الأوبئة والأعطال
(١) المنطقة الحارة
قد يكون من الإنصاف القول إن احتمال ظهور الأوبئة الفتاكة لا يقضُّ مضاجع أغلبنا، وربما يرجع ذلك إلى أن معظمنا لم يقرأ كتاب «المنطقة الحارة»، وهو قصة حقيقية بقلم ريتشارد بريستون عن فيروس إيبولا القاتل الذي يهلك ضحاياه وسط فيض من نزيف دموي شديد الضراوة لا تُحدِثه سوى الطبيعة. ظهر هذا الفيروس لأول مرة من مكمنه بالأدغال في عام ١٩٧٦، وقد سُمي بهذا الاسم نسبةً إلى نهر إيبولا الذي يجري في المناطق الشمالية من جمهورية الكونغو الديمقراطية، التي كانت تُعرَف في السابق باسم «زائير»، وقد ظهر في السودان أولًا، ثم بعد شهرين في زائير حيث انتشر في خمس وخمسين قرية في وقت واحد تقريبًا، حاصدًا نحو سبعمائة روح في ذلك العام وحده.
على الرغم من عدم معرفة الكثير عن فيروس إيبولا، وهو الأمر الذي يدعو إلى الدهشة، فمن المُعتقَد أنه انتقل، شأنه في ذلك شأن فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز)، من القِرَدَة إلى البشر، وله ثلاث سلالات على الأقل ذات معدلات متزايدة من القدرة على الفتك. تفشى مؤخرًا فيروس إيبولا في أوغندا وكان من سلالة السودان، وهي السلالة التي تتسم بمعدل إماتة يبلغ ٥٠ بالمائة فقط، ومن ثم تُعَد أضعف من السلالتين الأخريين (يحصد فيروس إيبولا زائير ٩٠ بالمائة من أرواح ضحاياه)، ومع ذلك، فقد توفي ١٧٣ شخصًا في مقاطعة جولو في الفترة ما بين أكتوبر من عام ٢٠٠٠ إلى يناير ٢٠٠١ قبل أن ينتهي التفشي نهايته الطبيعية. أدت حالات التفشي الأخرى على مدار العقود الثلاثة الماضية إلى مقتل أعداد مماثلة من البشر في ظل ظروف مشابهة إلى حد ما، في قرى صغيرة معزولة ذات مرافق رعاية صحية متدهورة. إن قصص الرعب المتعلقة بتفشي هذا الوباء عديدة: الضحايا يذهبون إلى طبيب محلي وهم يشكون من أعراض شبيهة بالإنفلونزا؛ الانهيار والنزيف بعد عدة أيام في أقرب عيادة طبية؛ الإدراك المفزع، والمتأخر عادةً، لتفشي فيروس إيبولا؛ انخفاض عدد المختصين الطبيين الأبطال الموجودين في خط الدفاع الأول؛ انتشار الذعر؛ اكتشاف العشرات من الأجساد الدامية في أكواخ مهجورة؛ خراب القرى وهجرانها؛ ترويع مناطق كاملة. إن فيروس إيبولا وحش ضارٍ بحق، إنه قطعة من الجحيم.
من قبيل المفارقة أن البأس الشديد لفيروس إيبولا هو نفسه نقطة ضعفه الوحيدة: فهو شرس لدرجة تضر به نفسه؛ فعلى عكس فيروس نقص المناعة البشرية الساكن الغادر، يكشف إيبولا عن طبيعته الحقيقية المدمرة في غضون أيام، ويفتك بالمرضى بعد إصابتهم به بقليل، إلى جانب ذلك، ما إن تظهر الأعراض حتى يصبح الضحايا عاجزين تمامًا ويبلغ بهم السقم مبلغه، فيواجهون صعوبة في السفر، ويكون من الممكن حجرهم صحيًّا بسهولة نسبية، ومن ثم الحد من قدرة الفيروس على الانتشار إلى عائلين جدد. نتيجة لذلك، تم احتواء معظم حالات التفشي في المناطق النائية الواقعة بالقرب من الغابات المطيرة وبعيدًا عن المراكز السكانية الرئيسية.
مرة واحدة فقط، أثناء حالة التفشي الثانية في عام ١٩٧٦، تمكن فيروس إيبولا من الوصول إلى مدينة كبيرة، وذلك عندما قضت ممرضة شابة تُدعى ماينجا إن — كانت مصابة بسلالة زائير من هذا الفيروس — أحد الأيام متجولة بأرجاء مدينة كينشاسا، عاصمة الكونغو وأكبر مدنها، ولحسن الحظ، أدت سمة أخرى للفيروس إلى تجنب وقوع كارثة: ففيروس إيبولا — على الأقل في مراحله الأولى — ليس معديًا على الإطلاق، بل حتى عندما يكون المريض في مرحلة متأخرة من المرض، وجسمه ينزف داخليًّا ويسعل مخاطًا مليئًا بالدماء في الهواء، من المعتقد بوجه عام أن الفيروس لا يمكنه الوصول للمضيفين الجدد سوى عبر شقٍّ في الجلد أو غشاء مُنفِّذ مثل أغشية الأنف أو العين. وبوصول الممرضة ماينجا إلى هذه المرحلة، كانت قد أدركت بالفعل مصيرها ووُضِعت تحت الحجر الصحي في المستشفى.
