حالة تلبس
حينما ضبط المنظر. لم يكن عميد الكليَّة هو الذي غضب والتهبت الدماءُ في عروقه، ولكنَّه الطفل الذي وُلِد وتربَّى في «سوهاج» ومنذ أن بدأ يعي فهم أنَّه قد يكون مباحًا للرجل وعيبًا للشباب ومحرمًا تحريمًا قاطعًا على الأطفال ولكنَّه للنساء جريمةٌ، أكثر من جريمة، قد يوازي هتك العِرض، فما بالك وهي ليست رجلًا ولا طفلًا ولا حتَّى سيِّدة ولكنَّها فتاةٌ، بنتٌ لا تتعدَّى السابعة عشرة بأيِّ حالٍ.
وحين وصل الغضب قشرة العقل المُكتسَبة، وانفعل العميد الذي فيه، كان أكثر ما ضايقه أنَّها لا بدَّ في السنة الأولى، طالبةٌ جديدة، يعني بالأمس فقط كانت طفلةً في ثانوي.
ورغم كل غضبه لم يتحرَّك إلَّا حينما تحرَّك الوالد الذي فيه وتململ، وأدرك كالمدهوش، أنَّها تكاد تكون في سنِّ ابنته «لمياء»، حينما فقط استدار مغادرًا النافذة في طريقه إلى حيث أزرار الجرس الموضوعة في مكانها الخالد الذي يَتوارثُه العمداء فوق المكتب.
وربما لو كان في الحجرة أحدٌ .. أستاذ أو لجنة أو حتى لو كانت في انتظار مقابلة كائن ما لكانت الحركة قد اكتملت وكانت يده حتمًا قد وصلت إلى الزر. والساعي المرابط أمام الباب حضر والفصل لأسبوعٍ أو لأكثر من الكلية أو حتَّى الزجر والضرب قد حدث.
ولكنَّه كان وحده في حجرة العميد الواسعة المهولة ذات النافذة الجانبيَّة الضيقة. والحجرة تغري بالتريث، والنافذة الضيقة تغري بتدقيق النظر وفي حالته كان الإغراء كبيرًا بإعادة النظر.
وعاد إلى استمرار النظر.
الحجرة في دورٍ أوَّل لا يرتفع عن الأرض قليلًا. والفناء الخلفي الذي تطلُّ عليه النافذة الجانبية خالٍ تمامًا من الطلبة فهو في العادة مكانٌ غير مرغوبٍ من الطلبة، والساعة اقتربت من الثالثة. واليوم الدِّراسي انتهى، ولولا مراجعة جدول الامتحان لما كان هو نفسه قد بقي إلى هذا الوقت ولما قام من النافذة منهكًا يتثاءب ويتمطَّى ويأخذ فكرة عن الجو بالخارج. ولما شاهدها، تلك الطالبة الصغيرة التي ما إن بدأ عقله يتساءل عمَّا أتى بها إلى هذا المكان المهجور، وبعد انتهاء الدراسة، حتَّى كان الغضب قد اجتاحه. وجدها بكل بساطة وتحت أنف نافذته تُخْرِج — بل أخرجت فعلًا — علبة سجائر من حقيبة يدٍ مُستطيلة ضخمة، وعبثت بكراريس المحاضرات المختلطة بأدوات التجميل قليلًا، وما لبثت أن أخرجت علبة كبريتٍ أيضًا.
طالبةٌ. واضح تمامًا أنَّها لا بدَّ في السنة الأولى. تُدخِّن وتحمل معها في الحقيبة علبة سجائر وعلبة كبريت؟!
هكذا من النظرة الأولى تفجَّر الغضب.
ولكن النظرة التالية كانت نظرةً مذهولة يستبعد تمامًا أن يُصدق أنَّ شيئًا كهذا يُمكن أن يَحدث، مؤجلًا التصديق إلى أن يراها فعلًا وهي تُدخِّن .. خاصةً والفتاة كانت لا تزال مُمسكةً السيجارة في يدٍ والكبريت في يد أخرى، وكأنَّما لم تُقرِّر بعدُ ماذا تفعل بشأنهما.
