عوالم صغيرة
عندما بدأ التعاون بيني وبين ستيف ستروجاتس، لم نكن على علم بأيٍّ من هذه الأمور. ولم يكن لدى أيٍّ منَّا فكرة عن رابوبورت أو جرانوفتر، أو أي معرفة في الواقع بالشبكات الاجتماعية على الإطلاق، كان لدى كلٍّ منَّا بعض المعلومات عن الفيزياء فحسب؛ نظرًا لتخصصي فيها في الكلية، لكنها كانت أكاديمية عسكرية، وما حصَّلتُه من معرفة — ما بين التدريب العسكري والمغامرات الخارجية والمشاغل الدنيوية العامة لأي شاب في البحرية — كان بعيدًا وليس ذا صلة مباشرة قوية بأي من هذه الموضوعات. شكَّلت نظرية الرسوم البيانية لغزًا أيضًا، ونظرًا لكون نظرية الرسوم البيانية فرعًا من الرياضيات الخالصة، يمكن تقسيمها إلى مكونين؛ الأقرب إلى الوضوح والمبهم تمامًا، أما الجانب الواضح، فقد تعلمتُه من أحد الكتب الدراسية، وبعد بضع محاولات غير مجدية مع الجانب الآخر، أقنعت نفسي أن الأمر لم يكن مشوقًا على أي حال.
وصل بنا كل هذا القدر من الجهل الشديد إلى وضع حرج، فكان لدينا يقين مقنع بأنه لا بد أن أحدًا ما فكَّر في هذه المشكلة من قبل، وساورنا القلق بشأن إهدار وقت طويل في دراسة ما جرى دراسته من قبل بالفعل، بل إننا فكرنا أيضًا أننا إذا شرعنا في البحث في الأمر، يمكن أن يثبط من عزيمتنا القدر الذي حققه آخرون بالفعل، أو نقع في شَرَك التفكير في المسألة من وجهة النظر نفسها، والتعلق بالأفكار نفسها التي امتلكها آخرون، وبعد أن قضيت شهرًا بالمنزل في أستراليا لأفكر في الأمر، قابلت ستيف في مكتبه في يناير من عام ١٩٩٦، واتخذنا القرار بأن نخوض التجربة وحدنا. لم نخبر أحدًا، ولم نقرأ أي شيء تقريبًا، وتخلينا عن مشروع صراصير الليل، وحاولنا إقامة بعض النماذج البسيطة للغاية من الشبكات الاجتماعية للبحث عن سمات مثل ظاهرة العالم الصغير. لا شك أن ستيف شعر بضرورة حمايتي من نفسي، فأصر على أن نمنح الأمر أربعة أشهر فحسب — أي فصلًا دراسيًّا واحدًا — وبعد ذلك إذا لم نحقق بعض التقدم الملحوظ، فسنقر بهزيمتنا ونعود إلى صراصير الليل، في أسوأ الأحوال، سيتأجل تخرجي فصلًا دراسيًّا واحدًا، وما دام سيسعدني ذلك، فلمَ لا؟
(١) مساعدة بسيطة من الأصدقاء
في تلك المرحلة كان قد مرَّ على إقامتي في إيثاكا ما يزيد عن عامين، وبدأت أشعر بأنه أصبح لي وطن جديد وأصدقاء جدد، لكن ظل لدي شعور بالاتصال الوثيق بأصدقائي القدامى، لكن طرأ على ذهني أنه إذا سُئل أي طالب عادي بجامعة كورنيل بشأن مدى الارتباط الذي يشعر به تجاه أي شخص عشوائي في أستراليا، فستكون الإجابة على الأرجح: «لا أعرفه جيدًا.» في النهاية، لم يقابل معظم أصدقائي الموجودين في أمريكا أستراليًّا من قبل، وعدد قليل فقط من أصدقائي الأستراليين على معرفة بأمريكيين. تقع الدولتان بطرفين متقابلين من كوكب الأرض، وعلى الرغم من بعض التشابه الثقافي، والقدر الكبير من الانجذاب المتبادل، ينظر أغلب سكان كلٍّ منهما للدولة الأخرى على أنها بعيدة تمامًا، بل غريبة أيضًا، ومع ذلك، كانت هناك على الأقل مجموعة صغيرة من الأمريكيين ومجموعة صغيرة من الأستراليين على معرفة وثيقة بعضهم ببعض بالفعل، مع أنهم قد لا يكونون على علم بذلك، وذلك بفضل صديق واحد مشترك؛ أنا.
ينطبق الأمر نفسه على نطاق أصغر بين المجموعات المختلفة لأصدقائي في جامعة كورنيل. كنت أدرس بقسم الميكانيكا النظرية والتطبيقية، وهو قسم صغير للدراسات العليا فاق فيه عددُ الطلاب الأجانب الأمريكيين، قضيت قدرًا هائلًا من الوقت في ذلك القسم، وتعرَّفت على طلاب الدراسات العليا الآخرين جيدًا، لكنني كنت معلمًا أيضًا لتسلق الصخور والتزلج على الجليد في برنامج كورنيل التعليمي الخارجي، ومعظم من لا يزالون أصدقائي من جامعة كورنيل حتى الآن كانوا طلابًا أو معلمين في ذلك البرنامج الخارجي. وأخيرًا، فقد أقمت في مسكن كبير للطلبة في عامي الأول، وكوَّنت بعض الصداقات الجيدة هناك. كان زملائي في الصف يعرف بعضهم بعضًا، وأصدقائي بمسكن الطلبة يعرف بعضهم بعضًا، وأصدقائي بالبرنامج الخارجي يعرف بعضهم بعضًا، ومع ذلك، فإن هذه المجموعات المختلفة كانت جميعها «متباينة» تمامًا، فخلا المجيء لزيارتي، لم يكن لدى أصدقائي، في برنامج التسلق مثلًا، أي سبب لزيارة القسم الذي كنت أدرس فيه بقاعة كيمبل، وكانوا يعتبرون (ولهم بعض العذر في ذلك) طلاب الدراسات العليا في الهندسة نوعًا مختلفًا من البشر.
مع ذلك تتصل هذه المجموعات بعضها ببعض بالفعل، وذلك بفضل الأفراد الذين ينتمون إلى أكثر من مجموعة واحدة، وبمرور الوقت، يمكن أن تزداد قوة هذه التداخلات بين المجموعات، ويقل وضوح الحدود بينها، وذلك من خلال بدء أفراد ينتمون لإحدى المجموعات في التفاعل مع أفراد من مجموعة أخرى عن طريق صديق مشترك. فعلى مدار الأعوام التي قضيتها في جامعة كورنيل، التقت المجموعات المختلفة من أصدقائي أخيرًا، وصاروا أصدقاء فيما بينهم، هذا وقد حضر أيضًا بعض أصدقائي الأستراليين لزيارتي، وبالرغم من عدم البقاء مدة كافية تسمح لهم بإقامة أي علاقات دائمة، صارت الحدود بين الدولتين الآن، إلى حد ما، أقل بروزًا من ذي قبل.
