ما وراء العالم الصغير
بقدر ما ساعدنا تركيزنا على الشبكات الاجتماعية، فقد ضللنا أيضًا إلى حدٍّ ما، وتمثلت إحدى أكثر السمات المثيرة للدهشة لكثير من الشبكات الحقيقية — بما في ذلك إحدى الشبكات التي كنت أعمل عليها مع ستيف — في شيء، ما كنا لنفكر في البحث عنه مطلقًا؛ ففي إحدى عطلات نهاية الأسبوع بشهر أبريل عام ١٩٩٩، كنت أجلس في مكتبي بمعهد سانتا في، حيث كنت أستكمل دراستي بمنحة جامعية لما بعد الدكتوراه، حين تلقيت رسالة ودية بالبريد الإلكتروني من لازلو باراباسي، وهو فيزيائي بجامعة نوتردام، يطلب فيها مني مجموعات البيانات التي تضمنها بحث عن شبكات العالم الصغير كنا قد نشرناه في العام السابق، حينذاك لم تكن لدي أي فكرة عما كان ينويه باراباسي وتلميذته، ريكا ألبرت، لكني سعدت بمنحه الشبكات التي كانت معي، ووجهته للاتصال ببريت تشاودين للحصول على بيانات بخصوص الممثلين السينمائيين. كان عليّ أن أولي الأمر مزيدًا من الاهتمام؛ إذ إنه بعد بضعة أشهر قليلة نشر باراباسي وألبرت بحثهما الرائد في دورية «ساينس» ليطرحا مجموعة كاملة جديدة من الأسئلة عن الشبكات.
يجدر هنا تذكر أن اهتمامنا كان منصبًّا على ظاهرة العالم الصغير، ومن الجلي أنه إذا كان بعض أعضاء مجموعة الأفراد متصلين بكل شخص آخر تقريبًا، فستكون الشبكة صغيرة على نحو متواضع للغاية. فلتتأمل، مثلًا، شبكة الخطوط الجوية؛ إذا كنت تسافر جوًّا إلى مكان ما، أيًّا كان، وإن كان ذلك من مطار صغير، فإن أول شيء ستفعله هو الطيران إلى مركز رئيسي، ومن هناك، إما أن تسافر مباشرةً إلى وجهتك أو إلى مركز آخر (إلا إذا، بالطبع، كان المركز الأول هو نفسه وجهتك). وإن كنت تسافر من مدينة صغيرة إلى أخرى بالطرف الآخر من العالم، نادرًا ما سيتجاوز العدد الإجمالي للمحطات التي ستحتاج إلى التوقف فيها محطتين أو ثلاث محطات، ويرجع ذلك إلى سبب بسيط، وهو أن كل مركز يكون متصلًا بعدد كبير من المطارات الأخرى، بما في ذلك المراكز الأخرى، ونظرًا لأننا لم نعتقد أن الشبكات الاجتماعية تعمل بهذا الأسلوب — لأنه لا يمكن لأحد أن يعرف أكثر من نسبة بالغة الصغر من إجمالي سكان العالم البالغ عددهم ستة مليارات نسمة — فقد قيدنا أنفسنا عن قصد بالشبكات ذات توزيعات الدرجات الطبيعية لمعرفة كيف يمكن للعالم أن يكون صغيرًا، حتى في «غياب» المراكز الرئيسية.
كان كل ذلك معقولًا ومقبولًا ظاهريًّا تمامًا، لكننا ارتكبنا خطأ واحدًا فادحًا: لم نتحقق من صحة نتائجنا! كنا مقتنعين بعدم ملاءمة توزيعات الدرجات غير الطبيعية، حتى إننا لم نفكر مطلقًا في التحقق من الشبكات التي تتضمن بالفعل توزيعات الدرجات الطبيعية وتلك التي لا تتضمنها. ظلت البيانات أمام أعيننا نحو عامين، وما كان الأمر ليستغرق أكثر من نصف ساعة للتحقق منها، لكننا لم نفعل ذلك قط.
(١) الشبكات عديمة المعيار
على سبيل المثال، يتشابه توزيع الثروة في الولايات المتحدة مع قانون القوة، وقد كان المهندس الباريسي الذي عاش في القرن التاسع عشر، فيلفريدو باريتو، أول من لاحظ هذه الظاهرة، ومن ثم أُطلِق عليها «قانون باريتو»، وبرهن على أنها تنطبق على كل الدول الأوروبية التي تتوافر عنها الإحصائيات ذات الصلة. النتيجة الرئيسية لهذا القانون هي أن عددًا كبيرًا من الناس يملكون ثروات صغيرة نسبيًّا، في حين تتمتع أقلية صغيرة للغاية بالثراء الفاحش، ونظرًا لأن الخصائص المتوسطة لتوزيعات قانون القوة شديدة الانحراف، فيمكن أن تكون مضللة للغاية. على سبيل المثال، ما من معنى على الإطلاق للتحدث عن متوسط ثروة سكان الولايات المتحدة، فالمتوسط الفعلي لهذه الثروة أعلى بكثير من ثروة أي مواطن أمريكي عادي، وذلك لأن هذا المتوسط تهيمن عليه ثروة عدد قليل من الأفراد فاحشي الثراء، الموجودين في طرف التوزيع، هيمنة شديدة. على النحو نفسه، يمكن لكمية قليلة من نقاط التلاقي فائقة الاتصال في إحدى الشبكات أن يكون لها تأثير لا يتناسب مع عددها.
تتمثل السمة الرئيسية لتوزيع قانون القوة في كمية تسمى «الأُس»، وهي الكمية التي تصف في جوهرها كيفية تغير التوزيع كدالة للمتغير الرئيسي. على سبيل المثال، إذا انخفض عدد المدن ذات الحجم المحدد بتناسب عكسي مع هذا الحجم، فمعنى ذلك أن قيمة أُس التوزيع تساوي واحدًا. في هذه الحالة، من المتوقع أن نرى مدنًا بحجم مدينة إيثاكا بمعدل يزيد ثلاث مرات عن احتمال رؤية مدن مثل ألباني (عاصمة ولاية نيويورك)، التي يبلغ حجمها نحو ثلاثة أضعاف، وبمعدل يزيد عشر مرات عن مدن مثل بافلو، التي يبلغ حجمها عشرة أضعاف، لكن إذا انخفض التوزيع عكسيًّا مع «مربع» الحجم، فمعنى ذلك أن قيمة الأُس تصير اثنين، ويكون من المتوقع أن يزيد عدد المدن المماثلة في الحجم لمدينة إيثاكا عن المدن المماثلة لألباني بتسع مرات، وعن المدن المماثلة لبافلو بمائة مرة.