وتأمَّلها العميد، كانت طالبةً عادية، لا يُمكن إذا رآها في مجموعة أن تستوقف النظر، شَعرها مهوش على طريقة الجيل الجديد في الأناقة، وعيناها ذابلتان، لا بد من المذاكرة والسهر، متكئة، تكاد تكون مستلقية — بعد يوم مُتعبٍ حافل — على الأريكة التي لا يستعملها أحد، ولكن شبابها الفائر يكاد يقفز من وجنتَيها المحمرتين رغم قمحية بشرتها، ومن جسمها البارز في أكثر من مكانٍ من ملابس الطالبة الرخيصة التي ترتديها.
وبوغت العميد حقيقة وهو يَلحظ فجأةً أنَّها بأصابع اليد الواحدة .. أصابع تُلوِّن سبابتها آثار الحبر، قد فتحت علبة الكبريت، وباليد الأخرى، بيدٍ ثابتة لا اضطراب فيها ولا خوف، وبحركات تلقائية ليس فيها من مجهود الإرادة شيء، ثبَّتت السيجارة في فمها وأدارتها دائرةً كاملة بين شفتيها، وكأنَّما لتبلِّل — كالمدخنين العتاة — فمَها (الفلتر)، وبنفس التؤَدة والتلقائية، وبضربةٍ لا أثر للتدبير فيها، أشعلت العود ولم تقربه من السيجارة في الحال، أهملته بين إصبعها قليلًا، وكأنَّما تستمتع برؤيته يحترق. ثم ما لبثت ببطء، ودون أن تنظر، وبعينين هائمتَين في جدار الفناء البعيد، أن قرَّبت العود بحيث لامست شعلته طرف السيجارة دون أن تحيد يمينًا أو يسارًا، وكأنَّما يدها مدرَّبة على الطريق. وجذبت نفَسًا واحدًا اشتعلت بعده السيجارة. وبالدخان الخارج، بعد ابتلاعه، من فمها، أطفأت العود، ثم ما لبثتْ أن ألقته في إهمالٍ غريب فوق عشب الممشى القريب.
وجُنَّ جنون العميد، إنَّها مُدمنةٌ داعرة الإدمان أيضًا، إنَّه هو نفسه يدخن ولا يفعل شيئًا كهذا، إنَّه يشعل سيجارة كلشنكان ويدخنها كيفما اتَّفق، ولكن هذه، متى وكيف وفي أي بؤرة فسادٍ تعلَّمت كل هذا. إنَّها حتى لا تُشعل الكبريت كالنساء التي قرأ مرةً أنَّهنَّ يُشعلن العود من الناحية البعيدة خوفًا غريزيًّا من ناره على ملامحهن وشَعرهن، وفقط بعد الاطمئنان إلى شعلته بعد خفوتها يجرؤن على تقريبه منهن، أمَّا هذه اﻟ… الطالبة، طالبة أولى هذه .. لا تخاف العود ولا النار، ويبدو أنَّها لا تخشى شيئًا في الوجود .. إنَّها لا يُمكن أن تكون في السابعة عشرة .. سن ابنته .. لا بدَّ أنَّها أكبر بكثيرٍ .. بسنتَين لا بد، أو حتَّى بأيام .. إنَّها جرثومة، إنَّ الفصل أسبوعًا واحدًا لا يكفي أبدًا .. الرفد النهائي هو ما يجب عمله، لا أقلَّ من الرفد النهائي.
ولكنَّه لم يعرف كيف حدث هذا، فقد وجد شيئًا أكبر بكثيرٍ من كل غضبه وكل حماسه للضغط على الجرس واستدعاء الساعي واتخاذ بقيَّة الإجراءات، شيئًا أجبره على أن يقف في مكانه لا يتحرَّك وينتظر ويعاود الرؤية.