بعد التفكير في هذه الأمور عدة مرات، والتجول بأرجاء حرم جامعة كورنيل قارس البرودة، قررت أنا وستيف أن هناك أربعة عناصر نريد تضمينها في نموذجنا؛ العنصر الأول هو أن الشبكات الاجتماعية تتضمن الكثير من المجموعات الصغيرة المتداخلة المرتبطة بعضها ببعض داخليًّا بقوة، ويرجع تداخلها للأفراد المنتمين إلى العديد من المجموعات. والعنصر الثاني هو أن الشبكات الاجتماعية تفتقر إلى الثبات؛ فتُقام علاقات جديدة طوال الوقت، وتُقطع علاقات قديمة. وثالثًا، لا تتساوى جميع العلاقات المحتملة في إمكانية حدوثها؛ فتعتمد هوية من سأعرفه غدًا على من أعرفه اليوم، إلى حدٍّ ما على الأقل. أما السمة الأخيرة فتمثلت في أننا نقوم أحيانًا بأفعال مستمدة بالكامل من سماتنا وتفضيلاتنا الجوهرية، ويمكن أن تؤدي بنا هذه الأفعال إلى الالتقاء بأناس جدد لا علاقة لهم بأصدقائنا السابقين على الإطلاق. على سبيل المثال، كان قراري بالانتقال إلى أمريكا مدفوعًا برغبتي في الالتحاق بالدراسات العليا فحسب، ولم أكن أعرف أي شخص عند ذهابي إلى هناك، ولم يكن أحد يعرفني أيضًا، كان قراري أيضًا بتدريس تسلق الجبال غير متأثر باختياري للقسم، وكذلك مسكن الطلبة الذي أقمت فيه.
بعبارة أخرى، يرجع السبب فيما نفعله — في جزء منه — إلى الوضع الذي نشغله في البنية الاجتماعية المحيطة بنا، وفي جزء آخر إلى خصائصنا وتفضيلاتنا الفطرية، وتُعرَف هاتان القوتان في علم الاجتماع ﺑ «البنية» و«الفاعلية»، ويكون تطور الشبكة الاجتماعية مدفوعًا بالتبادل بين الاثنتين. نظرًا لأن الفاعلية جزء من عملية صنع القرار لدى الفرد، ولا تقتصر على وضعه في البنية، فإن الأفعال الناتجة عنها تبدو كأحداث عشوائية للآخرين، لكن بالطبع تُعَد قرارات من قبيل الانتقال إلى دولة أخرى أو الالتحاق بالدراسات العليا نتيجةً لمزيج معقد من الجانب النفسي والتاريخ الشخصي للمرء، وليست عشوائية على الإطلاق، لكن الفكرة هي أنه ما دامت الشبكة الاجتماعية الحالية لم تحدد هذه القرارات بوضوح، فيمكن أن نتعامل معها «كما لو كانت» عشوائية.
لكن ما إن تحدث هذه الارتباطات، التي قد تبدو عشوائية، حتى تدخل البنية ثانيةً في الصورة، وتصبح التداخلات الناشئة حديثًا جسورًا يمكن للأفراد المرور عليها وإقامة المزيد من الارتباطات الخاصة بهم، ومن ثم يكون التطور الديناميكي للعلاقات في الشبكات الاجتماعية مدفوعًا بالتوازن بين قوى متعارضة. من ناحية، يتخذ الأفراد ما يبدو قرارات عشوائية ليدخلوا في سياقات اجتماعية جديدة، ومن ناحية أخرى، تقيِّدهم الصداقات الحالية التي تمكِّنهم من تعزيز هياكل المجموعات القائمة بالفعل. السؤال المحوري هنا هو: ما مدى أهمية كل جانب للآخر؟
من الواضح أننا لم نعلم الإجابة عن هذا السؤال، بل كنا موقنين أيضًا أن أحدًا غيرنا لا يعلمها؛ فالعالم في النهاية مكان معقد، وهذا النوع من التوازن غير الواضح الذي يصعب قياسه بين القوى المتعارضة هو بالضبط ما يجعله معقدًا. ولحسن الحظ، فإن هذا النوع من التشابكات التجريبية هو ما تنجح فيه النظريات، وبدلًا من محاولة إقامة التوازن بين إرادة الأفراد والبنية الاجتماعية — أي بين العشوائية والنظام — الذي ينعكس بالفعل في العالم الحقيقي، يمكننا أن نطرح السؤال الآتي: ما الذي يمكننا تعلُّمه من خلال ملاحظة كل العوالم الممكنة؟ بعبارة أخرى، فكِّر في الأهمية النسبية لكل من النظام والعشوائية كعامل متغير يمكننا ضبطه للتنقل بين مجموعة من الاحتمالات، بالضبط كما يسمح لنا زر ضبط الإرسال في مذياع قديم بالبحث بين مجموعة من الترددات الإذاعية.
من ناحية، يقيم البعض صداقاتهم الجديدة «دومًا» من خلال أصدقائهم الحاليين، في حين لا يفعل البعض الآخر ذلك «مطلقًا». لا تتسم أيٌّ من هاتين الحالتين بالواقعية، لكن هذا هو الهدف الذي سعينا وراءه؛ فمن خلال اختيار حدود قصوى غير واقعية، طمحنا في أن نعثر بنقطة ما في الأرضية المشتركة الفوضوية بين هذه الحدود على صورة من الحقيقة يمكن تصديقها، وحتى إذا لم نتمكن من تحديد هذه النقطة بالضبط، كان أملنا هو أن يكون الكثير مما يوجد بين هذين الحدين متماثلًا على نحو محدد. ما كنا نبحث عنه لم يكن نوعًا واحدًا من الشبكات يشكل نموذجًا لشبكة اجتماعية، بل فئة من الشبكات يمكن أن يختلف كلٌّ منها عن الآخر في التفاصيل، لكن سماتها الجوهرية لا تعتمد على تلك التفاصيل.
استغرق البحث عن النموذج السليم بعض الوقت، فقد اتضح أن مفهوم بنية المجموعات، الذي بدأنا به، أصعب في فهمه فهمًا دقيقًا مما كنا نتوقع، لكن في النهاية جاء الاكتشاف، وكالعادة، ركضت مسرعًا عبر الرواق وصولًا إلى مكتب ستيف، وطرقت الباب بقوة حتى توقف عما كان يحاول فعله، وسمح لي بالدخول.