يمكن النظر إلى القطع أيضًا على أنه يحدد معيارًا أساسيًّا للتوزيع، ونظرًا لأن قانون القوة يمتد إلى ما لانهاية دون مواجهة أي قطع على الإطلاق، فهو يسمى «عديم المعيار»، ومن ثم تتسم الشبكات عديمة المعيار بأن معظم نقاط التلاقي بها يكون اتصالها ضعيفًا نسبيًّا، في حين أن أقلية مختارة من المراكز الرئيسية يكون اتصالها قويًّا للغاية، وهو ما يتناقض تمامًا مع الرسم البياني العشوائي الشائع. بعد فحص مجموعة متنوعة من بيانات الشبكات، توصل باراباسي وألبرت إلى نتيجة مذهلة، وهي أن كثيرًا من الشبكات الحقيقية، بما في ذلك شبكة الممثلين السينمائيين التي درستها مع ستيف، والشبكة المادية للإنترنت، وبنية الروابط الافتراضية للشبكة العنكبوتية العالمية، وشبكات التمثيل الغذائي للعديد من الكائنات الحية، كانت عديمة المعيار. بعد العقود العديدة التي سادت فيها افتراضات معاكسة، قد تكون هذه الملاحظة مذهلة في حد ذاتها، لكن ما أثار اهتمام المعنيين بالشبكات حقًّا هو أن الباحثَين أخذا خطوة إضافية للأمام؛ وذلك بأن اقترحا آلية بسيطة أنيقة يمكن بواسطتها لمثل هذه الشبكات أن تتطور مع مرور الوقت.
(٢) الأثرياء يزدادون ثراءً
ثَبت أن أصل توزيع درجات بواسون في الرسم البياني العشوائي، والقطع المتزامن معه، يكمن في فرضيته الأساسية، وهي أن الروابط بين نقاط التلاقي تظهر للوجود على نحو مستقل تمامًا بعضها عن بعض. في أي مرحلة من عملية البناء، من المحتمل لنقاط التلاقي ذات الاتصال الضعيف أن تقيم روابط جديدة أو تتلقاها تمامًا كما هو الحال مع نقاط التلاقي التي تتمتع بأفضل اتصال. وكما قد يتوقع المرء في هذا النظام المتساوي، تصل الأمور لمعدلها المتوسط بمرور الوقت. يمكن ألا يحالف الحظ إحدى نقاط التلاقي لفترة من الوقت، لكنها في نهاية المطاف ستكون بالطرف المتلقي لأحد الاتصالات الجديدة، أيضًا، فإن الحظ السعيد لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، ومن ثم إذا اختيرت نقطة تلاقٍ واحدة لعدد مرات أكثر من المتوسط لفترة من الوقت، فسوف تلحق بها نقاط التلاقي الأخرى في النهاية.
بيد أن الحياة الواقعية ليست على هذا القدر من العدالة؛ فخاصةً فيما يتعلق بالثروة والنجاح، يبدو دائمًا أن الأثرياء يزدادون ثراءً، ويكون ذلك على حساب الفقراء عادةً. لقد استمرت هذه الظاهرة فترة طويلة، على الأقل منذ ظهورها في إنجيل متى: «لأن كل من له يعطي فيزداد، ومن ليس له فالذي عنده يؤخذ منه.» وفي إطار الشبكات، فإن مصطلح «تأثير متى»، كما صاغه لأول مرة عالم الاجتماع العظيم روبرت ميرتون الذي عاش في القرن العشرين، يعني أن نقاط التلاقي جيدة الاتصال تزيد احتمالية جذبها لروابط جديدة، في حين أن النقاط ضعيفة الاتصال تظل ضعيفة للغاية.
وقد اقترح باراباسي وألبرت أن الحالة الخاصة لازدياد الأثرياء ثراءً تدفع الشبكات الفعلية إلى التطور، وبوجه خاص، إذا كان لدى إحدى نقاط التلاقي ضِعف الروابط التي تتمتع بها نقطة أخرى، فإن احتمال تلقيها لرابط جديد يكون الضِّعف بالضبط، وقد اقترحا أيضًا أنه على عكس نماذج الرسوم البيانية العشوائية النموذجية، التي يظل فيها عدد نقاط التلاقي ثابتًا، مع إضافة الروابط فحسب، فإن نموذج الشبكة الواقعي ينبغي أن يسمح لمجموعة الأفراد نفسها أن تنمو مع الوقت، ومن ثم، بدأ باراباسي وألبرت بمجموعة صغيرة من نقاط التلاقي، ثم أضافا على نحو منتظم كلًّا من نقاط التلاقي والروابط، بحيث تُضاف مع كل خطوة نقطة تلاقٍ جديدة ويُسمَح لها بالاتصال بالشبكة الموجودة عن طريق مدّ عدد ثابت من الروابط، وتكون كل نقطة تلاقٍ موجودة بالفعل في الشبكة مؤهلة لأن تكون بالطرف المتلقي لكل رابط، وفق احتمال يتناسب مباشرةً مع درجتها الحالية، من ثم تتمتع نقاط التلاقي الأقدم في الشبكة بمزية لا تملكها تلك المضافة حديثًا، ونظرًا لوجود عدد قليل منها فحسب في البداية، فمن المرجح أن تجذب عددًا قليلًا من الاتصالات المبكرة، ثم تثبت قاعدة ازدياد الأثرياء ثراءً هذه المزية مع مرور الوقت، وتكون النتيجة، كما أوضح باراباسي وألبرت، هي أنه على مدى زمني طويل بما فيه الكفاية، يتحول توزيع درجات الشبكة إلى أحد توزيعات قانون القوة، على نحو يذكرنا بالتوزيعات التي لاحظاها في البيانات التي فحصاها.