ورفعت الفتاة يدها إلى فمها مرةً أخرى، ولكنَّها انتظرت قليلًا بفم السيجارة قريبًا من فمها، ثم بدا وكأنَّ الوقت قد حان، وهكذا ببطء لا تلكُّؤ فيه أسبلت جفونها حتَّى كادتا تُغلقان تمامًا، ثمَّ ضمَّت شفتيها حتَّى ضاقت الفتحة بينهما وتكرمش غشاؤهما، ومن الفتحة الضيقة أدخلت فم السيجارة، وجذبت نفَسًا، لا لم يكن جذبًا، كان امتصاصًا، ليس امتصاص دخان، لكأنَّه رشف أعظم سعادات البشر، رشفة ببطء وباستعذاب وبملايين الأفواه، كل خليةٍ من خلاياها بدت وكأنَّما أصبح لها فم تجذب به وترتشف ويتموَّج جسدها كلها تموجًا غير منظور، وعلى دفعات وكأنَّه عطشان يجرع أعذب الماء ويُريد أن يَستمتِع بكلِّ قطرة من قطراته، حتَّى إذا ما بدا أنَّ كل دقيقة فيها قد أخذت كفايتَها وظفرت بسعادتها الخاصة، رفعت السيجارة عن فمها ببطءٍ وكبرياء، وعينَين قد فُتحتا ببخلٍ شديد، وكأنَّها تخاف أن تهرب من فتحتيهما النشوة.
واستحال غضب العميد إلى لحظة صدمة مفاجئة تكاد تتحوَّل إلى ذعر .. خوف شديد أن يستمر في الرؤية، خوف الخائف على نفسه هو من استمرارها، والفناء بدا له كالبقعة المهجورة المقطوعة عن العالَم، يحفل بسكون، وزمتة، ورائحة ربيع مقبلٍ مخيف، وقرب أيام نهاية العام والامتحان، والفتاة كأنَّها جنية من جنيات الظهر، انشقَّت عنها خرابة الفناء فجأةً، متكئة — تكاد تكون مستلقيةً — فوق الأريكة ذات الحديد المتراكم فوقه الزمن والصدأ، الناقص مقعدُه خشبة الوسط.
وبرهبة المذهول هذه المرة راح يترقَّب كيف تُخرج النَّفَس .. فمها المضموم أبقته مضمومًا هنيهةً، ثمَّ فتحته نصف فتحة، وبحركة فيها كسل أنثوي ضاقت له عيناه راحت توسِّع من فتحته قليلًا قليلًا، في نفس الوقت الذي كان صدرها قد بدأ يتَّسع وكأنَّها بسبيلها إلى التنهُّد حُرقةً ولوعة، ربما على فراق تلك السحابة الدخانية الصغيرة التي فجَّرت في جسدها المستلقي تعبًا واسترخاء حيوية وأضافت إلى صباها صِبًا يتسع حتَّى ليجذب الدخان إلى أعمق أعماقها، ليُلامس أقصى أرجائها وليلتقي بكل جزءٍ من صميم صميمها لقاء الوداع. وفي نفس الوقت الذي يعود فيه الصدر إلى وضعه الطبيعي وحجمه، يكون الدخان هو الآخر قد بدأ يخرج، من الشفتين المنفرجتَين أضيق أوسع انفراجٍ .. تخرج دفعاته الأولى مرسَلةً على سجيتها دون ضغطٍ أو إكراه، تصنع دوائر لولبية وضبابات ثم تتلوها الدفعات الخارجة بالإرادة متأنِّية موجهة قد شحب دخانها وتغيَّر لونه وكأنَّما امتصَّت منه كل النضرة والحياة.
قطعًا لا بدَّ من فصلها. في منتصف السيجارة تمامًا والجريمة سيدقُّ الجرس ويهمس إلى الساعي ويذهب الرجل ويطبق عليها وساعتها سيعرف اسمها ويفصلها.
