لأنَّ القيامة لا تقوم
إنَّه يريد مرة أخرى أن يسمع، ويرهف السمع، فما يدور مهم، أهم شيء في حياته يدور، وراديو الجيران .. الحائط في الحائط، صوته عالٍ كأنه يؤذن، ومن بعيدٍ يأتي صراخ الأطفال الذين لا يزالون يقظى. الدبة وقعت في البير وصاحبها راجل خنزير. هل وقعت حقيقة؟ وهل هي مستكنة الآن في البئر؟ وهل صاحبها خنزير سمين ملظلظ كأبي السباع إسماعيل؟ إنَّه يريد أن يسمع ويرهف السمع، فهي، أمامه ترقد الآن فوقه تمامًا، أو لا بد كذلك، فالمرتبة تنبعج من بين ألواح «المُلَّة» الخشبية، ولكن انبعاجها شديد، وأمه خفيفة .. فلماذا الانبعاج الشديد؟ كان هذا زمان، حين لم يكن يسمع سوى الهمس، العشاء .. وابتسامتها السعيدة تغرقهم والطبطبة الحنون، ثم صوتها المتثائب قوموا يا أولاد ناموا .. الدنيا اتأخَّرت، وكالدجاج المطيع تُدخلهم. ترفع داير السرير الأبيض وتدخلهم تحته؛ فالبيت حجرة واحدة، ومكانه المفضَّل بجوار الحائط في الصيف؛ فالحائط بارد؛ يلصق نفسه ويَلمس عليه بساقه العارية فيستمتع وكأنَّه يجرش قطعة ثلج، ويمضي الصيف ويأتي الشتاء، ويُغيِّر مكانه إلى الحافة، وطوال العام هناك البقرة التي لم يَسمعها بوضوح أبدًا؛ لأنَّه حين يصحو على وقعها الخافت، تكون قد لفت، وتكون القهوة قد شطبت ونورها الكهربائي الوهاج قد انطفأ وأظلم الشارع تمامًا، والباب يُزيِّق قليلًا كُلَّما فتح، وحين يفتح يسمع الهمس، الهمس والظلام، لا شيء سوى الظلام التام، ونقر كنقط الماء المتساقط من السقف بعد انتهاء المطر، همس همسة أو همستَين كحفيف قميص نومها، أو لعله حفيف القميص يبدو كالهمس ثم يسود السكون .. وتصعد أمه فوق الفراش، فهي وحدها تنام فوق السرير، والسرير واسع يكفيهم جميعًا، ولكنها تصرُّ، من زمن من أيام أبيه حتى أن يَناموا جميعًا أسفل السرير، حتى حين كبروا وبدءوا التململ والشكوى، وقال إنَّ رءوسهم تخبط في «المُلَّة» رفعت أرجل السرير فوق قواعد، وأحضرت نجارًا خصيصًا ليُطيل من قوائم المُلَّة، حتى ليصبح ما تحت السرير وكأنَّه حجرة ضيقة حقيقية يلذ له فيها وهو الطفل، والأطفال مغرمون بالعشش والمخابئ وأمكنة الاستخفاء، اللعب والرقاد. وكثيرًا ما شكَّلها بخياله، وتصوَّرها خيمة أعرابي في الصحراء، أو خندقًا في باطن الأرض، أو مقام شيخ من أصحاب الكرامات .. وبرغم هذا كله كان دائمًا ينقصُه شيء، فكم من مرة اشتاقَت نفسه أن ينام في حضنها، وأن تضمَّه مثلما كانت تفعل وأن تسمح له مرة أن ينام معها هناك حيث المرتبة اللينة والملاءة النظيفة .. وفي الليل، في عزِّ الليل، كان أحيانًا يدَّعي المرض. وبصوت مسموع يَتأوَّه، ولا من أحد يسمع، فإذا سمعت أو ضاقت بآهاته سألته بصوت غير عالٍ ولكنَّه مملوء بالوعيد والتأنيب .. مالك يا براهيم، فلا يجرؤ حتى على أن يواصل الادِّعاء، ويخرس تمامًا وكأنَّما تأوهه كان مجرَّد التماس على استعداد لسحبه فورًا واستنكاره لحظة أن يلمح أن التماسه لم يَلقَ الترحيب. الظلام والحفيف والهمس، ثمَّ الأرق الذي يَنتاب أمه على أثرها، وكأنَّما سببه هذا النفس الغريب الذي يحس به قد ملأ الحجرة لحظة أن فتح الباب، أرقٌ لا يستقرُّ معه قرار، فتظلُّ تتقلَّب وتتحوَّل، حتى إنَّ لوحًا من «المُلَّة» سقط على ساق أخته ياسمين، ذات ليلة، وجرحها وصرخت، وصرخ هو الآخر، وحين لم تستجبْ أمه في الحال؛ أصيب بالذعر، فظلَّ يصرُخ إلى أن نام مضروبًا. لا بد أنَّه لم يكن أرقًا، لا بد أنَّه كان شيئًا آخر، منذ متى بدأ يعي هذا الشيء الآخر، بالتأكيد ليست الليلة هي المرة الأولى، أول مرة وعى كانت ليلة العيد، كانت قد أخرجتهم من الحجرة لتستحم، وحين دخلوا عليها بعد هذا، وشَعرها مبتلٌّ وهي تنفضه لتُجفِّفه، وقميصها النظيف مفتوح .. وصدرها — لأول مرة في حياته يدرك أنَّ لأمِّه صدرًا. فلقد رآه ورأى نظرتها وأحسَّ في التوِّ وكان شيئًا في نظرتها يحف به نفس الحفيف المريب، وكأنَّما الدنيا تظلم والهمس يعود صادرًا من عينيها ملحًا ومشيرًا إلى صدرها. ووجد نفسه لا يجرؤ على الاستمرار، وانطلق يجري إلى الخارج والأولاد، حيث الدبَّة التي وقعت في البير، ولعب ولعب ولعب، حتى امتلأت عيونه بالتراب، وامتلأ رأسه بالتعب، وداخ وعاد .. ودقَّ الباب، ودقَّ ولم يفتح له أحد .. وجاء الصوت، صوت أمه، المليء بالوعيد، ما دام اتأخرت، نام على العتبة .. نام على العتبة فعلًا، وكأنَّه ينتظر الأمر بفارغ الصبر، ولكنَّه حين استيقظ في الصباح وجد نفسه مكانه تحت السرير، وكانت هي .. أمه إلى جواره .. وحين رأته يستيقظ احتضنتْه وقبَّلته، وقالت له كل سنة وأنت طيب يا براهيم. واستكان لحظتها وهو أسعد أهل الدنيا، كل ما كان يضايقه هو رائحة صابون الاستحمام التي كان يشمها، صادرة عنها، مقترنة — لا يدري لِمَ — بإحساس مخجل محرم، وكاد أن يبدأ يتقلَّب في حضنها ويتدلَّل عليها، ويُمسك يدها ويلفها حول رقبته، ثم يلعب في أصابعها السمراء من الخارج القمحية من الداخل، ويُقبِّل كفها، ثم يُقبِّل كل أصبع من أصابعها على حدة، من عمر طويل لم يفعل هذا، فمن عمرٍ طويل لم ينمْ بجوارها، ولكنَّه ما إن بدأ يتمرَّغ في حضنها حتى أحس بصدرها يضغط بشدة على ظهره، ليس ضغطًا شديدًا، وإنَّما ضغط الكتلة من اللحم الحي. وصدرها الحي مع رائحة الصابون وعرقها الخاص والهمس في الظلام، وجد نفسه يغتاظ إلى درجة البكاء وتسقط دموعه في صمت على يدها الملتفة حوله فتسحبها كالملسوعة، وحين تدرك أنَّه حقيقة يبكي، تضمه إلى صدرها بشدة أكثر. وكلَّما اشتدت في ضمها وضغطها أحسَّ أنَّه يريد أن يتخلَّص منها ويجري هاربًا إلى الأولاد والدبة وصاحبها الخنزير .. ولكنه حين يدرك أنَّ الليل ذهب، وأنَّ هناك صباحًا، واليوم يوم العيد، حيث يُعيِّد كل الأولاد، ويأخذون العيدية ويَفرحون، بكى ولم يسكت إلَّا إثر هزة شديدة وصرخة منها: مالك يا وله؟ ما له، حقيقة ما له، ماذا حدث؟ لا شيء حديث، لا شيء يُبكيه، فلماذا هو حزين؟ لماذا هو حزين؟ أمن جلسة أبي السباع إسماعيل التي أصبحت تطول، والقرش الذي يعطيه إياه كل مرة ويرسله ليشتري لنفسِه كرامللة، حتى لو لم يكن يُريد يصرُّ على إرساله، وهو خائف أن يخرج ويترك أمه بمفردها معه، فإذا تلكَّأ، جاءه الصوت الآمر منها: اسمع كلام عمك إسماعيل يا برهيم .. وينظر برهيم في عينيه، وكأنَّما ليطمئن قبل مغادرة الحجرة، ولا يستطيع أن ينظر فيهما أكثر من ومضة، لا لخوفه منه ومن جسده الهائل الضخم، ويده السميكة في سمك مخدة أخيه الصغير، فقد كان يكرهه، ولكن لأنَّ في عينيه نفسها شيئًا متحركًا غير ثابت، نظرة خائنة لا تستقر .. تختلط الخيانة فيها بالسخرية، سخرية جافة خشنة كظهر الليفة، يقشعر لها جسده، وتُدميه .. سخرية بلا خفة دم، سخرية السمين التخين الذي يتجشَّأ عقب كلِّ مرةٍ يناوله فيها كوب الماء ليشرب، ثم يُكمل الحديث بصوته الخشن الرنان، وآه لو مال على أذن أمه وهمس. همس مُتحشرجٍ .. كهمس الزوران، يحسُّ برهم أنَّه يخرج من فمه وينتشر كالدخان القابض الخفي من حجرتهم وفي حياتهم يملؤها بأثر جارح غير مريح باعث على الخجل، ولماذا عمه أبو السباع إسماعيل بالذات، ألأنَّه يزورهم؟ هناك عشرات الرجال يأتون، وعشرات يُسلِّمون على أمه ويُحيونها ويهمسون لها، وأحيانًا يعطيه أحدهم قرشًا، إنَّما لماذا هذا الرجل بالذات؟ وأمه تضحك مع الكل وتُجالس الكل .. فقط مع أبي السباع إسماعيل يحس كأنَّ التيار الخفي الذي يَربطه بها باستمرار حتى لو غابت أو سافرت أو نامت، فاتصاله بها دائمًا قائم وموجود، حين تجلس أو تُحدِّث أبا السباع. يحس فجأة وكأنَّ التيار قد انقطع ولم تعد تشعر به، ولكن شعوره هو بها يزداد إلى حد الجنون .. إلى حد أنَّه يمنع نفسه منعًا من أن يمسك بعصا أبيه ويدفعها لتستقرَّ في عينيها، أو فجأة يخلع كل من ملابسه ويقف أمامها عاريًا تمامًا لتدرك أنَّه موجود، والحياة كانت سهلة وعذبة ولذيذة، يحب كل ما فيها، يحب اجتماعهم حول الطعام بعد الجوع الشديد، حيث يجلس فرحًا بالطعام وباجتماعهم هو وأمه وأخته وأخيه الصغير ذي الأربعة أعوام الذي لا يزال يتهته ليخرج الكلام، وتعلُّق أمه بهم جميعًا، وبه على وجهٍ خاص .. والشاي بالحليب في الصباح، وفسحة الخص والعصاري مع الترمس على البحر، والجلسة على الحشيش في قلب المنتزه .. ما أجملها حتى لو جاءت سيرة أبيه .. حين يتولى أمه وجوم يخاف معه أن تبكي .. ويتبارى الحاضرون في تعداد صفاته .. حتى لكأنَّهم يتحدَّثون عن شيخ من أولياءِ الله .. وفي الحديث عن قوته، وكأنَّه كان عنتر بن شداد!
أجل .. شيئًا فشيئًا، بدأت الكلمة التي كان يأخذها على غير محمل محدد يتكوَّن لها في ذهنه معنى، مات، أغلق عينيه إلى الأبد، واصفر وجهه وبرد .. ولفوه في كفن .. ودفنوه .. لقد رأى هذا كله، ولكن لم يبدأ يفهم معناه .. مثله مثل الهمس في الظلام والحفيف، وقولهم البركة في برهم، إلَّا هناك حيث وقعت الدبة في البير، أشياء كانت مغطاة بطريقة لا يفهم لها معنى، ثم بدأ يسقط عنها الغطاء ويصبح إن لم يكن معنى واضح، فلا أقل من شيء خفي عميق مُظلم كفوهة البئر الذي سقطت فيه دبة ذلك الخنزير .. حتى غناء الأولاد والبنات كان في تلك الليلة بلا معنى، هكذا أحسَّ، رغم ما كانوا هم فيه من متعة كبيرة، كان هو وحده يحسُّ أن الأغنية، بل حتى اللعب كله أصبح بلا معنی، شدَّه صاحب ورشة الدوكو الذي يعمل عنده من أذنه ولعن أباه: ياد انت كبرت وبلغت ومابقيتش عيل .. ما نتاش عاجبني كده، طول النهار موطي لي في الأرض كدة، إيه اللي كاسر عينك ياد .. أوع يكون تشومبة بيعلِّم عليك!