بقراءة ذلك، قد تعتقد أن إيبولا ليس سوى عنصر آخر بسلسلة الأهوال اللانهائية المبتلاة بها البلدان الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى. وأفريقيا، القارة الأكثر غرابة وتوحشًا، بعيدة بالطبع عن أمريكا بما يكفي بحيث لا يكون للوباء التالي — إذا حدث ومتى حدث — تأثير على سكان أمريكا أكثر من الشعور بالضيق بين الحين والآخر أثناء تصفح الجريدة الصباحية، لكن إذا كان ثمة شيء واحد يمكن تعلمه من كتاب «المنطقة الحارة»، فسيكون أنه ينبغي التوقف عن الاسترخاء الآن. يمثل فيروس إيبولا مشكلة ليس فقط لأفريقيا، لكن للعالم أجمع؛ فمن الممكن أن تحرر سلسلة صحيحة من الأحداث فيروس إيبولا من قيوده، مثلما زحف فيروس نقص المناعة البشرية عبر طريق كينشاسا السريع من مكان ميلاده في الأدغال، وعثر بشكل ما، ربما في إحدى المدن الساحلية، على جايتان دوجاس — المضيف الجوي الكندي الشهير بالمريض صفر — الذي جلب الفيروس إلى الحمامات العامة بسان فرانسيسكو وأدخل مرض الإيدز إلى العالم الغربي.
إن الجانب الأكثر إزعاجًا في قصة بريستون ليس الوصف الحي لحالات الوفاة الناتجة عن فيروس إيبولا، بل احتمالية انتشار الفيروس على مستوى العالم؛ فعلى مدار القرن الماضي لم نتدخل نحن البشر تدخلًا سافرًا فحسب في النظم البيئية القديمة للغابات المطيرة الأفريقية، حيث تكمن أكثر الفيروسات فتكًا، لكننا أنشأنا أيضًا نظامًا دوليًّا لشبكات نقل يمكن أن تنقل مرضًا معديًا إلى مراكز القوة والعواصم العالمية في غضون بضعة أيام؛ أي في فترة تقل عن طور حضانة الإيبولا. ويصف بريستون أحد الأشخاص المحكوم عليهم بالهلاك في قصته، وهو يجلس في طائرة صغيرة متوجهة إلى نيروبي ويتقيأ كميات كبيرة من الدم الأسود، قائلًا: «لقد دخل كلٌّ من شارل موناي والكائن الموجود بداخله إلى الشبكة.»
إن إمكانية ظهور مرض إيبولا في مركز تجاري محلي أبشع مما يمكن تصوره، لكن بعد قراءة كتاب «المنطقة الحارة»، سيُذهلك أنه ليس أمرًا مستبعدًا بهذا القدر. في الواقع، تصف حبكة الأحداث الفرعية في الكتاب تفشي سلالة ثالثة من فيروس إيبولا بين مجموعة من القِردة في أحد معامل أبحاث الجيش الأمريكي في ريستون بولاية فيرجينيا، بالقرب من واشنطن العاصمة؛ لقد اكْتُشِف أن الفيروس، المعروف الآن باسم إيبولا ريستون، لا يضر بالبشر، لكنه مهلك بشكل مذهل للقِردة المسكينة التي مات جميعها، لكن فيروس إيبولا ريستون كان شديد الشبه بإيبولا زائير، فلم تتمكن أيٌّ من الاختبارات التقليدية آنذاك من التفريق بينهما، وظل العلماء ومدربو الحيوانات، الذين تعرضوا له، يظنون أنه إيبولا زائير لبضعة أيام من القلق الشديد، وإن كان الأمر كذلك بالفعل — ولحسن الحظ أنه لم يكن — لكان جميعنا قد عرف عن إيبولا أكثر مما نعرفه الآن.
(٢) فيروسات الإنترنت
ليست الفيروسات البيولوجية المصدر الوحيد المحتمل للأوبئة في العصر الحالي، وهذا ما اكتشفتْه كلير سواير لحظها التعس قبل أعياد رأس السنة لعام ٢٠٠٠. كلير سواير شابة إنجليزية من الواضح أنها أقامت علاقة لفترة قصيرة قبل أعياد رأس السنة ببضعة أيام مع شاب إنجليزي يُدعَى برادلي تشايت، ونظرًا لكونها سيدة معاصرة، أرسلت إليه رسالة بالبريد الإلكتروني تطري عليه فيها، وراقت هذه الرسالة لتشايت كثيرًا، فقرر مشاركتها مع أصدقائه؛ أصدقائه المقربين فقط، وعددهم ستة أفراد، لكن من الواضح أنهم استمتعوا بدورهم برسالة الإطراء، فأعادوا توجيهها للعديد من أقرب معارفهم وأعزهم، الذين شعر الكثيرون منهم بالشعور ذاته، وهكذا، دارت تلك الرسالة البريدية البسيطة، مع إضافة بسيطة من تشايت: «إطراء لطيف من إحدى عشيقاتي» في العالم ليستمتع بها نحو ٧ ملايين قارئ في غضون أيام. سبعة ملايين! تحتم على كلير المسكينة الاختباء لتجنب السعار الصحفي الناجم عن تلك الفضيحة، وتعرَّض تشايت لإجراء تأديبي من شركة المحاماة التي يعمل بها بسبب استخدامه غير المصرح به لحساب البريد الإلكتروني الخاص به (كما لو أن الناس لا يرسلون رسائل شخصية عبر البريد الإلكتروني الخاص بالعمل طوال الوقت!) قد تكون قصة سخيفة، لكنها مثال جيد على قوة التزايد الأسِّي، خاصةً عند اقترانه بنقل المعلومات غير المكلِّف الذي يقدمه الإنترنت. وحول هذا الموضوع، هناك العديد من الأمور الخطيرة التي يجب التحدث عنها.