ما أهمية ذلك؟ أولًا، يختلف توزيع درجات الشبكات عديمة المعيار عن توزيع بواسون اختلافًا كبيرًا، حتى إن أي شخص يحاول فهم بنية الشبكات الحقيقية لا يمكنه غض الطرف عن هذا الاختلاف. من الجلي أن النموذج القياسي للرسوم البيانية العشوائية، الذي طرحه إيردوس وريني، يعاني بعض المشكلات الخطيرة، ليس فقط لأنه فشل في التنبؤ بالتكتل الذي تحدثنا عنه سابقًا، بل أيضًا لأنه يعجز عن تفسير توصل باراباسي وألبرت إلى توزيعات الدرجات التي توصلا إليها. إن مجرد إدراك أن العالم مختلف تمامًا عن الصورة المفترضة عنه من قبل يمثل خطوة مهمة للأمام. أيضًا يزيد شرح الارتباط التفضيلي من توضيح الأسلوب الذي يسير به العالم؛ فالاختلافات الصغيرة في القدرة — بل التقلبات العشوائية تمامًا أيضًا — يمكن أن تثبت وتؤدي إلى تباينات كبيرة للغاية بمرور الوقت. وأخيرًا — كما سنرى في فصول لاحقة من هذا الكتاب — تتمتع أيضًا الشبكات عديمة المعيار بعدد من الخصائص الأخرى، مثل سهولة تعرضها للأعطال والاعتداءات، وهي الخصائص التي تميزها عن الشبكات العادية ولها أهمية كبيرة من الناحية العملية.
أرجع زيف نفسه هذه الظاهرة إلى ما أسماه «مبدأ الجهد الأقل»، وهو مفهوم مثير للاهتمام، لكنه ظل مُحيِّرًا بشكل محبط بالرغم من الكتاب (الطويل إلى حد ما) الذي ألفه زيف وجعل هذا التعبير عنوانه. وبعد ست سنوات اقترح سايمون ومعاونه، يوجي آيجيري، نموذجًا بسيطًا افترض — مثل نموذج باراباسي وألبرت — أن المدن الفردية (أو في حالة سايمون وآيجيري، الشركات التجارية) تنمو عشوائيًّا إلى حد ما، لكن احتمال نموها بقدر معين يكون متناسبًا مع حجمها الحالي، ومن ثم فإن مدنًا كبيرة كنيويورك يزيد احتمال جذبها للوافدين الجدد مقارنةً بالمدن الصغيرة مثل إيثاكا، الأمر الذي يضخم الاختلافات المبدئية في الحجم، ويؤدي إلى توزيع لقانون القوة يحوز وفقه عدد قليل من «الفائزين» نصيبًا كبيرًا لا يتناسب مع حجمه قياسًا إلى العدد الإجمالي للسكان.
على أرض الواقع، ما من شيء عشوائي بشأن كِبَر حجم نيويورك مقارنةً بإيثاكا؛ فنيويورك تقع عند مصب أحد الأنهار الرئيسية بالساحل الشرقي، في حين تقع إيثاكا في قلب مجتمع زراعي خامل، لكن لم يكن ذلك هو الهدف من نموذج سايمون، فما كان لينكر أهمية الجغرافيا والتاريخ في تحديد المدن التي صارت عواصم حضرية، مثلما لم ينكر باراباسي وألبرت أن خطط العمل الواعدة وإمكانية الوصول إلى رأس المال المخاطر كانا عنصرين أساسيين كي يكون أي موقع إلكتروني متصلًا ومرئيًّا بدرجة كبيرة، لكن الفكرة هي أنه ما إن يصبح أحد المواقع الإلكترونية أو الشركات أو المدن كبيرًا، فبصرف النظر عن كيفية تحقيقه ذلك، يكون احتمال استمرار زيادته في الحجم أكبر من نظرائه الأصغر حجمًا. يملك الأثرياء العديد من السبل ليصبحوا أكثر ثراءً، وبعضهم يستحق ذلك في حين لا يستحقه آخرون، لكن فيما يتعلق بالتوزيع الإحصائي الناتج، الأمر الوحيد المهم هو أنهم يزدادون ثراءً بالفعل.
بَشَّر الشمول العام لنموذج باراباسي وألبرت بأسلوب جديد لفهم بنية الشبكات باعتبارها نظمًا متطورة ديناميكيًّا. لا يهم هل الشبكات مكونة من بشر أم محولات إنترنت، أم صفحات ويب، أم جينات، ما دام النظام يتبع المبدأين الأساسيين للنمو والاتصال التفضيلي، فستكون الشبكة الناتجة عديمة المعيار. لكن حسبما أشار سايمون نفسه، فإن النماذج الأنيقة والجذابة من فرط بديهيتها قد تكون مضللة، ففي بعض الأحيان، تُحدِث التفاصيل فارقًا بالفعل.
(٣) تحقيق الثراء يمكن أن يكون عسيرًا
ظهرت بعض الأدلة فيما بعد على أن الشبكات عديمة المعيار قد لا تكون منتشرة كما بدت في البداية، وكان ذلك بعد بحث باراباسي وألبرت الأصلي بنحو عام. نشر عالم فيزياء شاب يُدعى لويس أمارال مع عدد من زملائه، من بينهم هاري يوجين ستانلي — أحد العظماء في مجال الفيزياء الإحصائية (والمستشار السابق لباراباسي) — بحثًا في دورية «بروسيدينجز أوف ذي ناشيونال أكاديمي أوف ساينس» (أو: «وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم»)، وتناولوا في هذا البحث دراسة توزيعات الدرجات لعدد من الشبكات الحقيقية، وأوضحوا أنه مع أن بعضها يشبه توزيعات قانون القوة (وإن كان ذلك مع قطوع محدودة)، فمن الواضح أن البعض الآخر لا يشبهها. كان الأمر الأكثر إثارةً للدهشة هو الشبكة الاجتماعية لمجتمع المورمون في ولاية يوتا، التي بدت كتوزيع طبيعي قديم عادي ولم تظهر أي ملامح غريبة. جاء أحد الأدلة الأخرى على الشبكات التي لا تنطبق عليها صفة عديمة المعيار مما يبدو الآن ماضيًا بعيدًا؛ إذ ظهر في أحد أبحاث أناتول رابوبورت، الذي يتناول فيه بالدراسة شبكة الصداقات في مدرسة ميشيجان الثانوية. لم يكن رابوبورت، شأنه في ذلك شأني أنا وستيف، مهتمًّا على الإطلاق بتوزيع الدرجات، لكنه على الأقل خصص الوقت لإيضاح توزيعه على الرسم البياني، ومع أنه لم يشبه توزيع بواسون المألوف للرسم البياني العشوائي، فلم يكن أيضًا عديم المعيار.