وفهِم جيدًا ما يُريد أن يقوله الأسطى .. وأحسَّ بلسعة نار تكويه وتجنُّه.
– ما تقولشي كدة تاني يا أسطى!
لم يدرِ كيف جرؤ وقالها!
وصحيح أنَّ وجهه قد تورَّم من الضرب بعدها، باعتبار أنَّه ردَّ على الأسطى الكبير، وتلك جريمة لا تُغتفر .. إلَّا أنَّه فوجئ بنفس الأسطى، بعدما شبع من صفعه وركله، يقول لأصحابه الذي يشربون الشيشة: إنَّما إيه رأيكم؟ عجبني .. رد عليَّ صحيح إنَّما عجبني .. والنبي الواد ده ح يطلع أجدع من تشومبة!
وتشومبة المأخوذ من تشومبي، هو الصبي الأول للأسطى ومساعده، أكبر من إبراهيم في السن وأغمق في السمرة .. أكرت الشَّعر، فرطح الأنف، غليظ الصوت، على عكس أخيه «لممبا» .. فتشومبة لا همَّ له طوال اليوم إلَّا تعذيبه وصفعه وقوله: ابقى سلِّم على أمك ياد!
أول مرة قالها، صفعه، فضربه تشومبة علقة لا ينساها. إنَّ أول عمل بالتأكيد سيفعله حين يكبر أن يقتل تشومبة .. ويقتل أول دبة يلقاها. والدبة بدت سخيفة جدًّا وهو يُردِّدها مع الأولاد .. ولم يعد في ترديدها ما يثير، وأصبح انحناؤه ليدخل تحت السرير أشد .. وكالكبار، لم يعد ينام لحظة أن يضع رأسه على المخدة الطويلة التي بططت وجفت حتى أصبحت كلوح الخشب .. والهمس أصبح يفرقه عن الحفيف .. والدق لم يعد يستيقظ عليه. إنَّما قبله، من الأقدام الثقيلة وهي تزحف في الطرق المظلمة كان يتنبه ويعرف أنَّ القوة أغلقت، وأنَّها أقدام إسماعيل أبو السباع .. ولم يكن وحده الذي يتنبَّه، فالسرير يزيق، وتنسل ساقا أمه وتشخشخ غوايشها، ثم الحفيف، وفتحة الباب، والهمسة الناعمة الصادرة عنها: مساء الخير. حتى هي التي تبدأ بالتحية، والحشرجة التي مهما بولغ في جعلها همسة تظل دائمًا حشرجة بغير معنى، ثم، ثم تلتهب عيناه، وكأنَّما تضيئان بعد هذا كل شيء مظلم في الحجرة، حتى وجهه الأسمر الذي تفرَّدت ملامحه وتضخَّمت، يُضيء، كل شيء يبدو واضحًا من نور النهار، حتى قدماها العاريتان يراهما ويرى أصابع أحداهما وهي تَنكمِش وتتفرطَح تحت ثقلها وهي تصعد ثم تنسحب إلى فوق، تاركة إياه يحيطه من كل جانب «داير» السرير، كأنَّما ليطلُّ عليه في عالمه الصغير ويَسخر منه .. وياسمين نائمة متقوقِعة على نفسها، في بله «تريل»، وأخوه الصغير ممدَّد بالعرض عند أقدامها يتنفَّس بصوت مسموع وكأنَّه رجل يغطُّ .. هم في البير والملائكة في السماء .. والسماء سقفها من خشب، تطل منه مرتبة تنبعج، ما تحت السرير يغوص .. كل دقيقة يغوص، والسماء الخشبية مهددة بالسقوط وقيام القيامة والجنة والنار، ورأسه يوم القيامة منكَّس .. وحين يأتي تشومبة لصفعِه على قفاه، سيرعد الصوت العالي المدوِّي صوت الله: ارفع إيدك، وتنشل اليد، أليس باستطاعة القيامة تقوم الآن؟ ويرعد ذلك الصوت المدوي: ارفع إيدك .. فيُصاب الخنزير بالشلل، وينحشر صوت أمه في صدرها إلى الأبد، ويكفُّ تمامًا عن أن يتحوَّل همسًا، إلى ذلك الهمس الذي كان يحس أنَّها به تُصبح غريبة عليه تمامًا، امرأة أخرى، ملامحها مختلفة، لا يعرفها ولم يرها في حياته .. امرأة يخجل منها، وكلَّما رأى همسها يخرج مريبًا مُنخفِضًا، شعر وكأنَّها تُخرِج من جسدها سرًّا دفينًا كان خافيًا عليه. سرًّا كالعورة، لا بد له من غطاء، وكلما خفضته كان يتعرَّى أكثر حتى لا يكفي كل ما لديهم من أغطيه وبطاطين لستر همسها .. اسمع .. أهذا صوت المرأة التي ولدته، أمه بالضبط، إنَّه يتذكَّر، أجل .. كيف فاتَه أن يَتذكَّر هذا، أيام كان في سن ياسمين وربما أصغر، وصحا وفتح فمه يريد أن يَصرخ، ولكنَّه سمع كلامًا أسكته .. فقد ميَّز صوت أبيه في الحال .. وكان أبوه يَهمِس. كان مع أمه فوق السماء الخشبية، وانتهى همسهما إلى ضحك، ضحك طويل لا ينتهي، دفعه لأن يبتسم وقد بدأ يحس أنَّه سعيد لمجرَّد إحساسه أنَّ أبويه يضحكان. نسي تمامًا أنَّ البول يؤلمه وأنَّه من لحظات كان يُريد أن يصرخ .. ودوت خبطة أعقبها عراك ضاحِك فوق السرير. اهتزَّ بعنف له .. صرخة مكتومة، ثم عود إلى عراك انتظر له نهاية بلا جدوى .. واستغرب أن يكون أبوه المهاب المُقدَّس، الذي يُحبه إلى حدٍّ لا يستطيع معه مفارقته، طرفًا في اللعبة، ولأمرٍ ما استشاط غضبًا حين أحسَّ أن الطرف الآخر أمه، وفتح فمه يريد البكاء، غير أنَّ البكاء بدا له سخيفًا .. ليس فيه ذرة رغبة واحدة، فرغم استنكاره، كان إحساسه الأكبر الطاغي أنَّه في أمان حنون حبيب .. وأنَّه معهما، وكأنَّه الطرف الثالث في اللعبة، كل الناقص أن يُشعرهما بوجوده، وبكی ليشعرهما، ولدهشته تصاعَدَت الضحكات من فوق لبكائه، من أمه وأبيه معًا، ضحكات لا رهبة فيها ولا قداسة، جعلته يستمر في البكاء بدافع العناد وحده، ولكنَّه حين وجد الضحك مُستمرًّا وجد نفسه هو الآخر يبدأ فجأة يضحك، فإذا بالضحك الأعلى يتحوَّل إلى قهقهات .. اهتزَّ لها السرير بشدة .. نفس السرير. الذي ترقد عليه أمه الآن ضعيفة .. مختلفة تمامًا عن قوتها الصارمة في النهار وملامحها الجادة، وحديثها المملوء بالوعيد .. ضعيفة تتألَّم .. وتتألَّم في ضعف مقيت، وكأنَّها بتألُّمها تطلب مزيدًا من الضعف وتغري الخنزير بمزيد من الوحشية؛ إذ كان قد تحوَّل إلى وحش، وحشرجة همساته أصبحت خوارًا عميقًا كخوار ثور مذبوح. إنَّه لم يعد صغيرًا. فهو يعرف. لا يعرف بالضبط فهو ليس كبيرًا تمامًا، ولكن هناك أشياء غريبة لا