لقد تعايشنا مع فيروسات الكمبيوتر لعقود من الزمان، فلماذا لم نبدأ في مواجهتها على مستوى عالمي إلا مؤخرًا؟ الإجابة عن هذا السؤال هي نفسها الإجابة عن الكثير من الأسئلة المتعلقة بالنصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين: الإنترنت. قبل ظهور الإنترنت، انتشرت الفيروسات، وكان مستخدمو الكمبيوتر يواجهون صعوبات بين الحين والآخر، لكن، آنذاك، كان السبيل الوحيد لنقل فيروس من جهاز لآخر هو القرص المرن، الذي يجب أن يوضع داخل الجهاز. بالطبع، كان من الممكن للقرص المُحمَّل بالفيروس أن ينتشر بين الكثير من أجهزة الكمبيوتر، وعندما يصاب أحدها به، تؤدي محاولة إنقاذ الملفات ذات الصلة بنقلها إلى قرص غير مُحمَّل بالفيروس إلى انتقال الفيروس إلى هذا القرص أيضًا، ومن ثم كانت إمكانية النمو المتسارع موجودة بالفعل، لكن طبيعة الانتشار الملموسة إلى حدٍّ بعيد — مثل حاجة فيروس إيبولا لشقٍّ في الجلد لينتشر — قللت بوجه عام من كفاءة الفيروسات إلى الحد الذي أصبح معه الظهور البسيط للفيروسات لا يتحول إلى أوبئة متفشية.
كانت العواقب وخيمة؛ فعند اكتشاف الفيروس للمرة الأولى يوم الجمعة، ٢٦ مارس، كان قد انتشر بجميع أرجاء المعمورة في غضون ساعات، وبحلول صباح يوم الاثنين كان قد أصاب ما يزيد عن مائة ألف جهاز كمبيوتر في ثلاثمائة مؤسسة قاصفًا بعض المواقع بعدد هائل من الرسائل (وصل في إحدى الحالات إلى اثنين وثلاثين ألف رسالة خلال خمس وأربعين دقيقة!) الأمر الذي أجبر تلك المؤسسات على قطع اتصال نظمها البريدية عن الإنترنت. مع ذلك، كان يمكن أن يكون الأمر أسوأ من ذلك بكثير. كان فيروس ميليسا غير خطير نسبيًّا — إذ كان أسوأ أثر له هو إدراج مرجع غير ضار لمسلسل «عائلة سيمبسون» في مستند مفتوح عندما تتوافق الدقيقة في الساعة مع تاريخ اليوم — ولم يكن بإمكانه أيضًا الانتشار إلا عن طريق برنامج البريد مايكروسوفت أوتلوك. ظل وصول الفيروس إلى من لا يستخدمون برنامج أوتلوك ممكنًا، لكن مع عدم إمكانية انتقاله إلى آخرين. هذا هو الفارق الذي له عواقب مهمة (ربما لشركة مايكروسوفت نفسها) تتعلق باحتمالية أن يصبح الفيروس فيروسًا عالميًّا مدمرًا حقًّا كما سنوضح لاحقًا، لكن، أولًا، علينا أن نعرف بعض المعلومات عن الرياضيات المتعلقة بأي مرض معدٍ، وعلينا أن نفهم، على وجه الخصوص، الظروف التي يصبح فيها ظهور مرض بسيط وبائيًّا.
(٣) رياضيات الأوبئة
يتمثل الشرط الرياضي للوباء في ضرورة أن يكون معدل تزايد المرض أكبر من واحد؛ ففي حال بقاء معدل التزايد عند درجة أقل من واحد، يُبعَد الناقلون للعدوى من مجموعة الأفراد بمعدل أسرع من ظهور ناقلين جدد، وسيبلغ المرض نهايته دون أن يصير وباءً، أما إذا زاد معدل التزايد عن واحد، فلن يزيد المرض من انتشاره فحسب، بل سيزيد أيضًا من السرعة التي سيواصل الانتشار بها، ويصير من الحتمي حدوث النمو المتفجر. والوضع الحرج بين هاتين الحالتين، حيث يمرر مضيف واحد المرض لمضيف جديد واحد بالتحديد، يُعرف ﺑ «حد» الوباء. والوقاية من الوباء تعني إبقاء معدل التزايد أقل من هذا الحد.
(٤) الأوبئة في عالم صغير
قد تساعد هذه الملاحظة في تفسير لماذا تتمكن الأوبئة، كالحمى القلاعية في بريطانيا، من التفجر سريعًا للغاية؛ نظرًا لأن مرض الحمى القلاعية ينتشر بين الحيوانات، إما عن طريق الاتصال المباشر أو بصورة غير مباشرة من خلال القطرات المتطايرة بفعل الرياح، الآتية من الحيوانات التي تظهر عليها الأعراض وفي التربة المشبعة بالفيروس، ربما يتوقع المرء أن ينتشر الظهور الأول للوباء في مساحة جغرافية ثنائية الأبعاد بالريف الإنجليزي فحسب، كما فعل الطاعون منذ سبعمائة عام مضت، لكنَّ كلًّا من وسائل النقل الحديثة، وأسواق الماشية الحديثة (التي تشهد تبادلًا للحيوانات التي تنتمي لمناطق جغرافية مختلفة)، والمسافرين تنزهًا على الأقدام حاملين في أحذيتهم التربة الملوثة بالفيروس، أدت جميعها إلى كسر القيود الجغرافية؛ نتيجة لذلك، تتصل مزارع الماشية والأغنام البريطانية بواسطة شبكة من نظم المواصلات يمكن أن تنقل الحيوانات (والأفراد) المصابة بالعدوى إلى أي مكان في الدولة بين عشية وضحاها، ونظرًا لأن هذه الروابط، بكل المقاييس العملية، عشوائية، لم يكن على الفيروس سوى أن يعثر على عدد قليل من هذه الروابط لكي ينطلق إلى منطقة جديدة. تتمثل إحدى المشكلات المبكرة الهامة — على سبيل المثال — فيما يتعلق بالقضاء على الوباء، في أن المزارع الثلاث والأربعين التي اكْتُشِف فيها مرض الحمى القلاعية لأول مرة لم تكن متجاورة، ومن ثم وجب مقاومة الفيروس على جبهات كثيرة في آنٍ واحد، مع تزايد الجبهات كل يوم.