يجب ألا نندهش من فكرة أن العالم أكثر تعقيدًا من النموذج البسيط الذي وضعه باراباسي وألبرت، ولا يجب أن ينتقص ذلك من قيمة إنجازهما. إن طرح فكرة الشبكات عديمة المعيار يعد إحدى الأفكار المحورية في علم الشبكات الحديث، وقد دفع إلى ظهور الكثير من الأبحاث الفعلية، خاصةً في مجال الفيزياء، لقد منح دخول الفيزيائيين إلى علم الشبكات هذا المجال القوة الرياضية والحسابية التي افتقر إليها زمنًا طويلًا، الأمر الذي جعل الأعوام القليلة الماضية وقتًا شديد الإثارة وزاخرًا بالإبداعات لنا، لكن صار من الواضح على الفور تقريبًا أن القوة وحدها لم تكن كافية، ومثلما غفلت نماذجنا الأصلية للعالم الصغير عن عدد من سمات العالم الحقيقي، حدث ذلك أيضًا مع المبادئ البسيطة لنمو الشبكات والارتباط التفضيلي.
يتمثل وجه القصور الرئيسي بمفهوم الشبكات عديمة المعيار في افتراض حدوث كل شيء بلا مقابل، فيُنظَر إلى الروابط الشبكية في نموذج باراباسي وألبرت على أنها بدون تكلفة، ومن ثم يمكن الحصول على أكبر قدر يمكن جمعه منها، دون الوضع في الاعتبار صعوبة تكوينها أو الحفاظ عليها. يمكن أن ينطبق هذا الافتراض بالتأكيد على نماذج مثل الشبكة العنكبوتية، لكنه لا يكون صحيحًا عادةً فيما يتعلق بالنظم البشرية أو البيولوجية، بل الهندسية أيضًا، مثل شبكة الطاقة الكهربائية. يُفترض أيضًا أن المعلومات مجانية، ومن ثم يمكن لأي نقطة تلاقٍ حديثة العثور على أي نقطة أخرى في العالم والاتصال بها، ويكون العامل الوحيد ذو الصلة هو عدد الاتصالات الذي تحتفظ به كل نقطة تلاقٍ حاليًّا، لكن في الحقيقة، تبدأ نقاط الاتصال الوافدة حديثًا في جزء معين من النظام الكبير، وينبغي عليها أن تتعرف عليه من خلال عملية مكلفة من البحث والاستكشاف. عند الانتقال إلى مدينة جديدة، لا يمكننا العثور ببساطة على الشخص الذي يمتلك العدد الأكبر من الأصدقاء. قد يكون من المرجح بصورة أكبر مقابلة شخص لديه عدد كبير من الأصدقاء مقارنةً بشخص لديه عدد قليل للغاية منهم، لكن ثمة عوامل أخرى أيضًا تلعب دورًا في هذا الأمر، وما إن يُجرِ المرء اتصالاته الأولية حتى تعكس البنية الاجتماعية التي تضمه في الوقت الحالي فكرة أن بعض الأفراد يمكن الوصول إليهم على نحو أيسر من آخرين، بصرف النظر عن مدى كثرة اتصالاتهم واتساع نطاقها.
كان ذلك بالضبط هو التأثير الذي حاولنا التعبير عنه في نماذج العالم الصغير التي وضعناها، وظللنا على اقتناع بأهميته، لكن النماذج عديمة المعيار لم يكن بها أي عنصر للبنية الاجتماعية على الإطلاق. على الجانب الآخر، فقد أقنعتنا النتائج الأنيقة التي توصل إليها كلٌّ من باراباسي وألبرت بأن الأدوات المتاحة لدراسة الشبكات العشوائية كانت قوية لدرجة لا تسمح بتجاهلها. أردنا بصورة ما استغلال رياضيات الفيزيائيين لحل مشكلة البنية الاجتماعية، وفي الوقت نفسه تجاوز الحواجز التي أحاطت بأناتول رابوبورت قبل ذلك بخمسة عقود. كنا بحاجة لفكرة جديدة أكثر من أي شيء آخر.
(٤) إعادة تقديم بنية المجموعات
في العشرين من فبراير من عام ٢٠٠٠، وهو التاريخ الذي لا أتذكره إلا لتوافقه مع يوم ميلادي، التقيت بستيف في الاجتماع السنوي للرابطة الأمريكية للنهوض بالعلم في واشنطن العاصمة لتنظيم محاضرة عن الشبكات وتاريخ مسألة العالم الصغير. حضر المحاضرة أيضًا عالم الاجتماع هاريسون وايت، وهو رجل يتمتع بتاريخ مشوق. في الواقع، بدأ وايت مسيرته المهنية في السلك الجامعي كفيزيائي نظري، فعُني بدراسة فيزياء الحالة الصلبة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في أوائل خمسينيات القرن العشرين، وشأن الكثير من الفيزيائيين الشباب، آنذاك والآن، سرعان ما أدرك أن أهم المشكلات التي لم تُحل بعد في الفيزياء التقليدية قد حُددَت جيدًا بالفعل، والجميع على علم بماهيتها. كان الآلاف من أمثاله من طلاب الدراسات العليا والباحثين الحاصلين على الدكتوراه الطموحين والمجدين يبذلون جهودًا مضنية في المعامل بجميع أنحاء العالم، آملين في التوصل إلى الاكتشاف المهم التالي، وإذا لم تكن أذكى منهم جميعًا، وتبذل جهدًا أكبر، وحالفك الحظ بطريقة ما فوردت على ذهنك الفكرة السليمة في الوقت المناسب، فإن فرصك في النجاح معدومة. يصل كل فيزيائي شاب إلى هذه المرحلة من انعدام الأمل، ولم يكن هاريسون استثناءً، لكن الأمر غير المعتاد هو ما اختار فعله لعلاج هذا الأمر.
في العام الأول من الدراسات العليا بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، درس هاريسون النزعة القومية مع العالم السياسي، كارل دويتش، ووجدها موضوعًا خلابًا، وبتشجيع من دويتش، قرر هاريسون ترك الفيزياء لدراسة العلوم الاجتماعية، فاغتنم فرصة الحصول على منحة جامعية لمدة عام واحد من مؤسسة فورد، وعاد إلى الدراسات العليا بجامعة برنستون، وحصل على شهادة دكتوراه أخرى، لكن هذه المرة في علم الاجتماع، غير أن الفيزيائي ظل بداخله دائمًا. وقبل عقود من انتشار مصطلح «متعدد التخصصات» في الأوساط الجامعية ووكالات التمويل على حدٍّ سواء، كان هاريسون عالمًا متعدد التخصصات؛ فكان أشبه بحصان طروادة غير مؤذٍ يمكن لأفكار وتقنيات الفيزياء المعاصرة غزو علم الاجتماع وإعادة تشكيله من خلاله. في سبعينيات القرن العشرين، كان هاريسون زميلًا لستانلي ميلجرام، بل عمل أيضًا على مسألة العالم الصغير. لكنه بدأ برنامجًا للرياضيات التطبيقية، وأداره. تدرب بهذا البرنامج بعض أكثر علماء اجتماع الجيل التالي تأثيرًا، إلى جانب تقديمه عددًا من الإسهامات المؤثرة في النظرية الحديثة للشبكات الاجتماعية. اشتهر هاريسون، وهو في العقد الثامن من عمره الآن، ليس فقط بحدة طباعه وكتاباته المبهمة، بل أيضًا بسخائه الشديد والاتساع المذهل لدائرة اهتماماته وبصيرته المدهشة في بعض الأحيان.