يستطيع حتى لو أراد أن يتصوَّرها تدور فوق رأسه في السماء عند فوهة البئر. إنَّ باستطاعته أن يصنعهما معًا ويخرج بصورة كاملة، ولكنَّه يُبقيها لإرادته، منفردة مجرَّد أصوات لا رابط بينها. مجرد ضعف ووحشية .. وهمس من ناحية وتهديد بسقوط «المُلَّة» من ناحية أخرى، ومع هذا تفور دماؤه، مثلما كل مرة تفور .. والعرق الغزير يكسوه، وكأنَّما حتى لو أردنا لا نستطيع أن نوقف أجزاءً في عقولنا عن أن تعمل وتربط وتعي، ورعب شديد وكأنَّما من فوقه شيطانان يجهران بالعصيان ويفعلان هذا في المساء أمام كل الناس ودون اكتراثٍ لأحد، دون خوفٍ، خواره كخوار واحد من أكلة لحوم البشر، ولو نطق لنهش لحمه قبل عظامه، أمه نمرة على فمها دم، انتهت لتوِّها من التهام أخيه الصغير، وتتنمر في طلب المزيد .. والتوحش مجنون مكشوف حاد الأنياب كعراك الكلاب المسعورة، وثقلهما شديد، و«المُلَّة» تغوص تحت الثقل وتجثم فوق صدره، وهما عليها وكذلك الأرض والسماء .. وكل أثقال الدنيا، وجميعها تدكُّه، في ضغطات بطيئة، تدفع ببطء وتهوي ببطء تدركه وتمنعه أن يتنفس .. إنَّه لا يستطيع الاحتمال، إنَّه سيموت، لا من الضغط وإنَّما من الجنون .. إنَّ مخه يتكهرب ويسخن ويبرد ويطلق شرارات .. والرعب من الفجر يشلُّ صوته عن أن يصرخ، ويمسك بزمام عقله عن أن يفقد السيطرة، ونفض هذا كله عن نفسه وينفجر غاضبًا صارخًا .. وينقضَّ عليهما بالحذاء البُني القديم يمزقهما .. أو بيد «الهون» يدشدش رأسيهما .. ولكنَّه يدرك، ومهما بلغت درجات انفعاله .. أنَّه غير قادر على الإتيان بشيء من هذا، كبرت وبلغت يا برهم حتى أصبحت كالدبة، وأذنك تسمع، وعيناك كالأسياخ المحمية تخترق «المُلَّة» وتكاد ترى ما فوقها. وأنت صغير لم تكن تعرف، كنت فقط ترى، الآن ترى وتعرف .. لو فقط أمكن إلغاء كل ما فات والبداية من جديد، من الليلة مثلًا، أو الغد وكأنَّه ما سمع قبلًا أو رأى، وكأنَّه أول مرة يعرف ويفاجأ بالمعرفة ليستطيع أن يتصرَّف بمثل ما تُمليه عليه المفاجأة .. ولكن العجز الذي يصيبه يعرف سببه .. العجز سببه أنَّها ليست المرة الأولى .. وقبل أن تكون الأولى كان هناك إحساس، كان غموض وكان تَدريج، الهمس يَتحوَّل بعد حين في وعيه إلى كلام مفهوم، والكلام إلى أصوات، والأصوات يُميِّزها ويعرف صوتها من صوته، ومع كل «حيل» طلوع يطلع له في فخذه، كان يكتشف شيئًا فشيئًا، ذاك الغموض .. وببطء شديد لا مجال معه للثورة، ولا فرصة للمواجهة، بحيث حين «عرف» و«وعى» لم يَعرف أو يعِ بشيء جديد .. وإنَّما جاء كالخبر القديم بلا حرارة، كالشبح البعيد الذي خمنت من زمن قبل أن تقف وجهك في وجهه .. مَن يكون.