إن سهولة تكرار نتائج نموذج المزج العشوائي، وإن كان ذلك في الشبكات شديدة التكتل، ليست في مصلحة العالم؛ فإذا كانت الأمراض تنتشر بالفعل في شبكات العالم الصغير، يبدو أننا سنواجه دائمًا أسوأ سيناريو ممكن، والأكثر إزعاجًا هو أنه نظرًا لأن أغلب الناس لا يعرفون ما هو أكثر من المعلومات المحلية عن شبكاتهم، فقد يكون من الصعوبة بمكان لهيئات الصحة العامة أن تجعل الأفراد يدركون الطبيعة الفورية لتهديد ما قد يبدو بعيدًا، ومن ثم تغيير سلوكهم. يُعَد الإيدز مثالًا جيدًا على هذه المشكلة؛ فلأكثر من عقد من الزمان بعد التعرف على وباء الإيدز للمرة الأولى، نُظِر إلى نقص المناعة البشرية بوجه عام على أنه قاصر على عدد قليل فحسب من الجماعات المحددة تحديدًا دقيقًا؛ المثليين والعاهرات ومتعاطي المخدرات عن طريق الحقن في الوريد؛ لذا إذا لم يعاشر الشخص (س) أحدًا ينتمي إلى هذه الفئات الثلاث جنسيًّا، ولم يفعل أيٌّ ممن عاشرهم جنسيًّا ذلك أيضًا، فمعنى ذلك أن الشخص (س) آمن، أليس كذلك؟ خطأ! لقد اتضح لنا من رؤية الفيروس وهو يصيب دولًا بأكملها تقريبًا في جنوب أفريقيا أنه في العالم الصغير للشبكات الجنسية، حتى الخطر الذي قد يبدو بعيدًا يجب أن يؤخذ على محمل الجد. والأمر المزعج حقًّا هو فكرة أن فيروس نقص المناعة البشرية تمكن من اختراق حدوده الأولية بسبب اعتقادنا بعدم قدرته على ذلك.
من ثم فإن أفضل موضع لتطبيق عبارة «فكر عالميًّا، وتصرف محليًّا» هو الوقاية من الأوبئة. تذكر أن الأمراض المعدية، على عكس مشكلات البحث الموضحة في الفصل السابق، تنتشر من خلال ما أطلقنا عليه الأبحاث واسعة الانتشار. لذا إذا كان هناك مسار قصير في شبكة معارف ما بين ناقل العدوى والشخص المعرض للإصابة، فلا يهم إذا كان أيٌّ منهما يعلم بوجود هذا المسار، أو حتى قدرتهما على العثور عليه إذا أرادا ذلك، فإذا لم يوقَف المرض بصورة ما، فسيعثر على المسار؛ لأنه يستكشف الشبكة عبر كل مسار ممكن، وعلى عكس مستخدمي موقع نيوتيلا أو فصل السيدة فورست بالصف السادس في الفصل السابق، من الرائع هنا الإفراط في تحميل الشبكة الكاملة بنسخ من نفسها؛ فهذا ما تفعله الأمراض المعدية. وما يبعث على القلق الشديد هو أن إدراكنا للخطر الناتج عن مرض معدٍ، سواء أكان نقص المناعة البشرية أو إيبولا أو حتى فيروس غرب النيل، لا يتناسب مع الطريقة الحقيقية التي ينتقل بها المرض.
ومع ذلك، فالصورة ليست على هذا القدر من القتامة؛ فكما أوضحنا من قبل، ليس من المعتاد أن تتحول الأمراض إلى أوبئة، وهنا تخبرنا شبكات العالم الصغير بشيء مشجع؛ ففي شبكات العالم الصغير، يكون العنصر الرئيسي للنمو المتفجر لمرض ما هو الطرق المختصرة. لا تنتشر الأمراض بفعالية كبيرة في الشبيكات، ومع أن شبكات العالم الصغير تعكس بعض السمات الهامة للرسوم البيانية العشوائية، فتظل هناك سمة مشتركة بينها وبين الشبيكات، وهي أنه على المستوى المحلي يتسم أغلب المعارف بالتكتل الشديد؛ لذا، محليًّا، يتشابه نمو أحد الأمراض كثيرًا مع نموه بالشبيكة؛ يتفاعل الأفراد المصابون بالعدوى في أغلب الأحيان مع غيرهم من الأفراد المصابين بالعدوى بالفعل، مما يمنع المرض من الانتشار سريعًا بين الأفراد المعرضين للإصابة، ولا يبدأ المرض في عرض أسوأ مظاهر سلوك المزج العشوائي إلا عندما يصل إلى أحد الطرق المختصرة؛ سواء أكان ذلك عن طريق صعود أحد المصابين بفيروس إيبولا على متن طائرة ما، أو شاحنة محملة بالماشية المصابة بالحمى القلاعية تسير على أحد الطرق السريعة؛ لذا، على عكس الأوبئة على الرسم البياني العشوائي، يكون على الأوبئة في شبكات العالم الصغير أن تنجو أولًا من مرحلة النمو البطيء التي تكون فيها في أشد درجات ضعفها، وكلما انخفضت كثافة الطرق المختصرة، طالت مدة هذه المرحلة من النمو البطيء.
