عصرنا المتشابك
كان صيف عام ١٩٩٦ قائظًا، ارتفعت مؤشرات موازين الحرارة بجميع أنحاء البلاد لتسجل أعلى معدلاتها، وظلت على هذه الحال، ليمثل هذا دليلًا بيِّنًا على التقلبات المناخية غير المتوقعة. في تلك الأثناء، أخذ الأمريكيون، الذين عزلوا أنفسهم في حصونهم المنزلية، يكدسون الطعام بالثلاجات، ويشغلون أجهزة التكييف، ويشاهدون — بالطبع — قدرًا هائلًا من البرامج التليفزيونية التي تُخدِّر العقول. في الواقع، مهما يكن الموسم أو الطقس، فقد صار الأمريكيون يعتمدون على نحو متزايد على مجموعة مدهشة ومتنامية باستمرار من الأجهزة والمرافق والخدمات التي حوّلت بيئة اتسمت فيما مضى بعدائيتها، إلى نمط حياة يشبه النسيم البارد. لا يُعد أي قدر من الابتكارية أو الطاقة مفرطًا إذا أسفر عن فراغ أو مزيد من الحرية الشخصية أو توفير الراحة البدنية؛ فبدءًا من المركبات مكيفة الهواء المماثلة في الحجم لغرف المعيشة، ووصولًا إلى المراكز التجارية مكيفة الهواء المماثلة في الحجم للبلدات الصغيرة، بُذلَت أقصى الجهود والتكاليف في الحملة الأمريكية الحديثة اللانهائية لفرض نظام صارم على كوكب اتسم فيما مضى بالجموح، ولا يزال شامخًا متغطرسًا في بعض الأحيان.
يدير محرك الحضارة هذا الذي لا يعرف الهوادة كيانٌ عادي ومألوف كالطبيعة ذاتها، لكنه عامل تغيير قوي للحياة، شأنه شأن أيٍّ من الاختراعات البشرية الأخرى، هذا الكيان هو نظام الطاقة الكهربائية. تمتد كخيوط العنكبوت بجميع أرجاء أمريكا الشمالية شبكة ضخمة من محطات الطاقة والمحطات الفرعية، إلى جانب كابلات النقل عالية الجهد التي تربط بينها. وشبكة نقل الطاقة الكهربائية، التي تتدلى كابلاتها قرب الأشجار على طول الطرق وتربط بين قمم جبال الأبلاش الشاهقة وتمتد أعمدتها كما لو كانت جنودًا عمالقة عبر سهول الغرب الشاسعة، تُعَد سر حياة الاقتصاد، والجانب الواهن الحساس للحياة المتحضرة في الوقت نفسه.
يُعد نظام الطاقة الكهربائية، الذي تأسس بقدر هائل من النفقات على مدار الجزء الأكبر من القرن الماضي، أهم الملامح التكنولوجية للعالم المعاصر، وتمثل الطاقة الكهربائية — الأكثر تغلغلًا في الحياة من الطرق السريعة والسكك الحديدية، والأكثر أهميةً من السيارات والطائرات وأجهزة الكمبيوتر — الأساس الذي تقوم عليه جميع صور التكنولوجيا الأخرى، وأساس الصرح المهيب لعصرَي الصناعة والمعلومات، ودون هذه الطاقة يصبح كل ما نفعله ونستخدمه ونستهلكه معدومًا، أو يتعذر الوصول إليه، أو شديد الغلاء، أو غير ملائم؛ فالكهرباء إحدى حقائق الحياة التي تصل في جوهريتها إلى الحد الذي يتعذر معه تخيل الحياة بدونها. وإذا أُجبِرنا على ذلك، يمكن أن يكون الأمر مُدمرًا تدميرًا هائلًا، وهو ما اكتشفتْهُ مدينة نيويورك على مدار خمس وعشرين ساعة رهيبة في عام ١٩٧٧، حينذاك، وفي مجتمع كان قد اكتشف لتوِّه الكمبيوتر، وكانت السيارات والمصانع والأدوات المنزلية أقل اعتمادًا على الإلكترونيات مقارنةً بالحال الآن، أدى انقطاع في الكهرباء، ناتج عن مجموعة غير متوقعة من الأخطاء الصغيرة ونقاط الضعف الشاملة، إلى إغراق نيويورك في الظلام، وإغراق سكانها البالغ عددهم تسعة ملايين نسمة في بحر من الشغب والنهب والسلب، ونشر الذعر على نطاق واسع، وعندما عادت الأضواء وأُزيلت الأنقاض، بلغت الخسائر نحو ٣٥٠ مليون دولار. أرهبت الكارثة الساسة والمنظِّمين على حد سواء، وهو ما جعلهم يتعهدون بألا يسمحوا بحدوث ذلك ثانيةً، ويطبقون عددًا من الإجراءات الصارمة لضمان تنفيذ تعهدهم. وحسبما اكتشفنا منذ ذلك الحين، فحتى أفضل الخطط — في عالم متشابك معقد — لا يمكن أن تكون إلا عبثًا لا طائل من ورائه.
إن شبكة الطاقة — شأنها شأن أي بنية تحتية أخرى، بدءًا من أنظمة الطرق السريعة وصولًا إلى شبكة الإنترنت — ليست في الواقع كيانًا منفردًا، بل عدة شبكات إقليمية متصلة بعضها ببعض في إطارٍ أكبر يهدف إلى تحقيق المصلحة العامة. أكبر هذه الوحدات الإدارية مجموعة من المحطات يصل عددها تقريبًا إلى خمسة آلاف محطة وخمسة عشر ألف خط، تشكِّل شبكة النقل الخاصة ﺑ «مجلس تنسيق النظم الغربي»، وهو تكتل لمولِّدي الطاقة وموزعيها مسئولٌ عن توفير الكهرباء لكل شخص وكل شيء غرب جبال روكي، بدءًا من الحدود مع المكسيك وصولًا إلى المنطقة القطبية الشمالية. وفي قيظ أغسطس عام ١٩٩٦، أدار كل مَن لديه مكيف هواء ذلك المكيف بأقصى قدرة له، ونالت كل زجاجة بيرة مثلجة في حفلات الشواء بالأفنية الخلفية نصيبها من الكهرباء التي تولِّدها هذه الشبكة، أما جموع السياح المصطافين الذين عزفوا عن العودة إلى الشرق، فأخذوا يتسكعون في المدن الساحلية، الأمر الذي أدى إلى زيادة مؤقتة في تعداد السكان، المتضخم بالفعل، في كلٍّ من لوس أنجلوس وسان فرانسيسكو وسياتل، ووصول الشبكة المتقادمة والمنهكة بالفعل إلى أقصى حدودها.
إذن قد لا يكون من المستغرب أن مستهل الأزمة التي وقعت في العاشر من أغسطس كان حدثًا ثانويًّا نسبيًّا، كالشرارة التي تتسبب في اشتعال نار هائلة؛ فقد تدلى أحد خطوط نقل الكهرباء غرب أوريجون، شمال بورتلاند، قليلًا، وأصاب إحدى الأشجار التي لم تكن قد قُلِّمت منذ فترة طويلة، مما أدى إلى اشتعالها. لم يكن ذلك بالحدث غير المألوف حقيقةً، ولم ينزعج به كثيرًا المشغلون في إدارة بونفيل للطاقة، الذين أُبلِغوا على الفور بهذا العطل المزعج، لكن غير المدمر. غير أن ما حدث بعد ذلك كان سريعًا على نحو مخيف، وغير متوقع على الإطلاق.
