض إلى شخصية الإنسان الأفريقي، فأصبحت أفريقية وصمة عار وبشرته السوداء صك عبودية. وقد استغرقت رحلتي لأفريقيا ثلاثة شهور في صيف عام ١٩٧٧، وهي مدة قصيرة للدخول في قلب الإنسان الأفريقي. لكنها كانت كافية على الأقل لأن أدخل في قلبي، وأتعرف على نفسي وعلى كوني أفريقية.
إن أول مظاهر أفريقيتي هو لون بشرتي السمراء التي تتحوَّل سريعًا إلى السواد بعد بضعة أيام تحت الشمس، فإذا بي أسير في شوارع الحبشة أو أوغندة فلا يكاد يلحظ أحد أنني غريبة. وأعترف بأن ذلك لم يكن يبهجني دائمًا؛ ففي أعماقي منذ الطفولة حنين لأن أكون بيضاء مثل القشطة، ما زلت أذكر مرور السنين أنني منذ وُلِدت أدركت حقيقتين اثنتين لا شك فيهما: أولهما أنني بنت ولست ولدًا مثل أخي، وثانيهما أن بشرتي سمراء وليست بيضاء مثل أمي، ومع هاتين الحقيقتين أدركت شيئًا آخر أكثر أهمية، ذلك أن هاتين الصفتين وحدهما وبدون أي عيوب أخرى كافيتان للحكم على مستقبلي بالفشل. كان المؤهل الوحيد الذي يرشح البنت (في ذلك الوقت) لمستقبل مضمون هو أن تكون جميلة، أو على الأقل بيضاء البشرة مثل الأتراك، جدتي لأمي ذات الأصل التركي كانت حين تدللني تناديني «جارية ورور …»، ومنذ تلك اللحظة رسخ في ذهني أن الجواري والعبيد لهم بشرة من لون بشرتي، وأصبحت أخفيها بمسحوق أبيض، وأتصور أن إخفاء بشرتي إنما هو حركة نحو شيء أفضل، لكني ومع ذلك كنت أدرك بجزء آخر عميق من عقلي أن لون بشرتي هو حقيقتي، مثل كوني بنتًا، وأنني أحب حقيقتي، بل إن الحب الحقيقي الوحيد في حياتي هو حبي لنفسي الحقيقية، ورغم ذلك لم أتخلص من مساحيق وجهي تخلصًا كاملًا بعد أن أدركت قيمة عقلي، فإذا بي أملك الشجاعة لمواجهة العالم بوجه مغسول نظيف.
كنت أجلس وسط النساء والرجال الأفريقيين في «دار السلام» بشرتهم السوداء كالبن المحروق أو الكاكاو، قامتهم طويلة ممشوقة، حركتهم في السير الطبيعي تشبه الرقص، عيونهم وهم يتحدثون تشبه الغناء، وغناؤهم للحب كغنائهم للثورة، وكلمة الحرية بلغة شرق أفريقيا «السواهيلي» تشبه كلمتنا العربية «الحرية»، مع اختلاف بسيط في النطق «أهرية»، أعجبني نطقهم وغنيت معهم «أهرية»، وقالوا لي: أنتِ أفريقية مثلنا، لكنهم مزَّقوا أفريقيا، وفصلوا بين الشمال والجنوب؛ فهذه أفريقيا السوداء، وهذا حوض البحر الأبيض أو الشرق الأوسط، كأنما شمال أفريقيا ليس من أفريقيا، وكأنما هناك أفريقيا سوداء وأفريقيا بيضاء.
شعرت بالراحة معهم والتآلف مع نفسي ومع بشرتي السمراء. إن أجزاء نفسي الحقيقية تظهر وتملؤني بالثقة والفخر؛ فالرحلة إلى أفريقيا أشبه ما تكون برحلة إلى النفس، إلى أعماق النفس بقدر ما هي رحلة إلى جذورنا ومنابع النيل.
إحساس لم أدركه في رحلاتي إلى أوروبا وأمريكا أو آسيا، إحساس بعد أن عرفته ندمت؛ لأن رحلتي إلى أفريقيا جاءت متأخرة، لكني كنت كالآخرين أحلم بالسفر إلى أوروبا أو أمريكا، ولا أذكر أنني حلمت مرة واحدة بالسفر إلى أفريقيا، تمامًا مثل القناع الذي كنت أرتديه فوق وجهي على شكل مسحوق أبيض.
إحساس مريح بالتآلف مع نفسي ولون بشرتي السمراء، تآلف لم أعرفه من قبل بهذا الوضوح، لا أنسى في أول رحلة لي لأمريكا سنة ١٩٦٥ أنني توقَّفت أمام المرآة (في مدينة «رالي» بنورث كارولينا) قبل أن أدخل دورة المياه، فقد قرأت على الباب لافتة كُتب عليها: «خاص بذوي البشرة البيضاء»، وعلى الباب الآخر كانت هناك لافتة أخرى كُتب عليها: «خاص بذوي البشرة السوداء». ذلك اليوم وقفت أمام المرآة متحيرة، أيَّ باب أدخل؟ فلم يكن لون بشرتي أبيض أو أسود وإنما لون متوسط بين البياض والسواد، ولم أعرف إلى أي عالم أنا أنتمي؛ إلى عالم البيض أم عالم السود؟
وضحكت صديقتي التنزانية واسمها «باريز» وهي أستاذة اقتصاد بجامعة «دار السلام»، ولها أربعة أطفال؛ اثنان منهما حصلا على اسم الأب، والاثنان الآخران حصلا على اسم الأم؛ فالمرأة تعمل مثل الرجل وتنسب أطفالها إليها، وقالت لي «باريز»: «درست في إنجلترا سنة ١٩٥٩ وكانوا يُشْعِرونني بالنقص؛ لأنني سوداء، ولأنني امرأة، إلى حد أنني أصبحت أخجل من نفسي، ولكني تغيرت كثيرًا بعد أن درست الاقتصاد وعرفت كيف استعمرونا وخربوا اقتصادنا وخربوا نفوسنا. إني أعيش وأرى الاشتراكية تتحقق تدريجيًّا في بلدي تنزانيا، وأدرك بمرور السنين الارتباط الوثيق بين العدالة الاقتصادية وبين حرية الرجال والنساء، في تراثنا الأفريقي الأصيل نحن لا نفرق بين الرجل والمرأة، هل تعرفين أن وزيرة العدل عندنا اسمها «مانينج»؟ هل هناك وزيرة للعدل في أي بلد من تلك البلاد التي تسمي نفسها بالبلاد المتقدمة؟»
وأعطتني رقم تليفون وزيرة العدل في بيتها ومكتبها، وقلت الأفضل أن أكلمها في المكتب لا البيت، فقالت في دهشة: وما الفرق؟ وأدركت أن الناس في أفريقيا يتعاملون مع الوزراء والحكام كما يتعاملون مع الناس العاديين، فلا أبواب ولا حُجَّاب ولا تشنجات. وتحدثت مع وزيرة العدل في بيتها وسألتها: «هل أنتِ وزيرة العدل حقًّا؟ وضحكت مس «مانينج» وهي تقول: عندنا النساء في كل مجال وعندنا وزيرات غيري.» قلت لها: نحن عندنا وزيرة واحدة للشئون الاجتماعية. أما العدل فهذا لا زال في بلدنا حكرًا على الرجل وحده. تذكرت وأنا أحادث وزيرة العدل الأفريقية مقالًا كنت قرأته في إحدى الصحف المصرية العام الماضي يقول فيه كاتبه: إن هناك شروطًا يجب أن تتوافر في الشخص الذي يتولى منصب القاضي، وأول هذه الشروط هو «الذكورة».