في المؤتمر اتسم هاريسون بغموضه المعتاد، لكنه قال شيئًا واحدًا نجح في إثارة بعض الانتباه، كان مضمون حديثه هو أن الناس يعرف بعضهم بعضًا بسبب ما يفعلونه، أو بوجه أعم بسبب «السياقات» التي يوجدون فيها؛ فكون المرء أستاذًا جامعيًّا سياق، وكذلك كونه ضابطًا في البحرية، والسفر المتكرر جوًّا للعمل سياق، وتعليم التسلق سياق، والعيش في نيويورك سياق؛ كل ما نفعله، وكل السمات التي تحدد هويتنا، وكل الأنشطة التي نمارسها وتدفعنا إلى الالتقاء بعضنا ببعض والتفاعل معًا هي سياقات، ومن ثم فإن مجموعة السياقات التي يشترك فيها كل فرد منا هي عامل محدد شديد الأهمية لبنية الشبكة التي ننشئها بعد ذلك.
مدفوعًا بعمل رابوبورت، ظللت أعاني بعض الوقت مع فكرة إنشاء شبكات عشوائية تضم بنية اجتماعية على نحو أقل فوضوية من النموذج ألفا الذي عملت عليه أنا وستيف في البداية، لكنه لا يعتمد على ركائز الشبيكات الصناعية كالنموذج بيتا. تمثلت المشكلة في أنه عندما تخلصنا من نظام قياس الشبيكات، لم تعد لدينا أي وسيلة لتحديد مدى قرب أي شخص من أي شخص آخر، ومن ثم مدى احتمال اتصال أحدهما بالآخر. لا يمثل ذلك مشكلة في الرسوم البيانية العشوائية؛ لأن احتمالات اتصال كل فرد متساوية في كل الأحوال، وفي شبكات باراباسي عديمة المعيار، تعتمد احتمالات الاتصال على الدرجة فحسب، لكننا ما إن نبدأ في تقديم أي نوع من البنية الجماعية أو الاجتماعية حتى نحتاج إلى أساس ما لتمييز «القريب» من «البعيد». في الواقع، دون مفهومَي القريب والبعيد، ليس من الواضح كيف يمكن للمرء تعريف البنية الاجتماعية في المقام الأول. وفي نهاية المطاف، ماذا تكون الجماعة الاجتماعية سوى مجموعة من الأفراد أقرب إليك من بقية العالم؟
طرأت على ذهني بوادر لحل هذه المسألة أثناء استماعي لحديث هاريسون، فبدلًا من البدء بمفهوم المسافة، واستخدامه لإنشاء المجموعات، لماذا لا يكون البدء بالمجموعات واستخدامها لتحديد مقياس للمسافة؟ تخيل أنه في أحد التجمعات البشرية بدلًا من اختيار الأفراد بعضهم لبعض مباشرةً، يختارون الانضمام لعدد من المجموعات، أو على نحو أكثر شمولًا، يختارون المشاركة في عدد من السياقات، كلما زاد عدد السياقات التي يشترك فيها شخصان، زاد قرب أحدهما من الآخر، وزاد احتمال اتصال أحدهما بالآخر. بعبارة أخرى، لا تبدأ الكائنات الاجتماعية كالورقة البيضاء مثلما فعلت نقاط التلاقي في نماذج الشبكات السابقة، وذلك لأنه في الشبكات الاجتماعية الحقيقية، يمتلك الأفراد هويات اجتماعية، وبالانتماء إلى مجموعات محددة، ولعب أدوار معينة، يكتسب الأفراد سمات تجعلهم أكثر أو أقل عرضة للتفاعل بعضهم مع بعض. بعبارة أخرى، تحدد الهوية الاجتماعية عملية تكون الشبكات الاجتماعية.
على الرغم من البساطة التي يبدو عليها الأمر، فقد كانت تلك النظرة للشبكات مختلفة في جوهرها فعليًّا عن النظرة التي كنا نعمل وفقها حتى تلك الفترة؛ ذلك لأنها تطلبت منّا التفكير على نحو متزامن في نوعين مختلفين من البنية — البنية الاجتماعية وبنية الشبكات — بدلًا من نوع واحد فحسب. بالطبع، تُعد هذه النظرة طبيعية تمامًا لعلماء الاجتماع، فكما أوضحنا من قبل، فكر علماء الاجتماع طويلًا وباجتهاد في العلاقة بين البنية الاجتماعية وبنية الشبكات، لكنها غير طبيعية على الإطلاق لعلماء الفيزياء والرياضيات، الذين تبدو لهم فكرة امتلاك نقطة تلاقٍ في الشبكة لهوية أمرًا سخيفًا، مع ذلك، فإن الحدس كان جذابًا للغاية، وقد أدهشني أنني لم أفكر فيه من قبل. في الواقع، لقد فكرت فيه بالفعل من قبل، بل إنه كان أول فكرة اقترحتها على ستيف على الإطلاق لتكون نموذجًا للشبكة الاجتماعية، وذلك عندما بدأنا لأول مرة التفكير في الأمر برمته، لكن لعدد من الأسباب الفنية، لم نتمكن من إنجاحه، فتغاضينا عنه، وانتقلنا إلى نماذج الشبكات الأسهل من حيث إمكانية تصورها. بعد بضعة أعوام ظل الأمر يمثل مشكلة عويصة، لكن في هذه المرحلة كنت قد اكتشفت أنا وستيف سلاحنا السري الجديد؛ مارك نيومان.