كان الخط الذي تعطل — خط كيلر-أولستون — واحدًا من مجموعة من الكابلات المتوازية التي تنقل الطاقة من سياتل إلى بورتلاند، وكانت الآلية التلقائية للتغلب على مثل هذا العطل هي نقل الحِمل إلى الخطوط الأخرى بالمجموعة، لكن للأسف، كانت هذه الخطوط مثقلة بأحمال تقارب الحد الأقصى لها، وكان العبء الإضافي زائدًا عن الحد. أخذت الخطوط تتداعى خطًّا بعد خط، وكان الأول هو خط بيرل-كيلر المجاور الذي تعطل قهرًا؛ نظرًا لانقطاع التيار الكهربي عن المحول، وبعد خمس دقائق تقريبًا تعطل خط سانت جونز-ميروين عن العمل بسبب خلل في عمل المُرحِّل، وأدت الأعطال المتعاقبة إلى الدفع بكميات ضخمة من الطاقة شرقًا ثم غربًا عبر جبال كاسكيد، والوصول بالنظام إلى شفا تذبذبات خطيرة عالية الجهد الكهربي.
عندما يزيد الحمل على خطوط الطاقة ترتفع درجة حرارتها وتتمدد. وبحلول شهر أغسطس كانت الأشجار قد نمت طوال شهور الصيف، وبحلول الساعة الرابعة عصرًا تقريبًا، ومع وصول الضغط إلى أقصى درجاته، كانت حتى أقل الخطوط حملًا ترتخي في الشمس الحارقة. تمدد خط روس-ليكسينجتون ذو الحمل الزائد بقدر كبير، وصدم إحدى الأشجار المنتشرة في أرجاء المكان، كما حدث منذ ساعتين مع خط كيلر-أولستون. لم تتحمل مولدات ماكناري المجاورة ذلك الاضطراب الأخير، وتعطلت جميع مرحِّلاتها الوقائية الثلاثة عشر تدريجيًّا، ليصير النظام غير قادر على مواجهة أيٍّ من حالات الطوارئ التي صُمِّم للتغلب عليها. بدأت التذبذبات الأولية في الجهد الكهربي، وبعد سبعين ثانية توقفت الخطوط الثلاثة كلها بشبكة كاليفورنيا-أوريجون لتوزيع الكهرباء عن العمل؛ وهو عنق الزجاجة الذي تمر منه الطاقة الكهربائية بين شمال الساحل الغربي وجنوبه.
إحدى السمات الأساسية للطاقة الكهربائية هي صعوبة تخزينها البالغة، فيمكنك تزويد الهاتف أو الكمبيوتر المحمول بالطاقة لبضع ساعات باستخدام بطارية، لكن لم يطور أحد بعدُ تقنية لصناعة بطاريات تزوِّد مدنًا كاملة بالطاقة، وبناءً عليه، يجب توليد الطاقة عند احتياجها، ونقلها في الحال إلى حيث الحاجة إليها. والجانب الآخر لهذه القاعدة هو أن الطاقة الكهربية ما إن تُولَّد حتى يجب أن تنتقل إلى مكان ما، وهذا بالضبط ما كان من المفترض أن يحدث للطاقة المتدفقة إلى شمال كاليفورنيا؛ أن تنتقل إلى مكان ما، وعند انقطاعها عن كاليفورنيا، نظرًا لانفصال شبكة التوزيع، اندفعت شرقًا من ولاية واشنطن، ثم جنوبًا، كموجة مدٍّ، عبر إيداهو ويوتا وكولورادو وأريزونا ونيومكسيكو ونيفادا وجنوب كاليفورنيا، فتعطلت مئات الخطوط والمولدات، وانقسم النظام الغربي إلى أربع جزر منعزلة، وانقطعت الخدمة عن ٧٫٥ ملايين شخص. خيم الظلام تلك الليلة على سان فرانسيسكو، ومن رحمة الأقدار أنه لم تكن هناك أحداث شغب؛ الأمر الذي يمكن أن يشير إلى سمات معينة لأهالي سان فرانسيسكو مقارنةً بأهالي نيويورك. لكن في خضم هذا الانهيار انقطعت ١٧٥ وحدة توليد عن الخدمة، وتطلَّب بعضها — المفاعلات النووية — أيامًا عدة لإعادة تشغيلها، الأمر الذي قُدِّرت تكلفته الإجمالية بنحو ملياري دولار.
كيف حدث ذلك؟ حسنًا، من ناحية ما، نحن نعلم بالضبط كيف حدث. وعلى الفور شرع المهندسون العاملون في إدارة بونفيل للطاقة ومجلس التنسيق، في العمل، وأصدروا تقريرًا مفصلًا عما حدث من اضطراب في موعد لم يتجاوز منتصف أكتوبر. تمثلت المشكلة الرئيسية في ازدياد الطلب ومحدودية الموارد. وبخلاف ذلك، حمَّل التقرير مسئولية ما حدث لعدد من العوامل، التي شملت إهمال الصيانة، وعدم الانتباه كما ينبغي للعلامات التحذيرية. لعب كذلك الحظ السيئ دورًا في الأمر؛ فبعض وحدات النظام التي كان من الممكن أن تخفف من الصدمة كانت خارج الخدمة، إما للصيانة أو لإغلاقها بسبب اللوائح البيئية التي تفرض قيودًا على التخلص من المخلفات الكهرومائية في الأنهار التي تعيش بها أسماك السلمون. وأخيرًا، أشار التقرير إلى الفهم القاصر لاعتماد أجزاء النظام المتبادل بعضها على بعض.
هذا التعليق الأخير، الذي صدر كزلَّة بريئة وسط الأخطاء سهلة الفهم والمحددة بوضوح، هو ما يجب أن نركز عليه، لأنه يطرح التساؤل الآتي: ما خلل «النظام» الذي أدى إلى حدوث هذا العطل؟ وهذا الجانب من المشكلة لا علم لنا به على الإطلاق. تتمثل مشكلة الأنظمة المماثلة لشبكة الطاقة الكهربائية في أنها مؤلَّفة من الكثير من المكونات التي يسهل فهم سلوك كل مكون فردي منها على نحو معقول (ترجع فيزياء توليد الطاقة الكهربائية إلى القرن التاسع عشر)، لكن سلوكها الجماعي، مثل جماهير كرة القدم ومستثمري سوق الأسهم المالية، يمكن أن يكون في بعض الأحيان نظاميًّا، وفي أحيان أخرى فوضويًّا ومحيرًا، بل مدمرًا أيضًا. لم يكن الانهيار المتتالي الذي ضرب الغرب يوم ١٠ أغسطس عام ١٩٩٦ تسلسلًا من الأحداث الفردية العشوائية التي تراكمت ببساطة لتصل إلى حد الأزمة، لكن الأرجح أن العطل المبدئي زاد احتمالات وقوع أعطال تالية، وفور أن حدثت تلك الأعطال، زادت احتمالات وقوع المزيد من الأعطال، وهلم جرًّا.
لكن التحدث عن ذلك أمر، والفهم الدقيق للكيفية التي تجعل بعض الأعطال التي تقع في ظروف معينة غير ضارة، وتجعل أعطالًا أخرى أو ظروفًا مختلفة تؤدي إلى كوارث، أمر مختلف تمامًا. يحتاج المرء إلى التفكير ليس في عواقب الأعطال الفردية فقط، بل أيضًا في الأعطال المجمعة، الأمر الذي يُصعِّب المشكلة حقًّا. لكن الأمر يزداد سوءًا. ربما يكون أكثر الجوانب المحيرة للأعطال المتتالية، الذي تجلى في انقطاع الكهرباء في العاشر من أغسطس، هو أن المصممين جعلوا النظام «ككل»، دون قصد، أكثر عرضة لانهيار عام، كالذي حدث بالضبط، وذلك من خلال تركيب مرحِّلات وقائية بمولدات الكهرباء، والحد فعليًّا من إمكانية تعرُّض العناصر الفردية للنظام لضرر خطير.
