هذه المرة
كان الضابط كريمًا، ولم يشأ أن تتمَّ الزيارة في الحجرة المخصَّصة للزوار المملوءة بضجة عشرين مسجونًا يقابلون بلهفة مجنونة مائة أو أكثر من الأهل، والجميع يصرخون في وقت واحد، عبر السلك الأصم المستمتع بصممه. لأمر ما جعلها الضابط زيارة خاصة تتم في حجرته، ربما لأنَّ الزائرة كانت جميلة رقيقة ممشوقة القوام تضع على عينيها نظارة سوداء أنيقة وترتدي جوربًا من النايلون الغامق. و«إمام» كان يعرف منذ الصباح الباكر أنَّ له زيارة، ولأربع ساعات طوال كانت ينتظر، والانتظار في السجن ليس مؤلمًا، إنَّه عمل، عمل طويل لا ينقطع ولا ينتهي، يتسلَّمه المسجون لحظة أن يضع أقدامه في العنبر؛ إذ عليه من لحظتها، حتى لو كان الحكم مؤبدًا، أن ينتظر لحظة الإفراج، وكل ما يفعله بين ساعة دخوله سجينًا وساعة خروجه حرًّا طليقًا، أن ينتظر، ينتظر الليل إذا جاء النهار، وينتظر الغروب حين تشرق الشمس، وينتظر وجبة العشاء المتواضِعة أثناء توزيع الإفطار، انتظار يتكفَّل الزمن بتغيير طعمه ولونه، حتى ليؤديه الإنسان بلا ملل، وإنَّما باستسلام تامٍّ للانتظار وخضوع مطلق له.
منذ الصباح وهو ينتظر أن يُنادي عليه الشاويش قائلًا: «إمام محمد إبراهيم .. لك زيارة.» أربع ساعات طوال وليس في عقله إلَّا المفتاح حين يدور في القفل، أو صوت الشاويش الغليظ الهادئ الملول وهو يقول: زيارته.
أجل ستزوره سهير مرةً أخرى. وهي دائبة على زيارته منذ أن دخل السجن، لم تَنقطِع إلَّا مرة أو مرتين، ولكنَّها دائبة، ودود، مستمرة، كالإحساس الدافئ بالأمل. وهو في كل شهر ينتظرها، ولا يمضي الشهر إلَّا إذا جاءت، إذا تأخَّرت يومًا أو أسبوعًا؛ توقَّف الشهر يومًا أو أسبوعًا، ولا يتحرَّك ولا يبدأ شهر جديد إلَّا إذا جاءت .. إنَّ ما بينهما ليس غرامًا مشبوبًا، فلقد كان يُحبها ويحنُّ إليها ويعشقها كما تعشق الليلات والجولييتات، وهو حرٌّ، ويرغب فيها أحيانًا ويشتهيها كما تشتهي راقصة البطن حين تتلوى بإغراء مُثير أمامك، وأحيانًا يطمئنُّ إلى حنانها الأكبر من عمرها وطاقتها ويهفو، وأحيانًا يزود عنها ويضيق، مثلما يَضيق معظم الناس بحياة الزواج، يُحبُّها ويحب ابنته منها، وابنتهما جزء من ذلك الحب، كأنَّها التجسيد المادي لعواطف لا تُرى ولا تُوزن، ابنته كانت صحيحةً حلوة ضاحكة متفتحة، بضة وذات دلال، تمامًا كما تتدلَّل أمها إلى درجة لا بد أن يتساءل الإنسان معها، تُرى أهي صورة من أمها التي تُحبه ويُحبها، أم هي صورة لما بينهما من حب. والخوف أيضًا كان هناك. لقد انقضت ثلاث سنوات منذ أن كان معها في فراش واحد، ولقد رآها تضمحل، ويسألها عن طعامها، فتُخبرُه أنَّها لا تجد لديها الرغبة في أن تأكل، أو حتى أن تحيا، وكان في مرات يلحظ لونها أحمر على غير العادة كأنَّها تُعاني من حُمى، ولا ينسى أبدًا رعشة يدها ذات مرة ثم شفتيها، ثم رعشتها كلها حين ذلك كفها الممدود إليه وهو يودعها ذات زيارة. أحيانًا كان يُواتيه خاطر مجنون يهبُّ به أن يأخذها، هكذا أمام الملأ وداخل السجن، وليطلقوا عليه النيران. كان هو الآخر يُعاني، ليس فقط من جسده، وإنَّما من كبت وجداني كان الجسد وسيلته إلى تخليصه منه .. يُعاني من إحساسه باختناق قدرته على إعطائها، من حرمانه أن يمنح بسرف وبذخ كما تعود أن يكون عطاؤه.