مارك نيومان هو الشخص الذي يجعلك تتساءل لماذا تزعج نفسك بمحاولة فعل أي شيء، فإلى جانب كونه عالم فيزياء عبقريًّا وخبيرًا في مجال الكمبيوتر، يُعد مارك أيضًا عازف بيانو بارعًا لموسيقى الجاز، وملحنًا، ومغنيًا، ومعلم رقص، بل يجيد التزلج على الجليد أيضًا، وقد ألف مارك، وهو لا يزال في منتصف العقد الرابع من عمره، أربعة كتب، ونشر العشرات من الأبحاث في دوريات الأحياء والفيزياء، وأسس لنفسه سمعة طيبة كمدرس بارع، وابتكر عددًا من خوارزميات الكمبيوتر الأصلية؛ كل ذلك دون العمل ليلًا أو في عطلات نهاية الأسبوع! لكن الأهم من كل ذلك هو أنه سريع؛ سريع ولا يكل على نحو لا يُصدَّق. إن العمل مع مارك يشبه الصعود على متن قطار سريع دون التحقق أولًا من خط سيره؛ فأنت تضمن الوصول إلى «مكان ما» بسرعة كبيرة، لكن انشغالك بعدم سقوط قبعتك من رأسك يحول دون اكتشاف وجهتك إلى أن تصل إليها، ويكون الإرهاق قد غلبك عادةً. في تلك الأثناء يكون مارك قد انطلق بالفعل لكتابة بحث آخر.
تطلبت إثارة اهتمام مارك بالمسألة التي كنا نعمل عليها بعض الجهد، لكن لحسن الحظ كان قد سبق لي التعاون معه في كتابة بعض الأبحاث في معهد سانتا في، حين اكتشفنا معًا بعض الخصائص الرياضية للنموذج بيتا، الأمر الذي جعله يألف المشكلات المتعلقة بالشبكات. وبناءً على اقتراحي، دعا ستيف مارك أيضًا إلى جامعة كورنيل لإلقاء خطاب، وسريعًا ما أعجب كلٌّ منهما بالآخر، ومن ثم لقيت فكرة التعاون قبولًا لدينا جميعًا. تمثلت المشكلة الرئيسية في أنه في ذلك الوقت — أوائل عام ٢٠٠٠ — كنت أعيش في كامبريدج بولاية ماساتشوستس، كنت قد انتقلت إلى هناك الخريف السابق للعمل مع آندرو لو، وهو عالم اقتصاد مالي بكلية سلون للإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وصديق قديم لستيف منذ أيام الدراسات العليا لهما بجامعة هارفارد، في تلك الأثناء، كان مارك قد عاد إلى سانتا في، وكان ستيف لا يزال في إيثاكا، ومن ثم تحتم علينا تبادل أفكارنا عبر البريد الإلكتروني، الأمر الذي أثبت عدم فعاليته، لكننا في النهاية تمكنَّا من الالتقاء في إحدى عطلات نهاية الأسبوع في مايو، وكان ذلك في إيثاكا، للتحدث بشأن مشروع جديد. تجاهل ستيف ذكر أن عطلة نهاية الأسبوع التي اخترناها كانت نفسها العطلة التي أقيم فيها حفل التخرج بجامعة كورنيل، الذي يختفي خلاله الحرم الجامعي ومعظم المدينة وسط الحشد العظيم من الآباء والإخوة والأخوات والأقارب والطلاب الفرحين، مع ذلك، فقد تمكنا من عزل أنفسنا في منزل ستيف في كيوجا هايتس وإنجاز بعض الأعمال المهمة، أو بالأصح، أنجز مارك بعض الأعمال المهمة، في حين جلست أنا وستيف نشاهد في إعجاب تلك الماكينة وهي تدور بأقصى سرعة لها.
(٥) شبكات الارتباط
سبب آخر لدراسة شبكات الارتباط، هو الجودة الاستثنائية للبيانات التي لدينا؛ ذلك لأنه على الأقل في سياقات مثل عضوية النوادي والاشتراك في أنشطة العمل والتعاون بالمشروعات المشتركة كالأفلام أو الأبحاث العلمية، يكون من الواضح بالضبط من ينتمي لماذا. حديثًا، أصبح قدر كبير من هذه البيانات متاحًا إلكترونيًّا في صورة قواعد بيانات على الإنترنت، ومن ثم يمكن إنشاء شبكات ضخمة وتحليلها سريعًا، بل الأفضل من ذلك أنه على الأقل في بعض الحالات — كمثال موقع أمازون وبعض شبكات التعاون التي سنناقشها — يسجل الأفراد أنفسهم البيانات تلقائيًّا، وذلك حين يتخذ المستهلكون قرارات الشراء أو تقديم الباحثين للأبحاث العلمية في الوقت الفعلي، ومن خلال توزيع جهد إدخال البيانات على أعضاء الشبكة أنفسهم، بدلًا من تركيزها في أيدي مدير قاعدة بيانات، يزول القيد الرئيسي على تسجيل البيانات فعليًّا، ويمكن أن تنمو قواعد البيانات جوهريًّا بلا حدود، وهو الأمر المختلف تمامًا عن أساليب الجمع والتسجيل التي استُخدمت حتى عقد مضى.
(٦) المديرون والعلماء
في الوقت ذاته تقريبًا الذي التقينا فيه نحن الثلاثة في إيثاكا، تلقيت رسالة بريد إلكتروني من جيري ديفيز، وهو أستاذ بكلية إدارة الأعمال بجامعة ميشيجان، يلتمس فيها مساعدة حسابية تتعلق ببعض بيانات الشبكات التي كان يدرسها مع معاونه، واين بيكر. كان ديفيز مهتمًّا للغاية، لبضع سنوات، بالبنية الاجتماعية لعَالم شركات القطاع الخاص بأمريكا، خاصة البنية المتشابكة لمجالس إدارات الشركات. ليست هذه بالشبكة الاجتماعية المتواضعة؛ فهناك ما يقرب من ثمانية آلاف مدير في مجالس إدارات الشركات التي تتصدر قائمة أفضل ألف شركة في الولايات المتحدة وفقًا لقائمة مجلة فورتشن، وهذا العدد القليل نسبيًّا من الأفراد، إلى جانب الموظفين التنفيذيين التابعين لهم، يلعبون دورًا محوريًّا في تشكيل اقتصاد الدولة، والعالم ككل بدرجة أقل. نظرًا لأن معظم اللاعبين في هذه اللعبة يكونون مسئولين فقط أمام المساهمين في شركاتهم (هذا إن كانوا كذلك بالفعل!) وليس من الضروري أن يكون الوصول بثروة الشركة إلى أقصى حد ممكن في مصلحة عامة الأفراد أو البيئة أو الإدارة المستنيرة، فإن السؤال المهم يكمن فيما إذا كانت العناصر واسعة الانتشار لعالم الشركات قادرة على العمل المتناسق، بما في ذلك من خرق لمبدأ منافسة السوق المفترض. في أعقاب الفضائح المحاسبية واسعة الانتشار في مجالَي الاتصالات وتجارة الطاقة، يبدو الأهم الآن أكثر من أي وقت مضى التعرف على الآليات الممكنة للتواطؤ بين الشركات.