(١) النشوء
كيف يتسنى لنا فهم مثل هذه المشكلات؟ أو بالأحرى، ما الذي تتسم به الأنظمة المتشابكة المعقدة ويجعل من الصعوبة بمكان فهمها في المقام الأول؟ كيف يؤدي الجمع بين مجموعة كبيرة من المكونات في صورة نظام إلى شيء مختلف تمامًا عن مجموعة غير مرتبطة من المكونات؟ كيف تتمكن مجموعات سراج الليل الوامضة، أو صراصير الليل المصرصرة، أو الخلايا الناظمة القلبية النابضة، من مزامنة إيقاعها دون مساعدة موصل مركزي؟ كيف يصبح التفشي البسيط لأحد الأمراض وباءً، أو انتشار إحدى الأفكار الجديدة هوسًا؟ كيف تظهر فقاعات المضاربة نتيجة لاستراتيجيات استثمارية لأفراد يتسمون بالتعقل فيما دون ذلك؟ وعندما تنفجر هذه الفقاعات، كيف ينتشر ضررها في جميع أنحاء النظام المالي؟ ما مدى ضعف شبكات البنية التحتية الضخمة، مثل شبكة الطاقة الكهربائية أو الإنترنت، أمام الأعطال العشوائية أو حتى الهجوم المُتعمَّد عليها؟ كيف تتطور الأعراف والتقاليد وتحتفظ بكيانها في المجتمعات البشرية؟ وكيف تتعرض للاضطراب، بل الاستبدال أيضًا؟ كيف يمكننا تعيين مواقع الأفراد أو الموارد أو الإجابات في عالم شديد التعقيد، دون التمتع بحق الوصول إلى مستودعات المعلومات المركزية؟ وكيف تتمكن الشركات التجارية ككيان كامل من الابتكار والتكيف بنجاح في حين لا يمتلك أي فرد واحد ما يكفي من المعلومات لحل المشكلات التي تواجهها الشركة أو حتى فهمها على نحو كامل؟
على الرغم من الاختلاف الذي قد تبدو عليه هذه الأسئلة، فإنها جميعًا صيغ مختلفة لسؤال واحد، وهو: «كيف يتجمع السلوك الفردي ليشكل سلوكًا جمعيًّا؟» مع ما يبدو عليه هذا السؤال من بساطة، فإنه أحد أكثر الأسئلة محورية وانتشارًا في جميع العلوم؛ فالمخ البشري — من منظور ما — هو تريليون خلية عصبية مرتبطة بعضها ببعض في صورة كتلة كهروكيميائية كبيرة، لكن في نظرنا جميعًا، المخ أكثر من ذلك بكثير، فهو يتسم بخواص كالوعي والذاكرة والشخصية، ولا يمكن وصفه على نحو بسيط كتجميعة من الخلايا العصبية.
أوضح فيليب أندرسون، الفائز بجائزة نوبل، في بحثه الشهير الصادر عام ١٩٧١ بعنوان «الكثرة مختلفة»، أن الفيزياء حققت نجاحًا معقولًا في تصنيف الجسيمات الأساسية، ووصف سلوكها الفردي وتفاعلاتها، حتى مستوى الذرات الفردية، لكن إذا وضعنا عدة ذرات معًا، فسيصير الأمر فجأة مختلفًا تمام الاختلاف. ولهذا السبب، تُعد الكيمياء علمًا مستقلًّا بذاته، وليست فرعًا من الفيزياء فحسب. وبالارتقاء أكثر في سلسلة التنظيم، لا يمكن اختزال علم الأحياء الجزيئية في كونه كيمياء عضوية فحسب، وبالمثل علم الطب أكثر بكثير من التطبيق المباشر لعلم الأحياء الجزيئية. وعلى مستوى أرقى — مستوى الكائنات الحية المتفاعلة بعضها مع بعض — نواجه الآن العديد من فروع المعرفة، بدءًا من علم البيئة والأوبئة، وصولًا إلى علم الاجتماع والاقتصاد، وهي فروع لكل منها قواعده ومبادئه الخاصة التي لا يمكن اختزالها في المعارف المتعلقة بعلم النفس وعلم الأحياء فحسب.
بعد مئات الأعوام من الإنكار، تبنى العلم الحديث أخيرًا هذه النظرة إلى العالم. لقد ظل حلم عالِم الرياضيات الفرنسي العظيم، بيير لابلاس، الذي عاش في القرن التاسع عشر — بأنه يمكن فهم الكون في إجماله من خلال اختزاله إلى طبيعة الجسيمات الأساسية ودراستها بواسطة حاسب قوي بما فيه الكفاية — يتردد طوال الجزء الأكبر من القرن الماضي على الساحة العلمية، كما لو كان ممثلًا بإحدى مسرحيات شكسبير مصابًا إصابة مميتة يناجي نفسه المناجاة الأخيرة قبل الوفاة. لكن ليس واضحًا تمامًا ما الذي حل محله؛ فمن ناحية، تبدو الفكرة القائلة: إن تكتيل مجموعة من الأشياء معًا سينتج عنه في النهاية شيء مختلف عن الأشياء المتفرقة، فكرة واضحة وبديهية، ومن ناحية أخرى، فإن إدراكنا أننا لم نحقق إلا تقدمًا بسيطًا في هذا الشأن يعطينا فكرة عن مدى صعوبته.
إن ما يجعل المشكلة صعبة والأنظمة المعقدة معقدة هو أن الأجزاء المكوِّنة للكل لا تتجمع في أي نمط بسيط، بل تتفاعل بعضها مع بعض، وفي ظل هذا التفاعل، حتى أبسط المكونات، يمكن أن يصدر عنها سلوك محير. وقد أوضح التخطيط الحديث للجينوم البشري أن الشفرة الأساسية للحياة البشرية بأكملها تتكون من نحو ثلاثين ألف جين فحسب، وهذا أقل بكثير مما توقعه أي شخص. من أين جاء كل هذا التعقيد الذي يتسم به علم الأحياء البشرية إذن؟ من الجلي أنه لم ينتج من تعقيد العناصر الفردية للجينوم، التي ما كان لها أن تكون أبسط من ذلك، ولا من عددها الذي لا يزيد بالكاد عن عددها في أبسط الكائنات الحية، بل ينشأ هذا التعقيد عن الحقيقة البسيطة القائلة: إن الخصائص الجينية نادرًا ما تعبِّر عنها الجينات الفردية. فمع أن الجينات — شأنها شأن البشر — توجد في صورة وحدات فردية متطابقة، فإنها «تؤدي وظائفها» عن طريق التفاعل، ويمكن لأنماط التفاعلات أن تعكس تعقيدًا غير محدود تقريبًا.
إذن ماذا عن النُّظم البشرية؟ إذا كانت تفاعلات الجينات فقط من شأنها إرباك أفضل العقليات في مجال الأحياء، فما أملنا في فهم تجمعات من مكونات أكثر تعقيدًا بكثير كأفراد أحد المجتمعات أو الشركات في أحد النظم الاقتصادية؟ إن التفاعلات بين كيانات تتسم في ذاتها بالتعقيد تؤدي بالتأكيد إلى تعقيد شديد للغاية، لكن لحسن الحظ، بقدر ما يتسم الأفراد عادةً بالتقلب والإرباك وعدم القدرة على توقُّع تصرفاتهم، فعندما يجتمع الكثيرون منهم، يمكننا في كثير من الأحيان فهم المبادئ التنظيمية الأساسية لهم مع تجاهل الكثير من التفاصيل المعقدة. هذا هو الجانب الآخر للأنظمة المعقدة؛ ففي حين أن معرفة القواعد الحاكمة لسلوك الأفراد لا تساعد بالضرورة في التنبؤ بسلوك حشد منهم، فقد يمكننا التنبؤ بسلوك هذا الحشد نفسه دون معرفة الكثير عن الخصائص والشخصيات المتفردة للأفراد الذين يتكوَّن منهم الحشد.