بناء على ذلك، لن تعمد الاستراتيجية القائمة على الشبكات والهادفة للوقاية من الأوبئة إلى خفض معدلات العدوى بوجه عام فحسب، بل ستركز بوجه خاص أيضًا على المصادر المحتملة للطرق المختصرة. المثير للاهتمام حقًّا أن برنامج تبادل الحقن، الذي اتسم بالفعالية في الحد من انتشار فيروس نقص المناعة البشرية بين متعاطي المخدرات بالحقن في الوريد، يعكس هاتين السمتين. إن الحيلولة دون انتشار الإبر الملوثة يقضي على إحدى الآليات التي يمكن من خلالها انتشار فيروس نقص المناعة البشرية، ومن ثم الحد من المعدل الكلي للعدوى، لكنه ينجح أيضًا بفضل صور العدوى المحددة التي يقي منها. تتم مشاركة الإبر الملوثة ليس فقط بين الأصدقاء، بل أيضًا بين الأغراب تمامًا الذين قد يلتقطون إبرة ما مهملة ويعيدون استخدامها. بعبارة أخرى، تعد الإبر المعاد استخدامها مصدرًا للاتصالات العشوائية في شبكة الأمراض، ومثلما أدى الحظر المفروض على حركة الحيوانات وإغلاق ممرات المشاة بالقرى بجميع أرجاء إنجلترا في عام ٢٠٠١ إلى الحد من إمكانات الطرق المختصرة طويلة المدى، أغلق إبعاد الإبر من النظام أحد طرق الهروب من مرحلة النمو البطيء الخاصة بالوباء، مما أتاح للجهات الصحية فرصة أفضل لملاحقة المرض.
(٥) نماذج التخلل للأمراض
تاريخيًّا، تعود نظرية التخلل إلى الحرب العالمية الثانية، عندما استخدمها بول فلوري ومعاونه والتر ستوكماير لوصف عملية «تَهَلُّم» البوليمرات. من سبق له سلق البيض سيكون على معرفة ببعض مظاهر تهلُّم البوليمر؛ فعند تسخين البيضة، تتصل البوليمرات الموجودة فيها وتتحد بعضها مع بعض، كل زوج على حدة، وبعد ذلك، في إحدى النقاط الحرجة، يتعرض الزلال لتحول مفاجئ قد يبدو تلقائيًّا يُعرف باسم «التهلُّم»، وهو التحول الذي يتحد فيه عدد ضخم من البوليمرات المتفرعة فجأة معًا في تكتل واحد متماسك يشمل البيضة بأكملها. بالنظر للبيضة كإفطار، قبل التهلُّم كانت البيضة سائلة، وبعد التهلُّم صارت مادة صلبة. تمثَّل النجاح الأول لنظرية التخلل في تفسير فلوري وستوكماير لكيفية حدوث هذا التحول بشكل آني تقريبًا، وليس ببطء وعلى نحو متراكم كما قد يتوقع البعض. مع أن نظرية التخلل قد وُضعت في الأساس للإجابة عن تساؤلات في مجال الكيمياء العضوية، فقد اتضح بعد ذلك أنها وسيلة نافعة للتفكير في كل صور المشكلات، بدءًا من أحجام حرائق الغابات، مرورًا بإنتاجية حقول البترول الموجودة تحت الأرض، وصولًا إلى قابلية المواد المركبة لتوصيل الكهرباء، وحديثًا اسْتُخْدِمَت أيضًا هذه النظرية للتفكير في انتشار الأمراض.
(٦) الشبكات والفيروسات ومايكروسوفت
لذا، قبل التسرع في التحليل، يجب التفكير بشأن أي النوعين — تخلل الروابط أم تخلل المواقع — يعكس أفضل صورة لطبيعة المرض محل الدراسة. في حالة فيروس مثل إيبولا، مثلًا، يبدو مقبولًا افتراض أن جميع الناس قابلون للإصابة، والتركيز على المدى الذي يمكن أن يصيبوا به بعضهم بعضًا بالعدوى، ومن ثم تكون الصيغة المناسبة لمسألة التخلل المرتبطة بفيروس إيبولا هي تخلل الروابط، لكن فيروسات الكمبيوتر، مثل ميليسا، تمر عادة بين أي كمبيوتر قابل للإصابة وأي كمبيوتر آخر (تكون جميع الروابط مفتوحة فعليًّا)، لكن لا تكون جميع أجهزة الكمبيوتر قابلة للإصابة؛ لذا فإن نموذج التخلل الخاص بأحد فيروسات الكمبيوتر يجب على الأرجح أن يكون من نوع تخلل المواقع. إذا أخذنا فيروس ميليسا مثالًا، نجد أن جزءًا محددًا فحسب من أجهزة الكمبيوتر في العالم يكون قابلًا للإصابة بالفيروس؛ لأنه ينتشر فقط من خلال برنامج البريد الإلكتروني أوتلوك من مايكروسوفت، ولا يستخدم الجميع هذا البرنامج.
لسوء حظ مستخدمي برامج مايكروسوفت، يعمل برنامج أوتلوك على عدد كبير من أجهزة الكمبيوتر، الأمر الذي يؤدي بالتأكيد إلى تخلل أكبر التكتلات المتصلة لهذه الأجهزة. في الواقع، إذا لم يكن هذا التخلل موجودًا، فما كنا لنرى انتشارًا عامًّا لفيروسات مثل ميليسا، وتابعيه مثل فيروس «الخطاب الغرامي» وفيروس «آنَّا كورنيكوفا». يعود التوافق العام بين البرامج ببعض الفوائد الهامة على المستخدمين الأفراد، لكن من منظور ضعف الأنظمة، عندما يكون لدى الجميع البرنامج ذاته، يعاني الجميع أيضًا نقاط الضعف نفسها، وكل برنامج له نقاط ضعفه، خاصةً نظم التشغيل الكبيرة المعقدة، كنظم تشغيل مايكروسوفت. وبطريقة ما، الأمر الوحيد المدهش بشأن ظهور فيروسات مثل فيروس ميليسا هو أنها لا تحدث كثيرًا، وإذا بدأت في الظهور أكثر — إذا صارت برامج مايكروسوفت شهيرة بقابلية إصابتها دائمًا — قد تبدأ الشركات الكبيرة، بل الأفراد أيضًا الذين لا يمكنهم تحمل توقف أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم عن العمل، في البحث عن بدائل.
