العالم يتضاءل: عام آخر في العصر المتشابك
قد تبدو كتابة فصل جديد لكتاب لم يمر على نشره عام واحد أمرًا مستغربًا، لكن الوقت يمر سريعًا في عالم الشبكات، وقد شهدت الشهور الاثنا عشر الماضية أحداثًا عِظامًا، سواء على المستوى العلمي أو العالم الواقعي، تواصل تذكيرنا بمدى اتصال بعضنا ببعض. لقد كان عام ٢٠٠٣، في الواقع، خير تمثيل للعصر المتصل، وسأتناول فيما يلي بعض النقاط المهمة عن هذا الموضوع.
انتقل فيروس الالتهاب الرئوي اللانمطي الحاد (سارس)، بعد ظهوره للمرة الأولى في مقاطعة جوانجدونج بجنوب الصين في نوفمبر عام ٢٠٠٢، إلى عدد من دول العالم، ليتفشى في هونج كونج، ثم في سنغافورة وتايوان وفيتنام، بل كندا أيضًا، ونظرًا لأن فيروس سارس شديد العدوى — إذ ينتقل عبر الرذاذ المحمول في الهواء الذي يمكن استنشاقه على نحو مباشر أو غير مباشر عن طريق الاتصال بالأجسام أو الأسطح — ومهلك أيضًا على نحو مذهل (حوالي ١٠ بالمائة ممن يصابون به يلقون حتفهم)، حمل هذا الفيروس في البداية جميع سمات الوباء العالمي، ليُذكِّر كثيرين بوباء الإنفلونزا الذي تفشى في عام ١٩١٨ وتسبب في مقتل ما يزيد عن ٢٠ مليون شخص في العالم، لكن لحسن الحظ، أدت التحذيرات القوية المبكرة الصادرة عن منظمة الصحة العالمية وما تلاها من تعاون (وإن كان على مضض أحيانًا) بين الدول المصابة بالفيروس إلى السيطرة على الوباء ليقتصر عدد الحالات المصابة على ثمانية آلاف حالة في العالم وأقل من ثمانمائة حالة وفاة، لكن كان من اليسير أن يكون الحال أسوأ من ذلك بكثير؛ فنظرًا لأن كل حالة تفشي لم تتطلب سوى فرد واحد مصاب، كان من الممكن أن يتسبب تسرب عدد قليل من الأفراد من شبكات الحجر الصحي التي أقيمت سريعًا إلى التسبب في الآلاف، وربما الملايين، من حالات الوفاة الناتجة عن فيروس سارس، ومع اقتراب فصل الشتاء بنصف الكرة الأرضية الشمالي، يظل التهديد بظهور حالات تفشي جديدة قائمًا.
بعد أشهر قلائل من تراجع فيروس سارس، واجه عالم الكمبيوتر وباءً فيروسيًّا خاصًّا به؛ إذ أصاب فيروسا «بلاستر» و«سو بيج» الملايين من أجهزة الكمبيوتر في العالم، الأمر الذي أصاب حركة مرور البيانات على الإنترنت بالشلل أيامًا، وكما كان الحال مع انتشار الفيروسات السابقة، لم يُصَب المستخدمون الأفراد بقدر كبير من الضرر الدائم — كان ازدحام الشبكة هو الأثر الرئيسي — لكننا تذكرنا ثانيةً أن أفضل جهود خبراء أمن الكمبيوتر لا يمكنها الحيلولة دون تفشي مثل هذه الأوبئة بين الحين والآخر. وفقًا لأحد التقديرات، تسبب فيروس «سو بيج» في إصابة ثلاثة أرباع حركة مرور البيانات على الإنترنت بالشلل! ونظرًا لأن كل حالات تفشي الفيروسات تؤثر في المقام الأول على مستخدمي نظام التشغيل ويندوز من شركة مايكروسوفت، وإذا أمكن لفيروس واحد كهذا أن ينتشر سريعًا ويحدث ضررًا بالغًا، فإن الميزة السوقية الرئيسية التي تتمتع بها برامج مايكروسوفت — وتوافقها العالمي — يمكن أن تتحول إلى عائق، وهنا، يمكن أن تصبح فيروسات الكمبيوتر قوة اقتصادية حقيقية لا تشكل فقط تفضيلات المستهلكين الأفراد، بل تمزق أيضًا بنية الاحتكار الحالية لسوق برامج الكمبيوتر العالمي.