هذه قصة مُختلقَة توضح تلك النقطة الأخيرة: منذ بضعة أعوام في المملكة المتحدة، احتار المهندسون بأحد مرافق الطاقة من حالات تصاعد متزامنة غريبة في استهلاك الطاقة، انتشرت في الكثير من أجزاء الشبكة المحلية في آنٍ واحد، مما تسبب في إنهاك قدرتها الإنتاجية على نحو خطير، وإن كان ذلك لبضع دقائق فقط في المرة الواحدة. وأخيرًا، توصل أولئك المهندسون إلى السبب وراء ذلك عندما أدركوا أن أسوأ حالات هذا التصاعد حدثت أثناء بطولة كرة القدم السنوية، التي يتسمر خلالها الجميع أمام أجهزة التليفزيون. وفي فترة الاستراحة بين الشوطين، كانت هذه الجموع من مشجعي كرة القدم ينهضون من فوق أرائكهم، في آن واحد تقريبًا، ويضعون الغلاية على النار لإعداد كوب من الشاي. ومع أن البريطانيين — كأفراد — على القدر نفسه من التعقيد الذي يتسم به غيرهم، فليست هناك حاجة لمعرفة الكثير عن كلٍّ منهم للتوصل إلى سبب حالات التصاعد في الطلب على الطاقة، سوى أنهم يحبون كرة القدم والشاي، وفي هذه الحالة، يُعد التمثيل البسيط للأفراد كافيًا.
لذا، في بعض الأحيان، يمكن أن تؤدي التفاعلات بين الأفراد داخل نظام كبير إلى قدر أكبر من التعقيد مقارنةً بما يعكسه الأفراد أنفسهم، وأحيانًا أقل. وفي كلتا الحالتين، يمكن أن يكون للأسلوب المحدد الذي يتفاعلون به نتائج شديدة التأثير على الظواهر الجديدة — بدءًا من علم الوراثة السكانية، مرورًا بتزامن وقوع الأحداث في العالم، وصولًا إلى الثورات السياسية — التي يمكن أن «تظهر» على مستوى المجموعات أو الأنظمة أو السكان. لكن كما هو الحال في الانهيار التتابعي لشبكة الطاقة الكهربائية، فإن التعبير عن ذلك بالكلام أمر، وفهمه بدقة أمر مختلف تمامًا. فعلى وجه التحديد، ما الذي يجب أن ننتبه إليه في نماذج التفاعل بين الأفراد داخل النظم الكبيرة؟ لا يملك أحد الإجابة عن هذا السؤال بَعْدُ، لكن عددًا متزايدًا من الباحثين في السنوات الأخيرة تتبع خيطًا جديدًا مبشرًا في هذا الشأن. وينبثق عن هذا العمل — الذي يقوم في حد ذاته على عشرات السنين من النظريات والتجارب في كل المجالات، بدءًا من الفيزياء ووصولًا إلى علم الاجتماع — علم جديد، ألا وهو علم الشبكات.
(٢) الشبكات
بطريقة ما، ليس هناك ما هو أبسط من الشبكات؛ فعلى المستوى المجرد تمامًا، ليست الشبكة سوى مجموعة من الأشياء المرتبطة بعضها ببعض على نحو ما، ومن ناحية أخرى، فإن التعميم المطلق لمصطلح «الشبكة» يجعل من الصعب تحديدها بدقة، وهذا أحد الأسباب وراء كون علم الشبكات مجالًا بحثيًّا مهمًّا. يمكن أن نتحدث عن أفراد في شبكة من الأصدقاء أو مؤسسة كبيرة، أو موجهات البيانات على امتداد البنية الأساسية للإنترنت، أو الخلايا العصبية في المخ؛ كل هذه الأنظمة شبكات، لكنها جميعًا متباينة تمامًا من ناحية أو أخرى. ومن خلال تطوير لغة للتحدث عن الشبكات تتسم بالدقة الكافية، ليس فقط لوصف ماهية الشبكة، بل أيضًا لوصف الأنواع المختلفة للشبكات الموجودة في العالم، يضفي علم الشبكات على المفهوم قوة تحليلية حقيقية.
لكن لماذا يُعد هذا الأمر جديدًا؟ يمكن لأي عالم رياضيات أن يخبرك بأن الشبكات دُرسَت كموضوعات رياضية تحت اسم «الرسوم البيانية» منذ عام ١٧٣٦، وذلك عندما توصل ليونهارت أويلر، أحد أعظم العلماء في تاريخ الرياضيات، إلى أن معضلة اجتياز الجسور السبعة لمدينة كونيسبيرج البروسية دون عبور الجسر نفسه مرتين، يمكن صياغتها في صورة رسم بياني (وقد أثبت، بالصدفة، أنه يستحيل فعل ذلك، وكانت تلك أول مبرهنة في نظرية الرسم البياني). خطَتْ نظرية الرسوم البيانية منذ عهد أويلر خطوات ثابتة نحو التطور لتصبح فرعًا رئيسيًّا من فروع علم الرياضيات، وامتد أثرها إلى علم الاجتماع وعلم الإنسان وعلم الهندسة والكمبيوتر والفيزياء والأحياء والاقتصاد، فصار لكل مجال صيغته الخاصة من نظرية الشبكات، مثلما لديه وسيلته الخاصة لتجميع السلوك الفردي في صورة سلوك جمعي. إذن لماذا لا يزال هناك من الأمور الجوهرية ما يحتاج إلى الكشف عنه؟
النقطة المحورية هنا هي أنه في الماضي، كان يُنظَر إلى الشبكات على أنها «بناء خالص»، سماته «ثابتة مع الوقت»، وهذان الافتراضان بعيدان تمامًا عن الصحة؛ فأولًا: تمثل الشبكات الحقيقية مجموعات من المكونات الفردية التي «تفعل شيئًا ما» في الواقع؛ تولِّد طاقة أو ترسل بيانات أو تتخذ قرارات. ومع أن بنية العلاقات القائمة بين مكونات إحدى الشبكات مثيرة للاهتمام، فإن أهميتها ترجع في المقام الأول إلى أنها تؤثر إما على سلوك أفرادها أو سلوك النظام ككل. ثانيًا: الشبكات كيانات ديناميكية، ليس فقط لأن ثمة أمورًا تحدث في النظم المتصلة بشبكات، بل أيضًا لأن الشبكات نفسها تتطور وتتغير مع الوقت، مدفوعةً بالأنشطة أو القرارات الصادرة عن هذه المكونات ذاتها، ومن ثم، في العصر المتشابك، «يعتمد ما يحدث وكيفية حدوثه على الشبكة»، والشبكة بدورها تعتمد على ما حدث من قبل. وهذه النظرة للشبكة — باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من نظام مشكِّل لذاته دائم التطور — هي الجديد حقًّا بشأن علم الشبكات.
لكن فهم الشبكات على هذا النحو الأشمل يُعد مهمة فائقة الصعوبة، وهي ليست معقدة بطبيعتها فحسب، بل تتطلب أيضًا أنواعًا مختلفة من المعرفة المتخصصة التي تنتمي إلى تخصصات أكاديمية منفصلة، بل وفروع معرفية منفصلة أيضًا. يملك علماء الفيزياء والرياضيات مهارات حسابية وتحليلية مذهلة، لكنهم لا يقضون قدرًا كبيرًا من الوقت في التفكير في السلوك الفردي أو الحوافز المؤسسية أو الأعراف الثقافية، في حين يفعل ذلك متخصصو علم الاجتماع وعلم النفس وعلم الإنسان. وعلى مدار نصف القرن الماضي أو أكثر، أخذ هؤلاء يفكرون في العلاقة بين الشبكات والمجتمع على نحو أكثر عمقًا ودقة، مقارنةً بأي شخص آخر، وهو التفكير الذي صار ينطبق الآن على مجموعة مذهلة من المشكلات، بدءًا من علم الأحياء ووصولًا إلى الهندسة، لكن في ظل الافتقار إلى الأدوات البراقة الخاصة بعلماء الرياضيات، تعثَّر المشروع الضخم لمتخصصي العلوم الاجتماعية عقودًا من الزمان.