ما الذي يجب أن تفعله شركة مايكروسوفت؟ يتمثل المنهج الواضح في جعل منتجاتها مرنة قدر الإمكان في مواجهة هجوم أي فيروس يشبه ديدان الكمبيوتر، وجعل برنامج مكافحة الفيروسات متاحًا في أسرع وقت ممكن في حال ظهور أي فيروس. تؤدي هذه الإجراءات إلى خفض احتمالية إشغال الشبكة، ومن ثم تقليص حجم التكتل المتخلل، بل ربما محوه أيضًا، لكن إذا أرادت الشركات الكبرى، مثل مايكروسوفت، التي تعد أهدافًا طبيعية لأي متسلل يرغب في الشهرة والمجد، حماية عملائها وحصتها في السوق، فقد يتحتم عليها التفكير بسرعة أكبر إلى حد ما، وقد يتمثل أحد الحلول في التحويل من خط منتجات واحد متكامل إلى العديد من المنتجات المختلفة التي تُطوَّر على نحو منفصل، وتُصمم بحيث لا تكون متوافقة توافقًا تامًّا.
من وجهة النظر البرمجية التقليدية، التي تؤكد على التوافق واقتصاديات الحجم الكبير، قد يبدو تفتيت خط الإنتاج عن عمد فكرة مجنونة، لكن على المدى الطويل (الذي قد لا يكون طويلًا للغاية)، يؤدي تكاثر المنتجات غير المتماثلة إلى تقليل عدد أجهزة الكمبيوتر التي تتأثر سريعًا بأي فيروس، الأمر الذي يجعل النظام ككل أقل تأثرًا بشكل كبير لأكثر الفيروسات انتشارًا، ولا يعني ذلك أن منتجات مايكروسوفت لن تظل معرضة لهجمات الفيروسات، لكنها على الأقل لن تكون أكثر تعرضًا لها بكثير من منافسيها. من قبيل المفارقة هنا أن خط الإنتاج المجزأ هو في الغالب المصير الذي يبدو أن مايكروسوفت قد تجنبته مؤخرًا في معركتها ضد الاحتكار مع وزارة العدل. يومًا ما، قد يُنظَر إلى شركة مايكروسوفت على أنها أسوأ أعداء نفسها.
إن إمكانية ترجمة هذه الاختلافات الدقيقة في كيفية انتشار الأمراض إلى صور متمايزة من إطار التخلل العام — وهو ما قد يكون له نتائج مختلفة تمام الاختلاف — تشير إلى وجوب توخي قدر معين من الحرص عند تطبيق أساليب الفيزياء على مشكلة الأوبئة. في الواقع، سنرى في الفصل التالي أنه يجب إجراء بعض عمليات التمييز الأخرى إذا كنا نرغب في فهم الاختلاف بين مشكلات العدوى البيولوجية والاجتماعية، كانتشار أحد الابتكارات التكنولوجية، وهي العمليات التي لها تأثير مهم على ظواهر العالم الحقيقي التي نرغب في فهمها، لكن نماذج التخلل تُطبَّق على نحو طبيعي تمامًا على الشبكات، مما يجعلها تستمر في لعب دور مهم في دراسة الأوبئة التي تنتشر عبر الشبكات، وسريعًا ما أدركت أنا ومارك أن التخلل مثير للاهتمام لأسباب أخرى أيضًا، لكن، مرة أخرى، كان لازلو باراباسي وريكا ألبرت متقدمَيْن عنا قليلًا.
(٧) الأعطال والقوة
إن الاتصال العام، شأنه شأن أغلب سمات النظم المعقدة، ليس من الواضح وضوحًا مطلقًا هل هو سمة جيدة أم سيئة. في سياق الأمراض المعدية وفيروسات الكمبيوتر، يشير وجود تكتل متخلل في الشبكة إلى وباء محتمل، لكن في سياق شبكات الاتصالات، كالإنترنت، حيث قد نرغب في ضمان وصول حزم البيانات إلى وجهتها في فترة زمنية معقولة، فإن التكتل المتخلل سيبدو ضرورة حتمية؛ لذا، من منظور حماية البنية التحتية، بدءًا من الإنترنت ووصولًا إلى شبكات الخطوط الجوية، تكون «قوة» اتصال الشبكة، في مقابل الأعطال العرضية أو الهجمات المتعمدة، هي التي نرغب في الإبقاء عليها، ومن وجهة النظر هذه أيضًا، يمكن أن تكون نماذج التخلل مفيدة للغاية أيضًا.
بعد أن أوضح ألبرت وباراباسي أن عددًا من الشبكات الحقيقية، كالإنترنت والشبكة العنكبوتية العالمية، يمثل ما يسمى بالشبكات «عديمة المعيار»، بدآ يتساءلان هل الشبكات عديمة المعيار تحمل أي سمات تنافسية مقارنةً بالتنويعات التقليدية. ويجدر التذكر هنا أنه في الشبكات عديمة المعيار، يتحكم قانون قوة، لا توزيع بواسون ذو القمة المدببة الذي نجده في الرسوم البيانية العشوائية الموحدة، في توزيع الدرجات؛ وهو الاختلاف الذي يُترجَم، عمليًّا، إلى مجموعة صغيرة من نقاط التلاقي «الغنية» التي لها عدد ضخم من الروابط، والكثير من نقاط التلاقي «الفقيرة» الأخرى التي ليس لها أي روابط تقريبًا على الإطلاق. أصبح الآن ألبرت وباراباسي مهتمَّين بالسؤال الآتي: إلى أي مدى ستحافظ شبكتان، إحداهما شبكة عشوائية متسقة والأخرى عديمة المعيار، على جودة الاتصال داخلهما حين تبدأ نقاط التلاقي الفردية داخلهما في التعطل.