كانا قد تزوجا عن إعجاب شديد، تطوَّر إلى غرام وغيرة ومحبة وتضحية، كقصص الحب العاصفة، وتكفَّل الزواج بصهرهما معًا، لم يعد يحس بها منفصلة عنه .. أو كائنًا آخر مستقلًّا .. لكنَّها أصبحت جزءًا أنثويًّا منه، أو لكأنَّما أصبح جزءها المُذكَّر .. إنَّها معه، فهي داخله، وهو يحس بنفسه هناك، في روحها، في أعماق نظرتها، داخل كل انكماشة وانبساطة في ضلوعها الدقيقة، وهي تأخذ الشهيق أو تصدر الزفير. إنَّه حتى يحسُّ بنفسه داخل شعوره بها، كل مُتلاحم كالكائن الحي لا يُمكنه فصله، وأي فصل له أو انقسام لا يزيده إلَّا حياة وقوة واتصالًا.
ودار المفتاح في القفل، ولم يسمع — رغم ترقُّبه له — ما نطق به الشاويش، سار أمامه، حليقًا. قضى وقتًا طويلًا يُوصي المسجون الحلَّاق كي يجتثَّ كل ناشز من شَعره ويُنعم ذقنه، قام بمُحاولات الدنيا كي يستحم بماء ساخن ويلقاها نظيف الجسد، لامع الوجه، كان كأنَّما هو ذاهب لملاقاة الحياة، تلك التي يَبقى ميتًا طيلة الشهر حتى تُشرق عليه في النهاية، وبنظرة واحدة منها تلمسه لمسة ترد إليه الحياة، حقيقة يحس بجسده يضطرب بتيار عارم متلاحق متشابك من الانفعالات والأحاسيس، يحس بنفسه قد اتَّصل ببحر الحياة، أصبح جزءًا واعيًا متفائلًا من الوجود الميت الأحمق.
ودخل الحجرة، وشكر الضابط بكلمات غير واعية، وعيناه تبحثان عنها، كانت بجواره تمامًا ولم يرها، لم يَرها إلَّا حين سمعها، تقول، وكأنَّما تُعبِّر عن الدهشة لنفسها: إمام. التفت. كانت هناك. لم يتبيَّن وجهها أول الأمر، كعادته، كان دائمًا يخاف، كلَّما مرَّت بخياله في وحدته، أن يفقد القدرة على تذكر وجهها بكل دقائقه، وفي كل مرةٍ يراها كان يجدها مُتغيِّرة، أبدًا لم يرَ لها نفس الوجه مرتين، كل مرة يراها فيها، سواء في السجن أو خارج السجن، كانت بوجه، دائمًا جديد ومختلف، وكأنَّه لم يره، دائمًا متغيِّر وكأنه لم يثبت على حال، ولكنَّه ما يكاد يرى وجهها حتى يعرف ويُدرك أنَّه وجهها، وأنَّه هكذا كان يبدو، وهكذا سيظل يبدو إلى آخر العمر، وجهها .. الذي له، يضحك له، ويَعبس بسببه، ويحلم به ويشتاق، ويشع حبًّا من خلاله. وكما التقيا كانت تحدث هذه الالتماعة، في عينيها وعينيه، حتى لكأنَّ شرارة تحدث، وضوءًا مفاجئًا ينسكب فيعشيهما معًا .. لومضة، ويحسُّ أنَّها لا تراه بقدر ما تُدرك وجوده. وتحس كأنَّما عثرت على كنزها المنشود، الذي ظلَّت تبحث عنه ولا تكاد تصدر عثرت عليه، ورغم هذا لا تطمئن أبدًا إلى عثورها عليه.