لذا، إذا قُدِّر لعلم الشبكات الحديث النجاح، فيجب أن يجمع من كل فروع المعرفة الأفكار الملائمة والأفراد الذين يفهمونها. باختصار، يجب أن يصبح علم الشبكات انعكاسًا لموضوعه، بمعنى أن يكون شبكة من العلماء يتوصلون معًا إلى حلول لمشكلات لا يمكن لفرد واحد — أو حتى فرع واحد من فروع المعرفة — حلها. إنها مهمة مخيفة يزيد من صعوبتها تلك الحدود الراسخة التي تفصل العلماء بعضهم عن بعض. إن لغات فروع المعرفة المتعددة مختلفة تمامًا، وكثيرًا ما نجد نحن العلماء صعوبة كبيرة في فهم بعضنا البعض، وتتسم اتجاهاتنا أيضًا بالاختلاف؛ لذلك يجب على كلٍّ منا أن يتعلم ليس فقط كيف يتحدث الآخرون، بل أيضًا كيف يفكرون. لكن هذا ما يحدث بالفعل، فقد شهدت السنوات القليلة الماضية زيادة مهولة في الأبحاث، والاهتمام بجميع أنحاء العالم؛ سعيًا للعثور على نموذج جديد لوصف عصرنا المتشابك وتفسيره، ومن ثم فهمه، لكننا لم نصل إلى تلك المرحلة بعد، ولا حتى اقتربنا منها، وإن كنا نحقق تقدمًا مثيرًا إلى حد ما، كما هو موضح في الصفحات التالية.
(٣) المزامنة
بدأ دوري في هذه القصة — بالصدفة كما هو الحال في الكثير من القصص — في بلدة صغيرة شمال مدينة نيويورك اسمها إيثاكا. أعتقد أن مكانًا مسمى تيمنًا بالموطن الأسطوري لأوديسيوس يُعد مكانًا جيدًا لبدء أي قصة، لكن في تلك الأثناء كان أوديسيوس الوحيد الذي أعرفه هو صرصور ليل صغير أُجري عليه تجربة مع أخويه بروميثيوس وهرقل عندما كنت طالبًا بالدراسات العليا بجامعة كورنيل مع مرشدي، ستيفن ستروجاتس. كان ستيف عالم رياضيات، لكن في مرحلة مبكرة من مسيرته المهنية صار مهتمًّا بتطبيقات الرياضيات على مشكلات علمَي الأحياء والفيزياء، بل على علم الاجتماع أيضًا، أكثر من اهتمامه بتطبيقها في الحسابات الرياضية نفسها، حتى أثناء دراسته في جامعة برنستون في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، لم يمنع نفسه من إقحام الرياضيات في دراساته الأخرى. ولأن ستيف كان مطالبًا بدراسة علم الاجتماع، فقد أقنع معلمه أنه يجب السماح له بإقامة مشروع في الرياضيات بدلًا من كتابة بحث للنجاح في الفصل الدراسي، ووافق المعلم، لكنه ظل حائرًا قليلًا، فما نوع الرياضيات التي يمكن استخدامها في مادة علم الاجتماع التمهيدي؟ اختار ستيف دراسة العلاقات الرومانسية، وصاغ مجموعة بسيطة من المعادلات التي تصف التفاعل بين عاشقين، هما روميو وجولييت، وحل هذه المعادلات. وعلى الرغم من غرابة الأمر، بعد خمسة عشر عامًا في أحد المؤتمرات في ميلان، بادرني بالتحية عالم إيطالي كانت الحماسة تملؤه بشأن عمل ستيف، وكان يحاول تطبيقه على حبكات درامية لأفلام رومانسية إيطالية.
واصل ستيف مسيرته ليفوز بمنحة دراسية في جامعة مارشال، وخضع لامتحان تريبوس المهيب في الرياضيات بجامعة كامبريدج، الذي خلده جي إتش هاردي العظيم في مذكرته «اعتذار عالم رياضيات». لم يرُق له الأمر كثيرًا، وسرعان ما وجد نفسه يتوق إلى موطنه، وإلى مشكلة بحثية يغرق فيها حتى أذنيه، ولحسن الحظ، التقى بعالم الأحياء الرياضي آرثر وينفري الذي كانت له الريادة في دراسة «المذبذبات» البيولوجية، وهي كيانات ذات إيقاع منظوم كالخلايا العصبية التي تومض في المخ، والخلايا الناظمة القلبية التي تنبض في القلب، وحشرات سراج الليل التي تومض بين الأشجار. ساعد وينفري (الذي كان بالصدفة طالبًا بجامعة كورنيل) ستيف على استهلال حياته المهنية من خلال التعاون معه في مشروع لتحليل بنية الموجات الحلزونية في القلب البشري. والموجات الحلزونية هي موجات الكهرباء التي تبدأ في الخلايا الناظمة القلبية وتنتشر بعد ذلك بجميع أنحاء عضلة القلب لتستحث نبضه وتنظمه، ومن المهم فهمها، لأنها في بعض الأحيان تتوقف أو تفقد ترابطها، وهو الحدث الذي قد يكون قاتلًا، ويُعرَف باسم اضطراب النظم. لم يفعل أحد أكثر مما فعله آرثر وينفري لفهم ديناميكيات القلب، وعلى الرغم من ابتعاد ستيف سريعًا عن ذلك المشروع تحديدًا، فقد ظل مفتونًا بالمذبذبات والدورات، خاصةً في النظم البيولوجية.
أجرى ستروجاتس في رسالة الدكتوراه بجامعة هارفارد تحليلًا مفصلًا (ومضنيًا!) للبيانات المتعلقة بدورة النوم والاستيقاظ لدى البشر، محاولًا فك شفرة الإيقاعات اليومية التي تؤدي إلى الشعور بالإعياء الناجم عن الفرق الزمني عند السفر عبر المناطق الزمنية، إلى جانب أمور أخرى. لم يحالفه النجاح قط، ودفعته التجربة إلى التفكير في دوائر بيولوجية أبسط وأكثر اتصالًا بالرياضيات، وهنا بدأ العمل مع رينيه ميرولو، وهو عالم رياضيات بجامعة بوسطن. كتب ستروجاتس وميرولو، اللذان ألهمتهما أبحاث الفيزيائي الياباني يوشيكو كوراموتو (الذي صار آرثر وينفري نفسه هو ملهمه الأساسي)، عددًا من الأبحاث المؤثرة عن الخصائص الرياضية لفئة بسيطة للغاية من المذبذبات تُعرَف باسم يناسبها تمامًا، هو «مذبذبات كوراموتو». تتمثل المعضلة الأساسية التي كانا يهتمان بها، وغيرهما كثيرون، في المزامنة: ما الظروف التي تبدأ في ظلها المذبذبات في الحركة على نحو متزامن؟ يتعلق هذا السؤال بالأساس — شأن كثير من أسئلة هذه القصة — بظهور سلوك عام من التفاعلات بين الكثير من الأفراد. تُعد مزامنة المذبذبات صورة شديدة البساطة والوضوح لظهور السلوك الجمعي من سلوك الأفراد، ومن ثم فهي جزء من موضوع غامض بوجه عام فُهِم جيدًا إلى حد ما.