كنت أتلفت حولي وأنا أتجول على شواطئ المحيط الهندي على ساحل شرق أفريقيا في كينيا وتنزانيا وزنجبار وجزر القمر الكبرى ومدغشقر، وأدهش لهذا السحر الذي لم أره من قبل، جبال كينيا وقمة كلمنجارو الشاهقة في تنزانيا لا تقل روعة عن جبال الهيمالايا التي رأيتها في نيبال، وجبال الحبشة الكثيفة الخضراء، وأوغندة تشبه الجنة الخضراء حول بحيرة فيكتوريا، هذا الجمال الذي رأيته في شرق أفريقيا لم أره في سويسرا، كثيرًا ما سمعتهم يشيدون بجمالها، ويتفاخرون بالسفر للمصيف في ربوع وشطآن أوروبا، مع أن شواطئ وجبال أفريقيا أكثر جمالًا وخضرة، امتزاج الجبل بالماء بالخضرة الاستوائية الداكنة، وأشجار المانجو وجوز الهند، ورائحة الزهور الاستوائية القوية، وتلك البرودة المنعشة في الجو، أكثر إنعاشًا من برودة صيف أوروبا.
كنت أظن أنني سأصطلي نارًا في أغسطس وأنا أتجول في أفريقيا تحت خط الاستواء، لكني وجدت أن الارتفاع عن سطح البحر آلاف الأقدام يحمي معظم هذه البلاد من الحرارة، ويصبح الجو معتدلًا أشبه ما يكون بجو الربيع في بلادنا مع بعض البرودة الخفيفة أحيانًا إذا اشتد الارتفاع كما هو الحال في أديس أبابا أو نيروبي.
السخونة في شرق أفريقيا في الجو السياسي، وهي سخونة طبيعية؛ فالاستعباد الطويل يؤدي في النهاية إلى ثورة ساخنة لها إيجابياتها ولها أيضًا مخاطرها، حين قلت في القاهرة: إنني ذاهبة إلى أوغندة والحبشة وشرق أفريقيا اتسعت العيون دهشة وحذرني الجميع؛ فالثورة كانت مندلعة في كل مكان، لكني صممت على الذهاب، فأنا أحب أن أكون حيث يكون الإنسان ثائرًا وغاضبًا. إن الغضب في رأيي هو الحالة النفسية المتلائمة مع هذا العصر. لا شيء يؤلمني أكثر من ابتسامة إنسان مستعبد أو استكانة شعب مستعمر محكوم بأقلية جشعة. كما أنني منذ المدرسة الابتدائية وأنا أسمع عن بحيرة فيكتوريا ومنابع النيل، وعندي رغبة مُلِحَّة في البحث عن منابعي وجذوري. كان جدي لأبي اسمه «حبش»، وبعضهم قال لي إنه كان أسمر وفيه دماء حبشية، وكانت أمي حين تغضب مني تقول: إنني ورثت بشرة أهل أبي. أليس من حقي بعد كل هذا أن أعرف جذوري ومنابعي؟ أما منابع النيل فقد وقفت في أوغندة مشدوهة أمام روعة الضفاف العالية الخضراء في «جنجا» بالقرب من «كمالا»، نقطة الالتحام بين النيل الأبيض وبحيرة فيكتوريا، وحيث أنشئ حديثًا شلال «أون» الذي يعترض المياه المتدفقة بغزارة نحو النيل.
وقفت أتأمل عنق النهر الضيق عند نقطة الالتحام من منبعه، وارتفعت يدي دون وعي أتحسس عنقي، وإحساس له رهبة غريبة ورجفة؛ ذلك أن هذا العنق الصغير الضيق هو شريان الدم في أرض جسدي. إنه عنقي، ومع ذلك فهو ليس في جسدي، وإنما هو في جسد آخر، أوغندة تموج بأعنف الهزات السياسية في عهد عيدي أمين.
وعلى هضبة الحبشة العالية وفي أديس أبابا التي ترتفع عن سطح البحر بحوالي سبعة آلاف قدم كانت الأمطار تهطل طول النهار والليل، وأدرك بحكم معلومات الابتدائية أن هذه الأمطار تحمل الري والطمي إلينا فأغتبط لصوت الرعد وأقول لنفسي: هذه المياه الغزيرة ستتدفق على أرض الفلاحين. وسمرة أهل الحبشة كسمرة أقاربي في قريتي «كفر طلحة»، وفيهم أيضًا تلك الوداعة والهدوء رغم التقاطيع الحادة التي تنقلب بسرعة عند الغضب كما ينقلب الجو فجأة من شمس ساطعة إلى برق ورعد ومطر، وفي أوغندة أيضًا ترى الملامح فيها رقة وهدوء لكنها سرعان ما تتغير عند الغضب وتصبح كالسيف أو كطلقة الرصاص.