(٢) من سكان الكهوف إلى أهالي سولاريا
قد لا يبدو الأمر مدهشًا، لكنني كنت من أشد المعجبين بإسحاق آزيموف في صباي، وتحديدًا، قرأت أكثر من مرة أشهر سلسلتين له، وهما: «ثلاثية التأسيس» وسلسلة «الإنسان الآلي». الغريب في الأمر أن التاريخ النفسي لهاري سيلدون، البطل الرئيسي في ثلاثية «التأسيس»، كان هو على الأرجح أول ما جعل فكرة النشوء في النظم الاجتماعية تطرأ على ذهني؛ يقول سيلدون إنه على الرغم من التعقيد والتقلب اللذين يتسم بهما سلوك الأفراد إلى حد بعيد، فسلوك الجماهير، بل الحضارات، يتميز بالقابلية للتحليل والتوقع. بقدر ما اتسمت به رؤية آزيموف من غرابة عند إدراكها في أوائل خمسينيات القرن العشرين، فقد كانت متميزة أيضًا؛ نظرًا لتوقعها الكثير مما تسعى دراسة النظم المعقدة إلى فعله الآن. لكن ما أردتُ التحدث مع ستيف بشأنه كان سلسلة «الإنسان الآلي».
في الجزء الأول من هذه السلسلة، «الكهوف الفولاذية»، يحلل المحقق إليجا بالي لغز جريمة قتل على كوكب مستقبلي بُني بالكامل تحت الأرض، وأثناء فعل ذلك، يتأمل إليجا أيضًا الجوانب الغامضة في حياته وعلاقاته مع غيره من البشر. من بين الجموع الغفيرة من البشر المتكدسين في الكهوف المصنوعة من الفولاذ، يعرف بالي جيدًا مجموعة صغيرة شديدة الترابط من الناس، ولا أحد غيرهم تقريبًا. لا يتبادل الغرباء أطراف الحديث، والتفاعلات بين الأصدقاء جسمانية وشخصية. أما في الجزء الأخير، «الشمس المجردة»، يُرسَل بالي في مهمة إلى كوكب سولاريا المُستعمَر، الذي يعكس تفاعلات اجتماعية مغايرة تمامًا لما اعتاد عليه، الأمر الذي يزعجه. على عكس أهالي الأرض، يعيش أهالي سولاريا على سطح كوكب قليل الكثافة السكانية، ويقطنون مقاطعات ضخمة في عزلة تامة، لا يصاحبهم فيها إلا أناس آليون، ويتفاعل بعضهم مع بعض (بل ومع أزواجهم) افتراضيًّا من خلال مِرفق عالمي للتواصل عن بُعد. على الأرض يعيش الأفراد الحياة في ظل ما توفره الروابط التعزيزية التبادلية المتداخلة من أمان، ويصعب تصور بدء علاقة مع شخص غريب عشوائي، أما على كوكب سولاريا، فيمكن إجراء جميع التفاعلات على حد سواء، والعلاقات السابقة غير مهمة نسبيًّا لإقامة علاقات جديدة.
كان النموذج ألفا قريبًا للغاية في مضمونه من شبكات أناتول رابوبورت المائلة إلى العشوائية، على الرغم من عدم معرفتنا بهذا في ذلك الوقت. وشأننا شأن رابوبورت، اكتشفنا سريعًا أنه من المستحيل حل أي شيء باستخدام قلم رصاص وورقة فحسب، لكن لحسن حظنا، كانت خمسة عقود من التطور التكنولوجي قد أثمرت عن أجهزة كمبيوتر سريعة بما يكفي لأداء المهمة بسرعة فائقة. إن المشكلات المتعلقة بديناميكيات الشبكات مناسبة على نحو مثالي للمحاكاة بالكمبيوتر، فيمكن لقواعد بسيطة للغاية، على مستوى الأفعال الفردية، التسبب في تعقد مربك عندما يتفاعل عدد كبير من الأفراد بعضهم مع بعض على مدار الوقت، فيتخذ كلٌّ منهم قرارات تعتمد بالضرورة على قرارات الماضي، وتكون النتائج في أحيان كثيرة مناقضة للتوقعات البديهية، ونادرًا ما تنجح حسابات الورقة والقلم وحدها في تناول ذلك، لكن أجهزة الكمبيوتر تعشق مثل هذه الأمور؛ فهي مصممة خاصة للتعامل مع التكرار فائق السرعة اللامتناهي للقواعد البسيطة. وعلى النحو نفسه الذي يُجري به الفيزيائيون التجارب في المعامل، مكَّنت أجهزة الكمبيوتر علماء الرياضيات من التجريب، فصاروا قادرين على اختبار نظرياتهم في عدد كبير من المعامل الخيالية، حيث يمكنهم تعديل قواعد الواقع حسبما يشاءون.
لكن ما طبيعة الأمور التي كان يفترض بنا اختبارها؟ تذكَّر أن المشكلة التي أردنا فهمها — أصل ظاهرة العالم الصغير — بدت أنها تعتمد على وجود سمتين متناقضتين ظاهريًّا للشبكات الاجتماعية؛ فمن ناحية، يجب أن تعكس الشبكة معامل تكتل كبيرًا؛ بمعنى أنه في المتوسط تزيد احتمالية معرفة أصدقاء شخص ما بعضهم لبعض مقارنةً بشخصين يقع عليهما الاختيار عشوائيًّا، ومن ناحية أخرى، يجب أن يكون من الممكن ربط شخصين اخْتِيرا عشوائيًّا من خلال سلسلة مكونة من عدد قليل من الوسطاء فحسب، ومن ثم سيرتبط الأفراد المنفصلون بوجه عام من خلال سلاسل قصيرة أو «مسارات» في الشبكة. كل سمة من هاتين السمتين قليلة الأهمية وحدها، لكن لم يكن من الواضح على الإطلاق كيف يمكن الجمع بينهما. يتسم عالم الكهوف الذي عاش فيه إليجا بالي، على سبيل المثال، بالتكتل الشديد على نحو واضح، لكن حدسنا يشير إلى أنه إذا كان جميع الناس الذين نعرفهم يعرف بعضهم بعضًا فقط، فسيكون من العسير للغاية ربط أنفسنا من خلالهم بباقي العالم في بضع خطوات فحسب. يمكن أن يكون كل هذا التكرار المحلي جيدًا لالتحام المجموعات، لكن من الواضح أنه لا يجدي نفعًا في تعزيز التواصل العام، على النقيض من ذلك، من المرجح على نحو أكبر أن يعكس مجتمع سولاريا مسارات شبكية أقصر. في الواقع، عندما يتفاعل الناس عشوائيًّا تمامًا، يكون الطول المعتاد — وفق نظرية الرسوم البيانية — لأي مسار بين أي فردين قصيرًا، لكن من السهل أيضًا توضيح أنه في أي رسم بياني عشوائي، يصبح احتمال معرفة أيٍّ من أصدقائنا بعضُهم بعضًا بلا أهمية في ظل وجود تعداد سكاني عالمي كبير للغاية، ومن ثم سيكون معامل التكتل صغيرًا. لذا فإن حدسنا يشير إلى أن العالم يمكن أن يكون صغيرًا أو متكتلًا، لكنه لا يمكن أن يكون الاثنين معًا، لكن أجهزة الكمبيوتر لا تُعنى بالحدس.