ذلك كان قراره، ولكن ما ضايقه في الحقيقة أنَّه بدا وكأنَّه قرار شخصٍ آخر، بعيدًا جدًّا، ذلك البُعد الذي أصبح بين عقله وإرادته، إرادة لا يدري لماذا هي رخوةٌ لا تستطيع أن تنفذ أمرًا وكأنَّما هي واقعةٌ تحت تأثير مخدرٍ سخيف ملعون لا يعرف كُنْهه، إدارة لم تعد تستطيع أن تفعل إلَّا أن تنظر وتستمر تنظر.
وأخذت الفتاة نفَسًا آخر، وهذه المرة أخرجت دخانه من فمها وأنفها معًا، أنف فتحاته صغيرة دقيقة كأنَّها براعم، فتحاتٌ يخرج منها الدخان باهتًا معتصرًا ليصطدم بالدخان الخارج من الفم الضيق المضموم المكرمش.
وأحس العميد بأشياء داخله تتنبَّه. وتلفحُه سخونة ليس مبعثها الجو .. وبسرعة في دقات القلب لا علاقة لها بمرض الضغط.
وتوالت الأنفاس، وفي كل مرةٍ تجذب النَّفَس على مهلها وبتلذُّذ سعيد تنغلق له عيناها، وكأنَّ شفتيها المضمومتَين على فم السيجارة تَبتهلان لشيءٍ أو ترشفان شيئًا، رحيق السعادة ربما أو إكسير الحياة ويسترخي جسدها ويتدغدغ للنَّفَس ثم تبدأ عملية الإخراج، وتفعل هكذا كله باندماج شاملٍ تامٍّ وبلا إرادة .. وبطبيعية لا تكلُّف فيها ولا اصطناع، والأنفاس تتوالى ويستحيل ما يحسه العميد إلى تيار غريب يجوب جسده كله مع كل نفَسٍ، ولا يوقظه من تعب يوم أو إنهاكه ولكن يوقظ أجزاءه وأجهزته من رقدة عمر طويل، ويمحو هكذا في ومضة آثار سنين وأمراض ومشاغل وحياة تصلَّبت وجفَّت واستحالت إلى دربٍ ضيق محدود، من ناحية منه زوجة جفَّ منها ماء الحياة ولم تعد تفعل إلَّا أن تُناكف وتُضايق، وفي الناحية الأخرى عملٌ وروتين لا جدة فيه ولا أمل. وصراعٌ، وما بينه وبين رئيسه مدير الجامعة من حزازات، وهو كالبندول رائحٌ غادٍ بينهما، الكلية تدفعه إلى البيت والبيت يدفعه إلى الكلية، بندول عجوز مصاب بأكثر من مرضٍ ووجعٍ وفي صدره أحقادٌ.
ومنتصف السيجارة الذي كان قد حدَّده وصلتْه الطالبة، ولكنَّه كان في حالٍ لم يعد يعرف إن كان ما يحسُّه سخطًا أم إعجابًا أو إن كان انفعاله انفعال نشوةٍ أم اشمئزاز، كل ما أصبح يفعله، حتى ولو لم تُرضِ إرادته، أن يظل يرى الفتاة ويُراقبها .. جسده نفسه، عيناه، أنفاسه، لسانه الذي بدأ يجفُّ في حلقه، ساقاه اللتان شدَّت عضلاتهما واشرأبت، كلها تراقب، كلها مع الفتاة وسيجارتها في التحام لا يُمكِن فصله أو إنهاؤه، التحام متواصل حي ينبض نفس نبضها حين تطبق بفمها الضيق على فم السيجارة وتجذب وتدوخ بالنشوة ثم حين تفتحه نصف فتحةٍ أو بأنفها أو بهما معًا تخرج اللوعة والحرقة والنفحات الهاربة وفي أعقابها تلك التي تدفعها لتَخرج برفقٍ وحنان وتؤدة .. نبض متوالٍ مُتسارع، والتحام ذو حرارة مستمرة متزايدة تتصاعد إلى أعلى مراتب عقله وتذيب، تذيب أشياء كثيرة، تذيب أفكارًا تحجرت كالمومياء المصبرة وأصبحت حكمًا وعقائد، وتفتح مناطق حاصرتها التقاليد وعزلتها، وتفد الأفكار بسهولة وتنطلق بسهولة ويبدو المستحيل مُمْكِنًا، ولماذا الحرس والساعي والتأنيب والفصل؟ ألأنَّها تُدخِّن وسنُّها سبعة عشر عامًا ولأنَّها طالبة، وما الفرق بين أن تدخن وهي طالبة وتُدخِّن وهي خريجة وكله تدخينٌ في تدخين، ولماذا نحرِّمه على جسد شاب فائر، ونُحلِّله لسيدة أو لعجوز تسعل وتكح وتبصق كلما جذبت نفَسًا، أليس هو قائل نفس المبادئ وهو في العشرين والثلاثين حين كان في بعثته يرى أنَّ مشكلة مجتمعه الأساسية أنَّ أفراده يحيون في عصر بتقاليد قرون مُظلِمة مضت، وأنَّ بلاده لا يُمكن أن تصل إلى أي تقدمٍ علمي أو صناعي أو حضاري إلَّا إذا تمَّ التحرر وعاش الناس فيه بتقاليد عصرهم نفسه وقيمة وأنواع حرياته .. بإعطاء أفراده حتَّى حرية الخطأ وألَّا نمنعهم بالنصح والزجر عن خوض التجارب ونورثهم صوابنا نحن وخطأنا، بل نتركهم لكي يستخلصوا هم من تجاربهم ما يرون أنَّه الصواب وما يرون أنَّه الخطأ.
وبدأ جسد الطالبة الصغيرة يتململ ويتلوَّى، ونهمها إلى جذب الأنفاس يشتدُّ ويتلاحَق وكأنَّ في داخلها تحفر فجوات هائلة تُحدث فراغاتٍ سريعةً مذهلة تطلب الامتلاء، لا بالدخان ولكن بالمتعة الحادثة من حريتها في أن تنفرد بنفسها وبالسيجارة، وتمتص منها ما تشاء، وتبتلع ما تشاء، والعميد يحسُّ بجفاف ريقه يزداد وحنجرته تتَّسع وتزداد قدرتها على الرنين، وكأنَّها تستعدُّ لإطلاق صرخة العمر، وعرق غريب ذو رائحة نفَّاذة لم يشمها من سنين ينبت تحت إبطَيه، وعرق آخر أكثر غزارةً يُبلِّل وجهه ويضبب زجاج نظارته، حتى ليخرج منديله بسرعة المحموم ويَمسح زجاجها لكي لا ينقطع أبدًا إبصاره. والدنيا حافلةٌ بمؤامرة صمتٍ تام، سكون غريب لا يُمكن أن يكون إلَّا بفعل قوة خارجية قاهرة، سكون مُركَّز في تلك البقعة من الفناء الخلفي، سكون ليس خارجه سوى العدم، سكون عالم خالٍ من الحياة تمامًا ليس فيه حياة سواه وسواها، هي في أقصى درجات الاستمتاع، وهو في أقصى درجات الانفعال .. وبينهما، تفصلهما تمامًا، وتربطهما تمامًا، تلك السيجارة. والحياة تبدو حلوة جدًّا، كل لحظة فيها عمر بأكمله، وإرادته قادرة على اكتساح الجبل، ولا شيء في الوجود مستحيل، ولن يرضى بأقل من أجمل وأغنى بنات العالَم زوجة له، وخمس سنوات فقط يصبح فيها أعظم علماء مصر، بل الشرق والغرب معًا، وماذا تكون جائزة نوبل مكافأة له. وحقيقة ما هذه الحزازات بينه وبين المدير أليس هو أكبر منها وأقدر بكثير، ولماذا الحزن والمرارة لكل ما فات والآتي أروع منه بكثيرٍ ولماذا التعنُّت مع أستاذ القسم المساعد، لماذا لا يُعطيه الفرصة، إنَّه شابٌّ ومن حقِّه أن يَطمح إلى كرسيِّ الأستاذ .. المشاكل نحن نخلقها حين نفتقر إلى التفاؤل، والتفاؤل هو الإرادة، وبالإرادة القوية تصبح الحياة كالبساط الممهد، بساط الريح .. عشْ واضحكْ وامرح واطلب القمر يأتِكَ .. أرِدْه إرادة قوية حقيقية يأتِكَ .. وكله .. كل ما في الحياة آتٍ لا ريب فيه.
واقتربت السيجارة من نهايتها، وتلاحقَت أنفاس الفتاة في صعود القمة، ومضى جسدها يتهدَّج، وقد أصبح كله صدرًا يلهث، وشفاهًا بدأت من الجرعات المتلاحقة ترتعش وتضطرب، اضطراب الحُمى، حمى شملته هو كله .. والينبوع الخفي فيه يتفجَّر بأقصى قوته ويصل به إلى قمة الانفعال تلك التي ينتفي معها الزمن، ولو للحظات يتوقف الزمن، يغرب إلى ما وراء الإدراك، ويصبح الحاضر مجرَّد لونٍ، لون أحمر مدمَّم في لون الشفق.
وأخذت الفتاة، من السيجارة التي كادت نارها تحرق الأصابع، نفَسًا، كآخر شهقة ثم سكنت تمامًا، وكأنَّما غابت عن الوجود. ومن بين إصبعَيها اللذين انفرجا استرخاءً انفلتت بقية السيجارة واستقرَّت ذابلةً ممصوصة مغضنة على الأرض.
وأحسَّ العميد بعد الرعود والانفجارات والحُمى بسلامٍ مفاجئ ممتد كأنَّه سيبقى إلى الأبد، يشمله ويجعله يتمنى أن يكف الكون عن حركته لتبقى اللحظة في ديمومة لا تنتهي.
ولكن الديمومة انتهت، فلأمرٍ ما بدَت الفتاة وكأنَّ العيون المستترة التي تحسُّ الخطر دون أن تراه قد أدركت شيئًا فقد ضمَّت جفنيها بشدة ثم فتحتهما على آخرهما ليلتقيا، هكذا، كالطلقة المصوبة بدقةٍ، بعينَي العميد في تطلُّعهما من خلف زجاج النظارة.
وللأزمُن التقَتِ النظرات، ولكنه لم يكن لقاءً ولا وقتًا، ولا شيئًا يُقاس، كان ارتطامًا، سقوطًا من حالق ربما، ماءً باردًا كالثلج، برودة الواقع الذي ترتجف لهوله المدارك، الثلج الصاعق.
وتكهربت النظرتان بخجل، لا قِبَل لأيِّهما به، خجل سريع مغور جارح.
وفي جزع هائل انتفضَت الفتاة جالسةً، وقد غاص قلبها، وبيدٍ ترتجف بالرعب دلقت كل محتويات حقيبتها لتستخرج في لمح البصر كتابًا، تعود معه تنكبُّ، كالطالبة المُجتهِدة على صفحاته.
وكانت حركته ليعود عميدًا أبطأ .. ممزوجة بخجل أعظم وبتأنيب أشد هولًا، وتحرك خافض البصر طويلًا نحيلًا عجوزًا محنيَّ الأكتاف حاملًا متاعب الدنيا كلها من جديد، وليس في رأسه واضحًا سوى الواجب، وما لا بدَّ من عمله .. والدائرة البيضاء الملساء الصغيرة فوق مكتبه، والعقاب.
وبإصبع عادت إليها كل عصبيتها، وكأنَّما تمتد من صدرٍ ضاق بالدنيا، ضغط على زر الجرس.
ولكن إصبعه كانت لا تزال بها بقية من ارتعاش، ارتعاش ليس الكبر أو الضغط سببه