وفي مطار «عنتيبي» حين هبطنا من الطائرة أدركنا أننا الوحيدون زوار أوغندة، كنا أربعة فقط (زوجي وابنتي وابني وأنا)، ونظر إلينا عمال المطار في دهشة واستطلاع، فمَنْ هؤلاء المغامرون القادمون إلى أوغندة في مثل هذه الفترة المتوترة؟! ونصحنا المشرفون على فندق بحيرة فيكتوريا في «عنتيبي» ألا نغادر الفندق بعد غروب الشمس.
وفي دار السلام أيضًا، وفي نيروبي وجَّهوا إلينا النصيحة نفسها: لا تسيروا في الشارع بعد غروب الشمس، إحساس دائم بالخطر لم أشعر به من قبل إلا في مدينة نيويورك، وبقدر ما يكون النهار صاخبًا مليئًا بالشمس والحركة والحيوية بقدر ما يصبح الليل مظلمًا موحشًا صامتًا يوحي بالخطر، وفي مدينة «نيروبي» في كينيا التي بُنيت على أحدث طراز تبدو المدينة نشطة سابحة في جو من المدنية الحديثة، ولكن ما إن يجيء الليل حتى تخلو الشوارع إلا من قراصنة الليل، وفي «دار السلام» وقبل أن تغرب الشمس ترى شبان تنزانيا وشاباتها يتنزهون على شاطئ المحيط الهندي، والصبية بأقدامهم السوداء الحافية يبيعون البيض المسلوق أو المانجو الخضراء، يجلس الصبية أمام المشتري ويقشر البيضة ثم يشقها بمعلقة صغيرة ويحشوها بالشطة، وكذلك المانجو الخضراء تُقْطَع بالسكين وُتَرش بالشطة، وفي المقاهي ترى النساء كالرجال جالسات فرادى أو مجموعات يشربن البيرة ويدخن ويتحدثن في السياسة، لكن ما إن تغرب الشمس حتى تخلو الشوارع من الناس، ويخيم على «دار السلام» الظلام والصمت، إلا تلك الأضواء الصغيرة المنبعثة من السفن الراسية في الميناء. وقد تصحو في منتصف الليل على صوت استغاثة مكتوم فتدرك أن أحد قراصنة الليل قد انقضَّ على فريسة. إن الخطر هنا كأي خطر في أي عاصمة أخرى مبعثه اللصوص وقُطَّاع الطرق.
ويقولون عن «نيروبي» عاصمة كينيا أنها عروس أفريقيا، فهي مدينة بُنيت على أحدث طراز إلا أنها بَدَتْ كالعروس التي ترتدي فستانًا جميلًا من الخارج، وملابسها الداخلية قبيحة. هذه الازدواجية رأيتها في عواصم البلاد غير المتحررة، أو التي تحررت ظاهريًّا فقط، والعواصم التي تشبه «نيروبي» في عالمنا الثالث كثيرة، وتذكرت «بانجوك» عاصمة تايلاند وأنا أسير في شوارع نيروبي؛ فالعمارات الحديثة هي العمارات، والسيارات الأمريكية هي السيارات، والشوارع الأسفلت العريضة هي الشوارع، والنواصي التي تقف عليها المومسات هي النواصي، وأفلام الجريمة والجنس الأمريكية المعروضة في دور السينما هي الأفلام، ومعظمها كُتب عليها: «ممنوع لأقل من ١٦ عامًا»، والإعلانات عن سجائر «كنت» وسيارات كاديلاك وسفن أب وكوكولا.
وتوقفت لحظة أمام إحدى دور السينما أتأمل طوابير الشباب الأفريقي، شباب أعزل تمامًا في مواجهة الخطر الزاحف، هذا الطوفان من الفن الرخيص. هذا الغسيل المخي الرديء، يتكرر كل يوم وكل ليلة، ليس في بلاد أفريقيا وآسيا فحسب ولكن في بلادهم أيضًا في أمريكا وأوروبا، وقد رأيت طوابير الشباب أمام مثل هذه الأفلام في نيويورك ولندن وباريس، لكن الشباب الغربي اكتسب نوعًا من المناعة ضد هذا الخطر، ربما هو الارتفاع النسبي في مستوى الحياة الثقافية والاقتصادية، أما شبابنا الأفريقي فهم عُزل، وما من سلاح يحميهم من هذا الوباء.
شاب أفريقي طويل يرتدي سلسلة حول عنقه، وقميص ملوَّن رُسم عليه قلب وكلمة: «أحب نيويورك» بالإنجليزية، يدخن سيجارة «كنت» ويمضع لبانة، وإليتاه البارزتان تهتزان داخل بنطلون «جينز ضيق».
رأيته قبيحًا، وأقبح منه مدينة «نيروبي»، وأدركت السبب الحقيقي وراء ما نسميه قبحًا، إنه التناقض بين التأنق الخارجي والفساد الداخلي، سواء في الإنسان أو في المدينة.
•••
ولم تكن رحلتي لأفريقيا سياحية؛ فالسياحة كالتكنولوجيا حكر على ذوي البشرة البيضاء من سكان «العالم الأول» الذين استطاعوا بثرواتنا أن يجدوا من المال والفراغ ما يساعدهم على التريض والمتعة والسياحة. أما نحن الذين أطلقوا علينا اسم «البلاد المتخلفة» فلم يخلفوا لنا إلا الفقر أو الإرهاق الجسدي سعيًا وراء سد الرمق، ولم يعد لنا من السياحة نصيب إلا أن نكون «المناطق السياحية» التي يأتي إليها هؤلاء البيض ذوو الوجوه المتوردة والعيون الزرقاء اللامعة، يأتون في إجازاتهم للفرجة علينا بمثل ما يتفرجون على المتاحف وحدائق الحيوانات، ويندهشون الدهشة نفسها لمنظر فقرائنا وشحاذينا.
لمحتني امرأة عجوز (من هؤلاء الأمريكيات السائحات المنتشرات في أفريقيا) وأنا أتابع حركات وجهها وهي تحملق بدهشة في وجه امرأة شحاذة يحوطها عدد من الأطفال كالهياكل، ويبدو أنني حملقت طويلًا إليها؛ لأنني سمعتها تقول لزميلها أو زوجها: «الناس هنا غير متمدينين؛ فهم يحملقون في الناس بطريقة غريبة»، وكانت تظن أنني لم أفهم ما قالت، فرددت بلغتها قائلة: «السياح هنا غير متمدينين؛ فهم يحملقون في الناس بطريقة غريبة، إلا إذا كانت هذه المرأة الشحاذة ليست من الناس في نظرك!»