حتى إشعارهما بوجوده ما كان يجرؤ عليه؛ فقد كان يُشعِر أباه وأمه لأنَّه كان مطمئنًا آمنًا، أمَّا هذان فمَن يكونان غير غريبين عليه تمامًا، الرجل خنزير والمرأة دبة .. وهما على سطح الدنيا في السماء، وهو وإخوته، مثلهم مثل أبيه، يضمُّهم هذا القبر ذو الداير الأبيض .. أيبكي؟ ويُصبح حتى في نظر نفسه وكأنَّه «ملعبة» تشومبة كما يقول الأسطى؟ أيصرخ ويلمُّ الناس .. باستطاعته أن يفعل، باستطاعته أن يقتلها حتى بعد ما يذهب الرجل الغريب .. ولكن المشكلة أنَّه بهذه الفعلة سيفقد ذلك الخيط الواهي. الذي أصبح يَربطه بأمه .. فرغم كل شيء لا تزال أمه .. ولا يزال حيًّا لأنَّ له أمًّا .. ولا يَستطيع أن يَتصوَّر الحياة بغيرها .. بله أن يتصوَّر أنَّه هو الذي قتلها وأفقدها الحياة .. هو حي لأنَّ له أمًّا، ولأنَّها هذه الأم بالذات، ذلك الشيء الموجود رغم وهنه، لو فقده، لفقد الحياة .. فهي الآن، وهي مع الرجل الغريب مقطوعة الصلة به، يحسُّ إحساسًا عميقًا شاملًا أنَّه ضائع إلى حد الموت، لا أحد في الدنيا يخصه ولا يخص هو أحدًا، ما يبقيه حيًّا هو أمله، مجرَّد أمله، أن تنتهي تلك اللحظة العارضة ليعود يَربطُه بها ذلك الخيط الواهي، ولو صرخ، لو عرفت أنَّه عرف لنبذته إلى الأبد، وكف التيار النابع منها ليُحييه عن السريان، وانتهت أمه تمامًا، ولم يعد فيها غير المرأة الأخرى التي ترتدي الفستان الأسود فوق القميص الحريري الشفاف، والتي تشقى طول اليوم، كي تجلبَ من عملها؛ كدلَّالة وسمسارة وأشياء أخرى كثيرة، الطعام .. بل إنَّه ما كان يفرح بالطعام لأنَّه طعام ولكن لأنَّها هي جالبته .. هي التي تعبت وأحضرته، وتعبها هذا في إحضاره لا بد سببه أنَّها لا تزال تحبهم وتحبه. الطعام رمز الحب هو ما كان يُفرحه. وأن تموت .. أن تَنفضِح، أن يُواجهها؛ لمات قبل أن يحدث هذا؛ فحاجته إليها أقوى ألف مرة من حاجتها إليهم، بل هو لا يعتقد، منذ أن دخل هذا الرجل الغريب حياتهم، أنَّها أصبحت بالمرة في حاجة إليهم .. حياته وحياتهم لا تزال معلَّقة بأمومتها لا تنفصل، لهذا لا بد أن تظل تعيش وتظل حية، ويظلَّ ساكنًا، وتظل، لتظل حية في السماء .. أو فوق الفراش. لتظل تقابل عشرات الرجال وتشتغل معهم بأكل العيش وتعولهم وتُحدثه بصوت مليء حتى بالوعيد .. لتظلَّ تختار من بين الرجال ذلك الرجل الغريب لتقول له. وهي التي تبدؤه بصوت هامس مبحوح: مساء الخير، وليسمع هو، وليكن عليه أن يقضي جزءًا كبيرًا من الليل يسمع، والأصوات تأتيه من فوق سمائه الخشبية، ليس فيها ضحك أو سعادة، وإنَّما فيها ضعف، حتى لو أدى إلى رغبة في الضعف أكثر فهو حزين، وليس فيها صوت أبيه القريب الحنون، وإنَّما لهاث خنزير، وفحيح دبة سقطت في البئر الذي كان يخصُّه وحده وخُلِق له، وضحك ذات يوم حين احتلَّه أبوه، حضن عن عمد تفتحه، وبإرادة منها تضمُّ به ذلك الرجل المكتنز، وبلقائهما الشيطاني المتوحش يغوص كونه الصغير تحت السرير ويغوص، وهو قد كبر، ومن صغره وهو يسمع .. الآن أصبح يسمع ويُجن، وبحكمة كبيرة يصنع في النهاية كما تعوَّد أن يصنع، ويسكت .. ومع هذا لا تُريد القيامة أن تقوم .. ليعلو ذلك الصوت الراعد: ارفع إيدك. فيُصاب الخنزير الغريب بالشلل، وتموت المرأة المبحوحة الهمس .. وتعود له الأم. صرخة تتصاعد من تحت سماء خشبية محدودة إلى المدينة النائمة والأرض الكبيرة والكون والسماء التي لا نهاية لها .. ولأنَّ القيامة لا تقوم فهو يستيقظ كل صباح وقد أصيب بخيبة الأمل .. وكل يوم يَرمقها في خروجه ويحسُّ أنَّ الخيط يَدِق. والأم تَنكمِش وسنوات قد مضت على موت أبيه .. والمرأة ذات الهمس تَطغى فيذهب إلى الورشة منكس الرأس ليرتفع كف تشومبة ويهوي بها على قفاه. قفا صبي صغير أسمر، قائلًا: والله كبرت وبلغت وبقيت زي الدبة .. والدبة وقعت في البير.