على مر التاريخ لم يفكر علماء الاقتصاد كثيرًا في هذه القضية؛ لأنهم يفترضون بوجه عام أن الأسواق تتحكم دائمًا في التفاعلات بين الشركات، لكن علماء الاجتماع، مثل ديفيز، يفكرون فيها كثيرًا، فمن الطبيعي لشخص يوجد بمجلسَي إدارة شركتين مختلفتين أن يشكل قناةً لتدفق المعلومات بين الشركتين، ومن المرجح أيضًا أن يحقق توافقًا بين مصالحهما. توجد بالطبع قواعد بشأن العضوية المشتركة — فلا يمكن لأحد الانضمام إلى مجلسَي إدارة شركتين مختلفتين متنافستين بشكل مباشر مثلًا — لكن المصالح المشتركة تكون غالبًا أقوى مما يمكن لأي قواعد التحكم فيها. هذا ولا يعد التنسيق بين الشركات دائمًا أمرًا سيئًا. إذا كان من المفترض لقطاع الشركات الأمريكية ككل أن يستجيب سريعًا وبفعالية للبيئة الاقتصادية العالمية سريعة التغير، فمن الأفضل لموظفي هذه الشركات أن يتحدثوا معًا في إطارات أكثر حميمية من تقارير العمل.
يملك رؤساء الشركات ومديروها بالطبع العديد من أوساط التفاعل، سواء أكانت رسمية أم غير رسمية، ولا تمثل غرف اجتماعات مجالس الإدارات سوى واحدة منها فقط، لكن نظرًا لأن غرفة اجتماعات مجلس الإدارة هي المكان الذي تُحدَّد فيه معظم التغيرات الرئيسية في استراتيجية الشركة أو يُوافَق عليها، فهي تبدو سياقًا مهمًّا للغاية ينبغي دراسته، بالإضافة إلى ذلك، وعلى عكس التفاعلات غير الرسمية بين المديرين التنفيذيين بملعب الجولف أو على الغداء، فإن عضوية مجالس إدارات الشركات هي بيانات متاحة للجميع، ومن ثم يمكن تحليلها. أراد كلٌّ من ديفيز وبيكر معرفة هل شبكة مجالس الإدارات التي تناولاها بالدراسة عالمًا صغيرًا، بمعنى أنها شديدة التكتل، بحيث يتمكن أي مديرَين من الاتصال أحدهما بالآخر عن طريق عدد قليل من الوسطاء فحسب. لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا لإثبات أنها كانت كذلك بالفعل، فتمكنَّا من إضافة نموذج آخر للقائمة المتزايدة لشبكات العالم الصغير المعروفة، لكن هذه الحقيقة لم تَعُد تبدو مفاجئة لنا، فطلبتُ من ديفيز أن نجري بعض التحليل المفصل لبيانات هذه الشبكات، وتكرَّم بالموافقة.
في تلك الأثناء التي كان مارك يجري فيها بعض الأعمال وحده — في منتصف تسعينيات القرن العشرين — بدأ كلٌّ من بول جينسبارج وجيفري ويست — وهما عالما فيزياء بمختبر لوس ألاموس الوطني — ثورة صغيرة في مجال النشر العلمي، عن طريق إنشاء مخزن إلكتروني على الإنترنت للأبحاث قبل النشر التي تتناول العديد من التخصصات الفرعية في الفيزياء، وما كان من العاملين في مجال الفيزياء، المحبطين كسواهم من عملية النشر التقليدية القائمة على الدوريات والتوَّاقين دائمًا للحاق بالموجة التالية، إلا أن تهافتوا على ذلك المنفذ الجديد المعروف باسم «أرشيف المطبوعات الإلكترونية لمختبر لوس ألاموس الوطني». يقوم هذا الأرشيف بوظيفتين على الأقل تجعلان منه مؤسسة علمية ابتكارية؛ أولًا: يقدم للباحثين خيار النشر الفوري؛ إذ لا يتطلب الأمر منهم سوى تحميل أبحاثهم على خوادم الأرشيف. ثانيًا: يزود باقي العاملين في مجال البحث العلمي بإمكانية وصول سريعة لأعمال الباحثين الآخرين جميعًا، الأمر الذي يؤدي إلى الإسراع للغاية من دورة الأفكار والابتكار. لم يتضح بعدُ ما إذا كانت هذه الإمكانية غير المقيدة لنشر عمل المرء أمرًا جيدًا تمامًا لتقدم العلم أم لا، لكن من الواضح أن معظم الفيزيائيين يؤمنون بذلك، على الأقل إذا وضعنا حماسهم لتحميل الأبحاث وتنزيلها في الاعتبار.
بالإضافة إلى أهمية الأرشيف المؤسسية، فإنه يمثل أيضًا وسيلة للتحقق العلمي من خلال كونه شبكة للتعاون بين العلماء؛ ففي خلال نصف عقد منذ تأسيسه، نشر ما يزيد عن خمسين ألف باحث نحو مائة ألف بحث به. ومن الجلي أن هذه الأرقام ليست سوى جزء صغير من إجمالي عدد الفيزيائيين وأبحاثهم على مدار الزمن ككل، لكنها معبرة بما فيه الكفاية لتمثل على الأقل البنية الاجتماعية المعاصرة لهذا الفرع من المعرفة. تمكَّن مارك بمساعدة جينسبارج من الحصول على قاعدة البيانات الكاملة للأبحاث والمؤلفين، وتمكن من خلالها من إعادة بناء شبكة التعاون المتوافقة في صورة رسم بياني ذي قسمين.
تمكن كذلك مارك، الذي لا يرضى عن الإتقان التام بديلًا، من الحصول على بعض البيانات الأكثر إثارة للإعجاب، وهي قاعدة بيانات «ميدلاين» للأبحاث والباحثين في مجال الطب الحيوي، التي جُمِع محتواها على مدار فترة زمنية أطول بكثير من أرشيف المطبوعات الإلكترونية، وتضم ما يزيد عن مليوني بحث ومليون ونصف المليون من المؤلفين. بالتأكيد هذه الأرقام أكبر بكثير مما يمكن تناوله في تحليل الشبكات الاجتماعية (تُعد مجموعة بيانات ديفيز كبيرة، وهي بالآلاف فقط). لم يجب على مارك استخدام تطبيق «إنتل كلستر» فحسب، وهو التطبيق الذي كان قد ثُبِّت للتوِّ بمعهد سانتا في لإجراء الحسابات، لكن كان عليه أيضًا تحسين بعض خوارزميات الشبكات القياسية؛ كيلا تحتاج تلك الأداة لسنوات لإتمام العمل. وكما لو أن ذلك لم يكن كافيًا، حصل مارك أيضًا على قاعدتي بيانات أصغر حجمًا (لكنهما لا تزالان ضخمتين بمعايير الشبكات الاجتماعية) من مجالَي الحاسبات وفيزياء الطاقة العالية.