ودون أن يشعرا، اقتربا، وتلاصَقا، كما يحدث دائمًا كل اقتراب لهما وتلاصُق، وأمسك بذراعيها في قبضتيه، ومن أول لمسة أحسَّ بذلك الشيء الذي كان عليه أن يدركه حالًا. وتأملها عن قربٍ. كان لا يزال غير قادر على رؤيتها بدقة، وكأنَّ الشرارة المعشية لا تزال هناك. وكانت تَبتسِم، ولكنَّه كان يحس أنَّها تبتسم لأنَّها تُريد بإرادتها أن يراها مبتسمة، وليس لأنَّها أعماقها تريد الابتسام. ربما لو تركت نفسها لسجيتها لبكت أو لعانقته أو لاندفعت مُقْدِمة على عمل أعمق. كانت ابتسامتها ربما علامة عجز، عجز عن أن تصنع شيئًا آخر. وصدرت عنها الكلمات السريعة المتلاحقة التي تصدر عن كل الناس في مواقف كتلك. ازيَّك. صحتك. وحشتنا. نوسة. كلمات، تحرُّكات أفواه وتقلُّصات ألسنة وحناجر ليس إلَّا؛ فالعقل مشغول بعملية تفحُّص كاملة تامة، كلٌّ يتفحص الآخر، بأجهزة لا أسماء لها تقيس كل دقيقة فيه، ليطمئن إلى أنَّه هو، وأنَّه لم يتغير، أو إن كان قد تغيَّر فإنَّما إلى ارتباط أكثر وحبٍّ أقوى وتعلُّق لا حدود له. أجهزة دقيقة شاملة منتشرة في كل اتجاه، تستقبل وترسل، وتمتص وتفرز، كل خلية وكل عضو في الجسد، كأنَّما يريد الاطمئنان على الجزء المقابل له. كان يشتاق إليها بنفسه كلها، بيديه وأنفه وشَعره المجعد .. بشاربه الحليق، بالحسنة السوداء في أذنه، يشتاق إليها كلها، للبحة في آخر صوتها، لرائها الغينية حين تنطقها، لتغابيها عليه. لتدليلها إياه، لهمهمة الغناء غير الجميلة حين تُدندن بها في ساعات التجلِّي، لكل شيء، حتى لإصبع قدمها الصغرى الخالية من أي ظفر.
وأحسَّ بنفسه قلقًا على غير العادة، أطالت أجهزته التفحُّص والقياس والاستقبال، وأكثرت من التجاوب والإعطاء، لم تستقر على رأي بعدُ، ربما لهذا ظلَّ يُردِّد .. ازيك .. صحتك .. اللذيذة نوسة وضرسها المؤلم الفاسد .. في كل مرة كان عقله يستمر يُردِّد هذه الكلمات إلى أن تكتفي أجهزة جسده وتعطيه إشارة خفيفة أنَّها انتهت، حينئذٍ كان العقل يبدأ عمله ويستطيع أن يعود يعقل وينظر، ويتأمَّل ويُدقِّق، لتبدأ النظرة الثانية. النظرة المُتمهِّلة المتمعنة التي لا قلق فيها، ولو كان موعد الزيارة معروفًا؛ فاللقاء دائمًا مفاجأة يطير لها الصواب، نظرة المتعة بالرؤية والالتهام، التهامًا، بالمزاج والراحة وأقصى درجات السعادة. إزاي نوسة؟ رابع مرة في دقيقة واحدة يسألها سؤالًا أقرب للاستعجال منه إلى السؤال، وليس استعجالًا لها وإنما استعجال لنفسه اللاواعية أن تنتهي من إجراءاتها الكثيرة المعقَّدة وتئوب إليه، ليئوب إليه اطمئنانه ووعيه. كويسة قوي، مُشتاقة لك. هي الأخرى تُجيبه ناظرة في عينيه، شاخصة إليه كأنَّما تنتظر أن ترى في عينيه شيئًا، إشارة أمان تعوَّدت رؤيتها، جواز مرور، نظرته هو. الحقيقة التي تعرفها حين ينظر بها إليها هي، وتراه ينظر إليها دونًا