(٣) عوالم صغيرة
باستخدام التكتل وطول المسار كوسيلتي استكشاف، شرعنا في بناء «شبكات ألفا» على الكمبيوتر. أنشأناها أولًا ثم طبقنا بعض الخوارزميات المعيارية لتقدير الإحصائيات المتوافقة. كانت البرمجة المطلوبة بدائية بوجه عام، لكن وجب عليَّ تعليم نفسي لغة البرمجة في تلك الأثناء، وكانت النتيجة كودًا بشعًا وبطيئًا، وقضيت في كثير من الأحيان ساعات طويلة محاولًا تتبع خطأً ما تسبب في القضاء على برنامجي بعد أن كان يعمل جيدًا لمدة يوم أو أكثر. قد تكون المحاكاة بالكمبيوتر أقل فوضوية من العالم الواقعي، لكنها من الممكن أن تكون مضنية أيضًا. مع ذلك، وبعد شهر مليء بالإحباط، توصلنا في النهاية إلى بعض النتائج التي يمكن التفكر فيها.
أول ما يخبرنا به النموذج ألفا هو إما أن العالم سيتجزأ إلى الكثير من التكتلات الصغيرة، كالكهوف المنعزلة، أو سيتصل في صورة مكون واحد ضخم يمكن لأي شخص الاتصال بالآخر فعليًّا في إطاره. ليس من الممكن، على سبيل المثال، وجود مكونين كبيرين أو حتى مجموعة صغيرة من المكونات الكبيرة يُقسَّم فيما بينها العالم بالتساوي. قد تبدو هذه النتيجة مدهشة؛ لأن العالم يبدو عادةً مقسمًا عبر الحدود الجغرافية أو الأيديولوجية أو الثقافية إلى عدد صغير من الطوائف المتباينة؛ الشرق والغرب، الأسود والأبيض، الغني والفقير، اليهودي والمسيحي والمسلم. ومع أن هذه الانقسامات قد توجِّه أفكارنا، ومن ثم تؤثر على أفعالنا بطرق هامة، فإن ما يخبرنا به النموذج ألفا هو أنها لا تنطبق على الشبكة نفسها، فنحن إما متصلون اتصالًا وثيقًا، أو غير متصلين على الإطلاق، ما من وسط بين هذا وذاك.
يكمن حل هذا التناقض في أن معامل التكتل لا ينخفض بالقدر نفسه تقريبًا من السرعة مقارنةً بطول المسار، فبصرف النظر عما تبدو عليه الشبكة على المستوى العام — أي سواء أكانت مجزأة أم متصلة، كبيرة أم صغيرة — فمن المؤكد تقريبًا أن معامل التكتل سيكون كبيرًا، ومن ثم، هناك قيود شديدة على ما يمكن للأفراد استنتاجه بشأن العالم بناءً على ما يمكنهم ملاحظته. ثمة حكمة شهيرة تزعم أن كل السياسة محلية، لكن الحقيقة هي أن كل «الخبرة» محلية؛ فنحن لا نعرف سوى ما نعرفه، أما بقية العالم، بطبيعة الحال، فتقع خارج نطاق إدراكنا. وفي الشبكات الاجتماعية، تقتصر المعلومات التي يمكننا الوصول إليها، ومن ثم البيانات الوحيدة التي يمكننا استخدامها لإجراء التقييمات للعالم، على تلك التي تقع في إطارنا المحلي؛ أي أصدقائنا ومعارفنا. وإذا كان معظم أصدقائنا على معرفة بعضهم ببعض — أي إذا كان الإطار الذي نوجد داخله شديد التكتل — وإذا كان إطار كل شخص آخر متكتلًا على النحو نفسه، فسنميل إلى الافتراض أنه لا يمكن الربط بين كل هذه التكتلات.
لكن هذا ممكن بالفعل، ولذلك تُعَد ظاهرة العالم الصغير مجافية تمامًا للمنطق؛ فهي ظاهرة عامة، لكن لا يستطيع الأفراد استشعارها إلا محليًّا فقط، فأنت تعرف من تعرفه فحسب، وربما في أغلب الأحيان يعرف أصدقاؤك الأفراد أنفسهم الذين تعرفهم، لكن إذا كان واحد من أصدقائك فقط صديقًا لفرد واحد، يكون بدوره صديقًا لشخص لا يشبهك على الإطلاق، فهناك إذن مسار متصل، قد لا يكون بإمكانك استخدام هذا المسار، وقد لا تكون على معرفة بوجوده، وقد يكون العثور عليه صعبًا، لكنه موجود بالفعل. وعندما يتعلق الأمر بانتشار الأفكار أو التأثيرات، بل الأمراض أيضًا، يمكن أن يكون لهذا المسار أهمية، سواء أكنت تعلم بوجوده أم لا، وكما هو الحال في هوليوود، فالمعارف مهمون كثيرًا، لكن هناك جوانب أخرى للأمر: فمن يعرفهم أصدقاؤك، ومن يعرفهم هؤلاء الأفراد بدورهم لهم أهمية أيضًا.
(٤) بسيط قدر المستطاع
كان النموذج ألفا محاولة لفهم كيفية تكوُّن شبكات العالم الصغير من منظور القواعد التي يتبعها الناس عند إقامة صداقات جديدة، لكن ما إن عرفنا أن ظاهرة العالم الصغير ممكنة حتى أردنا التوصل إلى ما أدى إلى تكوُّنها بالضبط. لم يكن من الملائم أن نركَن ببساطة إلى التفسير القائل إن الأثر الذي كنا نراه هو نتيجة للمتغير ألفا، ذلك أننا لم نكن نعرف في الحقيقة ماهية المتغير ألفا، ومن ثم ما يمكن أن تشير إليه أي قيمة له، ومع بساطة النموذج ألفا، فقد ظل شديد التعقيد، لذلك قررنا أننا إذا أردنا حقًّا فهم ما كان يحدث، فإن علينا اتباع قول أينشتاين المأثور حول جعل الأمور «بسيطة قدر المستطاع، لكن ليس أبسط من ذلك». ومن ثم، ما هو أبسط نموذج يمكن أن يعكس ظاهرة العالم الصغير؟ وما الذي يمكن أن يخبرنا به — في ضوء ما يتمتع به من بساطة — ولم يخبرنا به النموذج ألفا؟ ما شرعنا في فعله بنموذجنا الثاني — بيتا — هو الابتعاد عن أبسط صور وضع نماذج للشبكات الاجتماعية، والتعامل مع البنية والعشوائية بأكبر قدر ممكن من التجريد.