هؤلاء السياح كنت أراهم بالطوابير، وعلى الأخص في كينيا حيث لا تزال المنطقة مفتوحة للمستعمرين والسياح معًا، وكلهم من ذوي البشرة البيضاء، نادرًا ما كنت ألمح بينهم رجلًا أسمر أو أسود، فإذا به يسير بينهم كالغريب، يخجل من غربته مع أنه فوق أرضه، ويتحرج من لون بشرته، ويتعثر في مشيته وكأنه في مكان لا يحق له أن يوجد فيه، كأنما المتعة أو السياحة محرَّمة عليه، أو كأن مكانه الطبيعي ليس سائرًا أو جالسًا بين السياح، وإنما واقف بطرطوره الأبيض وهم جالسون إلى موائدهم ينتظر الإشارة منهم ليتقدم بانحناءة مؤدبة.
أكثر ما آلمني في رحلتي إلى آسيا كانت انحناءة الرجل الهندي، لكن انحناءة الرجل الأفريقي آلمتني أكثر؛ فأنا أفريقية بحكم الجغرافيا والتاريخ، ويحزنني أن أرى واحدًا من أهلي ينحني لأحد. كما أن الرجل الأفريقي طويل القامة قوي الجسد يكاد يكون عملاقًا في أحيان كثيرة. وقد أغفر للقزم انحناءته لكن انحناءة العملاق تصيبني في الصميم.
لا زلت أذكر التمثال الذي رأيته في معرض نيويورك الدولي سنة ١٩٦٥. وقد رأيت في هذا المعرض الضخم مئات الأشياء العجيبة التي استوقفتني، لكن الشيء الذي بقي في ذاكرتي من هذا المعرض حتى اليوم هو تمثال برونزي لرجل أفريقي عريض الكتفين عملاق الجسد رأسه منحنٍ، ووقفت أمام هذه الانحناءة طويلًا كأنما أرى لأول مرة انحناءة رجل، وبدت القوة والذل في الجسد الواحد، تناقض عميق مؤلم.
وعرفت وأنا أتأمل هذا التمثال لماذا كنت أحزن حين أزور حديقة الحيوانات وعلى الأخص بيت الأسد؛ كنت كلما أرى الأسد داخل القفص وتلتقي عيناه بعيني أشعر برجفة، ليس انبهارًا بقوته وجبروته، وإنما بسبب الحزن الذي كنت أراه في عينيه، الحزن العميق، الحزن الحقيقي الذي لا نراه في عيون الضعفاء وإنما نراه في عيون الأقوياء حين يضعفون.
ولم أعرف حقيقة الحزن في عيني الأسد المحبوس حتى رأيت أسدًا حرًّا طليقًا لأول مرة. كان ذلك في غابة «ميكومي» في تنزانيا، وقد خرجت مع المرشد إلى الغابة لأشاهد الحيوانات المتوحشة على الطبيعة، ذلك اليوم رأيت جميع الحيوانات إلا الأسد، وبدأت الشمس تغرب وبدأنا نعود وقد خاب أملي في رؤية الأسد، وفجأة سمعت المرشد يهتف: انظري! وتجمد الدم في قلبي. كانت المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها الأسد وجهًا لوجه دون قضبان حديدية، وهمس المرشد في أذني: لا تخافي؛ فالأسد دائمًا هادئ لا يهاجم إلا مَنْ يهاجمه، وهدأت بعد أن وجدت أن الأسد هادئ فعلًا، واستجمعت كل قوتي لأنظر في عينيه، وشملني فرح غريب وانبهار يشبه فرح الأطفال حين يرون شيئًا جديدًا لأول مرة، والجديد الذي اكتشفته في لقائي مع الأسد الحر هو عيناه المليئتان بالقوة والثقة بالنفس إلى حد الهدوء، هدوء يشبه الرقة، هدوء القوي الذي يعرف أنه يستطيع أن يضرب من يضربه.
والإنسان الحر كالأسد الحر، شديد الهدوء إلى حد الرقة؛ لأنه يعلم أنه يستطيع أن يضرب مَنْ يضربه.
•••
ركبت الطائرة الصغيرة «فوكر فرنشيت» الألمانية، تشبه الأتوبيس القديم، مقاعد ممزقة، وصوت محركاتها كموتور عربة عتيقة، خُيِّلَ إليَّ أنها ستسقط من الجو، أنوار دار السلام تحت عيني، والسفن في الميناء تتألق كالعرائس، هبطت الطائرة في جزيرة زنجبار بعد ٢٥ دقيقة فقط، الجزيرة مظلمة راقدة فيما يشبه السر المغلق المجهول، في المطار أعطوني ٤ أقراص كينين وقاية من الملاريا. قالوا: إن الجزيرة موبوءة بالملاريا والفيلاريا والدرن، أما مرضى الجذام فهم يُعْزَلون في جزيرة أخرى قريبة اسمها جزيرة الموت.
حملقت في الظُّلمة وأنا جالسة في التاكسي من المطار إلى فندق «بوانا»، رائحة الهواء ثقيلة كالموت، فكرت في العودة إلى المطار لكن الرغبة في المعرفة كانت أقوى، زنجبار جزيرة العبيد، أدوس على أرضها، وأشم رائحة الاستعباد كالموت، لكني أسير. في الفندق الضخم على الشاطئ، انحنى الجرسون وحمل عني حقيبتي، انحناءة تشبه انحناءة الجرسون في فندق أوبروي، وعرفت أن هذا الفندق هو أحد فنادق أوبروي في أفريقيا، في الصباح تمددت بجوار حمام السباحة. لم أجرؤ على النزول إلى الماء، رائحة الموت تفوح من قاع الحمام ومن كل أنحاء الحديقة، همس الجرسون في أذني: حين حفرنا الأرض لنقيم حمام السباحة عثرنا على آلاف الجماجم والهياكل البشرية، كانوا يقتلون الثوار ويدفنون جثثهم في هذا المكان قبل بناء الفندق.
نهضت فورًا وحزمت حقيبتي، قررت الانتقال إلى فندق آخر. قال الجرسون: لا يوجد بالجزيرة إلا هذا الفندق، بقية الفنادق قديمة ومن الدرجة الثالثة، ولا أحد يذهب إليها خشية ناموس الملاريا والفيلاريا، وقلت: الملاريا والفيلاريا أفضل من البقاء في هذا الفندق.