إن التفكير في قوة الشبكة كأمر مؤثر على الاتصال جعل المشكلة مشكلة معنية بتخلل المواقع، لكن في هذا التطبيق، لعبت احتمالية الإشغال دورًا مناقضًا لدورها في نشر الأمراض؛ ففي حين اهتممت أنا ومارك بالأساس بتأثير المواقع المشغولة (القابلة للإصابة)، انصب اهتمام ألبرت وباراباسي على المواقع غير المشغولة؛ بلغة الشبكات، نقاط التلاقي التي تعطلت. من منظور القوة، كلما قلَّ تأثير كل موقع غير مشغول على اتصال الشبكة، كان ذلك أفضل. كانت نظرة ألبرت وباراباسي للاتصال مختلفة عن نظرتي أنا ومارك؛ ففي حين لم نهتم إلا بما إذا كان هناك تكتل متخلل أم لا، أراد ألبرت وباراباسي معرفة عدد الخطوات بالضبط التي ستلزم لتَعبُر رسالة ما من أحد جانبي التكتل إلى الجانب الآخر. لا يمثل أيٌّ من هذين التعريفين السبيل الوحيد الصحيح للتفكير في القوة، لكن تعريفهما كان مناسبًا بوضوح لنظم كالإنترنت؛ حيث تؤدي الزيادة في العدد النموذجي للقفزات التي تقفزها رسالة ما إلى زيادة كلٍّ من الوقت المتوقع لإيصالها واحتمال عدم وصولها.
كان أول ما أوضحه ألبرت وباراباسي أن الشبكات عديمة المعيار أكثر مقاومة لحالات الفشل «العشوائية» مقارنةً بالشبكات العشوائية العادية، والسبب ببساطة هو أن خصائص الشبكات عديمة المعيار يسيطر عليها جزء صغير من نقاط التلاقي «المركزية» قوية الاتصال، ونظرًا لندرة هذه المراكز، فإنها أقل عرضة لأن تفشل بالصدفة العشوائية مقارنةً بنظرائها الأقل اتصالاً والأكثر عددًا منها بكثير، ومثل غياب مطار محلي صغير من شبكة الخطوط الجوية الأمريكية، يكون فقدان نقطة تلاقٍ «فقيرة» غير ملحوظ إلى حدٍّ بعيد خارج المنطقة المجاورة لها مباشرةً، وعلى النقيض من ذلك، في الشبكات العشوائية العادية، لا تكون نقاط التلاقي الأكثر اتصالًا بمثل هذه الأهمية الشديدة، ولا تكون النقاط الأقل قوة في اتصالها غير مهمة تمامًا، ونتيجة لذلك، فإن كل نقطة تلاقٍ مفقودة سيكون لها اعتبارها، وقد لا يكون ذلك بالحدث الجلل، لكنه أكثر أهمية مما لو حدث في الشبكات عديمة المعيار. وفي ضوء الأدلة الحديثة التي تؤكد أن الإنترنت هي في الواقع شبكة عديمة المعيار، تابع ألبرت وباراباسي عملهما لطرح نموذجهما كتفسير لكيفية عمل الإنترنت على هذا النحو الموثوق، على الرغم من تعطل المحولات الفردية طوال الوقت.
لكن هناك جانبًا آخر للقوة أشار إليه ألبرت وباراباسي أيضًا؛ فمع أنه في بعض الشبكات، كالإنترنت، تحدث أعطال المحولات بالفعل عشوائيًّا، فإن الأعطال يمكن أن تكون أيضًا نتيجة للهجمات المتعمدة التي قد لا تكون عشوائية على الإطلاق. وفي الإنترنت أيضًا، تستهدف هجمات قطع الخدمة، مثلًا، نقط التلاقي قوية الاتصال، وفي أمثلة أخرى، بدءًا من شبكات الخطوط الجوية ووصولًا لشبكات الاتصالات، من الواضح أن المراكز تكون هي الأهداف الرئيسية لأي مخرب محتمل. وما أوضحه ألبرت وباراباسي هو أنه نظرًا لأن نقاط التلاقي الأقوى اتصالًا في الشبكة تكون الأولى في التعطل، فإن الشبكات عديمة المعيار تكون «أضعف» بالفعل من الشبكات المتسقة، ومن قبيل المفارقة أن سرعة تأثر الشبكات عديمة المعيار بالهجمات يرجع إلى السمة ذاتها التي تعزى إليها قوتها الظاهرية؛ في الشبكات عديمة المعيار، تكون نقاط التلاقي الأقوى اتصالًا أهم بكثير لعمل الشبكة بأكملها مقارنةً بنظيراتها في الشبكات المتسقة، ومن ثم فإن الرسالة العامة هنا مبهمة: تعتمد قوة الشبكة اعتمادًا كبيرًا على الطبيعة المحددة للأعطال، فيكون للأعطال العشوائية والمستهدِفة نتائج متناقضة تمامًا.
مع أنه من المهم وضع كلا نوعي الأعطال في الاعتبار، فيبدو عطل المراكز الأكثر تأثيرًا ذا أهمية خاصة؛ لأنه لا يجب أن يحدث بالضرورة على نحو متعمد أو لغرض الإيذاء؛ ففي كثير من شبكات البنية التحتية التي تعتمد على نحو غير متناسب على جزء صغير من نقاط التلاقي قوية الاتصال، قد تكون معدلات فشل هذه النقاط، التي تتجاوز المتوسط، نتيجة حتمية بالفعل لاتصالها. على سبيل المثال، في شبكة الخطوط الجوية، يؤدي القدر الهائل لحركة الطيران التي تمر بالمراكز الرئيسية إلى زيادة احتمالية تعرضها للأعطال، وهي الظاهرة التي اعتاد عليها المسافرون جوًّا في نيويورك بشكل مؤلم؛ ففي مطار لاجارديا في كوينز، تكون مواعيد الرحلات القادمة والمغادرة متقاربة للغاية بعضها من بعض، مما يعني أن سلسلة بسيطة من التأخيرات، التي من الممكن في أي مطار صغير استيعابها في الفترات الزمنية العادية الفاصلة بين رحلات الطيران، يمكن أن تتراكم لتبقي الطائرات على الأرض لساعات، حتى في الأيام التي قد تبدو مثالية. في الواقع، كان مطار لاجارديا في عام ٢٠٠٠ مصدر ١٢٧ رحلة من إجمالي ١٢٩ رحلة طيران متأخرة في البلاد! لا تمثل التأخيرات بالمراكز الرئيسية كمطار لاجارديا مشكلةً للمسافرين المحليين فحسب، بل إن كل رحلة متأخرة بمركز رئيسي تؤدي إلى تأخيرات متتالية أيضًا بالمطار المتوجهة إليه، ومن ثم كلما زاد عدد رحلات الطيران بالمركز الرئيسي، زاد احتمال تعرضه لحالات تأخير، وزادت فرصة انعكاس تأثير هذه التأخيرات على النظام ككل.