هذان الحدان القصويان للنموذج بيتا يسهل فهمهما تمامًا مقارنةً بالحدين المناظرين لهما بالنموذج ألفا، اللذين يحددهما — كما نذكر — قواعد التفاعل المتحكمة في نقاط التلاقي الفردية. ويصعب بوجه عام تحليل الشبكات التي تنمو ديناميكيًّا، كالنموذج ألفا، لأنه لا يكون من الواضح بالضبط في كثير من الأحيان ما تنطوي عليه القواعد السلوكية الضمنية من أمور تؤدي إلى ظهور البنية المرصودة، وربما كان الأهم من ذلك هو أن الكثير من صور القواعد السلوكية الضمنية يمكن أن يؤدي على نحو مفهوم إلى الأنواع ذاتها من السمات البنيوية للشبكة النهائية، وكانت هذه هي المسألة التي شغلت تفكيرنا. عرفنا آنذاك كيفية تكوُّن شبكات العالم الصغير ديناميكيًّا، فصرنا نتساءل عن المدى الذي يمكنها الوجود فيه بصرف النظر عن كيفية تكوُّنها.
على النقيض من ذلك، يعكس الرسم البياني، الممتدة روابطه امتدادًا عشوائيًّا خالصًا، تكتلًا طفيفًا للغاية؛ ففي الشبكات الضخمة، تكون فرصة اتصالك عشوائيًّا بشخصين متصلين عشوائيًّا بدورهما، شبه منعدمة، ولهذا السبب ذاته، يكون الرسم البياني العشوائي «صغيرًا» مثلما تكون الشبيكة كبيرة. هل تذكر تجربتنا الفكرية الأولى عن ظاهرة العالم الصغير؟ إذا كنتُ أعرف مائة شخص، وكلٌّ منهم يعرف مائة شخص، فعلى بُعد درجتين من الانفصال يمكنني الوصول إلى عشرة آلاف شخص، وعلى بعد ثلاث درجات يمكنني الوصول إلى نحو مليون شخص، وهكذا. وغياب التكتل يعني عدم وجود روابط مهدرة أو متكررة — يصل كل ارتباط إضافي جديد إلى منطقة جديدة — ومن ثم يكون معدل نمو شبكة معارفي أسرع ما يمكن. نتيجة لذلك، يمكنني الوصول إلى أي فرد آخر في الشبكة في بضع خطوات فحسب، حتى وإن كان عدد الأفراد كبيرًا للغاية.
تكون النتيجة النهائية هي العثور ثانيةً على مساحة كبيرة في فضاء الشبكات بين النظام التام وانعدام النظام التام، يكون فيها التكتل المحلي كبيرًا وأطوال المسارات العامة صغيرة. هذه هي شبكات العالم الصغير. وكما هو الحال في النموذج ألفا، لا يمكن للأفراد الموجودين في مكان ما بشبكة العالم الصغير تحديد نوع العالم الذي يعيشون فيه؛ فهم يرون أنفسهم يعيشون فحسب في تكتل محكم من الأصدقاء الذين يعرف بعضهم بعضًا. إن عواقب هذه العبارة مهمة، وهذا ما سنراه في فصول لاحقة من هذا الكتاب عند تعرفنا على انتشار الأمراض وفيروسات الكمبيوتر، من ناحية، والبحث عن المعلومات في المؤسسات الكبيرة وشبكات الند للند، من ناحية أخرى.
لكن النموذج بيتا يعكس أيضًا شيئًا أكثر عمقًا؛ لأنه يساعدنا في حل مشكلة المتغير ألفا الغامض الموجود في نموذجنا الأول. ويجب التذكر هنا أن مشكلة ألفا تمثلت في استحالة تفسيره من منظور الشبكة نفسها. عندما تكون قيمة ألفا صغيرة (عالم أهالي الكهوف)، نقيم شبكات يميل فيها الأفراد، الذين لا يملكون سوى صديق واحد مشترك، بقوة إلى إقامة علاقات صداقة فيما بينهم، وعندما تكون قيمة ألفا كبيرة للغاية (عالم سولاريا)، يتقابل الأفراد عشوائيًّا، سواء أكان لديهم صديق مشترك أم لا. لكن كما رأينا، من المستحيل بوجه عام التنبؤ على نحو دقيق بنوع الشبكة التي ستنتج من قيمة ألفا المحددة، خاصةً القيم الموجودة في المنطقة المتوسطة التي يصدر عنها السلوك الأكثر إثارةً للاهتمام.
يمكننا الآن فهم الأمر، تحدد ألفا احتمالية أن تُظهر الشبكة المكتملة طرقًا مختصرة عشوائية واسعة النطاق، وهذه الطرق هي التي تؤدي كل العمل. تتمثل مزية هذه النتيجة في أنه صار بإمكاننا الآن إنشاء الطرق المختصرة بأي وسيلة نريدها تقريبًا — عن طريق محاكاة العملية الاجتماعية لإنشاء الشبكات، كما هو الحال في النموذج ألفا، أو إنشائها ببساطة من خلال الاحتمالية، كما هو الحال في النموذج بيتا — وسنحصل على النتيجة نفسها تقريبًا. ينطبق الأمر نفسه إلى حدٍّ بعيد على التكتل. يمكننا ببساطة إضافته، كما فعلنا مع الشبيكة في النموذج بيتا، أو السماح له بالتزايد طبيعيًّا من خلال تكرار قاعدة لاكتساب أصدقاء جدد من خلال الأصدقاء الحاليين. وفي كلتا الحالتين، ما دامت لدينا وسيلة لإنشاء تكتل ووسيلة للسماح بظهور الطرق المختصرة، فسنحصل دائمًا على شبكة من شبكات العالم الصغير.
ومن ثم، مع أن النموذج بيتا كان سخيفًا نوعًا ما نظرًا لأنه ما من نظام حقيقي يمكن أن يبدو مثله بالفعل، فإن الرسالة التي أوصلها لم تكن سخيفة على الإطلاق. ما أخبرنا به هو أن شبكات العالم الصغير تنتج عن توافق بسيط للغاية بين قوتين أساسيتين — النظام وانعدام النظام — وليس من الآليات المحددة التي يتم التوصل من خلالها إلى ذلك التوافق. أدركنا في هذه المرحلة أن شبكات العالم الصغير يجب أن تظهر ليس فقط في العالم الاجتماعي، الذي انبثقت منه الفكرة في الأساس، لكن أيضًا في كل أنواع النظم المتصلة بشبكات.
(٥) العالم الواقعي
مع ما يبدو عليه الأمر من وضوح الآن، فإدراك حقيقة أن شبكات العالم الصغير يمكن أن تظهر في جميع صنوف النظم المتصلة بشبكات كان بمنزلة اكتشاف مهم للغاية في نظرنا؛ لأننا حتى ذلك الوقت كنا نفكر في المسألة من منظور الشبكات الاجتماعية فحسب. وعلى المستوى العملي، أفسح ذلك الطريق أيضًا أمام إمكانية العثور على بعض البيانات التي تمكننا من التحقق من صحة تنبؤنا. ويجدر التذكر هنا أن إحدى المشكلات الكبيرة في فهم ظاهرة العالم الصغير، والسبب وراء انتهائنا إلى تبني منهج الضبط بين النظام والعشوائية، كان أن التحقق التجريبي من الظاهرة نفسها بدا غير ممكن على الإطلاق. فمن يمكنه الحصول على هذا النوع من بيانات الشبكات؟ لكن اتسع الآن نطاق بيانات الشبكة المقبولة لنا على نحو ضخم. هذا شأن أي شبكة كبيرة، ما دامت قد وُثقَت جيدًا بما فيه الكفاية. من الناحية العملية، استلزم هذا الشرط الأخير ضرورة توفر البيانات إلكترونيًّا، وهو المطلب الذي يبدو تافهًا اليوم، لكن في عصور ظلام الإنترنت عام ١٩٩٧، كان مجرد التفكير في نماذج جيدة مشكلة في حد ذاته.
حاولنا في البداية الحصول على قاعدة بيانات «استشهادات العلوم»؛ وهي شبكة ضخمة من الأبحاث العلمية المأخوذة من آلاف الدوريات الأكاديمية التي يتصل بعضها ببعض من خلال ما تحتويه من استشهادات بالمراجع الببليوجرافية، فإذا استشهدت ببحث لك، فأنا متصل بك، وإذا استشهدت ببحثي في بحثك، فأنت متصل بي. لم يكن ذلك ما نبحث عنه بالضبط (لأن الأبحاث تستشهد عادةً بأبحاث سبق نشرها، فلا تشير الروابط بينها إلا لاتجاه واحد فقط)، لكنها كانت أفضل فكرة لدينا في ذلك الوقت. ومع الأسف، أراد المعهد العلمي الدولي، المالك لقاعدة البيانات، أن ندفع مقابل الحصول عليها، ولم يكن لدينا ما يكفي من المال.
في الواقع، أخبرنا المسئولون بالمعهد بلطف، لكن بحزم في الوقت نفسه، أنه في حال تحديدنا لبحث واحد لاستخدامه كأصل، فسيرسلون إلينا قائمة بكل الأبحاث التي استشهدت بهذا البحث مقابل ٥٠٠ دولار. وفي مقابل ٥٠٠ دولار أخرى، سيعطوننا قائمة بالأبحاث التي تستشهد بجميع تلك الأبحاث، وهكذا. رأينا الأمر عبثيًّا، فمن واقع معرفتنا بالشبكات كنا ندرك أنه عند بدء البحث من إحدى نقاط التلاقي الأولية (في هذه الحالة، البحث الأصلي)، يزيد عدد نقاط التلاقي التي يتم الوصول إليها زيادة أُسية. ومن ثم، في مقابل اﻟ ٥٠٠ دولار الأولى، سيكون على المعهد تقديم عدد قليل من الأبحاث، في حين أنه في مقابل اﻟ ٥٠٠ دولار الرابعة، سيكون عليه البحث عن مئات أو آلاف أضعاف العدد الأول، في مقابل السعر نفسه! فكرنا لبعض الوقت في إنفاق ألفي دولار من أموال ستيف الثمينة المخصصة لأبحاثه لنثبت لهم الأمر فقط، لكننا عدنا إلى رشدنا في نهاية المطاف وعاودنا التفكير في شبكات أخرى.
كانت محاولتنا التالية أكثر نجاحًا؛ في أوائل عام ١٩٩٤، ظهرت لعبة جديدة باسم «لعبة كيفن باكون» في الثقافة الشعبية، وكانت ملائمة تمامًا لاهتماماتنا. اخترع هذه اللعبة مجموعة من أعضاء الأخوية بكلية أولبرايت، من الواضح أنهم كانوا مولعين بالأفلام السينمائية على نحو كبير، وتوصلوا (في حالة من غياب الوعي بلا شك) إلى استنتاج بأن كيفن باكون كان المركز الحقيقي لعالم الأفلام السينمائية. في حال ما إذا لم تسمع بذلك الأمر، فسأشرحه لك. تتكون شبكة الأفلام السينمائية من ممثلين يرتبط بعضهم ببعض بفضل اشتراكهم في فيلم واحد أو أكثر. لا يقتصر الحديث هنا على هوليوود فحسب، لكن أي فيلم يُصنَع في أي مكان وأي وقت على الإطلاق. ووفقًا لموقع قاعدة بيانات الأفلام على الإنترنت، مثّل نحو نصف مليون فرد في الفترة ما بين ١٨٩٨ و٢٠٠٠ أكثر من مائتي ألف فيلم.
إذا مثّل المرء فيلمًا مع كيفن باكون، فسيكون «رقم باكون» الخاص به في اللعبة هو واحد (باكون نفسه رقمه في اللعبة صفر)، ونظرًا لمشاركة كيفن باكون في تمثيل عدد كبير من الأفلام (ما يزيد عن خمسين فيلمًا وقت كتابة هذا الكتاب) ومع ١٥٥٠ شخصًا، وفقًا لآخر إحصاء، فمعنى ذلك أن ١٥٥٠ شخصًا يحملون رقم «واحد» في اللعبة. قد يبدو ذلك عددًا كبيرًا، وقد مثّل باكون بالتأكيد مع عدد أكبر بكثير من المتوسط (الذي يبلغ نحو ستين فحسب)، لكن يظل هذا العدد أقل من واحد بالمائة من العدد الإجمالي لممثلي الأفلام السينمائية. بالابتعاد عن باكون الموجود في المركز، إذا لم يمثل المرء معه قط، لكنه مثّل مع شخص آخر مثّل معه، فسيكون رقم باكون الخاص به هو «اثنين». على سبيل المثال، شاركت مارلين مونرو في فيلم «نياجرا» (١٩٥٣) مع جورج إييف، الذي شارك بدوره في فيلم «إثارة الأصداء» (١٩٩٩) مع كيفن باكون، ومن ثم يكون رقم مارلين في اللعبة هو «اثنين». يتمثل هدف اللعبة، بوجه عام، في تحديد رقم باكون الخاص بالممثل عن طريق التوصل إلى أقصر مسار بينه وبين كيفن باكون العظيم.
رقم باكون | عدد الممثلين | العدد الإجمالي التراكمي للممثلين |
---|---|---|
٠ | ١ | ١ |
١ | ١٥٥٠ | ١٥٥١ |
٢ | ١٢١٦٦١ | ١٢٣٢١٢ |
٣ | ٣١٠٣٦٥ | ٤٣٣٥٧٧ |
٤ | ٧١٥١٦ | ٥٠٤٧٣٣ |
٥ | ٥٣١٤ | ٥١٠٠٤٧ |
٦ | ٦٥٢ | ٥١٠٦٩٩ |
٧ | ٩٠ | ٥١٠٧٨٩ |
٨ | ٣٨ | ٥١٠٨٢٧ |
٩ | ١ | ٥١٠٨٢٨ |
١٠ | ١ | ٥١٠٨٢٩ |
يمكن الاستنتاج أيضًا، كما فعل أعضاء الأخوية، أن ثمة شيئًا مميزًا بشأن السيد باكون، وأنه نقطة الارتكاز التي يدور حولها عالم الممثلين. لكن عند التفكير بمزيد من التمعن في الأمر، يظهر تفسير مختلف تمامًا يبدو مقبولًا على نحو أكبر. إذا صح أن باكون يمكنه الاتصال بأي شخص تقريبًا في بضع خطوات فحسب، أليس صحيحًا أيضًا أن أي شخص يمكنه الاتصال بأي شخص آخر في العدد نفسه تقريبًا من الخطوات؟ لذا بدلًا من حساب رقم باكون الخاص بكل فرد، يمكن حساب أرقام كونري أو أرقام إيستوود، بل أرقام بولمان أيضًا (إريك بولمان ممثل نمساوي مغمور عاش في الفترة ما بين ١٩١٣ و١٩٧٩، ومثّل في ١٠٣ أفلام، مثل «عودة الفهد الوردي» و«من روسيا مع حبي»). وبالتقدم خطوة واحدة، وقياس متوسط جميع نقاط البداية الممكنة (أي البدء على نحو مستقل بكل ممثل في المكون الضخم)، يمكن الحصول على متوسط طول المسار الذي سبق لنا قياسه في شبكاتنا النموذجية.
طفعلي | طعشوائي | مفعلي | معشوائي | |
---|---|---|---|---|
الممثلون السينمائيون | ٣٫٦٥ | ٢٫٩٩ | ٠٫٧٩ | ٠٫٠٠٠٢٧ |
شبكة الطاقة الكهربائية | ١٨٫٧ | ١٢٫٤ | ٠٫٠٨٠ | ٠٫٠٠٥ |
الربداء الرشيقة | ٢٫٦٥ | ٢٫٢٥ | ٠٫٢٨ | ٠٫٠٥ |
في محاولة للدفع بتنبؤاتنا إلى مستوى أبعد، كانت الشبكة النهائية التي تناولناها بالدراسة مختلفة تمامًا. أردنا في الحقيقة العثور على شبكة عصبية لنحسب عليها الإحصائيات التي توصلنا إليها، لكننا سرعان ما اكتشفنا أن بيانات الشبكات العصبية، شأنها شأن بيانات الشبكات الاجتماعية، نادرة للغاية. ولحسن الحظ، تعلم ستيف بالفعل بعض الأشياء عن الأحياء على مدار السنوات الطوال التي قضاها في التفكير في المذبذبات الحيوية، وبعد بضع محاولات خاطئة للبدء، اقترح ستيف أن نفحص نوعًا من الديدان يُعرَف باسم الربداء الرشيقة، وقد أخبرني أنها من الكائنات الحية التي وقع عليها اختيار علماء الأحياء لإجراء دراسة مكثفة عليها، وربما تناول أحدهم شبكتها العصبية بالدراسة.
ربما! بعد بحث وجيز، وبمساعدة صديق لستيف يعمل عالم أحياء تصادف كونه خبيرًا في الربداء الرشيقة، اكتشفت سريعًا أن هذه الدودة حظيت باهتمام كبير في عالم البحث الطبي الأحيائي. وإلى جانب ذبابة الفاكهة (الدروسوفيلا)، وبكتيريا إي كولاي، وربما الخميرة، تُعد دودة الربداء الرشيقة الخيطية التي تسكن الأرض الأكثر دراسةً، والأكثر شهرةً بين الكائنات الحية، على الأقل بين علماء الأحياء المتخصصين في دراسة الديدان. اقترح سيدني برينر، الذي عاصر العالمين واطسون وكريك، استخدام الربداء الرشيقة لأول مرة كنموذج حي في عام ١٩٦٥، وصارت بعد ثلاثين عامًا عنصرًا جوهريًّا في مشروع الجينوم البشري، لتكون بذلك قد قضت ثلاثة عقود من الزمان تحت المجهر. سعى آلاف العلماء — بالمعنى الحرفي للكلمة — لا لتعلم شيء ما عن هذه الربداء، بل كل شيء. لم يحققوا ذلك بعد، لكنَّ سجل إنجازاتهم مذهل، خاصةً لشخص يتخبط في دراستها للمرة الأولى، فتتبعوا، على سبيل المثال، الجينوم الكامل للربداء، وهو إنجاز قد يبدو تافهًا بجوار مشروع الجينوم البشري، لكن حقيقة تنفيذه مبكرًا وبقدر أقل بكثير من الموارد تبدو على القدر نفسه تقريبًا من الإثارة، وقد رسم العلماء أيضًا خريطة لكل خلية في جسمها بكل مرحلة من مراحل تطورها، بما في ذلك شبكتها العصبية.
وهكذا صار لدينا ثلاثة أمثلة، وبعض التصديق التجريبي أخيرًا على نماذجنا المصغرة. لم تستوفِ الشبكات الثلاث جميعها شرط العالم الصغير فحسب الذي كنا نبحث عنه، لكنها فعلت ذلك أيضًا على الرغم من الاختلافات الكبيرة في الحجم والكثافة، بل على الرغم من تباين طبيعتها الأساسية، وهو الأهم. ما من تشابه على الإطلاق بين تفاصيل شبكات الطاقة الكهربائية والشبكات العصبية، وما من تشابه على الإطلاق بين كيفية اختيار الممثلين السينمائيين لمشروعاتهم وبناء المهندسين لخطوط انتقال الطاقة. لكن على مستوى ما، على نحو تجريدي إلى حد ما، ثمة شيء متشابه بين كل هذه الأنظمة؛ لأن جميعها شبكات عالم صغير. بدأ باحثون آخرون، منذ عام ١٩٩٧، في البحث عن شبكات العالم الصغير أيضًا، وقد ظهرت هذه الشبكات — كما هو متوقع — بجميع الأنحاء: في بنية الشبكة العنكبوتية العالمية، وشبكة التمثيل الغذائي لبكتيريا إي كولاي، وعلاقات الملكية التي تربط المؤسسات والبنوك الألمانية الكبيرة، وشبكة مجالس الإدارات المتداخلة لأهم ١٠٠٠ شركة أمريكية وفقًا لقائمة مجلة فورتشن، وشبكات التعاون بين العلماء. لا تعد أيٌّ من هذه الشبكات شبكات اجتماعية بالضبط، لكن بعضها، مثل شبكات التعاون، بدائل معقولة، وهناك شبكات أخرى، مثل الشبكة العنكبوتية العالمية وشبكة الملكيات، مع أنها ليست اجتماعية بأي صورة فعلية، فإنها على الأقل منظمة اجتماعيًّا، وبعض الشبكات الخاضعة للدراسة ليس لها أي محتوى اجتماعي على الإطلاق.
إذن، كانت النماذج صحيحة. لا تعتمد ظاهرة العالم الصغير بالضرورة على خصائص الشبكات الاجتماعية البشرية، بما في ذلك نسخة التفاعلات البشرية التي حاولنا بناءها في إطار النموذج ألفا. اتضح أن الأمر أكثر عمومية، يمكن لأي شبكة أن تكون شبكة عالم صغير ما دامت قادرة على تجسيد النظام، مع احتفاظها بقدر صغير من الفوضى، ويمكن أن يكون مصدر النظام اجتماعيًّا؛ كالأنماط المتداخلة من الصداقة في شبكة اجتماعية، أو ماديًّا؛ كالتقارب الجغرافي لمحطات الطاقة الكهربائية؛ لا يهم المصدر، كل ما يستلزمه الأمر هو آلية ما تزيد بها احتمالية اتصال نقطتَي تلاقٍ متصلتين بنقطة ثالثة مشتركة مقارنةً بنقطتَي تلاقٍ يقع عليهما الاختيار عشوائيًّا. هذه طريقة جيدة للغاية لتجسيد النظام المحلي، لكن يمكن ملاحظتها وقياسها من خلال فحص بيانات الشبكة فحسب، ولا تتطلب معرفة أي تفاصيل بشأن عناصر الشبكات، أو العلاقات بينها أو السبب وراء ما تنتهجه من سلوك. ما دامت «معرفة» (أ) ﺑ (ب) ومعرفة (أ) ﺑ (ج) تشير ضمنًا إلى أن (ب) و(ج) بدورهما أكثر احتمالًا لأن يكونا على معرفة أحدهما بالآخر مقارنةً بأي عنصرين آخرين يقع الاختيار عليهما عشوائيًّا، فإن لدينا نظامًا محليًّا.
لكن الكثير من الشبكات الحقيقية، خاصة تلك التي تطورت في غياب تصميم مركزي، تنطوي على بعض الفوضى على الأقل. يتسم الأفراد في الشبكات الاجتماعية بالفعالية من خلال اتخاذ خيارات بشأن حياتهم وأصدقائهم، وهذه الخيارات لا يمكن اختزالها بسهولة في التاريخ والسياق الاجتماعي لهم فحسب. تنمو كذلك الخلايا العصبية في الجهاز العصبي بغير هدى، مع خضوعها للقوى الفيزيائية والكيميائية، لكن دون دافع أو مخطط، ولأسباب اقتصادية أو سياسية، تشيّد شركات الطاقة خطوطًا للنقل لم يُخطَّط لها في أجيال سابقة من الشبكة، وتقطع عادةً مسافات كبيرة وتجتاز أراضي وعرة، وحتى الشبكات المؤسسية أيضًا، مثل مجالس إدارات الشركات الكبيرة، أو نماذج الملكية التي تربط العوالم التجارية والمالية — وهي الشبكات التي قد يتوقع المرء اتسامها بالتنظيم وفقًا للمخططات الميكافيلية لمنشئيها — تعكس سمة العشوائية، وإن كان السبب في ذلك هو أن كثرة المصالح المتضاربة لا يمكن التوفيق بينها على نحو متناسق.
النظام والعشوائية … البنية والفعالية … الاستراتيجية واتباع الأهواء … هذه نقاط التناقض الأساسية في النظم الشبكية الحقيقية، التي يتضافر بعضها مع بعض على نحو معقد، فتدفع النظام من خلال تصارعها اللانهائي إلى هدنة مضطربة، لكنها ضرورية في الوقت نفسه، فلو لم يكن لماضينا تأثير على حاضرنا، ولو كان حاضرنا غير مرتبط بمستقبلنا، لكنّا قد ضللنا الطريق محرومين ليس فقط من الوجهة، بل أيضًا من أي إدراك للذات، فنحن ننتظم وندرك العالم من خلال البنية المحيطة بنا، لكن الزيادة المفرطة للبنية والتأثير الزائد عن الحد للماضي على المستقبل، يمكن أن يكون أمرًا سيئًا أيضًا؛ فيؤدي إلى الركود والعزلة. التنوع، بلا شك، هو ما يعطي الحياة مذاقًا، لأنه من خلال التنوع وحده يمكن للنظام أن ينتج شيئًا ثريًّا ومثيرًا.
هذا هو المغزى الحقيقي وراء ظاهرة العالم الصغير، ومع توصلنا إليه عن طريق التفكير في الصداقات، ومع استمرارنا في تفسير الكثير من سمات الشبكات الحقيقية وفقًا للروابط الاجتماعية، فإن الظاهرة نفسها ليست قاصرة على العالم المعقد للعلاقات الاجتماعية، فهي تظهر، في الواقع، في مجموعة متنوعة ضخمة من النظم المتطورة طبيعيًّا، بدءًا من الأحياء ووصولًا إلى الاقتصاد، ويرجع جزء من السبب وراء كونها عامة للغاية إلى أنها شديدة البساطة، لكنها لا تصل في بساطتها إلى شبيكة مضاف إليها بضعة روابط عشوائية قليلة، بل هي النتيجة الحتمية لتسوية عقدتها الطبيعية مع ذاتها؛ ما بين صوت النظام العنيد ونظيره المدمر الجامح المتمثل في العشوائية.
من الناحية الفكرية، تُعَد شبكات العالم الصغير أيضًا تسوية بين التوجهات المختلفة تمامًا لدراسة النظم الشبكية تطورت عبر عقود من الزمان في الرياضيات وعلم الاجتماع والفيزياء؛ فمن ناحية، دون وجود المنظور الفيزيائي والرياضي لنستهدي به في التفكير بشأن الظهور العام من تفاعلات محلية، ما كنا لنحاول قط تجريد العلاقات التي تجسدها الشبكة فيما وراء العلاقات الاجتماعية، وما كنا لنلحظ قط التشابه القوي بين الأنواع الكثيرة المختلفة من النظم، ومن ناحية أخرى، دون وجود علم الاجتماع كمحفز لنا، ودون إلحاح الحقيقة الاجتماعية القائلة إن الشبكات الحقيقية توجد في مكان ما بين نظام الشبيكات المجرد، والفوضى غير المحدودة للرسوم البيانية العشوائية، ما كنا لنفكر أبدًا في طرح السؤال من الأساس.