عن الكون والدنيا، هي فقط التي تكون في عينيه وكأنَّ العينين تُصبحان عينَيها، عينيها وحدها، عيناه وعيناها، وبدأ القلق يدب ويُهدِّد بأن يصبح توتُّرًا، ولم يكن يريد أي توتُّر. كان يحلم منذ الصباح بأن تتالى، في نعومة ويُسر، نظراته، الأولى المذهولة، والثانية المستمتعة، والثالثة حين تبلغ المتعة حد النشوة، والرابعة الحالمة المكتسحة الخارجة به وبها من خلف الأبواب الموصدة إلى الدنيا المتسعة، إلى الغد، الغد الطويل المُمتد الذي لا نهاية واضحة له. أي تلكؤ حرمان، وزمن الزيارة قليل، وعقله من خوفه يساهم في الإسراع ويكاد يقسم لأجهزته وحواسه الظاهرة والخفية كل شيء على ما يرام وإنَّها هي، وجهها القمحي هو هو، عيناها العسليتان الواسعتان ذواتا الحدقتَين المكونتَين من ألف لون ولون، المشعتان بألف شعاع وشعاع، شَعرها الأسود اللامع: أسود ولامع، فورمته مختلفة ولكنَّه شَعرها، روحها هي نفس روحها أو تكاد، لا خلاف يُذكر أو يُلحظ، ولا يمكن أن يكون هناك خلاف، إنَّ أي خلاف معناه اختلال في نظام الكون لا بدَّ، صحیح أنَّها معتنية بزينتها أكثر من كل مرة، قلم الحواجب واضح خطه في حواجبها، والريميل يرمل أجفانها أكثر، وإن كانت فسفوسة صغيرة لا بد من أثر الجو أو الهضم قد نبتت من زاوية فمها، إلَّا أنَّ شفتَيها هما شفتاها، بروزهما إلى الأمام لم تتغيَّر درجته، والروج ينطبق تمامًا على حوافهما كما تحب أن تبدو، لا شيء تغير، بل ربما اللهفة أكثر، وقلقها للعثور عليه في عينيه وعلى نفسها داخله أكثر.
ولكن نفسه استمرت تتفحصها غير مبالية بقلقه أو استعجاله أو ضيقه، مندهشة لا تزال، غير مدركة تمام الإدراك ما ترى، تتفحص، بلا وعي تتفحص، دون أن يشعر بها أو يسمح لها تتفحص، كأنَّه يراها لأول مرة تتفحص ماذا هناك يا تُرى؟ ماذا يوقفها ويُبقيها؟ ماذا يدهشها ويذهلها؟ ما المجهول فيها وهو يعرف كل لمحة منها وفيها .. لا أحد، لا عقله، ولا جهاز من أجهزته يرحمه ويجيب، أو حتى يعرف ويدرك ولا يجيب. وكلمات الشوق والترحيب مستمرة، عصبية من وراء القلب، ولمجرد قول شيء، مستمر، والحجرة تبدو أحيانًا واسعة كفناء السجن، وأحيانًا تضيق لتصبح أضأل من الزنزانة، والضابط جالس إلى مكتبه منجعص إلى الخلف بالجريدة مفتوحة، وبعين نصفها يقرأ ونصفها الآخر مضاف إليه انتباهه كله، يُراقب ما يدور بين الرجل والمرأة، لا يُراقب محرمات أو مخالفات، وإنَّما على الرغم منه، ولمجرَّد حب الاستطلاع يُراقب، مُراقبة لا يراها أي منهما ولكنهما يدركانها تمام الإدراك، ويستعجلان اللحظة التي يَندمجان فيها معًا ويغيبان عن الوعي بالزمن والمكان وحتى بهذه الرقابة من الضابط.
لحظة طالت وامتدَّت حتى أصبح تأخُّرها أمرًا واضحًا لا شك فيه، أمرًا يدفع الموقف بكميات أكبر من القلق، قلقه، وقلقها، على قلقه .. وقلقه حتى من قلقها عليه.