انتقلت إلى فندق صغير في زقاق ضيق، اسمه فندق «أفريقيا هاوس» يطل على المحيط، البيت من الطراز الأفريقي الإسلامي، أعمدة ضخمة قوية كسواعد الأفارقة، الغرفة نظيفة والسرير تغطيه ملاءة بيضاء، رائحة القرنفل تنبعث من كل مكان وتملؤني بالانتعاش، وأصوات الغناء والطبول تملأ الجو بما يشبه الفرح، أطفال يحملون الفوانيس الصغيرة ويسيرون في الشوارع يغنون لشهر رمضان، تذكرت أطفال قريتي على ضفاف النيل، المحلات الصغيرة على جانبي الشارع كمحلات الموسكي في القاهرة، ناولني طفل فرعًا من شجرة القرنفل وصافحني وهو يقول: قريبو واجيني بانجو. ولم أفهم ماذا يقول، فتاة صغيرة تعرف العربية قالت لي: يقول لكِ: مرحبًا. الفتاة اسمها «هدى»، وهي ابنة أحد المصريين الذين يعملون مع القنصل المصري، خرجت أمها من محل القرنفل وصافحتني، اسمها «أم علاء»، ليس لها ابن اسمه علاء، لكن الجزيرة كلها من المسلمين ولهم عادات قديمة، لا ينادون الأم باسمها وإنما باسم ابنها، وإذا لم يكن لها ابن خلقوا لها ابنًا وهميًّا لمجرد أن تحمل اسمه.
أخذتني في سيارتها الصغيرة الصفراء إلى بيتها، على الجدار صورة أهرامات الجيزة وأبو الهول، وسجادة صلاة عليها صورة الكعبة. ملامحها مصرية صميمة ورأسها يشبه كليوباترا، عينان سوداوان واسعتان تمتزج فيهما القوة بالحزن، قدمت لي صينية الشاي وكعك العيد الصغير وقالت: قرأت كتبك وكنت أنوي الحضور إلى عيادتك بالقاهرة.
وقلت: أغلقت عيادتي منذ سنين.
وهتفت: لماذا؟
وقلت: لم أسترح لفكرة أن أبيع الصحة للناس مقابل ثمن محدد.
وتنهدت: أنفقت كل ما معي على أطباء النفس في القاهرة، أعاني يا دكتورة من حالة «اكتئاب»، وامتلأت أدراجي بالأقراص والحبوب المهدئة والمنومة، تركت عملي في القاهرة لأصحب زوجي في حياته الدبلوماسية، عشرون عامًا ونحن نسافر في جميع أنحاء العالم من نيويورك إلى زنجبار، «هدى» ابنتي تعيش وحدها في القاهرة طوال السنة، ولا نراها إلا في الإجازة الصيفية، أبي مات وأنا في نيويورك ولم أره، وأمي ماتت العام الماضي وأنا هنا في زنجبار، زوجي يعاني من الاكتئاب أيضًا؛ فهو يكره السادات، ويعرف أنه لا يعمل لصالح مصر، لكنه يقول العكس كل يوم حسب وظيفته الدبلوماسية.
دخلت ابنتها «هدى» في هذه اللحظة فسكتت «أم علاء» ثم غيرت الحديث.
وقالت: ماذا رأيت في زنجبار؟
وقلت: لا شيء حتى الآن إلا فندق «بوانا» ومن تحته الجماجم البشرية، وضحكت أم علاء: سآخذك بسيارتي لتري متحف زنجبار، وكان بيت العبيد.
ركبت إلى جوارها في السيارة الصغيرة، أصابعها الرفيعة حول عجلة القيادة هادئة مملوءة بالثقة، وسمعتها تقول: قيادة السيارة تعيد إليَّ الثقة بنفسي وأشعر أنني إنسانة مستقلة، عشت حياتي ظلًّا لرجل هو زوجي، وأمًّا لابن وهمي يعيش في الظل، وخلقت لنفسي عالمًا آخر أحلم فيه بالحرية كالعبيد.
تجمَّع بعض الأطفال حول السيارة وجروا خلفنا كما يفعل أطفال القرى في مصر، وجوه الأطفال ناحلة شاحبة كأطفال قريتي، يغطيها الذباب. وقالت «أم علاء»: جزيرة زنجبار فيها ثراء كثير؛ لإنتاجها الوفير من القرنفل، لكن الناس هنا لا يجدون اللحم ولا الخضروات ولا حتى الماء، كل شيء يُستورد من دار السلام، ضرورات الحياة غير موجودة فوق الجزيرة، لكن التليفزيون الملون موجود، وكماليات أخرى مستوردة من أوروبا وأمريكا.
الأطفال البنات يرتدين جلاليب طويلة ويغطين رءوسهن، البنت التي تسير في الشارع بجلباب قصير وإن كان عمرها عشر سنين فهي تعرِّض نفسها للحبس من ثلاثة أيام إلى ستة شهور، صوت المؤذنين يرتفع من فوق المآذن وميكروفونات الإذاعة والتليفزيون الملون.
وصلنا إلى ميدان صغير مربع اسمه ميدان العبيد، تتوسطه كنيسة ضخمة تشبه كنائس العصور الوسطى، ونوافذها ذات القضبان تذكِّرني بمحاكم التفتيش. من خلف الكنيسة مبنى آخر كالقصر بُني على أعمدة، تحوطه الأشجار، جدران القصر مسودة كآثار حريق قديم. كان السلطان يعيش في هذا القصر عام ١٨٩٩ وسط مائة من نسائه «حريم السلطان»، وتآمرت النساء ضد السلطان وحرقن القصر ثم هربن في الزوارق إلى المحيط، إلى جوار القصر المسمى بيت العجائب رائحة القرنفل تعبئ الجو، والساحل يتمدد حتى الأفق، أشجار جوز الهند طويلة رفيعة ممتدة من السماء، وشجر المانجو أوراقه كثيفة خضراء، يهزها الهواء القادم من المحيط، الصخور ترتفع في المياه سوداء كرءوس العبيد تتكسر عليها الأمواج، بيت العبيد كالصخرة المطلة على الزمن البعيد، والكهف الصخري في قاع البيت كان مخزنًا للعبيد يخزنون فيه كما تخزن البضاعة، ويعيشون شهورًا داخل الكهف مع الثعابين، في الميدان كانوا يسوقون الرجال والنساء بالسلاسل، وفي المتحف الصغير رأينا السلاسل الحديدية من وراء الزجاج، فوق الحديد بقع سوداء كالدم القديم.