بلغة المذبذبات، يمثل التكتل «وضعًا متزامنًا»، ويعتمد تزامن النظام أو عدم تزامنه على توزيع «الترددات الفعلية» (زمن الدورات الفردية) و«قوة الارتباط» (قدر الانتباه الذي يوليه كل فرد للآخر). إذا كانت جميع المذبذبات تتمتع بالقدرة ذاتها، وبدأت معًا، فسوف تظل متزامنة بصرف النظر عن ارتباطها. وإذا كان توزيع قدراتها كبيرًا، كما هو الحال في نهائي سباق العدو السريع لمسافة عشرة آلاف متر، فمهما تكن رغبتها في البقاء معًا، فسيتفكك التكتل وتختفي المزامنة. على الرغم من بساطة هذا النموذج، فهو تمثيل جيد للعديد من النظم المثيرة للاهتمام في الأحياء، بدءًا من الخلايا الناظمة القلبية وصولًا إلى وميض حشرات سراج الليل وصرير صراصير الليل. درس ستروجاتس أيضًا رياضيات النظم الفيزيائية، مثل مجموعات موصِّلات جوزفسون فائقة التوصيل، وهي مفاتيح فائقة السرعة قد تشكل في أحد الأيام الأساس لجيل جديد من أجهزة الكمبيوتر.
عند وصول ستيف إلى كورنيل عام ١٩٩٤، كان قد حقق مكانةً رائدة في مجال ديناميكيات المذبذبات المتصلة، وألَّف كتابه الذي يعرض فيه مقدمة واضحة للديناميكيات اللاخطية والفوضى، وحقق حلمه كمراهق بأن يشغل منصبًا في إحدى جامعات الأبحاث الرائدة. كان قد حصل على جوائز في مجالَي التدريس والأبحاث، ودرس في بعض أفضل الجامعات في العالم وعمل فيها، مثل برنستون وكامبريدج وهارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وببلوغه منتصف الثلاثينيات من العمر، كان يتمتع بسيرة ذاتية شديدة التميز، ومع ذلك كان يشعر بالملل؛ فلقد ظل يقوم بالعمل نفسه تقريبًا على مدار عشر سنوات، وإن كان ذلك أسعده. شعر ستيف أنه وصل إلى أقصى درجات الإتقان الممكنة في ذلك الجانب من الدراسات الأكاديمية، وكان مستعدًّا لبدء الاستكشاف من جديد؛ لكن أين؟
كان أول تفاعل لي مع ستيف عندما كان في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وكنت طالبًا بالسنة الأولى من الدراسات العليا في جامعة كورنيل. وشأني شأن الكثير من طلاب الدراسات العليا، انتهت تمامًا رؤاي الحالمة عن الحياة في إحدى جامعات الأبحاث، وحررني الواقع الصعب، والممل في كثير من الأحيان، من الأوهام تمامًا، قررت أن أي مكان سيكون أفضل من كورنيل. كان ستروجاتس قد ألقى مؤخرًا خطابًا في قسمي — وهو الخطاب الأول الذي شعرت أنني قد فهمته فعلًا — فاتصلتُ به لأرى هل هو بحاجة لتعيين مساعد أبحاث جديد. أجابني بأنه في حقيقة الأمر سينتقل إلى جامعة كورنيل، وإلى قسمي تحديدًا (وتبيَّن أن خطابه كان جزءًا من مقابلة العمل الخاصة به)؛ فبقيتُ في الجامعة.
كان الإجراء المتبع مع طلاب الدراسات العليا في قسمي هو أن يخضعوا في نهاية العام الأول لامتحان قبول يُعرَف باسم «امتحان كيو»، وُضِع هذا الامتحان لاختبار معرفتهم العملية بشأن كل شيء من المفترض أن يكونوا قد تعلموه أثناء دراستهم الجامعية وعامهم الأول في الدراسات العليا، وهو امتحان شفهي، يدخل فيه كل طالب غرفة مليئة بالأساتذة الذين يمطرونه بأسئلة يكون عليه حلها على السبورة، وفي حال نجاح الطالب يُسمَح له بمواصلة الدراسة للحصول على شهادة الدكتوراه. لكن ماذا إن رسب؟ حسنًا، ليس من المفترض أن يرسب أحد. من الطبيعي إذن أن يكون هذا الامتحان تجربة مخيفة إلى حد ما (مع أن أغلب الرعب يكمن في الترقب). وبالمصادفة، لم أكن راجعت السؤال الوحيد الذي سألني إياه ستروجاتس على الإطلاق، وبعد التردد بضع دقائق على السبورة صار عدم استعدادي للسؤال واضحًا تمامًا، فجنَّبوني المزيد من الإذلال رحمةً بي، وانتقلنا إلى السؤال التالي، ولحسن الحظ، سار باقي الامتحان على ما يرام، وبالفعل نجحتُ (نجحنا جميعًا). وبعد أسبوع أو اثنين، بعد ندوة أخرى يصعب فهمها في القسم، اقترب ستيف مني، وأدهشني باقتراحه أن نتحدث بشأن العمل معًا.
أستاذ شاعر بالضجر إلى حد ما، وطالب شبه يائس، لا يبدوان ثنائيًّا مثاليًّا، لكنهما كانا كذلك. وعلى مدار العامين التاليين أخذنا نتردد بين مجموعة متنوعة من المشروعات، وقضينا وقتًا طويلًا نتناقش في الفلسفة قدر مناقشتنا للرياضيات؛ ليس الفلسفة الوجودية، بل العملية. أيُّ القضايا كانت مثيرة؟ وأيها كانت صعبة؟ من الذي نال عمله إعجابنا؟ ولماذا؟ ما مدى أهمية الإتقان الفني مقارنةً بالإبداع والجرأة؟ ما مقدار الوقت الذي من المفترض أن يقضيه المرء في الاطلاع على أعمال الآخرين قبل خوضه مجالًا غير مألوف له؟ بمعنى آخر، ما الذي يعنيه العمل في مجال علمي مثير؟ وكما أظن الحال في أغلب جوانب الفلسفة، كانت الإجابات — باعتبار أننا توصلنا إلى أيٍّ منها — أقل أهمية من عملية التفكير في الأسئلة ذاتها. كان لتلك العملية تأثير عميق على عملنا التالي، وقد اتضح أن ذلك التردد لم يسمح لنا فقط بأن نصبح أصدقاء ومنحني الفرصة لإنهاء دراستي، بل حررنا أيضًا من التركيز على مشروع واحد محدد لفترة كافية تمكننا خلالها من التفكير فيما كنا «نريده» حقًّا، بدلًا مما كنا نظن أن «باستطاعتنا» فعله، وكان لذلك كل الفارق.
(٤) الطريق الأقل ارتيادًا
حين توصلنا مصادفةً إلى مشروعنا النهائي، كنا ندرس الصراصير دون أي شيء آخر. يبدو الأمر سخيفًا، لكن نظرًا لأن هذا النوع من الصراصير تحديدًا — وهو صرصور الأشجار الثلجية — يصدر صريرًا منتظمًا، ولأنه (على عكس الخلايا الناظمة القلبية أو الخلايا العصبية) مادة جيدة للتجربة، فإنه نوع مثالي فعليًّا للمذبذبات البيولوجية. كنا نحاول التحقق من فرضية رياضية متعمقة كان وينفري أول من طرحها، وتنص على أن أنواعًا معينة فقط من المذبذبات يمكن أن تتزامن. ونظرًا لأن هذه الصراصير بارعة للغاية في المزامنة، فقد بدت الخطوة الطبيعية أن نحدد «تجريبيًّا» أي نوع من المذبذبات هذه الصراصير، ومن ثم هل التنبؤات النظرية صحيحة أم لا.