فجأةً أفلت الزمام منه، ووجد نفسه يسألها: إيه اللي حصل؟
وكان بوسعها أن تسأله ما يقصد، وعن أي شيء بالضبط يتحدَّث، ولكنَّها مثله لا تُريد للوقت أن يضيع، ويخاف أن يضبطها في لحظة تغلب. إنَّ السؤال وإن كان يبدو مائعًا عائمًا، إلَّا أنَّ الصوت الذي نطقه به كان محدَّدًا مستغيثًا يطلب إجابة حاسمة تشفي الغليل. وبسرعة وبحسم قالت: لا شيء حدث. مالك؟ أنا؟! ما مما ليش .. لا .. لازم فيه حاجة .. حاجة إيه؟ ولا حاجة. إنتي متغيرة. أنا؟! متغيرة إزاي؟ لازم مش إنتي. إزاي مش أنا؟ أنا أنا .. كل مرة أنا أنا .. إنَّما المرة دي إنتي مش إنتي .. أمال مين؟ أنا مين؟ أنا سهير بتاعتك مش فاكر! صحيح بتاعتي! ودي عايزة سؤال يا إمام؟ بتاعتك بتاعتك بتاعتك .. إنما برضه يا سهير لازم فيه حاجة!
ولاحظ ارتجافة عابرة جدًّا سرت بشفتيها، لم يكن ليلحظها لولا فسفوسة عسر الهضم. أمام الحاجز الذي أقيم بدت العواطف تتجمع بسرعة وتتزايد وتتراكم وتُهدِّد باكتساح السد الذي أقامه بلا سبب معقول أو غير معقول أو بصناعة مجرى جانبي آخر. وهكذا كان لا بد أن تأتي النظرة الثانية، بحكم قانون القوة جاءت ووُجِدت وأصبحت أمرًا واقعًا، ولكنَّها لم تأتِ كما تعوَّدت أن تأتي كل مرة، حين تحل محل النظرة الأولى الحيرى المتسائلة المذهولة، جاءت النظرة الثانية هذه المرة دون أن تختفي الأولى أو تزول، تراكمت فوقها، فوق الذهول والحيرة والتشتت، وأيضًا لم تكن نظرة استمتاع والتهام متمهِّل سعيد منتش، جاءت مختلفة، غريبة، مجرَّد رغبة أعظم في بحث متعجِّل حاد، لهفة، إحساس دافق قوي بضرورة العثور على نهاية، على قاع، على حقيقة.
– فيه إيه يا إمام؟
سؤال منزعج من فم منزعج والملامح التي أطلقها فيها رجفة، لا بد رجفة اضطراب، لم يكن قد حدث ما يستدعي السؤال أو الانزعاج، كما لم يكن قد حدث ما يَستدعي سؤاله المفاجئ عمَّا يُمكن أن يكون قد حدث. ولكن المشكلة أنَّه لم يكن مطلوبًا أن يحدث شيء واضح ليسأل أحدهما الآخر، أو ينزعج، إنَّ الحياة معًا في حب أو زواج، صنعت مثلما تصنع لكل الناس. ذلك الالتحام الشامل الذي يجعلك الآخر وتحسُّه، ربما قبل أن تفهم نفسك أو تحسها، تفاهم بالإحساس يتم بالتأكيد قبل أن يتم التفاهم بأي لغة أخرى، حتى لو كانت لغة العين والنظر، إنَّه تشابك الأفرع والأغصان والأوراق وتداخلها في شجرة إحساس واحد مُسيطر، حالة لا يزيدها البُعد إلَّا حدة، والحرمان إلا شحذًا ومقدرة، وكلما ازداد الطرفان بُعدًا، اقتربا وأصبحا أكثر تشابكًا .. فانفصال أيهما عن الآخر في الزمن أو المسافة لا يبعد ولا يعزل، ولكنَّه يقرِّب ويكثف ويربط، فيه إيه؟! أي نعم فيه إيه؟ وإيه بالضبط ري سؤالك حصل .. انطق .. تكلَّم .. فيه إيه .. أبدًا ولا حاجة .. إذن لم يحدث شيء، وليس هناك شيء؟! ما الأمر إذن؟ ماذا هناك؟ ماذا دهاك. ولو كان الوقت يسمح لاستمرَّت المطاردة الخالدة غير الجديدة على علاقتهما .. إلى ما لا نهاية .. ولكن الوقت، كان مُدببًا، كالترس المسنونة تروسه، كلَّما دار وخز وألم ونبه وجأر بأنَّه يدور ويَمضي مُهدِّدًا بقرب انغلاق دائرة الدقائق العشر المصرَّح بها.