ومن ثم يؤدي اعتماد شبكات الخطوط الجوية الحديثة على شبكة فرعية من المراكز الرئيسية اعتمادًا كبيرًا إلى جعلها سريعة التأثر بالتأخيرات واسعة الانتشار التي تحدث بين الحين والآخر، لكن هذا يطرح أيضًا حلًّا؛ فبدلًا من التركيز على نظام تتحمل فيه المراكز الرئيسية عبء توصيل الناس من النقطة (أ) إلى النقطة (ب)، يمكن أن تحول الخطوط الجوية بعض الروابط من المراكز الرئيسية الكبرى الأكثر تعرضًا للأعطال إلى المطارات الإقليمية الأصغر التي تحدث التأخيرات فيها بشكل رئيسي نتيجة لمشكلات يكون مصدرها المراكز الرئيسية. في ظل هذا التنظيم، تكون المطارات في ألباكيركي وسيراكيوز — على سبيل المثال — متصلة مباشرةً، بدلًا من الحاجة لتوجيه الرحلات عبر شيكاغو أو سانت لويس. والمطارات الصغيرة للغاية، كالموجودة في إيثاكا أو سانتا في، تظل أفرع لهذه المراكز الرئيسية، ومن خلال خفض درجة فعالية المراكز الرئيسية، تحتفظ الشبكة ككل بقدر كبير من الفعالية التي تستمدها من حجمها الكبير، لكنها تقلل من احتمالية فشل النقاط الفردية، وفي حال فشل أحد المراكز الرئيسية بالفعل، سيتأثر عدد أقل من رحلات الطيران، مما يؤدي إلى الحد من معاناة النظام ككل.
مع ما يبدو عليه الأمر من وضوح، بالنظر إليه من منظورنا اليوم، فالنتيجة التي توصل إليها ألبرت وباراباسي كانت أنيقة تمامًا، وعند ظهور بحثهما عن «هجمات الشبكات وفشلها» على غلاف مجلة «نيتشر»، أحدث عاصفة صغيرة من الاهتمام الإعلامي، وعاتبنا أنفسنا ثانيةً للتغافل عن مشكلة واضحة، ثم بمساعدة طالب آخر من طلاب ستيف — دانكن كالاواي — انطلقنا للحاق بألبرت وباراباسي. في الواقع، نجح دانكن في حل مشكلة أصعب بكثير من تلك التي تناولتها مجموعة باراباسي، وباستخدام الأساليب التي طورتُها أنا وستيف ومارك لدراسة الاتصال بالشبكات العشوائية، تمكن دانكن من حساب تحولات التخلل المختلفة بالضبط، بدلًا من استخدام أساليب المحاكاة بالكمبيوتر، وتمكن كذلك من حل مشكلة أعطال الروابط ونقاط التلاقي، وأوضح كيف يمكن تطبيق النموذج ليس فقط على الشبكات عديمة المعيار، بل أيضًا على الشبكات العشوائية بأي درجة توزيع على الإطلاق. لقد كان مجهودًا مذهلًا بوجه عام، وتمكنا نحن الأربعة من التوصل إلى بحث رائع نتيجة له، لكنه في النهاية لم يحدث اختلافًا كبيرًا، وكانت النتائج التي توصلنا إليها، إلى حد ما، مشابهة لنتائج ألبرت وباراباسي، ولزم علينا الاعتراف بأن الأسبقية كانت لهما في التفكير فيها.
لحسن حظنا، فإن تطبيق أساليب التخلل على مشكلات العالم الواقعي عمل دقيق إلى حد ما، ومن ثم ظل هناك الكثير من المشكلات المثيرة. لا تعد الشبكات الواقعية أكثر تعقيدًا فحسب من أي نموذج عشوائي — سواء أكان عديم المعيار أم لا — لكن عادة ما تُمثَّل طبيعة العملية نفسها تمثيلًا سيئًا من خلال الافتراضات النموذجية لنظرية التخلل. على سبيل المثال، تفترض نماذج التخلل على نحو قياسي أن جميع نقاط التلاقي لديها الاحتمالية ذاتها لسرعة التأثر، لكن على أرض الواقع، يمثل التغاير سمة مهمة للجماعات البشرية والكثير من الجماعات غير البشرية، وفي أمور أيضًا كانتشار الأمراض، يمكن أن يختلف الأفراد اختلافًا كبيرًا في سرعة تأثرهم الفطرية أو قدرتهم على إصابة الآخرين بالعدوى، وعند وضع العوامل السلوكية والبيئية في الاعتبار، يمكن أن تكون الاختلافات بين أفراد أي مجموعة معقدة؛ وذلك نتيجة وجود علاقات متبادلة قوية. على سبيل المثال، في حالة الأمراض المنقولة جنسيًّا، يكون الأفراد ذوو معدل الخطر المرتفع أكثر احتمالًا للتفاعل بعضهم مع بعض، وهي السمة السلوكية التي قد يكون لها أصول اجتماعية، لكن من الواضح أن نتائجها وبائية.