إن الصراصير محل اهتمام علماء الأحياء أيضًا، وهو ما لا يدعو للدهشة؛ فنظرًا لأن الصرير يرتبط على نحو وثيق بنجاح عمليتَي التزاوج والتناسل، فإن الآليات المؤدية إلى المزامنة العامة تُعد قضايا بيولوجية مهمة، ومن ثم عملتُ أنا وستيف مع عالِم حشرات يُدعى تيم فورست، وقضيت معه ليالي صيفية عديدة نتجول بين الأشجار في حرم جامعة كورنيل الضخم بحثًا عن العينات، التي تضمنت أوديسيوس الذي ذكرته آنفًا. وبعد أن جمعنا مجموعتنا الصغيرة، عزلنا كلًّا منها في حجيرة عازلة للصوت، وبعثنا إليها بصوت صرير باستخدام جهاز كمبيوتر كان تيم قد زوَّده بنظام سماعات ومكبر صوت. ومن خلال تسجيل استجابات الصراصير لمنبهات الكمبيوتر المحدد توقيتها بدقة، تمكنا من وصف مدى تقدم أحد الصراصير أو تأخره في الصرير التالي اعتمادًا على مرحلة دورته الطبيعية التي يسمع فيها «الصرصور» الآخر، الذي هو في هذه الحالة جهاز الكمبيوتر (من الواضح أنه من السهل خداع الصراصير).
لكن ذلك كان الجزء السهل؛ فالموقف الذي خططنا له كان اصطناعيًّا على نحو مذهل؛ صرصور واحد في حجيرة عازلة للصوت يصدر صريرًا في عزلة، مع حث عرضي من جهاز كمبيوتر لم يكن حتى يستمع للصرصور في المقابل. ما كان ذلك ليحدث في العالم الحقيقي أبدًا؛ فالصراصير لا تستمع وتستجيب بعضها لبعض فحسب، بل من الطبيعي أيضًا أن يوجد الكثير من الصراصير في أي شجيرة أو شجرة، وجميعها تفعل الأمر نفسه. السؤال الذي أفكر فيه هو: من كان يستمع لمن؟ بالتأكيد، ليس هناك صرصور رئيسي يلقن الآخرين جميعًا. لكن إذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف إذن تمكنت الصراصير من تحقيق المزامنة على هذا النحو البارع؟ هل يستمع كل صرصور للصراصير الأخرى جميعها، أم لصرصور واحد فقط، أم ربما لعدد قليل فحسب؟ ما البنية التي تتسم بها جميع الصراصير، إن كانت هناك بنية أساسًا؟ وهل لها أهمية بالفعل؟
لم أكن معتادًا آنذاك على رؤية الشبكات في كل مكان أنظر إليه، لكن مع ذلك طرأت على ذهني فكرة أن نموذج التفاعلات — «طوبولوجيا الارتباط» بلغة نظرية المذبذبات — يمكن النظر إليه كنوع من الشبكات. فكرتُ أيضًا أن بنية الشبكة يمكن أن تؤثر على قدرة مجموعة من الأفراد على المزامنة، ومن ثم قد يكون من المهم فهمها ككيان مستقل بذاته. ومن خلال التفكير كأي طالب بالدارسات العليا، افترضت أن مسألة طوبولوجيا الارتباط واضحة، ومن ثم فالإجابة معروفة منذ فترة طويلة، وكل ما يجب عليَّ فعله هو البحث عنها، لكن بدلًا من التوصل إلى إجابة، كان كل ما توصلت إليه هو المزيد من الأسئلة. لم يقتصر الأمر على عدم البحث مطلقًا في العلاقة بين بنية الشبكة وتزامن المذبذبات فحسب، لكن من الواضح أنه لم يبذل أي شخص جهدًا كبيرًا في التفكير في العلاقة بين الشبكات وأي نوع من الديناميكيات، بل يبدو أنه لم ينتبه أحد قط للسؤال الأكثر أهمية المتعلق بنوع الشبكات الموجودة بالفعل في العالم الحقيقي، على الأقل بين علماء الرياضيات، وبدأ يتضح لي أنني توصلت إلى ما يأمل أي طالب بالدراسات العليا في العثور عليه؛ ألا وهو ثغرة حقيقية في العلم، أو باب غير معروف مفتوح بقدر يسير، أو فرصة لاستكشاف العالم بأسلوب جديد.
تذكرت آنذاك أمرًا كان قد أخبرني به والدي منذ عام في مكالمة هاتفية مساء أحد أيام الجمعة، سألني والدي — لسبب ما لا يتذكره أيٌّ منَّا: هل سمعتَ عن فكرة أن أحدًا لا يبتعد «عن الرئيس أكثر من ست درجات»؟ بمعنى أنك تعرف شخصًا ما، وهذا الشخص يعرف شخصًا آخر، وهلم جرًّا إلى أن تصل إلى شخص يعرف رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. لم أكن قد سمعت عن هذه الفكرة، وأذكر أنني أخذت أحاول تخيل كيف يمكن أن يكون ذلك ممكنًا أثناء استقلالي الحافلة ما بين إيثاكا وروشستر. لم أحقق أي تقدم ذلك اليوم أو منذ ذلك الحين، لكنني أتذكر أنني فكرت في المسألة كشبكة علاقات بين أفراد، كل فرد له دائرة من المعارف — شبكة من الجيران — الذين لهم معارف بدورهم، وهكذا، بما يشكِّل نموذجًا متشابكًا عامًّا من روابط الصداقة والعمل والعائلة والمجتمع، يمكن من خلاله تتبع المسارات التي تربط بين أي شخص عشوائي وأي شخص آخر. وأرى الآن أن طول هذه المسارات قد يكون له علاقة بالكيفية التي تنتشر من خلالها التأثيرات — سواء أكانت أمراضًا أم شائعات أم أفكارًا أم اضطرابات اجتماعية — بين مجموعة من البشر، وإذا كانت سمة «الدرجات الست» تنطبق أيضًا على الشبكات غير البشرية، مثل المذبذبات البيولوجية مثلًا، فقد يكون من المهم فهم ظواهر معينة مثل المزامنة.
بدت فجأة الخرافة الحضرية الغريبة التي أخبرني بها أبي شديدة الأهمية، وقررت أن أسبر أغوارها، وبعد عدة أعوام، كنا لا نزال عند النقطة نفسها، كانت الثغرة، حسبما اتضح، عميقة للغاية ولن تُستكشَف وتُستبيَن بوضوح إلا بعد مرور العديد من الأعوام، لكننا حققنا بالفعل بعض التقدم المُرْضي، وعرفنا أيضًا الكثير عن مسألة الدرجات الست، التي لا تمثل خرافة حضرية على الإطلاق، وإنما مشروعًا بحثيًّا اجتماعيًّا منطقيًّا ذا تاريخ زاخر.
(٥) مسألة العالَم الصغير
في عام ١٩٦٧ أجرى عالم النفس الاجتماعي ستانلي ميلجرام تجربة استثنائية، كان ميلجرام مهتمًّا بفرضية لم يكن قد بُتَّ فيها بعد، وكانت تنتشر آنذاك في الأوساط الاجتماعية، تمثلت هذه الفرضية في أن العالم، عند النظر إليه كشبكة ضخمة من المعارف الاجتماعية، يُعد «صغيرًا» نوعًا ما؛ بمعنى أن أي شخص في العالم يمكن الوصول إليه من خلال شبكة من الأصدقاء في بضع خطوات فقط. عُرفَتْ هذه المسألة باسم «مسألة العالَم الصغير» نسبةً إلى المزحة المتداولة في الحفلات عندما يكتشف شخصان غريبان أن أحد معارفهما مشترك ويذكِّر أحدهما الآخر كم أن «العالم صغير» (يحدث لي هذا كثيرًا).
في الواقع، ليست هذه الملاحظة التي تُذكَر في الحفلات مساوية تمامًا لمسألة العالم الصغير التي كان يبحث فيها ميلجرام، فنسبة صغيرة فقط من الناس في العالم يمكن أن يكون لهم معارف مشتركون، وحقيقة أننا قد نقابلهم مصادفة بانتظام مدهش تتعلق بنزعتنا للانتباه إلى أمور تفاجئنا (ومن ثم المبالغة في تقدير مدى تكرار هذه الأمور) أكثر من تعلقها بالشبكات الاجتماعية. ما أراد ميلجرام توضيحه هو أنه حتى عندما لا أعرف شخصًا يعرفك (أي في كل المرات التي نقابل فيها أفرادًا ولا ينتهي لقاؤنا بعبارة «يا له من عالم صغير»)، فلا أزال أعرف شخصًا يعرف بدوره شخصًا آخر يعرف شخصًا يعرفك. والسؤال الذي يطرحه ميلجرام هو: كم عدد الأشخاص الذين تتضمنهم هذه السلسلة؟
للإجابة عن هذا السؤال، ابتكر ميلجرام وسيلة مبتكرة لتوصيل الرسائل لا تزال تُعرف حتى الآن باسم «طريقة العالم الصغير». أعطى ميلجرام خطابات لبضع مئات من الأفراد اختيروا عشوائيًّا من بوسطن وأوماها بولاية نبراسكا، كان من المفترض أن تُرسَل هذه الخطابات إلى فرد واحد مستهدف، وهو سمسار أوراق مالية من شارون بولاية ماساتشوستس، ويعمل في بوسطن. لكن كانت هناك قاعدة غريبة تتعلق بالخطابات، وهي أن مستلميها لا يمكنهم إرسالها إلا إلى شخص يعرفونه معرفة وثيقة، وبالطبع، إذا كان المستلم يعرف الشخص المستهدف، فيمكنه إرسال الخطاب إليه مباشرةً، لكن في حال عدم معرفته به، وكانت تلك المعرفة أمرًا غير محتمل إلى حد بعيد، كان عليه إرسال الخطاب إلى شخص يعرفه ويعتقد أنه أقرب نوعًا ما من الشخص المستهدف.
يتمثل التناقض الذي تتسم به الشبكات الاجتماعية وأوضحته تجربة ميلجرام في أنه، من ناحية، يعد العالم كثير التجمعات، بمعنى أن الكثير من الأصدقاء أصدقاء بعضهم لبعض أيضًا. لكن من ناحية أخرى، لا يزال بإمكاننا الوصول إلى أي شخص من خلال بضع خطوات قليلة فحسب. ومع أن فرضية ميلجرام عن العالم الصغير لم تصادف اعتراضًا لما يزيد عن ثلاثة عقود، فإنها لا تزال مثيرة للدهشة حتى يومنا هذا. تقول أويزا في مسرحية جون جوار: «كل فرد على هذا الكوكب يفصل بينه وبين أي شخص آخر ستة أشخاص فقط؛ ست درجات من الانفصال بيننا وبين أي شخص آخر على سطح هذا الكوكب؛ سواء أكان رئيس الولايات المتحدة، أم سائق جندول في البندقية … لا يقتصر الأمر على الشخصيات الهامة فحسب، بل ينطبق على أي شخص … أحد السكان المحليين لغابة مطيرة أو في منطقة الإسكيمو. إنني مرتبطة بكل شخص على هذا الكوكب بسلسلة مكونة من ستة أشخاص. إنها فكرة عميقة.»
إنها فكرة عميقة بالفعل، لكن إذا كنا لا نفكر إلا في مجموعة فرعية محددة من الناس بيننا وبينهم شيء واضح مشترك، فيمكن من ناحية أخرى أن نعتقد أن النتيجة ليست غريبة. على سبيل المثال، إنني أعمل بالتدريس في إحدى الجامعات، ونظرًا لأن مجتمع الجامعة يتكون من عدد صغير نسبيًّا من الأشخاص، أكثرهم يشتركون في أمور كثيرة، فمن السهل نسبيًّا عليَّ أن أتخيل كيف يمكنني نقل رسالة عبر سلسلة من الزملاء إلى أي أستاذ جامعي آخر بأي مكان في العالم، وبالحجة نفسها، يمكنك الاقتناع بأنه يمكنني توصيل رسالة إلى معظم المهنيين خريجي الجامعات في منطقة نيويورك، لكن هذه ليست في الحقيقة ظاهرة العالم الصغير، بل إنها أشبه بظاهرة المجموعة الصغيرة، فمسألة ظاهرة العالم الصغير أعمق بكثير من ذلك؛ فهي تنص على أن بإمكاني توصيل رسالة لأي شخص، حتى إن لم يكن بيننا أي شيء مشترك على الإطلاق. يبدو الأمر أقل وضوحًا الآن؛ ربما لأن المجتمع البشري مبتلى بالكثير من التصدعات التي يسببها اختلاف العِرق والطبقة الاجتماعية والدين والجنسية.
على مدى ثلاثين عامًا أو أكثر، وبينما كانت ظاهرة العالم الصغير تتطور لتتحول من تخمين اجتماعي منطقي إلى جزء من الثقافة الشعبية، ظلت الطبيعة الفعلية للعالم قيد البحث، وظلت المفارقة الكامنة في جوهرها — المتمثلة في فكرة أن من يبدون بعيدين تمامًا يمكن أن يكونوا قريبين فعليًّا — كما هي بالضبط؛ مفارقة. لكن شهدت الأعوام القليلة الماضية ثورة في البحث النظري والتجريبي، أغلبه من خارج علم الاجتماع، الذي لم يساعد فقط في حل ظاهرة العالم الصغير، بل أشار أيضًا إلى أن هذه الظاهرة أعم مما يمكن لأي أحد تخيله. وإعادة الاكتشاف هذه لظاهرة العالم الصغير، التي اقتصرت معرفتها فترة طويلة على علماء الاجتماع فحسب، أدت إلى مجموعة أكبر من الأسئلة عن الشبكات ترتبط بمجموعة كاملة من التطبيقات في العلوم والأعمال والحياة اليومية.
كما هو الحال غالبًا في العلوم (بل في حل مشكلات الحياة اليومية أيضًا)، أمكن التوصل إلى الفكرة التي أدت إلى الخروج من هذا المأزق عن طريق تناول موضوع قديم من زاوية جديدة، فبدلًا من السؤال: «ما مدى صغر العالم الذي نعيش فيه؟» يمكن أن يكون السؤال هو: «ما الذي يلزم أي عالم؛ ليس فقط عالمنا، وإنما أي عالم على الإطلاق، ليصبح صغيرًا؟» بعبارة أخرى، بدلًا من الخروج إلى العالم ومحاولة قياس حجمه بتفصيل دقيق، نود إنشاء نموذج رياضي لشبكة اجتماعية لتحل محل العالم الحقيقي، بحيث نستفيد من قوة الرياضيات والكمبيوتر في هذا النموذج. يمكن التعبير عن الشبكات التي سنتعامل معها بالفعل ببساطة تكاد تكون كوميدية من خلال نقاط مرسومة على ورقة وتربط بينها خطوط، تُعرف هذه الأشكال في الرياضيات بالرسوم البيانية، وكما أوضحنا من قبل، تعود دراسة الرسوم البيانية إلى قرون مضت، وقد عرفنا عنها الكثير. وتلك هي الفكرة المهمة حقًّا؛ فعلى الرغم من أننا بهذا التبسيط الشديد سنتغافل حتمًا عن سمات للعالم نهتم بها كثيرًا، فبإمكاننا التوصل إلى ثروة من المعرفة والتقنيات التي من شأنها تمكيننا من تناول مجموعة من الأسئلة العامة المتعلقة بالشبكات لم نكن لنتمكن من الإجابة عنها أبدًا إذا ظللنا عالقين في جميع التفاصيل الفوضوية المشوشة للذهن.