من المنظور الاقتصادي، لا تتمتع شبكة التعاون العلمي بالأهمية الواضحة نفسها التي تتسم بها شبكة مديري الشركات، لكن عند المتابعة على مدى زمني أطول، يكون لقدرة المجتمع العلمي على الابتكار، والاتفاق أيضًا، آثار عميقة (وإن كانت غامضة إلى حد ما) على إنتاج وتحويل معارف جديدة تتغير بها أوجه التكنولوجيا والسياسة، ونظرًا لأن البنية الاجتماعية لصور التعاون تمثل آلية يتعرف بها العلماء على تقنيات جديدة ويحلمون بأفكار جديدة ويحلون مشكلات ما كانوا ليتمكنوا أبدًا من حلها وحدهم، فإنها مهمة لسير البحث العلمي على نحو سليم. وبوجه خاص، يمكن أن يأمل الفرد أن تتصل شبكة تعاون ضخمة من العلماء في صورة مجتمع واحد وليس مجتمعات فرعية منعزلة عديدة.
هكذا، حين تقابلنا في إيثاكا في عطلة نهاية الأسبوع بشهر مايو، لم يكن لدينا بعض الأفكار النظرية بشأن شبكات الارتباط فحسب، بل أيضًا صورة ممتازة للظاهرة التجريبية التي يجب على نماذجنا تفسيرها. تمثلت إحدى أكثر السمات إدهاشًا لشبكات التعاون، على سبيل المثال، في أن أغلبية المؤلفين في كلٍّ من هذه الشبكات كانوا متصلين بالفعل في مكون واحد يمكن ربط كل عالِم عامل بداخله بأي عالِم آخر من خلال سلسلة قصيرة فقط من المتعاونين (أربعة أو خمسة أفراد عادةً). لم نتفاجأ في الواقع بهذه النتائج؛ لأننا لاحظنا هذه السمة من قبل في شبكة الممثلين السينمائيين، لكن يجب التذكر هنا أن بعض مجموعات بيانات مارك قد أُنشئت في خمس سنوات فحسب، وتكوَّنت بالفعل من عشرات الآلاف من المؤلفين، ومن ثم لم يُتَح للعلماء (الذين يتسمون بالتركيز الشديد دائمًا) وقتًا طويلًا للاتصال بعضهم ببعض كما هو الحال مع الممثلين، بالإضافة إلى ذلك، يكون العدد المعتاد لمؤلفي أي بحث حوالي ثلاثة فقط، وهو العدد الأقل بكثير من متوسط فريق التمثيل بالأفلام (نحو ستين فردًا)، وهو ما لا يسهِّل على كل فرد أن يتصل بنظرائه على نحو جيد.
(٧) تعقيدات
مع ذلك، سريعًا ما كشفت دراسة البيانات على نحو أكثر دقة عن عدد من الخصائص البعيدة كل البعد عن الشبكات العشوائية. بدايةً، كانت شبكات التعاون جميعها شديدة التكتل كشبكات العالم الصغير، التي صارت مألوفة بحلول ذلك الوقت. ثانيًا، التوزيعات المعبرة عن عدد الأبحاث التي كتبها كل مؤلف، وعدد المؤلفين المعاونين له في كتابة كلٍّ من هذه الأبحاث، بدت مشابهة لتوزيع قانون القوة لباراباسي وألبرت أكثر من توزيعات بواسون ذات القمم التي تعد سمة مميزة للرسوم البيانية العشوائية.
كانت هذه نتيجة مشجعة للغاية، ولا يرجع ذلك إلى حاجتنا لوسيلة أخرى لإنشاء شبكات العالم الصغير (فكان الأمر يسيرًا إلى هذا الحد)، لكن لأن خصائص العالم الصغير ظهرت على نحو طبيعي. ببساطة، من خلال تمثيل المشكلة على نحو بدا مقبولًا اجتماعيًّا — عن طريق الافتراض فعليًّا أن الناس يعرف بعضهم بعضًا بسبب المجموعات والأنشطة التي يشاركون فيها — تمكنَّا من التوصل إلى الكثير من خصائص الشبكات الاجتماعية الحقيقية. وعلى نحو لا يثير الدهشة، لا تزال نماذجنا تعتمد على عدد من الافتراضات التبسيطية، أهمها أن الفاعلين يختارون المجموعات عشوائيًّا، لكن هذه العيوب ليس من الممكن تصحيحها فحسب، بل إنها توضح في الحقيقة مدى قوة النتائج، وإذا أمكن حتى لأبسط آليات اختيار الفاعلين للمجموعات أن تُنشئ بِنى شبكات مقبولة على الأقل، فإن المنهج الأساسي يبدو سليمًا إذن.
لكن لا يزال هناك الكثير من العمل، ومرة أخرى تبدو الديناميكيات هي الحل. قد يعرف الناس من يعرفونهم بسبب ما يفعلونه، لكنهم يجربون أيضًا أشياء جديدة بسبب من يعرفونهم؛ فيدعوك أصدقاؤك للحفلات، أو يجذبونك معهم في أنشطتهم المفضلة؛ يشركك زملاؤك أيضًا معهم في مشروعات جديدة، أو يقترحون عليك معارف جددًا قد يساعدونك في حل مشكلة ما؛ يقترح الرؤساء في العمل فرصًا جديدة داخل الشركة، وخارجها أيضًا. بعبارة أخرى، فإنك تحصل على المعلومات التي توسِّع بها آفاقك عن طريق ما لديك من معارف اجتماعيين حاليين، والتي تغير البنية الاجتماعية التي تتحرك بداخلها وتؤدي إلى ظهور المجموعة التالية من المعارف الذين ستتشارك معهم هذه المعلومات. تتمثل القوة الحقيقية للمنهج ثنائي القسم في أن كل هذه العمليات — ديناميكيات الشبكة — يمكن تمثيلها ببساطة ووضوح في إطار واحد؛ إطار يمكنه أن يتتبع تطور كلٍّ من البنية الاجتماعية وبنية الشبكة، إلى جانب الاحتواء اللانهائي لكل بنية داخل الأخرى، الذي يشكل قلب العملية الاجتماعية.