عدنا إلى البيت بقلب ثقيل، وفي بيتها على مائدة الغداء التقيت بزوجها المصري، ورجلين آخرين أحدهما موظف اسمه «محمود» يعمل في السفارة المصرية في دار السلام، والثاني أحد الزعماء الوطنيين في زنجبار اسمه الشيخ علي محسن، وجه قوي وحزين كالأسد الحبيس، تمتزج فيه الملامح العربية والأفريقية كما امتزج العرب والأفارقة في زنجبار منذ مئات السنين، فلا تكاد تعرف الدم العربي من الدم الأفريقي.
حارب الشيخ «علي محسن» مع زملائه ضد الاستعمار الإنجليزي، ثم نالت زنجبار استقلالها السياسي وبدأت تسعى نحو الاستقلال الاقتصادي، وهنا ضرب الاستعمار ضربته متعاونًا مع السلطة في دار السلام؛ فالاستعمار لا يرى ضررًا كبيرًا في أن تستقلَّ البلاد الأفريقية سياسيًّا ما دام اقتصادها لا زال يرتبط بالسوق الرأسمالية، ولا يطيق أن يخرج بلد من قبضته الاقتصادية.
وكان في استطاعة الشيخ «علي محسن» والوطنيين في زنجبار أن يواجهوا الضربة لو أنها حدثت في النور، ولكن مذبحة زنجبار حدثت في الظلام، قُتل فيها آلاف الرجال والنساء ودُفِنُوا تحت الأرض، وحُبِسَ علي محسن وغيره من زملائه في سجون دار السلام، ومات منهم في السجون من مات واستطاع «علي محسن» أن يهرب وينجو بحياته.
أما دماء القتلى المدفونين تحت الأرض فلا تزال تفوح وتملأ الجزيرة الحزينة برائحة خانقة غريبة تشبه رائحة جريمة لم يُكْشَف النقاب عنها بعدُ، وقال الشيخ علي محسن: الإنجليز يخشون زنجبار؛ لأن الثورة كامنة. وقد تنتقل إلى تنزانيا وبلاد أفريقية أخرى، الاستعمار الإنجليزي لا زال يعمل في الخفاء في أفريقيا ومعه أمريكا.
كانت «هدى» تحرِّك مفتاح «الراديو» الصغير بأصابعها الرفيعة حين رنَّ في الجو فجأة صوت مذيع يتحدَّث اللغة العربية ويقول: صرح الرئيس المصري أنور السادات في واشنطن بأنه سيرسل جنوده لتحارب في الصومال ضد الحبشة؛ من أجل الدفاع عن منابع النيل، وضحك «محمود» المصري وقال: وحين أرسل جنوده إلى زائير كان يدافع عن ماذا؟
وردَّ «أبو علاء» المصري: يقول إنه رجل سلام ويرسل جنوده لتحارب في أرض الغير، وأرضه لا تزال محتلة بإسرائيل، أصبح مندوبًا لأمريكا للدفاع عن مصالحها في أفريقيا، ويعارض قرار ٤٩ دولة أفريقية في منظمة الوحدة الأفريقية، ويقف مع الحكومات المعادية لحركات التحرير، بعد أن كانت حُجة الدفاع عن البحر الأحمر أصبح الآن يدافع عن منابع النيل.
وخيَّم على الجميع الصمت والوجوم، وانقطع صوت المذيع في الراديو، وبدأت موسيقى أمريكية وأغنية باللغة الإنجليزية تقول: دعني يا حبيبي أقرر مصيري.
وضحك الشيخ علي محسن: دعونا يا إنجليز نقرر مصيرنا.
وقال محمود: لم أكره في حياتي مثل الإنجليز، بريطانيا هي التي أنشأت إسرائيل بوعد بلفور؛ لأن فلسطين هي خط الدفاع الاستراتيجي لمصر، ولكي تؤمن مصالحها في قناة السويس، وأعلنت بريطانيا حمايتها لأوغندة عام ١٩٠٣، وعرضت على الحركة الصهيونية إنشاء دولتهم هناك، أوغندة تسيطر على منطقة البحيرات في أعالي النيل، وبها مصب بحيرة فيكتوريا، تمد البحيرات في أعالي النيل، تمد البحيرات مصر بجزء من المياه (حوالي ٧ / ١ المياه الواردة إليها)، لكن هذه المياه ترد إلى مصر في فترة التحاريق أو فترة الجفاف التي كانت تسبق الفيضان السنوي حيث لا يكون مورد آخر للمياه، وفي عام ١٨٩٣ ذكر المهندس الفرنسي مسيو برنت أن إقامة خزان للمياه على مجرى النيل في سد على فوهة بحيرة تينانزا. أما إذا أنشئ خزان على بحيرة فيكتوريا فيمكن إغراق مصر أو منع المياه عنها تمامًا، وفي عام ١٩٠٢ جاءت إلى مصر بعثة إنجليزية صهيونية لتدرس مشروعًا آخر هو إقامة الوطن الصهيوني في سيناء، وبحثت البعثة إمكانية توصيل مياه النيل إلى سيناء عبر مواسير تمر تحت قناة السويس. كان يرأس حكومة مصر مصطفى فهمي باشا، وكان متعاونًا مع الإنجليز، وبطرس غالي وزير خارجيته الذي رأس المحكمة التي أعدمت فلاحي دنشواي عام ١٩٠٦. وقد دافع عن الإنجليز والصهيونيين رغم معارضة الشعب المصري، واغتاله أحد المصريين الوطنيين لهذا السبب عام ١٩١٠، وفشل الإنجليز في إقامة الوطن الصهيوني في سيناء.
وقال أبو علاء: وها هو السادات يحاول توصيل مياه نهر النيل إلى إسرائيل عبر مواسير تحت قناة السويس.
وردَّ محمود: ولن تختلف نهايته عن بطرس غالي عام ١٩١٠.