تزامن تقريبًا مع هذين الوافدين الجديدين إلى عالم فيروسات الكمبيوتر الشهيرة أعظم انقطاع للكهرباء في التاريخ؛ ففي تشابه غريب للعطل المتسلسل الذي أصاب غرب الولايات المتحدة في أغسطس ١٩٩٦، تفاعلت سلسلة من الأعطال البسيطة في المعدات في أوهايو على نحو غير متوقع مع نمط من أنماط طلبات الطاقة المحلية، مما تسبب في حركات مفاجئة هائلة في الطاقة الكهربائية، وهو ما أدى بدوره إلى غلق المولدات للحماية الذاتية، ومن ثم المزيد من الظروف غير المتوقعة، ومزيد من التغيرات المفاجئة في الطلب، والمزيد من التوقفات، وكانت النتيجة سلسلة من الأعطال اجتاحت جميع أنحاء الولايات والأقاليم في شمال شرق الولايات المتحدة وكندا، وإغلاق المئات من محطات الطاقة، وانقطاع الكهرباء عن ملايين المستهلكين، بما في ذلك مدينة نيويورك بأكملها، لما يزيد عن أربع وعشرين ساعة. مرة ثانيةً، خرجنا من تلك الأزمة بسهولة مع تكبد قدر بسيط نسبيًّا من الأضرار الاقتصادية، وعدد قليل للغاية من الإصابات، ودون أي حالات اضطراب مدني تقريبًا، لكن مرة أخرى، كان من الممكن أن تكون الأمور أسوأ من ذلك. ثمة أمر محير للغاية بشأن اطمئناننا الجماعي عند مواجهتنا أي كارثة محتملة لا نفهم أصولها ولا يمكننا التنبؤ باحتمالية تكرارها. يبدو أنه إذا لم يكن الأمر يتعلق بالإرهاب، فما من شيء يستدعي القلق. مع ذلك، فإن النظم التي نعتمد عليها، وتتسم بقوة الاتصال فيما بينها، بدءًا من شبكات الكمبيوتر، مرورًا بالرقابة على الصحة العامة، ووصولًا إلى المرافق الأساسية كالطاقة والماء، تتعرض لأنماط لا حصر لها من الأعطال التي يتضمن بعضها فقط أعمالًا تخريبية، وحين تكون الأعطال، حتى العرضية منها، مؤثرة ومؤلمة، فلا يسعنا سوى أن نفهمها بأكبر قدر ممكن من الشمولية.
مع ذلك، فقد شهد عام ٢٠٠٣ في نظر الكثيرين ظهور نوع مختلف تمامًا من العالم المتصل بشبكات، فقد ظهر موقع خدمات المواعدة على الإنترنت، فريندستر، الذي تزايدت شعبيته على نحو هائل نظرًا للاستراتيجية الجديدة التي يتبعها في تسجيل الأعضاء به، حيث يدعو الأعضاء الحاليون أصدقاءهم للانضمام إليه، بالإضافة إلى ذلك، ما إن ينضم الأعضاء بالموقع حتى يجب عليهم إظهار أصدقائهم (وملفات تعريف هؤلاء الأصدقاء). تتمثل الفكرة ببساطة في أن العثور على رفيق محتمل عن طريق الإمعان في التعرف على أصدقاء أصدقائك أقرب إلى كيفية عثورنا على الرفقاء بالطريقة التقليدية مقارنةً بالبحث عنهم باستخدام كلمة رئيسية ما. بالإضافة إلى ذلك، فإن معرفة معلومات عن أصدقاء شخص ما يوضح لك الكثير عن هذا الشخص مقارنةً بما هو مستعد للإفصاح به عن نفسه. لم يتضح بعدُ هل موقع فريندستر أفضل كموقع لخدمات المواعدة من المواقع الأخرى المنافسة له على الإنترنت أم لا، لكن ما لا شك فيه هو الحماس الذي يقبل به الناس على موقع فريندستر ويعبثون عليه؛ من خلال اختلاق شخصيات وهمية على أنهم أصدقاء لهم، وإرسال اعترافات بعضهم لبعض، والمشاركة في النشرات الإخبارية، وابتكار استراتيجيات لإضافة أكبر قدر ممكن من «الأصدقاء»، بل وبيع ملفات تعريفهم على موقع إي باي لأعلى سعر يُعرض عليهم! ليس من الواضح ما يهدف إليه كل هذا النشاط، وربما في غضون عام سينضم فريندستر إلى مصاف المواقع الإلكترونية الغريبة التي فشلت في النضوج لتصبح عملًا تجاريًّا، لكن كل ما كشفه هذا الموقع هو الاهتمام الدائم الذي يوليه الكثير من الناس بالأفراد الذين يتصلون بهم، وكيفية حدوث هذا الاتصال.
بدأت شركات أخرى قائمة على الشبكات الاجتماعية في العمل بنجاح في عام ٢٠٠٣ أيضًا، غالبًا بالاعتماد على تحليل سجلات خوادم البريد الإلكتروني الخاصة بالشركات بغرض الوصول إلى معارف أفضل للمبيعات، وتتمثل النظرية هنا في أنه إذا كان شخص ما في شركتك يعرف شخصًا آخر في شركة قد يمكنك التعامل معها، فقد تعينك توصيته لك على التواصل للمرة الأولى مع هذه الشركة، لكن التأثير الحديث للشبكات الاجتماعية على مجريات الأحداث الحالية كان أوسع نطاقًا من شعبية هذه الشبكات في عالم الأعمال. مثال على تأثير الشبكات، وهو لا يتسم بقدر كبير من الوضوح، هو النجاح الاستثنائي لمذكرات هيلاري كلينتون، وهو النجاح الذي تحقق مع أنها نُشرت فيما اعْتُبِرَ بوجه عام عامًا سيئًا للكتب، وعدم كتابة الكثير من المراجعات النقدية الجيدة عنها، وافتقارها لأي معلومات جديدة، لكن من الواضح أنه ما من هذه الأمور كان ذا أهمية؛ إذ أقبل الناس على شراء الكتاب، مثلما حدث مع كتاب هاري بوتر (الذي صدر الجزء الخامس منه هذا العام أيضًا)، فجنت هيلاري من حقوق التأليف ما يزيد عن الثمانية ملايين دولار التي كانت قد حصلت عليها مقدمًا من الناشر. يرجع السبب في ذلك إلى أن الناس يميلون لقراءة الكتب نفسها التي قرأها أصدقاؤهم؛ لأنها تمنحهم شيئًا يتحدثون عنه، ولأنهم يفترضون أنه إذا كانت هذه الكتب قد نالت إعجاب أصدقائهم، فمن المحتمل أن تنال إعجابهم أيضًا، وسواء أكانوا على حق أم لا، فالنتيجة هي أن نجاح كتاب ما (أو فيلم أو شخصية شهيرة … إلخ) يعتمد على من ابتاعه بالفعل أكثر من اعتماده على سمات الكتاب وعيوبه في حد ذاتها. بعبارة أخرى، إنها الشبكة!
ماذا حدث في علم الشبكات إذن؟ الكثير في الواقع، ويتسم إيقاع هذه الأحداث بأنه متسارع بشكل دائم؛ فبحلول منتصف عام ٢٠٠٣؛ أي بعد خمس سنوات بالكاد من اشتراكي أنا وستيف ستروجاتس في نشر أول بحث لنا عن شبكات العالم الصغير في مجلة نيتشر، نُشِر مئات الأبحاث، فاق عددها المائة في العام المنصرم وحده، ونحو خمسين بحثًا في الشهرين الماضيين. إنه معدل مذهل للنشر في مجال لا يزال يتلمس طريقه إلى الأضواء — إذ يقارب المعدل بحثًا واحدًا في اليوم حاليًّا — وتشير أفرع المعرفة التي تتضمنها الأبحاث (الفيزياء والرياضيات والأحياء وعلوم الكمبيوتر وعلم الاجتماع والاقتصاد) إلى أن ما كنا نطلق عليه اسم علم الشبكات ليس مجرد صيحة جديدة عابرة فحسب.
علاوةً على ذلك، يُستكشف العديد من الاتجاهات الأخرى أيضًا على أيدينا وأيدي عشرات الباحثين الآخرين في العالم، لكن ليس مقصودًا بهذا الفصل تلخيص أحدث الأبحاث أو حتى تحديث محتويات هذا الكتاب، بل الغرض منه ببساطة هو التأكيد على أن مرور الوقت — وإن لم يكن سوى عام واحد — جعل علم الشبكات أكثر ارتباطًا بشئون العالم، لا أقل، وأن الأفكار التي يحتوي عليها هذا الكتاب مهمة لدرجة تستدعي التشبث بها وفهمها في النهاية.