ولكن ماذا يصنع أو يقول في موقف لم يُحدِّثه هو بإرادته، في موقف تكوم وتكون وتراكم وتشكُّل حقيقة واقعة دون أي تدخل إرادي أو عقلي أو حتى وجداني منه، إنَّما حدث هذا وكأنَّما حدث بواسطة جسدِه وأعضائه وعضلاته وعظامه والأجهزة اللاإرادية الغريبة المركبة فيه، في موقف عاجز عن فهمه وإدراكه. موقف حدث لا يدري كيف، ومستمر في حدوثه لا يدري كيف أيضًا، وسادر في استمراره إلى ما يبدو أنَّه اللاحلَّ واللانهاية، لا يدري كيف أيضًا، سهير يا حبيبتي أنتِ أنتِ، لم يتغير فيك شيء، أليس كذلك؟! بل تغيَّرت يا إمامي وأصبحت أحبك كما لم أحبك من قبلُ أو من بعدُ .. ليتك تؤجلين الكلام عن الحب، كل كلام عنه، أحس به غير طبيعي .. ومصطنع من أجل هذا الموقف، إنَّ الحب يأتي بعد الاطمئنان، وأنا لا أزال لم أطمئن، نفسي التي تُحركني وتشعر لي لم تطمئن، عقلي لا يزال مذهولًا يبحث عن خلجة اطمئنان، ومنك يأتي اطمئناني، وفي يدك الحل إذ التفسير لا بد عندك. أنا أنا لم أتغير يا سهير، أنا كجدران الزنزانة، كساعة «التمام» بعد الظهر، كوقع الأحذية الثقيلة على بلاط العنبر، أنا مثل أي شيء وكل شيء هنا، لا أتغيَّر ولم أتغير. أنا ثابت وأنتِ المتحركة، أنتِ الطليقة، أنتِ المتغيرة.
ولكن يا حبيبي برغم أنِّي طليقة ومتحرِّكة، برغم وجودي في الخارج الحر أنا معك ثابتة لا أتغيَّر. أنا هنا وإن كنت أبدو هناك، أنا سجينة داخل ما هو أفظع من سجنك، داخل الحياة الطليقة، كلام جميل مثل حوار أفلام الحب ولكني لا أريده، وإن كنت في كل مرة أسمعه. أجن إلَّا إني لا أريده. هناك شيء مؤلم حاد يُشتتني ويجعلني لا أريد أن أصغي قبل أن أوقن وأعرف. تعرف ماذا؟ أعرف مَن أنت؟ إن فيك شيئًا لا أعرفه يجعلني أحس أنِّي لا أعرفك كلك، شيء جديد غريب عليَّ، حواسي تحوم حوله وتجفل ولا تستطيع إدراكه. أراه ببصَري ولكن لا أعيه. أيكون قد حدث شيء يا سهير؟ أيكون؟ أرجوك .. دعيني أعرفه، كيف؟ اعرفيه أنت واعترفي لنفسك به فأعرفه أنا. حوار غير منطوق أو مسموع أو حتى مارٌّ عبر العيون، ولكنَّه رائح غادٍ في سرعة وتحفُّز ككرات البنج بونج، لا يستقر ولا يهدأ، وإنَّما تزداد به النظرات جهلًا واستيحاشًا وتوترًا، ويزداد به الزمن وخزًا وإيلامًا، لم يبقَ على انتهاء الزيارة سوى دقائق ثلاث أو أربع. سهير يا سهير. أنت لي. كلك لي. حتى ما فيك من خطأ لي. بحقك عليَّ وحقي عليك أخبريني ماذا حدث؛ إذ مهما كان ما حدث فهو فسفوسة يا سهير بالقياس إلى حياتنا، فسفوسة لا أعرف لها مكانًا ولا سببًا ولا اسمًا، أحس بها تافهة سطحية تكفي ضغطة صغيرة لتنمحي وتتلاشى. كل ما يُضخِّمها، كل ما يعرقلني عنك، أنَّها غريبة عليَّ؛ لأنَّها غريبة عليك.
– انت شايف إيه؟
– مش عارف.
– عايز تقول إيه؟
– مش عارف.
– شاكك في إيه؟
– مش عارف.
– أمال فيه إيه؟
– مش عارف. أنا خايف.
– من إيه؟ عليَّ؟ ما تخافش.
– ده كلام يمكن من قدامي بس.
– قدامك ومن وراك.
– أمال أنا حاسس بيكي متغيرة ليه؟
– يمكن إحساس خاطئ.
– وهو عمر إحساس اللي بيحب بيخطئ؟ أبدًا أبدًا يا سهير .. عمر إحساسي بكِ ما أخطأ .. عقلي بيغلط إنَّما إحساسي لا .. وده هو اللي تاعبني!
– انت بس اللي عاوز تتعب نفسك.
– وحد بيعوز يتعب نفسه؟
– أيوة .. لما يكون مسجون بعيد .. وبيحب .. يخاف على حبيبته أو مراته فيشك ويخاف ويتعب نفسه!
– ده كلام معقول. إنَّما أنا اللي حاسه حاجة فوق العقل. حاجة قبل العقل .. حاجة أصدق وأعمق من العقل.
– اسمح لي دي قلة عقل.
ولكنَّها قالتها برُوح لا مرح فيها ولا رغبة في المداعبة، وهذا ما أحزنه، لو قالتها كنكتة لبدت طبيعية وربما حلَّت الموقف كله، ولكنها أخذتها جدًّا .. وأردفت: اشمعنى المرة دي يعني؟
– ده بالضبط اللي بقوله لنفسي، كل مرة تيجي تزوريني هنا، اشمعنى المرة دي؟
– أيوة اشمعنى المرة دي؟
– لأن لازم حصل فيه حاجة يا سهير. أنا حاسس.
والكارثة في هذا الإحساس الذي لا يناقش، كالحكم الذي لا نقض له ولا راد، كالأمر الواقع، إحساس غير خاضع لمنطق أو فكر، ولكن له قوة أعتى من قوة المنطق والفكر. للمرة المائة يتأمَّل وجهها، إنَّه هو الآخر أمر واقع ربما ينجح في دحض إحساسه ونسفه، ولكن حتى وجهها تكفَّلت المنطقة الغريبة المجهولة بالزحف عليه والامتزاج بلونه وملامحه وتغير لونه كما يتغير لون الماء إذا سقطت فيه نقطة حبر.
ومالت على أُذنه مرة وهمست له بكلمة، أعقبتها بضحكة عالية. جعلت الضابط يُرهف أذنه ويكاد يمدُّها لتتسقط ما بين فمها ومسامعه ويعرف سبب الهمسة والضحكة. أمَّا هو فلم يهضم لا الهمسة ولا الضحكة. في مظهرها بريئة، قريبة منه، تبدو كنفس ضحكتها البريئة، ولكنَّها البراءة وقد زحف عليها ذلك الشيء الغريب المجهول فأحالها إلى ما يُشبه التهتُّك والرقاعة. إنَّ رأسه يكاد ينفجر. لم يعد باستطاعته أن ينظر إليها أو يشعر بها كما تعوَّد أن ينظر أو يشعر، في غيبة عقله، كما لا بد في غيبته حدث شيء. شيء غامض محير مجهول، لو كان طليقًا لظلَّ وراءه يبحث ويستقصي حتى يدركه، ولكنَّه هنا مُقيَّد محبوس، ووظيفته الأولى أن يبقى جاهلًا بمعزل عن كل ما يُمكِن أو بالاستطاعة معرفته. إنَّه هنا فقط يُسجِّل، يُسجِّل حتى دون أن يشعر، وقد سجَّل ما فيها من غربة، ولينفجر عقله محاولة التفسير أو التبرير فإحساسه لن يَنفعه، سيُغادره تاركًا إياه وحده مع التصرف، أو بالضبط مع عدم القدرة تمامًا على التصرُّف. إنَّه الجحيم حتمًا، بل ربما الجحيم أرحم، إنه السجن.