وخيَّم الوجوم والصمت الثقيل، والهواء أيضًا أصبح راكدًا، سرت نحو النافذة المطلة على المحيط، جزيرة الموت تلوح من بعيد، حيث يلقون عليها بمرضى الجذام لتأكلهم الضباع والثعابين، ومن بين الأشجار الكثيفة تلوح أعمدة القصر المحروق وفندق «بوانا» حيث دُفن آلاف الثوار تحت حمام السباحة، ثم ميدان العبيد حيث السلاسل والكهف داخل الصخور.
وفي الصباح الباكر حملت حقيبتي واتجهت إلى المطار، ركبت الطائرة الصغيرة العتيقة، تشبه عربة نقل الموتى السوداء، صوت محركاتها يتحشرج وتنتفض في الجو كالدجاجة المذبوحة، وفي الجو يرنُّ صوت المذيع في الراديو مرة أخرى ويقول: إن السادات سيوصل مياه نهر النيل إلى إسرائيل، ثم يرسل جنوده إلى أفريقيا من أجل حصول مصر على مياه النيل.
•••
من جزيرة الحزن والعبيد ركبت الطائرة إلى دار السلام، ومن دار السلام طِرْتُ إلى جزيرة مدغشقر، يسمونها جزيرة الابتسام، هبطت الطائرة في منتصف الطريق في جزيرة في عرض المحيط اسمها جزيرة القمر الكبرى، قطعة من الأرض الخضراء وسط المياه والأمواج والصخور، الملامح مزيج من الدم العربي والأفريقي، اللهجة غير مفهومة، مزيج من السواهيلي والعربية، ضوء القمر الأبيض ينعكس على الجلاليب البيض، شيء من السحر يلف الجزيرة، ومن وراء هذا الجمال غموض له رائحة مريبة كالتهريب.
ومن جزيرة القمر حملتني الطائرة إلى «تناناريف» عاصمة مدغشقر، يسمونها مدينة الألف محارب والألف بيت، بيوتها صغيرة بيضاء ذات أسقف حمراء مقوسة، بُنيت على التلال وبَدَتْ متدرجة تغطِّي السفوح المنخفضة والتلال العالية، ملامح الناس آسيوية تشبه الأندونسيين، القامة القصيرة والأنف المنخفض، حاربوا البرتغال والعرب والإنجليز والفرنسيين، ثم نالوا الاستقلال في يونيو ١٩٦٠، والمرأة حاربت إلى جوار الرجل، وتعمل النساء في كل مكان، ولهن ما للرجال من حقوق.
النصب التذكاري ينتصب في وسط البحيرة الكبيرة «أنوسي» تحوط البحيرة الأشجار والبيوت الصغيرة البيضاء، شاب وشابة يسيران متعانقين على شاطئ البحيرة، يقود الشاطئ إلى شارع كبير وسط المدينة اسمه شارع الاستقلال، في نهاية الشارع سوق «الزوما» وكلمة «الزوما» مأخوذة من الكلمة العربية «الجمعة» دكاكين صغيرة، وشماسي بيضاء من الزهور والفواكه والأناناس، جوز الهند، الموز، البرتقال، مهرجان من الألوان، والناس يرتدون قبعات كبيرة من الخوص والقش، يبتسمون ويتبادلون التحيات، منتجات من الفن المتقن الجميل، مزيج من الثقافات الأوروبية والآسيوية والعربية.
فوق قمة الجبل العالي القلعة، والنصب التذكاري «الروفا»، و«القصر الفضي» وقصر الملكة «رازوهيرنيا» وشجرة ضخمة اسمها «بيوباب» تأكل الأشجار من حولها، ولها جذع ضخم سميك، وليس لها أوراق. كانوا يعبدون هذه الشجرة؛ لأنها تأكل غيرها، ويقولون إن الإله هو الذي يأكل الآخرين، أي يسبب الموت للآخرين. وعبدوا حيوانًا اسمه «ليمور» على شكل سلحفاة تزحف وتأكل غيرها، والبقرة أيضًا عبدوها مثل الهنود، وحين أدركوا أنها ليست إلهًا ذبحوها في العيد، وأصبحت هي الضحية «زينو»، كخروف العيد عندنا، والبقرة هنا لها سنام كالجمل، وفي زنجبار أيضًا رأيت هذا النوع من البقر، لكن الناس في جزيرة زنجبار يعيشون الفقر والحزن، وهنا يبدو الناس أكثر مرحًا، والطبيعة أكثر جمالًا، والمرأة كالرجل، والفتيات يرقصن حول البحيرة رقصة الزهور، يبتسمن وأثوابهن ملونة بألوان الطيف. إذا كانت مدغشقر هي جزيرة الابتسام والمرح فإن زنجبار جزيرة الحزن والعبيد.
•••
في متحف دار السلام رأيت أقدم جمجمة إنسان في التاريخ، اكتشفت الجمجمة في منطقة «أولدوبي جورج» في شمال تنزانيا، اكتشفها الدكتور «ليكي»، وقدر عمر الجمجمة بحوالي مليون سنة وسبعمائة وخمسين ألف عام، منذ عاش الإنسان «زنجا تروبوس بواسي».
في الصباح زارتني بالفندق صديقتي التانزانية «زين كامل»، أمها أفريقية وأبوها من الهند، يعيشان في نيروبي حيث يملك أبوها ثلاث شركات تجارية كبيرة، هي تعيش في دار السلام وتعمل في وزارة الخارجية، ورثت عن أبيها الشعر الأسود الناعم، وأخذت من أمها القوام الفارع الممشوق.
ذهبنا إلى شاطئ «باهوري» على المحيط الهندي، يشبه شواطئ أوروبا، سبحنا في المحيط وأكلنا السمك المشوي. قالت لي وهي راقدة فوق الرمل إنها لا تحب الحياة مع أبيها؛ لأنه رأسمالي يتعاون مع الأمريكيين، وهي تؤمن بالاشتراكية ونيريري.
وجلست فجأة وهي تقول بحماس: نيريري يسعى لاستقلال تنزانيا الاقتصادي ويعارض سياسة أمريكا وإسرائيل وتعاونهما مع حكومة جنوب أفريقيا العنصرية.
واشترت الجريدة من صبي يبيع الصحف على الشاطئ، مشكلة اللحم في الصفحة الأولى، رأي يؤيد عودة اللحم إلى تجار القطاع الخاص، والرأي الآخر يعتبر ذلك عودة إلى الرأسمالية، وينادي بأن يظل بيع اللحوم في نطاق القطاع العام؛ منعًا لزيادة أسعارها أو اختفائها من السوق.
