تمهيد
كلمة عن مسلسل «فارس بلا جواد»
ومع قُرب عرض المسلسل في أكثر من ٢٢ قناة تلفزيونية عربية وفضائية، تطوَّر الأمر إلى الدعوة بسحب السفير الإسرائيلي من القاهرة، والتهديد باللجوء إلى اللوبي اليهودي القوي في الولايات المتحدة الأمريكية، للعمل على وقْف المساعدات المالية لمصر؛ لأن مصر انتهكت معاهدة السلام بعرضها لهذا المسلسل. ووقف الفنانون والمثقفون المصريون موقفًا إيجابيًّا ضد الحملة الإسرائيلية، وأصدروا بيانًا أكدوا فيه حرية الفنان في إبداء رأيه الفني، وأنه حق يكفله الدستور. كما أكدوا أن المسلسل عمل درامي لا يُشكل أي تهديد للسامية.
وقد قامت بعض الجماهير في أمريكا، بالتجمع أمام السفارة المصرية بواشنطن، مطالِبة بوقف عرض المسلسل، وقام أيضًا أعضاء الكونجرس الأمريكي بمطالَبة الرئيس محمد حسني مبارك بوقف المسلسل، فأدان أحمد ماهر وزير الخارجية المصري هذه الضجة المفتعلة وغير المبررة. كما قام مركز المعلومات والوثائق الإسرائيلية في لاهاي بهولندا، بتنظيم مظاهرة أمام السفارة المصرية اعتراضًا على المسلسل. أما نبيل فهمي سفير مصر لدى أمريكا، فقد فنَّد الافتراءات التي تضمنَتْها افتتاحية صحيفة واشنطن بوست، بخصوص انتقاداتها للحكومة المصرية، لعدم منعها عرض المسلسل.
وقد أكد الرئيس حسني مبارك لنظيره الإسرائيلي، بأن المسلسل ليس له أي طابع معادٍ للسامية. ثم طالبت إسرائيل مفوَّض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، بتوجيه اللوم إلى مصر، بزعم معاداتها للسامية من خلال عرضها للمسلسل. وقد حاوَلَتْ جماعات يهودية متطرفة في أوروبا، طرْد الفنان محمد صبحي من أية دولة يحاول زيارتها، مع إغلاق المكاتب التابعة للمحطات التلفزيونية، التي ستبث المسلسل، مع فرْض عقوبات على هذه المحطات.
وبالرغم من حدوث هذه الضجة السياسية، فقد تم عرض المسلسل في معظم القنوات التلفزيونية العربية والفضائية، وبدأت الأقلام تكتب عن حافظ نجيب واعترافاته، ومدى الصدق التاريخي فيها، ومدى الْتزام المسلسل بما جاء في الاعترافات من أحداث. كما قام الفنان محمد صبحي بالدفاع عن عمله، من خلال توضيح بعض الأمور، منها أن المسلسل يعتمد على الحقبة التاريخية، التي اعتمدتها «اعترافات حافظ نجيب»، الذي قاد المقاومة ضد الإنجليز. وأن إعجابه بحافظ نجيب كان بسبب قدرته على التنكر، وهو أمر اكتسبه من صديقه عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية. هذا بالإضافة إلى إخلاصه لقضيتين؛ الأولى: التخلص من الاحتلال الإنجليزي. والأخرى: إحباط المخططات الصهيونية للاستيلاء على فلسطين. ولأنه مشغول بكشف بروتوكولات حكماء صهيون، ويراها أساسًا للصهيونية ومشروعها؛ فقد وجد صبحي في «اعترافات حافظ نجيب»، خلفية درامية خصبة لتقديم عمل يكشف هذه البروتوكولات، خصوصًا علاقة حافظ نجيب بالزعيمين مصطفى كامل ومحمد فريد. كما أنكر محمد صبحي ما شاع عن حافظ نجيب بأنه محتال ونصَّاب، وأكَّد أن هذه الاتهامات لا أساس لها، ولكنها شائعات أراد قائلوها تشويه المسلسل، وتشويه الدور الوطني لحافظ نجيب!
هذه خلاصة الضجة التي أثيرت حول المسلسل. ومهما يكُنْ من أمْرِ التزامِ أو مخالفةِ المسلسل، لما جاء في «اعترافات حافظ نجيب»، التي تُعْتَبَر الأساسَ الأول لفكرته، فإن القائمين على ظهور المسلسل بهذه الصورة، قد وُفِّقُوا إلى حد كبير في الوصول إلى أهدافه الفنية والسياسية. فالمسلسل كان أكبر دعاية لإعادة قراءة كتاب «بروتوكولات حُكماء صهيون»، وبثِّه في أكثر من موقع من مواقع الإنترنت، وبالتالي إتاحة الفرصة للجميع لقراءته وتفهُّم ما فيه من مُخطط صهيوني، ظهرت نتائجه — وما زالت تظهر بقوة — في وقتنا الحاضر. هذا بالإضافة إلى أن المسلسل أعاد للأجيال الحالية فترات زمنية تاريخية، كادت أن تُنسى، مثل الحلقة الخاصة بمذبحة دنشواي.
أما على المستوى الشخصي، فقد أجاب المسلسل على تساؤل كان محيِّرًا لي منذ فترة طويلة، مفاده: لماذا ادَّعَتْ إسرائيل بأن اليهود هم بناة الأهرام المصرية؟! وأظن أن القارئ لم يَنْسَ الضجة التي أُثِيرَتْ حول هذا الأمر، وكمَّ الكتابات النافية لهذا الادعاء. وما زاد من حيرتي أمام هذا الادعاء، أنني قرأت كمًّا كبيرًا من الكتابات عن الآثار اليهودية المكتَشَفة في مصر! تلك الاكتشافات التي تبنَّى الكتابة عنها الأب لويس شيخو في مجلته «المشرق» في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين!
ومن الغريب أنني لم أجد باحثًا أو عالمًا أثريًّا عربيًّا واحد، فَنَّدَ هذه الادعاءات في وقتها! أو على أقل تقديرٍ كَتَبَ رأيه العلمي في المجلة نفسها، سواء بالإثبات أو بالإنكار! رغم أن لويس شيخو نفسه، أظهر نيته السيئة بذكر هذه الأخبار، عندما قال في مجلته (المشرق، ١ / ١ / ١٩٠٨، صفحة ٥٥): «وخلاصة القول قد أَظْهَرْتُ بهذه المكتشفات العلاقةَ بين تلك الآثار الآرامية الجليلة، وبَرَزْتُ إلى الوجود صفحةً عزيزة من تاريخ بني إسرائيل بعد جلائهم. وما يزيد الأمر قدْرًا أن معارفنا عن ذلك العهد كانت أعزَّ من بيض الأنوق، لا نكاد نعلم شيئًا من أمر اليهود، منذ عهد نحميا وعزرا إلى مُلك الإسكندر، فجاءت هذه الكتابات تسدُّ بعض الخلل في ذلك.»
ولعل القارئ يتساءل: ما علاقة هذا الأمر بمسلسل فارس بلا جواد؟ والإجابة على هذا السؤال، ظهرت في إحدى حلقات المسلسل، عندما اتفق بعض اليهود مع الخواجا دي ماسون العالِم الأثري الأجنبي — وهو محمد صبحي متنكرًا — بأن يعطوه بعض الآثار اليهودية، كي يضعها ضمن الآثار المكتشفة في مصر، مقابل رشوة مالية! هذا المشهد فسَّر لي ما قاله لويس شيخو عن اكتشاف الآثار اليهودية في مصر منذ أكثر من مائة عام! كما فسَّر لي أيضًا لماذا ادعت إسرائيل بأن اليهود هم بناة الأهرام! فإذا كان المسلسل فضَحَ هذه المؤامرة الصهيونية، وكشف النقاب عن أسلوب اليهود في غرس آثارهم، وبالتالي وجودهم في تاريخ الشعوب العربية، فيكون المسلسل قد نجح في هدفه السياسي عن طريق الفن!
ومن عجائب القدر، أن مسلسل «فارس بلا جواد»، لم يكن أوَّل عمل فني يُعْرَض على الجمهور عن مغامرات حافظ نجيب! فقد قام حافظ نجيب منذ عام ١٩١٥ إلى عام ١٩٢١، بتمثيل مغامراته بنفسه أمام الجمهور، من خلال مجموعة من المسرحيات، ألَّفَها حافظ عن حوادثه ومغامراته. ومن هذه المسرحيات: «الحب والحيلة»، «قوة الحيلة»، «الجاسوس المصري»، «محور السياسة»! وسوف نتعرف على هذا الأمر بالتفصيل لاحقًا.
وإذا أردنا أن نتطرق إلى مسلسل فارس بلا جواد، وعلاقته بكتاب «اعترافات حافظ نجيب»، سنجد أن شخصية حافظ في المسلسل، تختلف اختلافًا كبيرًا عن حافظ نجيب في اعترافاته. فالمسلسل يُظْهِر حافظ نجيب بطلًا شعبيًّا وقوميًّا، نذر حياته لمقاومة الإنجليز، وإحباط المحاولات الصهيونية في المنطقة العربية، متخِذًا من التنكر والهروب الدائم وعلاقاته النسائية، وسائل للوصول إلى غايته الوطنية السامية.
ورغم أن هذا الوصف بعيدًا كل البعد عن حافظ نجيب في اعترافاته، إلا أن عدة أسطر قليلة جاءت في هذه الاعترافات، تشير إشارة غامضة، بأن دورًا وطنيًّا قام به حافظ نجيب في يوم ما، أثناء مرض الزعيم مصطفى كامل، واستمر هذا الدور لفترة قصيرة بعد وفاة الزعيم! وهذه الإشارة اليسيرة، كانت الأساس الذي بُني عليه الدور الوطني لحافظ نجيب في المسلسل. وبسبب الشكوك المثارة حول وطنية حافظ نجيب، وتصادمها مع ما عُرف عنه بالنصب والاحتيال، نتوقف قليلًا هنا لنبين حقيقة هذه الإشكالية!
ومن الواضح أن المتحدث الأول في الحوار السابق هو الزعيم محمد فريد، والمتحدث الآخر هو الزعيم مصطفى كامل، الذي كان على فراش مرضه الأخير في هذا الوقت، ولكن الغريب في الأمر، أن هذه الإشارة التي تدل على علاقة حافظ نجيب بهذين الزعيمين وعلاقته بالحزب الوطني، لم يكن لها أي تقديم أو تمهيد في الاعترافات قبل ذلك، حيث إن هذه الإشارة جاءت عام ١٩٠٨، والاعترافات تنتهي في عام ١٩٠٩! وبالرغم من ذلك فنحن لا نملك أي دليل على هذه العلاقة، سوى ما جاء عنها في هذه الاعترافات.
هذا هو كل ما جاء في اعترافات حافظ نجيب، بخصوص وطنيته وعلاقاته برجال الحزب الوطني! ومن الملاحَظ أن هذه الأقوال اليسيرة — بالمقارنة بما في الاعترافات من أحداث — لا تَقْطَع بأن دورًا وطنيًّا قام به حافظ نجيب، كما أنها لا تدل مطلقًا على هذا الدور، لما يحوطها من شك، ولخلوِّها من الأدلة المنطقية أو من ذِكْر الأسماء، أو من ذِكْر الوقائع والأحداث والمغامرات الخاصة بهذا الدور! وهذا أمْر يثير الشك في هذا الدور وفي الاعترافات نفسها! لأن حافظ نجيب أسْهَبَ وأطْنَبَ وفصَّلَ في أحداث كثيرة، تتعلق بهروبه وتنكُّره وعلاقاته النسائية وحياته الخاصة … إلخ، مع ذِكْر الأسماء الحقيقية والأماكن، ودلَّ على أمور خطيرة بذكر أسماء أصحابها، وكان البعض منهم على قيد الحياة وقْت نشر الاعترافات، بل وتحدَّى القارئَ إذا فكَّر في تكذيبه.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: لماذا لم يذكر حافظ نجيب تفاصيل علاقته بالزعيمين مصطفى كامل ومحمد فريد، ولماذا لم يوضح علاقته الحقيقية بالحزب الوطني، أو بالجهة السياسية التي نصحَتْه بالتخفي في الدير، وما هي حقيقة المهام الخطيرة السياسية التي قام بها لصالح هذه الجهة؟! أسئلة كثيرة كان من الواجب على حافظ نجيب أن يجيب عليها في اعترافاته، إذا كان له دور وطني حقيقي؛ لأن هذا الدور إذا صحت حقيقته، لكان هو النقطة المضيئة في اعترافات حافظ وفي حياته بأكملها؛ حيث إن اعترافاته هي عبارة عن مجموعة من النقاط السوداء غير المشرفة لأي إنسان على وجه الأرض! وهذا يجعلنا نَشُكُّ في هذا الدور الوطني، بل ونعلِّل وجوده في الاعترافات بهذه الضبابية، إلى أنه دور وطني مُقْحَم على الاعترافات، لم يكتبه حافظ نجيب بقلمه، بل أُقْحِم على اعترافاته بعد موته!
أما إذا أَرَدْنا أن نتعرَّفَ على حافظ نجيب كما جاء في اعترافاته — بعيدًا عن إشارات وطنيته المشكوك فيها — سنجده إنسانًا جاحدًا لأهله، ضائعًا لا هدف له، يسعى وراء غريزته الحيوانية، ولا يستطيع أن يسيطر عليها، ويشرب الخمر ليل نهار، ويرتاد الملاهي والحانات، ويقيم علاقات آثمة بالراقصات ويرتكب الموبقات، ويفاخر بإنكار العقيدة والدين ويجاهر بالكفر، ويعترف بالزنى! وبالرغم من ذلك كله نجده ينفي عن نفسه تهمة النصب والاحتيال، ويدافع عن نفسه ضد هذا الاتهام دفاع المستميت، وكأن جريمة النصب والاحتيال أهم وأكبر من ارتكابه للكبائر!
ولعل هاتين الصورتين، هما الصورتان الوحيدتان المعروفتان عن حافظ نجيب، رغم ما يحيطهما من شكٍّ وجدل! فإما أن تتخذ صورة حافظ نجيب الوطني الثائر كما جاءت في المسلسل، وإما أن تتخذ صورة حافظ نجيب الزنديق كما جاءت في الاعترافات! ولكن هناك صورة ثالثة غائبة ومجهولة، لم يَطَّلِع عليها القارئ إلا في إشارات يسيرة، وهي صورة حافظ نجيب الأديب! ولعلها الصورة الحقيقية والواقعية، والتي لا تقبل الشك أو الإنكار؛ حيث إن وثائقها وآثارها وأدلتها موجودة بين أيدينا!
وإذا كنا لا نستطيع أن نضيف جديدًا على صورة حافظ نجيب كما جاءت في المسلسل، لعدة أسباب، منها؛ أولًا: أن معظم القراء تابعوا المسلسل، بسبب الضجة التي أثيرت حوله. ثانيًا: أن المسلسل لم يلتزم بالأحداث التي جاءت في الاعترافات التزامًا حرفيًّا، بل تَصَرَّفَ فيها تصرفًا فنيًّا من الصعب علينا محاسبته في ذلك، تبعًا لرؤيته الفنية والسياسية. ثالثًا: أن أهداف المسلسل الفنية والسياسية أُقيمت على إشارة غامضة عن وطنية ضبابية لحافظ نجيب. وبناء على ذلك لم يَبْقَ أمامنا إلا الحديث عن حافظ نجيب وصورته من خلال اعترافاته وما ينتاب هذه الاعترافات من شكوك، وأخيرًا الحديث عن صورة حافظ نجيب الأديب!