وتناقش الصحف أيضًا مشكلة المعاش؛ فالموظف يُحال إلى المعاش في سن ٤٥ سنة كحد أدنى، لكن متوسط العمر أقل من ٤٥ سنة، أي إن معظم الناس يموتون قبل أن يستمتعوا بالمعاش، ويسقط حق الموظف في المعاش إذا حُكم عليه في قضية أو دخل السجن.
نيريري يصرح في الصحف أن صورة أمريكا أصبحت قبيحة في أفريقيا؛ لأنها تساند الحكومات العنصرية، وتمدهم بالسلاح والأموال، وتشجع الحركات الدينية المتعصبة لإحداث فتن طائفية.
من غرفتي بالفندق كنت أسمع صوت المؤذن، ومن المآذن ينطلق صوت الأذان في شوارع دار السلام، وقالت لي زين: عندنا هنا حرية دينية مثل معظم البلاد في أفريقيا، وبالأمس اعتنق شاب تانزاني المسيحية وحضر تعميده أبوه وأمه، وهما مسلمان، لكن الرجال المسلمين هنا أكثر تخلفًا من الرجال الآخرين، والرجل يطلِّق زوجته بلا سبب، ويتزوج أربع نساء، والمرأة المسلمة يفرضون عليها الحجاب وعدم الخروج من البيت، مع أن النساء هنا يعملن أكثر من الرجال، والمرأة في كثير من الأُسَر تنفق على أطفالها وتنسبهم إليها، وعندنا ١٩ امرأة في البرلمان ووزيرتان: وزيرة للعدل ووزيرة للإسكان، عندنا يوم الفلاحين اسمه «نين نين» ومشاريع للتنمية الزراعية. خلال عامين من ١٩٧٤ إلى ١٩٧٦ تم نقل ١٣ مليون فلاح وفلاحة إلى قرًى جديدة، تنزانيا هي إحدى دول المواجهة ضد الاستعمار الجديد، وكانت موطن العبيد، هل زرتِ ميناء «باجامويو»؟
وأخذتني إلى هذا الميناء، يبعد عن دار السلام ٤٥ ميلًا ناحية الشمال، ميناء «باجامويو» كان هو المحط الأخير على الساحل الشرقي لأفريقيا، تقف عنده العربات التي تنقل العبيد من داخل أفريقيا إلى المركب الذي ينقلهم إلى جزيرة زنجبار ومنها إلى بلاد بعيدة مجهولة لا يعرفونها.
على الجدار حُفِرَت كلمات تقول: «هنا أترك قلبي».
قالت زين: كانت هذه الصرخة الأخيرة التي يطلقها العبد قبل أن يُنْتَزَعَ من وطنه إلى بلاد غريبة.
أقبل علينا بعض الصيادين يتكلمون لغة السواهيلي، التقط بعض كلمات تشبه العربية، أحسنت، تفضلي. أما كلمة «سوا سوا» فمعناها «بخير».
بعض المحلات بجوار المحيط، وشباب يعملون بأيديهم تماثيل بديعة من الخشب والعاج، عيونهم تلمع وأسنانهم تلمع وأمواج المحيط تضرب الشاطئ بهدوء، وعلى الجدار لا تزال الحروف محفورة: «هنا أترك قلبي»، يرمقونها فتكسو عيونهم سحابة الذكرى لماضٍ أليم.
•••
في الطريق إلى غابة «ميكومي» رأيت جبل كليما نجارو، قمته عالية ترتبط في ذهني بأرنست همنجواي. كان صيادًا يسير تحت الشمس ويكتب القصص.
أحلم ببيت صغير فوق الجبل أعيش فيه وحدي وأكتب الرواية، منذ أعوام تؤرقني الفكرة، لكن الأيام تمر والسفر يأكل العمر، لكني منذ رأيت الأسد الحر في الغابة وأنا مشدوهة إلى الغابة، وفي السيارة الجيب ركبت إلى جوار المرشد أبحث عن الأسد، غربت الشمس ولم نعثر على الأسد، رأينا اللبؤة فقط.
وقلت للمرشد: يبدو أن عدد الإناث أكثر من عدد الذكور في الأسود. وضحك قائلًا: لا، ولكن اللبؤة هي التي تخرج للاصطياد لإطعام أطفالها. أما الأسد فهو لا يطعم إلا نفسه. الأنانية صفة الذكورة دائمًا، والأنثى أقوى من الذكر في الحيوان. لا يستطيع الذكر أن يقترب من الأنثى إلا إذا أعطته الإشارة، وهي لا تعطيه الإشارة إلا في أيام معينة في فترة الحرارة، بقية الشهر أو العام تنشغل بإطعام أطفالها، وتضرب الذكور حتى لا يأكلوا صغارها. لم يحدث في تاريخ الغابة كلها أن اغتصب ذكر الأنثى من أي فصيلة. وهذا يعني أن الاغتصاب ليس إلا عمل من صنع الإنسان.
وضحك المرشد مرة أخرى، بشرته سوداء بلون الفحم، وأسنانه بيضاء، يتكلم بلغة إنجليزية، ويبدو أنه مُلِمٌّ بطبائع الحيوانات والبشر، ثم حكى لي قصة الصياد. قال: كان الصياد يسير تحت الشمس، ويرى ظله من ورائه طويلًا أسود يتحرك معه، وأحيانًا يتحرك وحده، وقال لنفسه: سبحان الله! وبدأ يخاف من ظله حين يتبعه، يتصوره رجلًا آخر يقتفي أثره، وينتهز أي فرصة لاغتياله، وأخيرًا توقَّف حين رآه واستدار بسرعة وضربه على رأسه بالبندقية، ثم حملق في الجسد الميت تتدرَّج منه الدماء، لم يكن يشبه بني آدم، صرخ: شيطان! جرَّه من قوائمه الأربعة إلى بيته، شواه على النار وأكل لحمه بشهية، ثم شعر بقوة سحرية في بدنه. قال لنفسه: سبحان الله! لا بد أنها القوة الإلهية. أطفأ النار، وحوط الجسد بعيدًا عن الذرة الجافة، ودار حوله يرقص طربًا محتفلًا بالعيد الكبير، وحوطه إخوته الذكور، وأكلوا جميعًا حتى شبعوا ثم رقصوا على شكل حلقة ينشدون أغنيتهم المقدسة: