اعترافات حافظ نجيب
يحكي حافظ نجيب في اعترافاته قصةَ حياته منذ مولده وحتى عام ١٩٠٩. وتبدأ الاعترافات
بقصة خطف
الباشا التركي للطفل محمد ابن التاجر حسن السداوي، الذي أطلق عليه اسم «محمد نجيب»، وعلَّمَهُ
حتى
أصبح ضابطًا، فأُلحق بحرس الخديو إسماعيل، ثم تزوج من ابنة الباشا «ملك هانم». وفي يوم
ما أثار
محمد غضب زوجة الباشا عليه، فطردَتْه من القصر، وقامت بتعذيب ابنتها ملك هانم، التي أنجبت
الطفل
«حافظ نجيب»، ثم ماتت من شدة التعذيب، فتبعها والدها الباشا، وتم دفنهما في يوم واحد.
وبعد أيام
قليلة أخذ محمد نجيب ابنه من جدته التركية، رغمًا عنها، ومن ثَمَّ تركت الجدة مصر إلى
الأستانة،
وانقطعت أخبارها.
عاش الطفل حافظ في بيت جده لأبيه، وسط أطفال العائلة، حانقًا عليهم متمنيًا العودة
إلى رغد
العيش في قصر جدته التركية، ولكنه أسلم أَمْره للظروف المفروضة عليه، فتم تعليمه في أحد
المكاتب
(الكتاتيب)، ثم التحق بمدرسة القربية، وأخذ يتنقل بين بيت أبيه في طهطا وبين بيت عمه
في أسيوط،
وبالتالي انتقل إلى مدرسة الفرير بطهطا حتى حصل على الابتدائية عام ١٨٩٢، فالتحق بالمدرسة
الخديوية ولكنه لم يفلح بها، فانتقل إلى مدرسة رأس التين، ومن ثَمَّ التحق بالمدرسة الحربية.
وفي
هذه الفترة نشأت علاقة بينه وبين إحدى الراقصات.
وقبل إتمام حافظ دراسته، أقامت المدرسة الحربية مباراة في الرماية بالبندقية والمسدس،
ففاز
حافظ نجيب بالمركز الأول، وقامت الأميرة الروسية فيزنسكي بتسليمه الجائزة، بعد أن أُعجبت
به،
فنشأت بينهما علاقة آثمة دامت سنوات طويلة. وفي هذه الفترة ساعدته الأميرة على السفر
إلى الأستانة
وألحقته بالجيش التركي، ثم أرسلته لإتمام الدراسة في كلية سان سير بفرنسا، حتى التحق
بإحدى الفرق
الفرنسية في الجزائر. وبعد عام عمل حافظ جاسوسًا لفرنسا على ألمانيا بعد أن تنكَّر في
شخصية خادم
أخرس، فتَمَّ كَشْف أمره في أول مهمة له وأُودِعَ السجن، فقامت فرنسا بتهريبه من ألمانيا
إلى
مصر.
وبعد عودته، ساعدته الأميرة فيزنسكي بالمال، فأصبح يضارب في البورصة، وفتح مكتبًا
للقومسيون،
واشترى سيارة وبيتًا وإسطبلًا للخيول، بالإضافة إلى شرائه مدرسة الفرير وعمارة كورونيل،
مع
امتلاكه لرصيد وافر في البنوك، حيث تَزَيَّنَ بالبرلنت والزمرد والياقوت، ووضع اللؤلؤ
بدلًا من
الأزرار في قميصه! وهكذا بدأ في ارتياد المقاهي والبارات والكباريهات، ومجالسة الحسناوات
والراقصات والساقطات.
وفي أثناء ذلك، كان يداوم على اتصاله الآثم بالأميرة فيزنسكي في الإسكندرية، وفي
إحدى زياراته
لها، شاهد عندها السيدة ألكسندرا أفيرينو
١ صاحبة مجلة «أنيس الجلس»، فتعَرَّفَ عليها وتوطَّدَتْ صداقتهما في عام ١٩٠٥، حيث
أَرْسَلَتْ له صندوقًا به نياشينها كي يُنَظِّفَها عند الجواهرجي لاتنس، ولكنه احتفظ
بالصندوق في
دولاب الراقصة حميدة، التي أَخَذَتْ منه نيشان السلطان عبد الحميد، وارْتَدَتْه أمام
الجمهور في
أثناء رقصاتها المتعددة. ووَصَلَتْ أخبار مجون حافظ ونزواته وعلاقاته النسائية إلى أسماع
الأميرة
فيزنسكي، فأرادت الانتقام منه، فحرضت ألكسندرا أفيرينو كي تتهمه بتبديد نيشانها، وبالفعل
حدث هذا
وتم القبض على حافظ نجيب، وأُودِعَ سجن الحضرة بالإسكندرية.
وبعد أن قضى حافظ مدة العقوبة، خرج من السجن ليجد قضيتين في انتظاره من تلفيق الأميرة
فيزنسكي، ومن ثَمَّ عاد حافظ إلى السجن مرة أخرى. وبعد قضائه مدة العقوبة الثانية، خرج
مفلسًا
معدمًا، فكتب رواية تمثيلية مَثَّلَتْها إحدى الجمعيات على مسرح إسكندر فرح، فكسب منها
بعض المال،
ثم تعرَّف على فرنسين اليهودية التي ساعدته بالمال أيضًا، ثم تعرَّضَ إلى حادث اغتيال
نجا منه
بأعجوبة، وعَلِمَ أن القاتل مأجور من الأميرة فيزنسكي. وبعد أيام تم القبض عليه بتهمة
الاحتيال
على أحد المحال التجارية، والنصب على إحدى الراقصات وسرقة سوارها الذهبي، وجاء شاهد زور
في
المحكمة مدفوعًا من قبل فيزنسكي، وأدلى بشهادة كاذبة بأنه كان حاضرًا في الوقعتين، فتم
سجن حافظ
نجيب للمرة الثالثة، ولكنه قرر الهرب من السجن.
ساعدَتْه اليهودية فرنسين في الهرب أثناء انتقاله من السجن إلى نيابة شبرا، واختفى
في أحد
البيوت بالظاهر، وتَنَكَّرَ في شخص رجل يهودي بَدِين، وقام بمغامرة مع رئيس البوليس السري
المسيو
كارتييه لتأمين مسكنه بالظاهر. وفي أحد الأيام قرأ حافظ في الصحف اتهامًا له بتهمة الاحتيال
على
رجل يهودي سرق ساعته، وأن التحقيق تم، وأُحيلت القضية إلى قاضي الجنايات، فأصدر الحكم
بسجن حافظ
نجيب لمدة ثلاث سنوات غيابيًّا. وبمرور الوقت تأكد حافظ بأن هذه التهمة لفَّقَتْها أيضًا
الأميرة
فيزنسكي، فقرر ترك اسم حافظ نجيب، والتنكر في أكثر من شخصية، هربًا من مطاردة البوليس
وتنفيذ
الأحكام، ولكي ينقذ البقية الباقية من سنوات عمره.
تَنَكَّرَ حافظ في شخصية عم دؤدؤ بائع الفشار والحلوى ولعب الأطفال، فعرفه كارتييه
رئيس
البوليس السري وطارده في الشوارع والأزقة، حتى دخل حافظ في حمَّام بلدي للنساء، وهرب
من بابه
الخلفي، وعندما دخل كارتييه وجنوده، انهالت عليهم النساء ضربًا. ثم تنكر حافظ مرة أخرى
في شخصية
مبروك الخادم، وعمل عدة أشهر لدى رئيس النيابة الذي يُحقق في قضايا حافظ نجيب، وأخذ منه
شهادة
خطية بحُسن سيره وسلوكه. وفي عام ١٩١٣ سلَّم حافظ نجيب نفسه، وفي المحكمة وأمام اتهامات
رئيس
النيابة بسوء سلوكه، كشف المتهم حافظ نجيب عن شخصيته الأخرى، وهي مبروك الخادم، فأحرج
رئيس
النيابة أمام القاضي، خصوصًا عندما قدَّم للقاضي شهادة حُسن سيره وسلوكه المكتوبة بخط
يد رئيس
النيابة. وتم الحكم بسجن حافظ، ولكنه كالعادة هرب من السجن.
بعد ذلك تنكَّرَ حافظ في شخصية المسيو بنفيه، وصناعته التجارة والوساطة بين مصانع
أوروبا
ومكتب قومسيون مدام فرنسين اليهودية، ثم تنكر في شخصية البارون دي ماسون، الرجل الثري
اليهودي
هاوي الآثار، فتعرَّفَ على الأرملة الكونتس سيجريس، ورافقها في رحلتها السياحية، فأُعْجِبَ
بها
وحماها من نظرات الطامعين في جمالها، خصوصًا سرحان باشا، الذي دعاها بصحبة البارون أو
حافظ نجيب
إلى إحدى حفلاته. وفي هذه الحفلة تحدى البارونُ الباشا، وبعد عدة مغامرات مع التلاعب
بالألفاظ
والعبارات، حضر البوليس لأن البارون وَعَدَ الكونتس بأن حافظ نجيب سيحضر لمقابلتها في
هذه الحفلة.
وبالفعل يكشف البارون عن نفسه، ويعترف أمام الجميع، بعد أن تخلص من تنكره، بأنه حافظ
نجيب الهارب
من عدة أحكام. ويسلم نفسه طواعية للبوليس، بعد أن أعلن أمام الجميع بأنه سيقابل الكونتس
سيجريس
غدًا في جزيرة بالاس أوتيل لشرب الشاي.
وأمام هذا التحدي، قام البوليس بوضع حافظ نجيب في زنزانة شديدة الحراسة، وفي صباح
اليوم
التالي لم يجدوه في الزنزانة … وعلى الفور ذهبوا إلى موعد الكونتس سيجريس، فوجدوها بصحبة
نخبة من
رجال المجتمع، ولم يحضر حافظ لمقابلتها كما وَعَدَ. ولكن الحقيقة أن حافظ نجيب هرب بالفعل
وقابل
سيجريس لأنه كان موجودًا ضمن ضيوفها باسم المسيو بنفيه. وبعد أن عَلِمَتْ سيجريس بقدرة
حافظ في
الهرب والتنكر، زاد إعجابها به، فطلب منها الزواج، ولكنها رَفَضَتْ بحجة أن حافظ نجيب
طريد
العدالة، فأخذ منها وعدًا بأنه سينهي هذه الإشكالية بشرط أن تحافظ على وعدها له بالزواج،
فوافقت.
غاب حافظ نجيب فترة من الزمن تنكَّرَ فيها في شخصية الشيخ صالح عبد الجواد، ثم قام
بمحاولة
جنونية ساعده فيها صديقه خليل حداد. وتتلخص هذه المحاولة في شربه لدواء معيَّن يُظهره
بمظهر
الميت، ومن ثَمَّ تمَّ الإعلان عن موت الشيخ صالح، وفي الوقت نفسه قام خليل حداد بإبلاغ
البوليس
أن الشيخ صالح المتوفى هو حافظ نجيب. وعندما حضر البوليس وتأكد من موت حافظ، صرَّحَ بدفنه
وأُغلقت
جميع القضايا المنسوبة إليه. وفي المساء تمَّ دفن حافظ في قبره، وبعد عدة ساعات زال مفعول
الدواء،
فتَنَبَّهَ حافظ من نومه، وخرج من القبر وعاش بين القوم باسم بنفيه، وتم زواجه من الكونتس
سيجريس،
ولكن هذا الزواج لم يَدُمْ طويلًا.
أَدْمَنَ حافظ الخمر فترة من الوقت، وعاش في ضياع ويأس، حتى قرر أن يترهَّبَ. فشجعه
البعض على
هذا الأمر، وظَهَرَ حافظ نجيب عام ١٩٠٨، في شخصية الراهب غبريال إبراهيم في دير بشوي،
ثم ظهر باسم
الراهب غالي جرجس أو فيلوثاؤس في دير المحرق بأسيوط. وظل حافظ في الرهبنة لمدة عام، ومن
ثَمَّ
تَرَكَ الدير وتعرَّفَ في فندق ناسيونال عام ١٩٠٩ على بارون سويدي يُدْعَى ماير، وكان
مريضًا،
وبعد أيام قليلة يموت البارون متأثرًا بمرضه، فينتحل حافظ شخصيته واسمه الحقيقي وهو شنيدر،
ونزل
بهذا الاسم في فندق مينا هاوس. وبعد أيام قليلة لعبت الخمر برأس خليل حداد، فثرثر مع
أحد
الصحفيين، وكشف عن شخصية حافظ نجيب وأنه من نزلاء الفندق، فأبلغ الصحفي البوليس الذي
حضر وحاصر
المتهم حافظ، ولكن حافظ نجيب استطاع الهرب كعادته. وإلى هنا تنتهي الاعترافات.
هذه هي النقاط الرئيسية التي تدور حولها اعترافات حافظ نجيب، ومن خلال تفاصيل هذه
النقاط،
نستطيع أن نُظهر بعض صفات شخصية حافظ بصورة قريبة بعض الشيء، رغم ما يُحيط هذه الاعترافات
من
شكوك، سنبين عنها في موضعها.
أول صفة نستطيع أن نضع أيدينا عليها، أن حافظ نجيب جاحد لأهله، رافض لمعيشتهم، فعلى
سبيل
المثال، نجده يقول عن والده: «والدي الذي سبَّبَ ما ذاقته أمي من عذاب وما لَقِيتُهُ
أنا من هوان
في بيت الجدَّيْن، وكان أيضًا السببَ في طردي أخيرًا من النعيم الذي كنا فيه، ثم في عذاب
الجحيم
الذي تولاني في بيت والده الحاج حسن السداوي … رحم الله الجميع … وسامحهم … وغفر لهم.»
٢
ومن خلال الاعترافات، نجد أن حافظ نجيب كاذب في هذه الاتهامات! فوالده لم يكن السبب
في عذاب
والدته؛ لأنَّ مَنْ عذَّبَها هي جدته التركية. وإذا كانت الجدة عذَّبَتْ ابنتها انتقامًا
من زوجها
— والد حافظ — فالذنب يعود عليها، لا على زوج ابنتها. وإذا كان حافظ وجد بعض الهوان في
حياته بعد
ذلك، فهذا الهوان كان بسبب تصرفات حافظ، وبسبب الظروف المعيشية المتواضعة، تبعًا للظروف
الاجتماعية المحيطة بالأسرة. أي أن والده لم يكن السببَ المباشر في هذا الهوان.
أما طرْد حافظ من قصر الباشا التركي، فلم يكن لوالده يد فيه؛ لأن الوالد طالب بحضانة
ابنه،
وهو التصرف السليم الواجب على كل أب. وكان من الممكن قبول كلام حافظ نجيب هذا في اعترافاته،
إذا
كان قاله بنفسية الطفل وقتما حدثت هذه الأمور … ولكن الحقيقة أن حافظ نجيب سَرَدَ هذه
الأحداث،
وأدلى برأيه في والده وهو في سن كبير وقبل أن يموت، أي وهو يدرك كل كلمة وأنه قصد هذه
الاتهامات
ومُصرٌّ عليها، بدليل أنه يطلب من الله أن يرحمهم ويسامحهم ويغفر لهم!
هذا بالإضافة إلى أن حافظ نجيب كثيرًا ما كان يتحامل على والده، وعندما يَذْكُره
يقول في بعض
الأحيان: «الضابط» بدلًا من كلمة «والدي»! بل ويجحد أسرة أبيه جحودًا شديدًا، عندما عَقَدَ
مقارنة
بينها وبين أسرة البستاني (الخادم) في قصر الباشا التركي، قائلًا: «لم تكن هذه الجماعة
في المستوى
الخلقي لكل من عاشرت في سراي الباشا، حتى زوجة البستاني وصغارها، فهؤلاء كانوا أوْضَحَ
وأحسن
خلقًا وأعظم اعتصامًا في التصرفات.»
٣
وفي موضع آخر نجد حافظ نجيب، يلصق بجده لأبيه صفة الجشع المادي، وينفي عنه عطفه على
أحفاده،
ويصف بيت هذا الجد بالقذارة! وفي ذلك يقول: «جدي الحاج حسن لم يكن راضيًا عن وجودي بعيدًا
عن
بيته، وكان يسعى في إصرارٍ لنقلي إلى رعايته لا بتأثير العطف عليَّ أو الرغبة في العناية
بي إنما
للحصول على اﻟ ١٥٠ قرشًا التي تُرْسَل للدادة من والدي في كل شهر، وعاوَنَتْ زوجُ أبي
«جميلة
هانم» ذلك الجدَّ لتحقيق رغبته، فأطاع والدي مَشُورَتَها وأَمَرَ بنقلي إلى منزل جدِّي
فاختلَّ
نظام حياتي من جديد، وعُدْتُ إلى اللعب حافيًا وإلى القذارة العامة في ذلك البيت.»
٤
وعندما قَدَّمَت الأميرة فيزنسكي يدَ المساعدة إلى حافظ، نجده يُقارن بين مساعدتها
وبين قسوة
والده قائلًا: «أَسْلَمْتُ أمري لهذه السيدة التي تُظْهِرُ العطف عليَّ والاهتمام بمستقبلي،
بينما
أجد من والدي القسوة والنفور من وقوع نظره عليَّ، وهو الذي انتزعني من أحضان جدتي، وكان
سببًا في
تعذيب المرحومة والدتي، وأهان جدتي وحَمَلَها على تَرْك مصر كلها والرحيل إلى تركيا نهائيًّا،
ثم
قسا عليَّ وقصَّرَ في تأدية واجب الوالد حتى أُتَمِّمَ الدراسة العالمية [أظنها العالية]
أولًا،
ثم الدراسة العسكرية.»
٥
وفي هذا القول، نجد حافظ نجيب يعيد مشاعره الجاحدة ضد والده، ويكرِّر اتهاماته السابقة،
ويضيف
عليها اتهامات جديدة! فمن غير المعقول أن يقسو والد لمجرد وقوع نظره على ابنه! علمًا
بأن والد
حافظ لم يكن السببَ في رحيل الجدة التركية من مصر، ولم يُقصر في إتمام دراسة ابنه، بل
إن الابن هو
المُقصر في ذلك! وهذه الاتهامات الكاذبة غير بعيدة عن سلوكيات حافظ نجيب، حيث إنه كذب
عندما اتهم
عمه باتهامات غير صحيحة، واعترف بذلك في اعترافاته قائلًا: «وقد شكوت لوالدي من المعاملة
التي
ألقاها في بيت عمي، ولكنني كنت كاذبًا في كل ما شكوت منه؛ لأن عمي كانت له أخلاق رضية
كريمة، وكان
منزَّهًا عن كل عيب يُنْسَب إلى الأخلاق أو الرجولة أو العقل أو الوصف كرب أسرة هادئة
تعيش في
اطمئنانٍ وهناء.»
٦
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: لماذا كان حافظ نجيب جاحدًا لأهله ناكرًا لهم؟! سنجد
الإجابة
تتمثل في كلمة واحدة، وهي «الفقر»، فحافظ نجيب عندما خرج من قصر جده لأمه «الباشا التركي»،
إلى
جده لأبيه «حسن السداوي» في الدَّرَّاسة، فقد خرج من نعيم الثراء إلى حرمان الفقر! ولأن
حافظ نجيب
لم يكن مؤهَّلًا لتحمُّل المسئولية، ولم يكن مستقيمًا في سلوكياته، ولم يكن سويًّا في
تفكيره،
نجده يبحث عن المال ليعوِّض به حرمان الفقر، بكل وسيلة ممكنة، مهما كانت عواقب هذه الوسيلة!
فبدلًا من أن يجتهد الطالب حافظ في استذكار دروسه، حتى يحصل على شهادة يُحقِّق بها مستقبلًا
زاهرًا يبعده عن الفقر، نجده وهو في المدرسة الخديوية، يبيع كُتُبه الدراسية واحدًا بعد
الآخر من
أجل إمتاع نفسه!
٧ ثم نجده بعد ذلك، يتهم والده بأنه قصَّرَ في تعليمه!
ومظاهر الحرمان التي ذكرها حافظ في اعترافاته، تمثَّلَتْ في مرحلة دراسته الثانوية
— على وجه
الخصوص — ومنها عدم مبارحته المدرسة أيام العطلة الأسبوعية لعدم وجود المال، كما أنه
كان الطالبَ
الوحيد الذي يعود إلى المدرسة دون أن يقوم أهله بتزويده بأنواع الأطعمة الشهية، وبسبب
فقره كان
يبتعد عن زملائه.
٨ ومن الغريب أن هذه الأسباب كان من الممكن أن تكون دافعًا قويًّا لتفوقه وتقويم سلوكه
إلى الأفضل! بدلًا من أن يَتَّهِم والده بأنه قصَّرَ في رعايته ودراسته، رغم أنه يَعْلَم
حقيقة
فقْر والده، والتي تتمثل في ضآلة راتبه، وفي ذلك يقول: «كانت ضآلة مرتب الرجل [يقصد والده]
تجعله
عاجزًا عن الإنفاق عليَّ واستكمال حاجاتي الضرورية، فقضيت طول زمن الدراسة في عُسْر وضيق.»
٩ ورغم هذا السبب الخارج عن إرادة الوالد، نجد الابن يجحد والده، وينكره ولا يَذْكره
باسمه أو بصفته كوالد، بل يذكره بكلمة «الرجل»!
ومن الصفات السيئة عند حافظ نجيب، كما جاء في اعترافاته، أنه كان يتمنى أن يكون غنيًّا،
حتى
يقتطف ثمار الملذات الآثمة! وكمثالٍ على ذلك، نجده يقول وهو طالب في المدرسة الحربية،
عندما
تحدَّث عن الراقصة «ن»، التي كانت تثير غرائز الطلاب: «ونَجَحَتْ حيلة المرأة فجذبت إلى
دارها
جميع طلبة المدرسة الحربية ما عدا السودانيين، وعدا مصري واحد. هو أنا … لم يكن الباعث
الذي عطلني
على الاشتهاء والطلب هو المناعة الخلقية، أو التعفف بسبب التحصن بالأدب، إنما كان الباعث
الأساسي
المفرد هو الفقر.»
١٠
وعندما زال الفقر، وجاء المال والجاه إلى حافظ نجيب، وجدناه يقتحم حصن الملذات الآثمة
بكل
قوة، ويعترف بأنه اعتاد على ذلك، وبالأخص مع الأميرة فيزنسكي التي أعطته المال والجاه!
وفي ذلك
يقول: «كنا في حفلة ساهرة في قصر أرملة من الطبقة الراقية، وكنت في ثوبي العسكري واضحَ
الشباب
والقوة، ولست أدري كيف انصرفْتُ عقب انتهاء السهرة من تلك الدار؛ لأنني استيقظت في الصباح
فوجدت
نفسي في غرفة نوم البرنسيس … أدركت من تلك الليلة المشئومة نوعَ رَغْبتها فلم أتردَّدْ
في الخضوع
والطاعة، في حياء في بادئ الأمر ثم في جرأة المعتاد الراغب في الإرضاء.»
١١
والملاحظ على هذا القول، أن حافظ نجيب يلصق تهمة السقوط الآثم على عاتق الأميرة، وينفيها
عنه
في بادئ الأمر، ونسي أنه قبل ذلك اعترف بأن الفقر هو السبب الرئيسي الذي منعه من ارتكاب
الكبائر!
فكيف نقبل أن الأميرة الروسية زوجة الرجل السياسي، هي التي جعلته يغيب عن وعيه، حتى يستيقظ
في
الصباح فيجد نفسه في سرير نومها، بعد أن ارتكب معها الإثم المُحرم!
وهذا يعني أن حافظ نجيب، يحاول أن يقنعنا بأن سقوطه في الآثام، لم يكن برغبته، بل
كان
مُرغَمًا عليه من قِبَل الأميرة! وإذا اقتنعنا بذلك، فماذا نقول أمام اعترافٍ آخَرَ له،
قال فيه
عن الأميرة فيزنسكي أيضًا: «ورغم حياة الشطط والسفه كنت أحتفظ بالنظام المفروض على علاقتي
بالأميرة فيزنسكي، أقابلها كل أسبوع في الإسكندرية وتقابلني في القاهرة. ولكنني كنت أشعر
بانقباض
الصدر في تلك المقابَلات الطويلة بسبب ظهور الهَرَم على المرأة، وبسبب ملذات اللهو التي
أَلِفْتُها وانحصرَتْ فيها رغباتي.»
١٢ وهذا يعني أن الأميرة لم ترغمه على ارتكاب الآثام، كما حاوَلَ أن يوهمنا؛ لأنه هو
أصلًا غارق في الملذات الآثمة مع غيرها من النساء، وأن كِبَر السن كان السبب المباشر
لابتعاده عن
الأميرة، والتَّمَتُّع بغيرها من صاحبات الجمال والأنوثة والشباب!
وعن هذا الأمر يقول — بعد أن هجر الأميرة وساءت العلاقة بينهما، بسبب علمها بسهراته
ونزواته
من النساء: «اعْتَبَرَتْني البرنسيس خائنًا لأنني تناسيت عَطْفها عليَّ ورِفْقَها بي
ومعاونتها
بالمال لتعليمي وتثقيفي ثم لتكويني في الحياة، ظنَّتْ أنها لهذه الأسباب القوية قد اشترتني
وصِرْتُ ملكًا خاصًّا لها، ولكنها نَسِيَتْ أنني في طور الشباب، وأنها وصلت إلى الكهولة،
ولم
أُنْكِرْ في أي وقتٍ أفضال تلك السيدة ولا ما غَمَرَتْني به من أنواع الإحسان. ولكن الاحتفاظ
بالمعروف لا يؤدي إطلاقًا إلى حالٍ تَمْنَعُ العين من رؤية المحاسن ولا من التأثير بالجاذبية،
ولا
من الانطلاق مع الهوى، فدفعني نزق الشباب إلى كل ناحية ظَنَنْتُ فيها متعةً للنفْس واستجابةً
لنداء الغريزة.»
١٣
وكان من الممكن لقارئ «اعترافات حافظ نجيب»، أن يقتنع بوجهة نظره، وأن الأميرة فيزنسكي
هي
التي دفعته إلى السقوط، إذا كانت آثامه انحصرت في شخصية الأميرة وحدها! ولكن الحقيقة
أن «اعترافات
حافظ نجيب»، هي مجموعة من غرامياته النسائية، مصحوبة بباقة من آثامه المتنوعة! فعلى سبيل
المثال،
نجده يقيم علاقة مع الراقصة المشهورة «شفيقة القبطية»، ولكنه يسأم منها ومن إطالة علاقته
بها،
فيهجرها إلى راقصة أخرى، هي حميدة. وعن هذا الأمر يقول عن شفيقة: «الحقيقة إنني لم أتأثر
إطلاقًا
بأنوثة هذه المرأة ولا بخلاعتها، وكنت أعرف يقينًا أنها تمثل دور عاشقة في الظاهر ودور
سلابة في
الواقع، وكنت أدفع ثمن التسلية في هذا الجو المضطرب؛ لأن لكل شيء من الرغبات ثمنه، فكذلك
التسلية.
لم تَدُمْ طبعًا هذه الحال لأن النفس تسأم الاستمرار على وتيرة واحدة لا تَبَدُّلَ فيها
ولا جديد
عليها، فتَحَوَّل الملل إلى رغبة في التجديد وإلى دُور جديدة للغناء والرقص للبحث عن
وجه جديد.»
١٤
ولم يَكْتَفِ حافظ بالأميرة فيزنسكي ولا بالراقصة شفيقة، بل وجدناه يُفَصِّل علاقاته
النسائية
الأخرى تفصيلًا شديدًا، متمتعًا بسردها وشرحها وتحليلها! ومن هذه العلاقات علاقته بالراقصة
حميدة،
وباليهودية فرنسين، وبالراقصة منتهى الأمريكية، وبألكسندرا أفيرينو، وبإحدى الفتيات اليونانيات،
وهذه العلاقات لم تَسْلَمْ من اعترافٍ صريحٍ من حافظ بأنه ارتكب فيها الآثام الشهوانية!
حتى
المرأة الوحيدة التي تزوجها في اعترافاته — وهي الكونتس سيجريس — لم تَسْلَمْ من تلميحاته
الشهوانية!
١٥ فعلى سبيل المثال، نجده يقول عن الراقصة منتهى الأمريكية في قهوة إلياس: «حان وقت
انصراف الجمهور وإغلاق القهوة فألحَّتْ عليَّ منتهى لنُتِمَّ السهرة في بيتها فقَبِلْتُ.
نهضْتُ
من الفراش في النهار الثاني وعزمْتُ على الانصراف فوضَعَتْ على المنضدة شيئًا من النقود
أجرة المبيت.»
١٦
ومن الغريب أن حافظ نجيب يرتكب هذه الآثام، دون أن يشعر بلحظةِ تأنيب ضمير واحدة،
ودون أن
يندم على ارتكابها، وكأنها ليست من المُحَرَّمات! والسؤال الذي يفرض نفسه الآن: ما هو
موقف حافظ
نجيب من الدين؟! وما هي عقيدته الحقيقية، حيث إنه تَنَكَّرَ في شخصية راهب، ومَكَثَ في
الدير
عامًا؟! والإجابة على هذا السؤال، جاءت على لسان حافظ نجيب نفسه، عندما قال في اعترافاته:
«أنا
رجل بدون عقيدة وبدون دين، لم تؤثِّر فيَّ الوراثة؛ لأنني لم أنشأ نشأة مُنظمة، في حياة
عائلية
تُكوِّن أبناءها بالتربية، وتُكوِّن سلوكهم بتأثير العادات والتقاليد. ولم تُعَلِّمْني
المدرسة
تعليمًا دينيًّا يُثَبِّت فيَّ عقيدة ويُكَوِّن لي مبدأ … واضطراب حياتي وجميع ظروفي
على ظهر
الأرض لم تسنح فيها فرصة تحدوني إلى الاطلاع على كتاب ديني … وأنا كسائر الخلق في هذا
المجتمع لم
يطرأ عليَّ الباعث الذي يرغمني على التفكير في العقيدة والدين.»
١٧
وإذا انتقلنا إلى صورة أخرى من صور حافظ نجيب، كما جاءت في اعترافاته، سنجده رجلًا
ذكيًّا،
ماهرًا في التنكر
١٨ وابتداع الحيل المختلفة، ومبتكِر الأساليب المتنوعة في التخفي والهروب! فاستحق
الألقاب العديدة التي خُلِعَتْ عليه، مثل: نابغة المحتالين … أرسين لوبين المصري … الثعلب!
وهذه
هي الصورة التي جَعَلَتْ من اسم «حافظ نجيب»، اسما مشهورًا كان حديثَ الناس في أوائل
القرن
العشرين!
إذن … الكذب والخروج عن الصواب، وعدم تحمُّل تبعات الأخطاء، بل وعدم الاعتراف بها،
كانت
الصفات التي لازمَتْ حافظ نجيب منذ الصغر! وهذه الصفات كانت توقعه دائمًا في مآزق شتى،
فكان
يَخْرُج منها عن طريق الحيل المختلفة! فعلى سبيل المثال، نجده وهو طفل يهرب من المدرسة
من أجل
اللعب مع الأطفال، فيقابله جده لأبيه في الطريق فيمسكه ويسأله عن سبب تواجده في الشارع،
رغم أنه
من المفروض أن يكون في المدرسة؟! فنجد الطفل ينجح — في بادئ الأمر — في إيهام الجد بأنه
طفل آخر
غير الطفل حافظ! وفي ذلك يقول: «فهيأ لي الخبث أن أُضَلِّل ذلك الشيخ بصورةٍ تبعثه على
الشك في
شخصيتي، خطرتْ لي الفكرة في سرعة ونَفَّذْتُها بجرأة. صرخت في وجه جدي قلت له: «ما لك
يا عم! عاوز
مني إيه؟»»
١٩
فتجمع المارة ظنًّا منهم أن الجد رجل شرير يريد خطف الطفل، فقرروا تسليمه إلى البوليس.
وعبثًا
حاوَلَ الجد إفهامهم الحقيقة، بسبب قدرة الطفل في تمثيل دوره، حتى حَسَمَ الأمرَ أحدُ
المارة ممن
يعرفون الطفل وجده، فتعجب المتجمعون من حيلة هذا الطفل!
وعندما كان حافظ في المدرسة عند عمه بأسيوط، أراد أن يعود إلى والده في طهطا من أجل
اللعب مع
أصدقائه، فهَرَبَ من منزل عمه عن طريق السَّيْر على قضبان السكة الحديدية، وعندما نجح
في هروبه
ضربه والده، فلم يجد حيلة للخروج من هذا المأزق إلا الكذب على أبيه، حيث اشتكى من عمه
ومعاملته
السيئة له، ثم نجده يعترف بأنه كَذَبَ في كل ما قاله عن هذا العم، كما مَرَّ بنا!
هذا فيما يختص بحِيَل حافظ نجيب عندما كان طفلًا. أما أسلوبه في التنكر، فقد كانت
له بداية
طفولية أيضًا! وكانت هذه البداية في قليوب، عندما كان يسبح في الترعة مع الأطفال، وكان
والده
ينهاه عن ذلك كثيرًا، ولكنه لم يستمع لنصائح والده، حتى حَدَثَتْ واقعة، قال عنها في
اعترافاته:
«حدث مرة أنني كنت أسبح في الترعة فرأيت والدي آتيًا على جسرها من ضَبْط واقعة، كان على
جواد
وخلفه اثنان من العساكر، ففزعت وخشيت من غضبه، فهداني الخوف إلى خاطِر سريع يسترني منه
فنَفَّذْتُه بسرعة، دَهَنْتُ جسمي كله ووجهي بالطين، وَوَقَفْتُ مع بعض الصبيان على جسر
الترعة
نلعب ونجري، فمَرَّ بنا حضرة المعاون وسمعته يقول لأحد الجنديين: «أهو الشقي حافظ بيعمل
زي دول»
فحماني هذا التنكر من العلقة التي كانت محتملة لو رآني.»
٢٠
وعندما أصبح حافظ شابًّا، ساعدَتْه الظروف على صقل هذه المواهب، خصوصًا عندما عمل
جاسوسًا على
ألمانيا لصالح فرنسا! ومن المؤكد أن المخابرات الفرنسية دَرَّبَتْه تدريبًا متقدمًا،
حتى يصبح
جاسوسًا تَعْتَمِد عليه. وعلى الرغم من كَشْف أَمْره في أول مهمة تجسسيَّة قام بها، إلا
أن قدرته
في تمثيل دَوْر خادم أخرس في هذه المهمة،
٢١ يعكس لنا قدرته الفائقة في التمثيل والتحكم في النفس!
خَرَجَ حافظ من تجربة الجاسوسية بإمكانيات متقدمة في فنون الحيل والتنكر، استخدمها
فيما بعد
في تصرفاته العملية، وفي الإيقاع بالنساء! فعندما رأى ألكسندرا أفيرينو احتال عليها حتى
أُعْجِبَتْ به ووثقَتْ فيه، وسَلَّمَتْه صندوق نياشينها. وعندما أضاع أحد هذه النياشين
أَبْلَغَتْ
عنه البوليس — بإيعاز من فيزنسكي — فتم القبض عليه وحُكِمَ عليه بالسجن ثلاث سنوات، وفي
الاستئناف
تم تخفيف الحُكم إلى ستة أشهر، قضاها في سجن الحضرة بالإسكندرية، فكانت هذه أول مرة يُسْجَن
فيها
حافظ نجيب.
٢٢
وعندما خَرَجَ حافظ من السجن، لَفَّقَتْ له فيزنسكي قضيتين، الأولى تَمَثَّلَتْ في
أنه قضى
ليلة حمراء في أحد بيوت الدعارة، وأكل وشرب الخمر، وفي الصباح هرب من البيت دون أن يدفع
ثمن
ملذاته! والأخرى تمثلت في أنه ركب حنطورًا وعطَّله لساعات طويلة دون أن يدفع للعربجي
أجرته، فتم
القبض عليه على ذمة القضيتين. ويستكمل حافظ — في اعترافاته — هذه القصة قائلًا: «وأُرْسِلْتُ
في
الصباح إلى النيابة فحوَّلَتْني إلى سجن الحضرة من جديد، وصدر حكمان في القضيتين بأمر
حبس
احتياطي، ولما تحدَّدَتْ جلسة المحاكمة صَدَرَ الحكم بحبسي سنة ونصف، وأَيَّدَ الاستئنافُ
الحكمَ
الابتدائيَّ فقضيت العقوبة في السجن.»
٢٣
ومن الملاحظ هنا، أن حافظ نجيب حاوَلَ بكل جهده نفي تهمة النصب والاحتيال عن نفسه،
خصوصًا
فيما يتعلق بنيشان ألكسندرا أفيرينو، متهمًا الراقصة حميدة بأنها السارقة، وأن سَجْنه
كان بسبب
فيزنسكي، وكأنه بريء من الموضوع برمته! فهل يُعقل أن حافظ نجيب — بكل ما لديه من مهارة
في الحيلة
والتنكر والهرب، وقدراته المكتسَبة من عمله كجاسوس — يقع في مثل هذه القضية! وإذا كان
بريئًا
حقًّا، فكيف يتم تجريمه في الحُكم الابتدائي والاستئناف أيضًا؟! وإذا اقتنعنا ببراءته،
فكيف نصدق
أنه بريء من تهمتَي النصب والاحتيال على امرأة بيت الدعارة وعلى العربجي! فهل من المعقول
أن يكون
بريئًا، ويتم الحكم عليه والتصديق على الحكم في الاستئناف أيضًا؟!
ونقطة أخرى في غاية الأهمية؛ كيف يتم سجن حافظ نجيب لمدة ستة أشهر، في تهمة تبديد
نيشان لإحدى
الأميرات، ثم نجده يُسْجَن سنة ونصف في جريمتَي نصب واحتيال على امرأة لعوب وعلى عربجي؟!
فمِن
المؤكد أن الجريمة كانت أكبر من ذلك بكثير، وإلا لما كانت العقوبة قاسية، دون تخفيفها
في
الاستئناف، بل التأكيد على الحكم الابتدائي، وهذا يعني أن الجريمة ثابتة بكل أركانها!
قضى حافظ مدة العقوبة، وبعد خروجه تعرَّضَ لمحاولة قتْل، نجا منها بأعجوبة، واستطاع
أن
يَقْبِض على القاتل ومن ثَمَّ مصادقته، فعَرَفَ منه أن الأميرة فيزنسكي هي التي استأجرَتْه
لقتله!
وبعد هذه الحادثة تَوَرَّطَ حافظ في مجموعة من جرائم النصب والاحتيال أيضًا، منها احتياله
على أحد
المحال التجارية، ومنها احتياله ونصبه على الراقصة منتهى الأمريكية، عندما استولى على
سوارها
الذهبي بحجة استبداله بسوار من الماس، فتم القبض عليه ووُضِعَ في السجن! ثم نجده — في
اعترافاته —
يدفع عن نفسه هذه التهم، بحجة أنها من تلفيق الأميرة فيزنسكي،
٢٤ قائلًا: «أدركْتُ في الحال أن اليد الخفية لا زالت تعمل في الخفاء لتحضير وسائل
الانتقام، وأيقَنْتُ بأن الحكم ضدِّي سيكون شديدًا … ولكن الاستمرار في الرضوخ لنظرية
احترام
الأحكام معناها إضاعة سِنِي عمري بسبب التهم التي تُكَال لي وصدور أحكام ضدي بسببها.
من حق كل
إنسان الدفاع عن حياته والاحتفاظ بالسلامة. ففي مقدوري عدم مخالفة القانون، ولكن ليس
في مقدوري
دفْع اتهام باطل تُدَبَّر أسبابه وتَجْمَع اليدُ الخفيةُ الشهودَ الزور لإثبات الإدانة،
فصار من
المحتم عليَّ أن أحمي حياتي من خصومي، والوسيلة المفردة للتمكن من الحماية هي عدم تنفيذ
ما يصدر
ضدي من الأحكام، وهذه النظرية والوسائل التي لجأت إليها لتنفيذها هي التي خَلَقَتْ شهرة
حافظ نجيب.»
٢٥
وهكذا نَجِدُ حافظ نجيب، يحاوِل تبرير كل جرائمه في النصب والاحتيال، بأنها جرائم
ملفقة من
قِبَل الأميرة فيزنسكي! وهذا التبرير لا يُقْنِع الطفل الصغير؛ لأن من غير المعقول أن
تتدنى أميرة
روسية، صاحبة جاه ومال وسلطان وزوجة المُلحق العسكري في الأستانة، فتقوم بتلفيق تُهَمِ
النصب
والاحتيال وتَتَوَرَّط في محاولة قَتْل، بمساعدة بعض أعوانها! ألم تَخْشَ هذه الأميرة
على اسمها
وسُمْعَتها ومكانتها، إذا عَلِمَ الأخرون بما تقوم به؟! ولماذا لم يَقُمْ حافظ نجيب نفسه
بكشف
علاقته بها إلى زوجها، أو إلى أية جهة أخرى انتقامًا منها، كنوع من إبعاد خطرها عنه؟!
وهذا غير
مستبعَد عن إنسان بأخلاق وتصرفات حافظ، علمًا بأنه اعترف كثيرًا بأنه لم يحبَّها، بل
كان يُشْبِع
رغباتها الآثمة على مضض! ووجهة نظرنا في هذا الأمر، تتمثل في أن الأميرة فيزنسكي شخصية
وهمية لا
وجود لها إلا في خيال حافظ نجيب وحده، وكأنها إحدى شخصيات رواياته الكثيرة؛ لأن شكوكًا
منطقية
تحيط هذه الشخصية من كل جانب — بل وتحيط «اعترافات حافظ نجيب» — كما سنرى.
وبالعودة إلى حافظ في اعترافاته، نجده يتعرف على فرنسين اليهودية، والتي ساعدَتْه
في الهروب
من السجن، بعد أن تم حبْسه احتياطيًّا في جريمتَي النصب والاحتيال الأخيرتَيْنِ، وكان
هذا أول
هروب لحافظ من السجون المصرية! وتمثلت قصة هروبه في أن فرنسين ذَهَبَتْ إلى نيابة شبرا
واتهمَتْ
رجلًا نَصَبَ عليها، واستولى على بعض مجوهراتها، وتظن أنه حافظ نجيب المحبوس احتياطيًّا
في سجن
الاستئناف. فقام الضابط المسئول باستدعاء حافظ لِعرْضِه على المرأة لعلها تتعرف عليه.
وقام بحراسة
حافظ أحد الجنود، فتم استبداله بأحد أعوان فرنسين، وفي الطريق وأثناء الترحيل من سجن
الاستئناف
إلى نيابة شبرا، هَرَبَ حافظ نجيب!
وهكذا تخلى حافظ بهروبه من السجن عن اسمه، وفي ذلك يقول لفرنسين: «لا تتوهمي أن المطاردة
ستكون سببًا في عجزي عن التمتع بكل حريتي، إنهم سيطاردون حافظ نجيب، ولكنني سأترك لهم
ذاك الاسم
الذي يلوثونه والصورة التي خلقها الله، وسأتحول إلى إنسان جديد يحمل اسما نكرة ووجهًا
كاذبًا
فأختفي عن العيون في ظلام التنكر، ولكنني سأعيش بين سمْع الناس وأبصارهم؛ أُمَتِّع نفسي
بكل ما
على ظهْر الأرض من الملذات.»
٢٦
ومن الغريب أن حافظ نجيب — أو من عبث باعترافاته ونَشَرَهَا بعد وفاته — نسي أنه
كتب في مجلة
«الحاوي» قصة بعنوان «زهرة هانم»،
٢٧ وفي هذه القصة اعْتَرَفَ حافظ بأنه بَطَلُها عندما كان شابًّا في العشرين من عمره،
حيث تَعَرَّفَ على زهرة هانم في أحد أَسْفَارِهِ، فتعلَّقَتْ به المرأة إلى درجة الجنون،
ولكنه
كان يصدها؛ لأنه شعر بأنها تريد امتلاكه. وعندما زاد صده لها استأجرت قاتلًا محترفًا
ليقتله،
ولكنه فشل في مهمته. وبعد أيام قَبَضَ البوليس على حافظ نجيب يوم ١٤ / ١٢ / ١٩٠٧، ثم
أَفْرَجَتْ
عنه محكمة الموسكي الجزئية بكفالة مالية يوم ٢٨ / ١٢ / ١٩٠٧، وأَرْسَلَ حافظ لأحد أصدقائه
رسالة
يطالبه بدفْع الكفالة قبل ظهر يوم ٢٩ ديسمبر.
وفي صباح يوم ٢٩ ديسمبر استدعت نيابة شبرا حافظ نجيب للتحقيق معه في قضية جديدة لا
يعلمها ولا
يعرفها، فجاء عسكري لاستلامه من قسم الموسكي لترحيله إلى نيابة شبرا، واستقل العسكري
بصحبة حافظ
سيارة أجرة، فلاحظ حافظ أن السيارة تسير في طريق آخر غير طريق نيابة شبرا، حتى دَخَلَت
السيارة
إلى قصر مهجور، وتم سَجْن حافظ في قبوه. وعَرَفَ حافظ أن هذا القصر لزهرة هانم، وأن العسكري
باعَهُ لها مقابل المال، ولكن حافظ نجيب بدهائه استطاع أن يهرب من القصر. وفي صباح اليوم
التالي
قرأ في الصحف هذا النبأ: خرج حافظ نجيب في حراسة عسكري للذهاب إلى قسم من الأقسام ففر
منه في
الطريق.
ومن خلال هذه القصة، يتضح لنا أن فيزنسكي هي زهرة هانم، بكل تصرفاتها والأحداث المحيطة
بها،
كما جاءت في الاعترافات! بل إن قصة زهرة هانم هي القصة الحقيقية الثابتة؛ لأنها منشورة
عام ١٩٢٥،
أثناء وجود حافظ نجيب على قيد الحياة، وعندما كان متمتعًا بحياة مستقرة وصاحب إحدى المجلات!
هذا
بالإضافة إلى وجود التواريخ الموثقة في قصة زهرة هانم، تلك التواريخ المهملة في معظم
صفحات
الاعترافات! ولهذا يسهل علينا أن نشك في «اعترافات حافظ نجيب»، وأن هناك يدًا عبثت بها
ونشرَتْها
بعد وفاته!
هناك سبب آخر لهذا الشك. فقد اعْتَرَفَ حافظ نجيب في اعترافاته عام ١٩٤٦، بأن هروبه
من السجن
لأول مرة، كان بمساعدة فرنسين اليهودية، عندما قامت بتهريبه أثناء ترحيله إلى نيابة شبرا!
ولكنه
في عام ١٩٢٥ كتب قصة «عمر بك»،
٢٨ وكان هو بطلها وباعترافه. وفي هذه القصة نجده يقول إن سبب هروبه من السجن لأول مرة،
كان بسبب فتاة تركية تَعَرَّفَ عليها وأَحَبَّهَا تُدْعَى إقبال، كانت طريحة الفراش في
مستشفى
بحلوان بين الحياة والموت، وعندما هَرَبَ مكث معها لحظاتها الأخيرة! فأي القصتين نُصَدِّق؟!
القصة
التي كُتِبَتْ عام ١٩٢٥ بتوقيع صريح من حافظ نجيب، وباعترافه الصريح أيضًا بأنه بطلها،
أم القصة
التي كُتِبَتْ ونُشِرَتْ بعد وفاته في اعترافاته عام ١٩٤٦؟!
ولم يقتصر الاختلاف بين أحداث اعترافاته، وبين الأحداث نفسها المنشورة في قصص مجلته
على هاتين
القصتين، بل هناك قصص أخرى كثيرة، منها على سبيل المثال، قصة «علقة في الحمام» التي نُشِرَتْ
في
مجلة «الحاوي» عام ١٩٢٥،
٢٩ عندما تَنَكَّرَ حافظ في شخصية الحاج فرغلي بائع الحُمص والفشار، واستطاع أن يهرب من
البوليس عن طريق حَمَّام النساء، وتَسَبَّبَ في قيام النساء بضرب رجال البوليس بالقباقيب!
وهي قصة
نُشِرَتْ في الاعترافات، مع اختلافات كثيرة، أهمها أن الحاج فرغلي في القصة أصبح عم دؤدؤ
في
الاعترافات عام ١٩٤٦! وهناك قصة أخرى بعنوان «خادم الرئيس»، نُشِرَتْ في «الحاوي»،
٣٠ عندما تَنَكَّرَ حافظ في شخصية الخادم حسن، الذي عمل لمدة تسعة أشهر في منزل رئيس
النيابة، وهي القصة نفسها التي جاءت في الاعترافات، مع بعض الاختلافات من أهمها أن حسن
الخادم
أصبح في الاعترافات الخادم مبروك!
وإذا كنا قد شككنا في شخصية الأميرة فيزنسكي، وأنها زهرة هانم، أو أنها شخصية روائية
ابتكرها
حافظ، فسنجد أيضًا أن شخصية الكونتس سيجريس، التي تزوَّجها حافظ في اعترافاته، هي أيضًا
شخصية
مشكوك في أَمْرها! فقد ألَّفَ حافظ عام ١٩١٥ مسرحيةَ أو روايةَ «الحب والحيلة»، وهي تحكي
قصته مع
الملكة الفرنسية ناتالي، والقصة بكاملها عبارة عن مراحل متنوعة من علاقته بسيجريس كما
جاءت في
اعترافاته، مع الاختلاف في الأحداث والأسماء!
وفي عام ١٩٢٠، أَلَّفَ حافظ نجيب مسرحية «محور السياسة»، وفيها نجده يَخْدَع الجميع
بموته، ثم
عودته إلى الحياة مرة أخرى، هربًا من مطاردة البوليس، وإسقاط التُّهم المنسوبة إليه،
وذلك كي
يتزوج من تلميذته إحسان — بطلة المسرحية — وهذه المسرحية تمثل مرحلة من مراحل حياة حافظ
نجيب، كما
جاءت في اعترافاته، عندما أراد الزواج من سيجريس!
وفي عام ١٩٢٤، ألَّفَ حافظ قصة قصيرة بعنوان «غرام أنطوان دوريه»، نَشَرَها في مجلة
«العالمين»،
٣١ وهي تحكي قصته عندما تَنَكَّرَ في شخصية أنطوان دوريه، وأحب الفتاة أليس، التي حضرت
إحدى محاكماته وطَلَبَتْ منه أن يهرب لمقابلتها، فوعدها وحدَّدَ الموعد والمكان، وأعلن
للقاضي وسط
المحكمة بأنه سيهرب غدًا لأنه ضَرَبَ موعدًا للفتاة، ويجب أن يفي بهذا الموعد، وسط ضحكات
مَنْ في
قاعةِ المحكمة. وبسبب هذا الإعلان تَشَدَّدَت الحراسة عليه في السجن، وفي صباح اليوم
التالي
فُتِحَت الزنزانة فلم يكن بها حافظ! وهذه القصة تمثل أيضًا مرحلة من مراحل علاقته بالكونتس
سيجريس، وبالأخص ما حَدَثَ في حفل سرحان باشا، كما جاء في الاعترافات!
وأخيرًا ألَّفَ حافظ نجيب قصة قصيرة بعنوان «الخواجا غالي»، نَشَرَها في مجلة «الحاوي»
عام ١٩٢٥،
٣٢ وهي تحكي قصته عندما تَنَكَّرَ في شخصية الخواجا غالي، هاوي الآثار، وعلاقته بالسائحة
إيزابيل، ومصاحبته لها لمدة شهرين، لمشاهدة الآثار المصرية. وهذه القصة تُمَثِّل إحدى
مراحله مع
سيجريس كما جاءت في اعترافاته. فهل الكونتس سيجريس هي الملكة ناتالي، أمْ تلميذته إحسان،
أم
الفتاة أليس، أم السائحة إيزابيل؟! أمْ هي إحدى شخصيات رواياته المؤلَّفة، وقام — أو
من عبث في
اعترافاته — بإقحامها في اعترافاته، كما حدث لشخصية الأميرة فيزنسكي!
وإذا نظرنا إلى «اعترافات حافظ نجيب»، وإلى قضايا النصب والاحتيال، التي اُتُّهِمَ
فيها
وجُرِّم بسببها — كما مَرَّ بنا — سنجد هناك قضايا نصب واحتيال أخرى أُضيفت إليه، منها
احتياله
على رجل يهودي سرق ساعته، فحُكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، ولكن حافظ نجيب في اعترافاته،
بَرَّرَ
هذا الاتهام بأنه من تلفيق فيزنسكي.
٣٣ وفي موضع آخر نجده يقول: «أسلمْتُ نفسي للقضاء في ١٩١٣ لتصفية الحساب بيني وبين
الحكومة لأسباب هامة طرأت عليَّ، وبدَّلْتُ إصراري الأول بغيره، والعقوبات الصادرة بأحكام
غيابية
من محاكم الجنايات تَسْقُط بمجرَّد القبص على المحكوم عليه، فأُعِيدَت الإجراءات من جديد
وقُدِّمْتُ لمحكمة الجنايات في إحدى القضايا.»
٣٤
ومن الملاحَظ على هذا القول، أن حافظ نجيب ولأول مرة، لم يُبَرِّر اتهامه في إحدى
القضايا
بأنها من تلفيق فيزنسكي! هذا بالإضافة إلى أنه لم يوضِّح ما هو هذا الحساب الذي بينه
وبين
الحكومة! بل ولم يوضِّح ما هي القضية نفسها، وما هو الاتهام الموجَّه إليه! وهذا التعتيم
يُثْبِت
أن حافظ نجيب بالفعل قام بمجموعة من الجرائم، أَوْجَبَتْ محاكَمَتَه، وكأن هذا التعتيم
اعتراف
صريح من حافظ بأنه مُجرم يستحق المحاكمة والسجن! وبالرغم من ذلك نجده يقول لصديقه خليل
حداد: «لن
أُنَفِّذَ أي حكم من الأحكام التي ستَصْدر ضِدِّي، سأترك لهم اسم حافظ نجيب يكيلون له
التُّهَم
ويُصْدِرون عليه الأحكام كما يشاء خصومي، سأختفي من العالم بجسمي وأترك لهم اسمي، وسأحمل
أسماء
كثيرة أختارها للظروف المتنوعة والمناسبات، فيعجزون عن الاهتداء إليَّ ويتعذر عليهم تنفيذ
الأحكام.»
٣٥
وحقيقة الأمر أن حافظ نجيب، قام بكمٍّ كبير من قضايا النصب والاحتيال، فتمَّ الحكم
عليه
غيابيًّا بالسجن لسنوات كثيرة، وهذا يفسر لنا العدد الكبير من الشخصيات التي انتحلها
وتنكَّر
فيها، هربًا من تنفيذ الأحكام! وهي شخصيات جاءت في اعترافاته عام ١٩٤٦، ومن قَبْل جاءت
في قصصه
المؤلفة — والتي يعترف بأنه بطلها — والمنشورة في مجلتَي «العالمين» و«الحاوي» منذ عام
١٩٢٣. ومن
هذه الشخصيات: الجاسوس الأخرس، الرجل البدين، عم دؤدؤ أو الحاج فرغلي، الخادم مبروك أو
حسن،
المسيو بنفيه، البارون دي ماسون، الشيخ صالح عبد الجواد، الراهب غبريال إبراهيم، الراهب
غالي جرجس
أو فيلوثاؤس، البارون ماير أو شنيدر، المسيو توندور، الخواجا غالي، مسيو أنطوان دوريه،
بنفيه خادم
الملكة ناتالي، محمد صبحي، الشيخ بكر! وقد أضاف الزركلي في أعلامه شخصيات أخرى تَنَكَّرَ
فيها
حافظ نجيب، وهي الأمير يوسف كمال، ابن أخي أفلاطون باشا، المندوب السامي العثماني!
٣٦
ويبرر حافظ نجيب تَنَكُّرَه في هذه الشخصيات، بقوله: «في صدري غلٌّ من الهيئة الاجتماعية
بسبب
حملات الصحف عليَّ اعتباطًا لتلويث اسمي واعتقاد الناس صحة ما يُنْشَر بدون وزنه. ولجوء
الجميع
إلى التندر بهذا الاسم مع الإسراف في تخيل حكايات ونوادر ينسبونها إليَّ كما كانوا يفعلون
بجحا،
فدفعني هذا الغل إلى التنكر للرأي العام وللهيئة الاجتماعية ثم استخففت بالقوانين والأخلاق
والعادات والتقاليد وتعمَّدْتُ أن أعيش في حرية مطلقة بدون تقيُّدٍ بنظم الاجتماع.»
٣٧
وقبل أن نختتم الحديث عن صورة حافظ نجيب في اعترافاته، سنحاول الإجابة على سؤال يقول:
لماذا
كتب حافظ نجيب اعترافاته؟! وهل كان في حاجة إلى كتابتها قبل وفاته؟! وتُجيب على هذا السؤال
«سعدية الجبالي»
٣٨ — ناشرة الاعترافات بعد وفاته عام ١٩٤٦ — قائلة: «أَرْغَمْتُ الأستاذ حافظ نجيب على
نَشْر اعترافاته في حياته بدلًا من نشْرها بعد مماته، لِأُمَكِّنَ الناس من تكذيب ما
لا يصدقونه،
ولِأُمَكِّنَهُ من الرد عليه، فلا ينهشون لحمه وهو جثة كما نالوا منه بنشر الأكاذيب والخرافات
وهو
مطارَد عاجز عن الدفاع عن نفسه. إن جلجلة صوت الحق تَدْمَغ الباطلَ وتُفْزِع الجبانَ.»
٣٩
وهذا القول يعني، أن سعدية الجبالي كانت تهدف من نَشْر الاعترافات تكذيبَ كل ما أُشيع
عن حافظ
نجيب! فهل قامت الاعترافات بالتكذيب حقًّا؟! أنا أرى أن الاعترافات رسَّخَت الأكاذيب
وجعلت منها
حقائق ثابتة! وأي تكذيب ينفع أمام اعتراف حافظ نجيب بجحوده لأهله … وبشربه للخمر … وبارتياده
للبارات والملاهي … وبمجالسته للساقطات والراقصات وبنات الهوى … وبقيامه بارتكاب الكبائر!
ومن
العجيب أن هذه الأمور بالنسبة إلى حافظ نجيب لا تُعْتَبَر من الأخطاء، بل هو يفتخر بذِكْرها؛
لأنها مفيدة للناس؛ لأن هناك أفظع منها خجل حافظ من ذِكْرها، فتجَنَّبَها في اعترافاته!
وفي ذلك
يقول: «في ماضيَّ كثير من الأخطاء وقليل لا يُشَرِّف ذِكْرُه ولا يفيد الناس عرضه، وحبُّ
الذات
يقتضي كتمانه ونسيانه ومَحْوه من ألسنة الناس بمرور الزمن.»
٤٠
إذن هناك غرض آخر لكتابة هذه الاعترافات، غير السبب الواهي الذي جاء في كلمة سعدية
الجبالي!
بدليل أن حافظ نجيب يعترف بأن هناك أشياء لا يُشَرِّفه ذِكْرها، فكَتَمَها عن الناس،
ولم يُصَرِّح
بها في اعترافاته! إذن ما زال السؤال الأول مطروحًا: لماذا كَتَبَ حافظ نجيب اعترافاته؟!
ويجيب
حافظ على هذا السؤال قائلًا: «أولادي يُلِحُّون عليَّ لكتابة اعترافاتي. وقد عصيتُ هذا
الإلحاح
زمانًا طويلًا؛ لأنني أنْفِر من نَبْش الماضي، ولكن الإلحاح المتكرر وصل إلى حدِّ الضغط
الشديد
والإكراه … فخَضَعْتُ وأَطَعْتُ. وليس يهمني رأي الناس إذا عرفوا الحقيقة؛ لأنني قسوت
على نفسي
بحكمي … ولست أكتب اعترافاتي لهؤلاء، إنما أكتبها لأولادي إجابةً لرغبتهم.»
٤١
وهذا القول يطرح سؤالًا آخر! لماذا ألَحَّ أولاد حافظ نجيب عليه لكتابة اعترافاته؟!
ولماذا
قاموا بنشرها بعد وفاته، رغم أن المنطق يقول إنها اعترافات غير مُشَرِّفة وتُدِين صاحبها
وتتهمه
بالمجون والزندقة والكفر وارتكاب الكبائر! فهل أراد الأولاد تلويث سمعة أبيهم أمام الناس
بعد
وفاته؟! أليس من الحكمة إخفاء هذه الاعترافات ودَفْنها مع صاحبها؟!
الواضح أن أولاد حافظ نجيب وقْت كتابة ونشْر اعترافات أبيهم، كانوا أصحاب مراكز مرموقة،
وبلغوا من العمر درجة النضوج، وأصبح لديهم مستقبل مشرق أرادوا الحفاظ عليه، وتنقيته من
أية شوائب
كانت موجودة في الماضي! وأظن أن الشوائب الموجودة في اعترافات أبيهم كثيرة، ولكنها لا
تُؤَثِّر
عليهم، بل تؤثر على سمعة أبيهم وحده، إلا شائبة واحدة، هي التي يَخْشَوْنَ منها، وهي
تهمة «النصب
والاحتيال»! فهذه التهمة وحدها كفيلة بأن توصمهم بالعار مدى الحياة؛ لأنهم سيُوصَمُون
بأبناء
النَّصَّاب المحتال! والنصب والاحتيال من الصفات التي تلازم الإنسان مدى الحياة، مهما
كفَّر عنها
أو ابتعد عنها! أما شرب الخمر وارتياد الملاهي وارتكاب الكبائر، فمن الممكن للإنسان أن
يُقْلِع
عنها في شيخوخته، ومن الممكن تبرير القيام بها بأنها كانت وقْت الشباب وثورته.
والدليل على هذا الأمر، أن حافظ نجيب في اعترافاته، كان يدافع عن نفسه أمام تهمتَي
النصب
والاحتيال بكل قوة، وكان يبرِّر الاتهامات الموجَّهة له، بأنها اتهامات من تدبير الأميرة
فيزنسكي!
وعندما يتعرض إلى اتهام معيَّن من الصعب تبريره، كان يمر عليه مرور الكرام، ولا يوضحه!
وهناك هاجس يراودني، ويتمثل في شكوك حول الاعترافات نفسها! فأنا أشكُّ في أن حافظ
نجيب هو
الذي قام بكتابة الاعترافات، وأشعر بأن أحدًا آخر قام بذلك، من أجل تبرير تُهم النصب
والاحتيال!
وهذا الاحتمال له أسباب عديدة، منها أن حافظ نجيب اعترف بتصرفات مخزية كثيرة، كان منها
الكفر!
فلماذا يتهرب من الاعتراف بجرائم النصب والاحتيال؟! ومن الأسباب أيضًا؛ أن معظم أحداث
الاعترافات
التي نُشرت عام ١٩٤٦، تمَّ نشْرها في مسرحيات وقصص مُمثَّلة ومنشورة منذ عام ١٩١٥، قام
حافظ
بتأليفها وتمثيلها ونشْرها، والاعتراف بأنها قصص من حياته! لذلك كان من السهل أن يقوم
أي إنسان،
بتجميع هذه الأعمال والعبث في بعض أحداثها، ونشْرها على شكْل اعترافات.
أما آخر الأسباب وأهمها — من وجهة نظري — والذي يؤكِّد أن هذه الاعترافات تمَّ العبث
بها من
قِبَل آخرين، أن حافظ نجيب توقَّفَ عن إصدار مجلته «الحاوي»، بعد صدور العدد رقم ٤١ بتاريخ
٢٤ / ٣ / ١٩٢٧، ثم أعاد إصدار المجلة مرة أخرى عام ١٩٢٩، وفيها بدأ في نشْر اعترافاته،
قبل أن
تَظْهَر في شكل كتاب بعد وفاته عام ١٩٤٦! فالعدد الثالث من مجلة «الحاوي» بتاريخ ٢٦ / ٨ / ١٩٢٩،
به باب بعنوان «اعترافاتي»! وفي العدد نفسه إعلان يقول: «إن اعترافاتي بقلم حافظ نجيب
تَظْهَرُ في
«الحاوي» كل أسبوع باستمرار حتى تتم». وهذا يعني أن الأعداد الأول والثاني والرابع وما
بعده، ربما
بها حلقات أخرى من «اعترافات حافظ نجيب»! ولكننا لا نملك الدليل على ذلك لِفَقْد هذه
الأعداد، حيث
إن دوريات دار الكتب المصرية، لا يوجد بها من أعداد مجلة «الحاوي» لسنة ١٩٢٩ إلا العدد
الثالث
فقط!
والملاحَظ أن حلقة «اعترافاتي» المنشورة في العدد الثالث، كانت تشتمل على عدة أحداث،
منها
زواج الكونتيس سيجريس وحافظ نجيب عندما كان متنكرًا في شخصية البارون في مكتب الأستاذ
فاتيكا
المحامي بشارع الساحة بتاريخ ١ / ٢ / ١٩٠٩، حيث قضى الزوجان السهرة في جزيرة بالاس أوتيل.
وفي
أحداث أخرى من هذه الحلقة، وتحت عنوان «عند لويزة فلورانجي» نعلم أن حافظ نجيب كان يسكن
بشارع
كوبري قصر النيل بالعمارة رقم ١٥ الدور الثاني، في شقة لويزة فلورانجي، وكان متنكرًا
في شخصية
الخواجا غالي جرجس، وكان على علاقة بلويزة، وعندما اكتشف خيانتها له تَرَكَها وذهب للسكن
في غرفة
مفروشة في شارع أبو السباع أمام الكنيسة عند سيدة إيطالية شابة وجميلة تُدْعَى مادلين،
وكان هو
متنكرًا في شخصية رجل يُدْعَى محمد صبحي أفندي. هذا بالإضافة إلى أن هذه الحلقة بها بعض
الأحداث
الخاصة بحافظ نجيب عندما كان متنكرًا في شخصية الراهب فيلوثاؤس.
ولعل أحد القراء، يعارضني ويقول: إن المسرحيات المُمثَّلة، والقصص المنشورة في مجلة
«الحاوي»،
والتي قام حافظ نجيب ببطولتها، لا تُعْتَبَر اعترافات أو مذكرات؛ لأنها مسرحيات وقصص
مكتوبة
بأسلوب فني، وهذا يُفسر اختلافها في بعض الأمور عن الأحداث نفسها عندما نُشِرَت في الاعترافات!
وإذا تَقَبَّلْنَا هذا الرأي، فماذا سنقول أمام حلقة «اعترافاتي» المنشورة عام ١٩٢٩؟!
أليست هذه
اعترافات صريحة كَتَبَها حافظ نجيب ونَشَرَها في مجلته، وهو على قيد الحياة؟! فلماذا
جاءت هذه
الحلقة مختلفة اختلافًا كبيرًا عن الأحداث نفسها، التي جاءت في كتاب الاعترافات، المنشور
بعد
مماته؟! ولماذا جاءت بها أحداث، لم نقرأ عنها ولم نعلم عنها شيئًا، في كتاب الاعترافات
أيضًا؟!
فعلى سبيل المثال، نجد أحداث حلقة «اعترافاتي»، تتحدث عن زواج حافظ بالكونتيس سيجريس
عندما
كان متنكرًا في شخصية البارون في مكتب الأستاذ فاتيكا المحامي بشارع الساحة بتاريخ ١ / ٢ / ١٩٠٩!
وهذا التفصيل الموثَّق غير موجود في كتاب الاعترافات! هذا بالإضافة إلى أن تاريخ الزواج
غير مذكور
في كتاب الاعترافات، بل إن هذا التاريخ دليل كبير على العبث في «اعترافات حافظ نجيب»؛
لأن تاريخ
الزواج كان في عام ١٩٠٩، علمًا بأن كتاب الاعترافات يُثْبِت أن زواج حافظ بالكونتس وانفصاله
عنها
كان قبل دخوله الدير في عامَي ١٩٠٧، ١٩٠٨! فأي الأمْرَيْن نُصَدِّق؟! ونقطة أخرى مهمة،
أن أحداث
حلقة «اعترافاتي» بها قصص عن علاقة حافظ نجيب بامرأتين؛ الأولى لويزة فلورانجي، والأخرى
مادلين،
وكان حافظ متنكرًا في شخصية رجل يُدْعَى محمد صبحي، وهذه الأحداث كلها لا يوجد لها أي
أثر في كتاب
الاعترافات؟!
فهل قام أحد المُقرَّبِين من حافظ نجيب، بتجميع مسرحياته وقصصه المنشورة في مجلة «الحاوي»،
وما
كُتِبَ عنه في الصحف من حقائق أو أكاذيب، وقام بصياغة كل ذلك في شكل اعترافات، قام بنشرها
بعد
وفاته، كي ينفي عنه تهمة النصب والاحتيال؟! سؤال لا نملك الإجابة عليه حاليًّا، وربما
تكشف الأيام
المقبلة عن إجابات وتفسيرات لهذا السؤال! … فهذا هو جهْدنا المتواضع، في إبراز صورة حافظ
نجيب،
المستخلَصة من اعترافاته المنشورة. والآن نتعرَّض لصورة حافظ نجيب عند معاصريه.
فمن الثابت أن الصحف المصرية، في أوائل القرن العشرين، بدأَتْ تكتب بعض الأخبار المتفرقة
عن
حافظ نجيب، وعن أعماله. ولكن هذه الكتابات لم تؤثِّرْ على القراء، ولم تكتب شهرة حافظ
نجيب، إلا
بعد أن كتب جورج طنوس،
٤٢ أول كتاب كامل عن حافظ نجيب، وكان بعنوان «نابغة المحتالين أو حافظ نجيب»! وتَمَّ
نَشْر هذا الكتاب فيما بين عامَيْ ١٩٠٩ و١٩١٢.
٤٣ والكتاب عبارة عن مجموعة من أخبار وحوادث حافظ نجيب، ومجموعة من قصائده، ورواية طويلة
من تأليفه، استغرقت معظم صفحات الكتاب.
هذا بالإضافة إلى أن الكتاب به صورة شخصية لحافظ نجيب، تجعل الرائي يتعجب عندما ينظر
إليها،
لشدة دمامة صاحبها، وملامحه المتوحشة!
٤٤ فالناظر إليها لا يُصدق أن صاحب هذه الصورة، هو حافظ نجيب الذي تَزَوَّجَ من الكونتيس
سيجريس، وكانت تحبه وتعشقه لدرجة الجنون الأميرة فيزنسكي، وكان يجالس ويراقص ويعشق الجميلات!
فهذه
الصورة تثبت أحد أمرين، إما أن علاقات حافظ نجيب بالنساء، كانت علاقات وهمية من ابتكاره،
ليعوِّض
بها مُرَكَّب النقص، الذي كان يشعر به! لأن من غير المعقول أن امرأة دميمة، تستطيع أن
تنظر لوجه
حافظ نجيب — تبعًا لصورته المنشورة — أكثر من دقائق معدودة، فما بالنا بالأميرات ممن
أُوقِعْنَ في
حبه وعشقه! والأمر الآخر أنَّ تَنَكُّر حافظ نجيب، كان بسبب تجميل وجْهه أمام الناس وأمام
النساء
بصفة خاصة، بالإضافة إلى سبب هروبه من مطاردة البوليس!
ويبين جورج طنوس عن هدفه من الكتاب، قائلًا في تمهيده: «لا عجب إذا تشوَّق الناس
إلى سماع كل
شيء عن حافظ نجيب المحتال الأشهر؛ لأنه أَظْهَرَ بأعماله وفراره من أيدي رجال البوليس
ثلاث مرات
متواليات، أنه داهية نادر المثال بين مَعاشر النَّصَّابين والسارقين. ولأن الناس مُولَعُون
دائمًا
بالوقوف على أخبار نوابغهم، سواء نبغوا في الشر أو الخير؛ لأنهم يُعَدُّون من مَصَفٍّ
غير
مَصَافِّ سائر العالمين؛ إذْ بَرْهَنوا بأعمالهم واقتدارهم على أنْ ليس في وسْع غيرهم
إتيان ما
أَتَوْهُ، من غريب الأعمال ومدهش الأفعال؛ فلهذا رأيْتُ أن أَذْكُرَ بعض ما يُهِمُّ من
أخبار حافظ
نجيب، قبل الحكم عليه في حادث سرقته أَوْسِمة حضرة الكاتبة الفاضلة السيدة ألكسندرا أفيرينو،
صاحبة مجلة «أنيس الجليس» تفكهة للقارئِين.»
٤٥
بعد ذلك بدأ طنوس بسرْد أخبار حافظ نجيب، وهي عبارة عن رؤية مضادة للقصص التي كتبها
حافظ نجيب
في مجلته «الحاوي»، أو في اعترافاته! فعلى سبيل المثال يقول طنوس: إن حافظ نجيب تَنَكَّرَ
في شخصية
الراهب واختفى في دير المحرق، بسبب احتياله على راقصة تعمل في القهوات العامة!
٤٦ وهذه المعلومة، تُخَالِف ما ذَكَرَهُ حافظ بأن دخوله الدير، كان بسبب حالته النفسية
السيئة أثر انفصاله عن زوجته سيجريس، أو بسبب نصيحة رجال الحزب الوطني، كما مَرَّ بنا!
وقصة أخرى يرويها طنوس، تحت عنوان «الكونت الإيطالي وحافظ نجيب في فندق الكونتننتال»،
وهي
تحكي عن وجود حافظ في فندق الكونتننتال متنكرًا في شخصية ابن أميرٍ مات والده. وفي الفندق
تَعَرَّفَ على كونت إيطالي، ووصل التعارف بينهما إلى أن حافظ نجيب عَرَفَ كلَّ صغيرة
وكبيرة عن
هذا الكونت. ومن ثَمَّ علم حافظ أن الكونت له يَخْت في البحر فعرف اسمه وأسماء بحاراته
ومواقعهم
على هذا اليخت. وبعد أيام قليلة، انتحل حافظ شخصية هذا الكونت، وعن طريق النصب والاحتيال
استولى
على اليخت، وسافر به إلى فرنسا ثم باعه أخيرًا في أمريكا.
٤٧
وهذه القصة تختلف اختلافًا كبيرًا، عما ذَكَرَهُ حافظ نجيب في اعترافاته، عندما قال
إنه
تَعَرَّفَ على كونت سويدي اسمه ماير، وكان مريضًا فساعده على كتابة وصيَّته، كما طلب
منه أن يكتب
له توكيلًا، حتى يستطيع أن يستخلص ثروته ليضمها إلى الوصية! وعندما مات الكونت انتحل
حافظ شخصية
البارون الحقيقية، وهي البارون شنيدر، وذلك من أجل تنفيذ وصيته! وبهذا الفعل حصل حافظ
على أموال
ويخت البارون! والغريب أن حافظ نجيب في اعترافاته لم يخبرنا بنهاية القصة، وما هو مصير
اليخت
وأموال البارون، وهل قام بتنفيذ وصية البارون أم لا؟! بل إننا نجد في الاعترافات قولًا
لحافظ
نجيب، يُشير إلى نيته السيئة تجاه البارون، ويُوحي بأنه سيقوم بالنصب والاحتيال عليه!
٤٨
فمثلًا عندما طلب حافظ من البارون أن يكتب له توكيلًا للحصول على ثروته، وقام البارون
بكتابة
التوكيل بالفعل، تَعَجَّبَ حافظ من ذلك، قائلًا: «لست أدري كيف أصغَى لمشورتي وكتبها
في غير
احتراس؛ لأن الأيام القليلة التي عاشَرْتُه فيها لم تكن كافية لِحَمْله على الثقة بي
كرجل غريب لا
يعرفه حقَّ المعرفة، ثم عَلَّلْتُ هذا التصرفَ غيرَ الحكيم بأنه تمَّ والرجل في حالة
ضَعْف
أثَّرَتْ في عقله تأثيرًا مَنَعَهُ مِنْ وزْن الأمر بعناية قبل كتابة الكتاب الخطير.»
٤٩
ثم ينتقل طنوس إلى قصة أخرى، ذَكَرَها تحت عنوان «حكاية حافظ نجيب مع البرنسس ألكسندرا
أفيرينو صاحبة مجلة أنيس الجليس»، وفيها نعلم أن حافظ نجيب تَعَرَّفَ على ألكسندرا أفيرينو،
صاحبة
مجلة «أنيس الجليس»، عن طريق انتحاله لصفة شقيق إحدى المشترِكات في المجلة. وبمرور الأيام
زاد
التعارف بينهما، فرأى في مكتبها صورة زيتية مرسومة لها، فانتقد الرسام الذي رسمها، ووعدها
بأنه
سيرسم لها صورة أفضل منها، فانْتَقَتْ ألكسندرا صورة شخصية لها، وهي مُزَيَّنة بالأوسمة
والنياشين. وبعد فترة اتصل بها حافظ، وأخبرها أن الأوسمة والنياشين غير واضحة المعالم
والألوان في
الصورة؛ لذلك فهو يرغب في رؤية هذه الأوسمة والنياشين على طبيعتها. وبالفعل أرسلت له
ألكسندرا
أوسمتها ونياشينها. وبعد عدة أيام ظَهَرَ حافظ نجيب أمام الناس مرتديًا مجموعة من الأوسمة
والنياشين، بعد أن أَوْهَمَهُمْ بأن السلطان فلان أعطاه هذا الوسام، وأن الأمير فلان
أعطاه هذا
النيشان … إلخ، وعندما تأخَّرَ حافظ عن ألكسندرا، شكَّتْ في أَمْره فأبْلَغَتْ عنه البوليس
وتمَّ
القبض عليه، وسُجِنَ في سِجْن الحضرة لمدة سنتين.
٥٠
وهذه القصة، رغم أنها تُثْبِت تهمة النصب والاحتيال، إلا أنها جاءت مخالفة لما ذَكَرَهُ
حافظ
في اعترافاته، بأن الراقصة حميدة هي التي سَرَقَتْ نيشان ألكسندرا، ورقصتْ به أمام الناس،
وأن
فيزنسكي هي التي دفعت ألكسندرا كَي تتهمه بتبديد نيشانها، كما مر بنا.
ولم يَكْتَفِ طنوس بذكْر قصص حافظ الموجودة في قصص مجلة «الحاوي» أو في قصص اعترافاته،
بل أضاف
إليها مجموعة من القصص الجديدة، التي تثبت جرائمه في النصب والاحتيال، ومنها على سبيل
المثال
«حكاية الإرسالية»، وهي عبارة عن قصة، قام حافظ نجيب فيها بالنصب على إحدى الإرساليات
المسيحية،
حيث حصل من رئيسها على مبلغ كبير من المال، أظهره أمام الناس في الإسكندرية بمظهر الأعيان.
ثم
استكمل طنوس سرده لقصص النصب والاحتيال في حياة حافظ نجيب، تحت مجموعة من العناوين، منها:
حكاية
العصا، في نادي الميسر، حادث الكمبيالة.
٥١
وقد أدلى طنوس برأيه في حافظ نجيب، وتناقُض تصرفاته، قائلًا: «ومن غرائب أَمْره أيضًا،
أنه
عندما بدأ يحترف صناعة النصب، كانت أطواره غريبة تدعو إلى الدهش الكبير. فقد كان يَظْهَر
اليومَ
لناظريه والذهب يغطي أديم أصابعه ويزين صدره وجميع ملابسه، فلا تَغْرب شمس الغد إلا وقد
باع كل
ذلك، وأنفقه مع ما كان معه من المال، وعلى من؟ على فتيات الهوى؛ لأنه كان مولعًا بإنفاق
الذهب
الرنان بالمئات في قهوات الرقص. وما ذاك إلا لاعتقاده أن هذه القهوات، تُظْهِره للناس
بمظهر
الوارثين والأغنياء … بينما كُنْتَ تراه رَثَّ الثياب، خاوي الوفاض، وعلى وجهه ملامح
الكآبة
واليأس، تراه بعد أسبوع على الأكثر، وقد ظهر لك بمظهر عظماء الرجال، واقتنى العربات الفاخرة،
والمُطَهَّم من الجياد.»
٥٢
كما أن ناشر كتاب «نابغة المحتالين» أو طابعه، ذَكَرَ أيضًا رأيه في حافظ نجيب، بالإضافة
إلى
ذِكْر معلومات جديدة — تبعًا لمعرفته الشخصية به — قائلًا تحت عنوان «كلمة الطابع»: «كان
حافظ ولا
ريب، في بدء حياته شابًّا نبيلًا، كريم العواطف، شريف الأخلاق … ولا يَبْعُد أن يكون
حافظٌ … ربيب
الكرم والرخاء؛ لأن دخوله إلى المدارس الكبرى، وحصوله على الشهادات العالية، يَدُلَّان
على أن
الذين كَفَلُوه في صغره قوم كِرام النفوس، وعلى سعة من العيش. فإذا ثبت هذا كان دخول
حافظ في زمرة
المحتالين والنصابين، لا للغرض الذي يسعى إليه غيره، وهو حشْد المال؛ لأن التحقيقات القضائية
التي
أَجْرَتْها النيابة العمومية، والحوادث العديدة التي رُوِيَتْ عنه، تدل على أنه كان يُنْفِق
بإسرافٍ كلَّ ما يحصل عليه من المال، حتى بلغ منه البذخ إلى أن ينفق في اليوم الواحد
من خمسين إلى
مائة جنيه أو يزيد. فهو على ما يظهر، وُفِّقَ في أول أمره إلى سَلْب مبلغ من أحد من الناس،
فظن أن
الاحتيال على عباد الله أمر ميسور، وأنه من السهل عليه، نظرًا لما أوتيه من الذكاء والاقتدار،
أن
يجعل احتياله قانونيًّا، بعيدًا عن غائلة العقاب، فلا يدع فيه مجالًا لدخول رجال البوليس،
ولكن
تَهَوُّره في الاحتيال، جَرَّه في آخر الأيام إلى السجون. وها هو لا يزال إلى اليوم
شريدًا.
ومن غريب أمْره أنه يأنف الابتعاد عن بلاده، ولو ظل فيها هدفًا لسهام البوليس، وكوارث
السجن.
يدلنا على هذا أنه بعد أن خرج من الأديرة القبطية، حاصلًا على مبلغ كبير من المال، ناله
من بعض
رؤسائها ورجالها … لم يشأ أن يهرب إلى بلد غير مصر، ويعيش تحت سمائه حرًّا، خاليًا من
كل تعب،
بعيدًا عن كل خطر. بل نزل في أعظم فنادق العاصمة، وأخذ يُنْفِق المال بغير حساب، حتى
اضْطُرَّ في
نهاية الأمر إلى الاحتيال على إحدى السيدات الفرنسويات، احتيالًا وَقَعَ من أجله في أيدي
البوليس،
الذين كانوا يبحثون عنه ليل نهار. إن نابهًا كحافظ نجيب، لو استخدم ذكاءه في الخير، نَفَعَ
أُمَّتَه ونفسه. ولكن الظاهر أن كثيرين من الأذكياء، كان ذكاؤهم اختصاصيًّا بالشر، فلا
يعرفون
معنى الخير، ولا يميلون إليه. ولله في عباده شئون.»
٥٣
ومن الغريب أن جورج طنوس، لم يَكْتَفِ بإصدار كتاب «نابغة
المحتالين» عن حافظ نجيب، بل شَرَعَ في ذلك الوقت في طبع كتاب ثانٍ، قال عنه تحت عنوان
«نوادر
نجيب»: «بناء على رغبة الأكثرين من أهل الفضل والأدباء، شرعت الآن في طبْع كتاب غير هذا
باسم
«نوادر حافظ نجيب»، سيظهر بعد زمن قريب، مشتملًا على كل ما أتاه حافظ من المدهشات والمستغرَبات،
منذ خروجه من سجن الحضرة إلى الآن. ولا سيما ما أجراه من غريبِ الحِيَل، في أديرة الرهبان،
في
العام الذي قضاه معتزلًا عن عباد الله … حتى خرج بعد ذلك العام، يحمل ألفًا وأربعمائة
جنيه، حصل
عليها بطريقة مدهشة، متى اطلع عليها القارئون في الكتاب القادم، أدْرَكوا أن حافظًا،
آية من آيات
الزمان في الخداع والاحتيال.»
٥٤
وبالبحث لم نجد كتابًا باسم «نوادر حافظ نجيب» من تأليف جورج طنوس أو غيره، ولكن
أحمد حسين
الطماوي، أشار إلى أن هذا الكتاب صدر باسم «الراهب المسلم» عام ١٩١٠،
٥٥ ولكنه لم يَطَّلِع عليه. كما أن هناك دليلًا آخر على صدور هذا الكتاب، حيث قرَّرَ
حافظ نجيب رفْعَ قضيةٍ عامَ ١٩١٩ على مَنْ تاجروا باسمه، وألَّفُوا كُتبًا عنه حشوها
بما لا
يرضيه، ولكن هذه القضية لم تُرْفَع، واتضح أنها لُعبة من ألاعيب حافظ.
٥٦ أما الدليل الثالث، فقد جاء به حافظ نجيب نفسه، عندما كَتَبَ قصته في الدير لأول مرة،
في مجلة «العالمين» بتاريخ ٢١ / ١ / ١٩٢٤، قائلًا قبل أن يسرد القصة:
«ننشر اليوم هذه القصة، رغبةً في ذِكْر الحقائق، التي شوَّهَها بعض المرتزقين من الكُتَّاب،
حين طمعوا بكسب دريهمات، من سبيل نشْر الخرافات عنا والطعن فينا، يوم كنا لا نملك وسيلة
لدفع
مفترياتهم، ولا فرصة لرد ألسنتهم البذيئة في أفواههم القذرة. ننشر هذه القصة اليوم ليعرف
القراء
الحقيقة، في حادثةٍ أَرْجَفَ بها المُرْجِفون، وطَنْطَنَ بها المحتالون، ليكسبوا الدرهم
من طريق
الكذب والتلفيق، لا يَرُدُّهُم أدب فَقَدُوه، ولا مبدأ شريف لم يَأْلَفُوه، وها هي الحقائق،
لم
نُنْقِصْ منها ولم نَزِدْ، ليعرف الناس قَدْرَ الذين نشروا عنا ما نشروا، يوم أَمِنُوا
التأديب من
رجل، ظُنُّوه لن يعود إلى عالم الأحياء.»
وبعد أن سَرَدَ حافظ قصته في الدير بكل تفاصيلها المعروفة — كما جاءت في الاعترافات،
مع بعض
الاختلافات — قال: «هذه قصة وجودي في الدير وخروجي منه، وشُهُودُها أحياء، القمص إيسيذورس
لا يزال
حيًّا يُرْزَق وهو رئيس الدير الآن، ونيافة الأنبا باخوميوس وهو لا يزال أسقف الدير،
والقس بطرس
وهو الآن مطران أخميم، والقمص باخوم وعاذر أفندي جبران وبيومي أفندي الشناوي وكلهم أحياء،
كذلك
وكيل الدير تاضروس أفندي ميخائيل، الذي أَرْجَفَ المُرْجِفُون بأنني أخذْتُ منه مئات
من الجنيهات،
لشراء آلة لاستخراج الذهب، لا يزال حيًّا يُرزق في منفلوط … فقارِنُوا بين ما نشره صغار
النفوس
والعقول وبين الحقائق، تُدْرِكوا أن بعض الذين يَنْتَسِبون إلى الصحافة، كَذَبَة ومنافقون،
عاشوا
قذًى في عين ذوي الفضل من رجال الأدب، ولطخةَ عارٍ في جبين الصحافة، التي نُكِبَتْ بوجودهم
بين
رجالها.»
ومن الملاحظ على هذا القول، أنه موجَّه إلى كِتاب أَلَّفَه جورج طنوس عن حافظ نجيب
أثناء
تَنَكُّره في شخصية الراهب، وحياته في الدير! ولم يكن مُوَجَّهًا إلى كتاب «نابغة المحتالين»؛
لأن
هذا الكتاب لم يَتَطَرَّق إلى حافظ نجيب كراهبٍ إلا بإشارة يسيرة! وهذا دليل على أن كتاب
«نوادر
حافظ نجيب» أو «الراهب المسلم» صَدَرَ بالفعل. ومن الجدير بالذكر، أن حافظ نجيب لم يَكْتَفِ
بهذا
الرد على طنوس بخصوص كتاب «الراهب المسلم»، بل رد عليه أيضًا بخصوص كتابه «نابغة المحتالين»
في
مجلة «العالمين» بتاريخ ٨ / ٣ / ١٩٢٤، قائلًا في ثنايا قصته «غرام أنطوان دوريه»: «دام
اعتقالي
أسبوعين، وخرجت يومًا إلى دار النيابة في محكمة الموسكي، مكبَّلًا بالحديد، حولي الجنود
للحراسة.
وكان الزحام شديدًا في المحكمة، كلهم يريدون مشاهدة «حافظ نجيب»، الذي منَّ عليه «جورج
طنوس»،
بشهرة تذهب بالكرامة، وتغري بالاحتقار، بما نشره اعتباطًا، من القصص الموضوعة، والنوادر
الكاذبة
في كتابه «نابغة المحتالين».»
وحيث إننا لم نجد كتاب «الراهب المسلم»، كي نتحقق مما فيه من اتهامات، ونقارن بينها
وبين ردود
حافظ نجيب، إلا أننا من خلال اطلاعنا على كتاب «نابغة المحتالين»، نستطيع أن نقرر أن
حافظ نجيب لم
يكن في ردوده على مستوى اتهامات طنوس! أي إن الاتهامات كانت أكثرَ قوةً وحجة من حيث الأدلة
والبراهين، على قيام حافظ نجيب بالنصب والاحتيال، مقابل الهروب والتلاعب بالألفاظ والغموض
الواضح
على رد حافظ نجيب السابق! وهذا وإن دلَّ، فإنما يدل على أن حافظ نجيب قام بالفعل، بعدة
جرائم نصب
واحتيال!
وعلى الرغم من ذلك، فإن شهرة حافظ نجيب، التي ملأت الأسماع والأصقاع في أوائل القرن
العشرين،
كانت بسبب ما كتبه عنه جورج طنوس! لدرجة أن مجلة «الزهور» في يونيو ١٩١٢، طرحت استفتاءً
من خلال
سؤال عن: من هم نوابغ مصر؟ فجاء الاستفتاء يحمل اسم حافظ نجيب، ضمن هؤلاء النوابغ، أمثال:
أحمد
شوقي، الشيخ علي يوسف، حافظ ابراهيم، جورجي زيدان، يعقوب صروف، سعد زغلول، سمعان صيدناوي
٥٧
ومن الواضح أن شهرة حافظ نجيب، وبالأخص تنكُّره في شخصية الراهب، وحياته في الأديرة
القبطية،
لازمته طوال حياته، وظلَّ الناس يتندرون بها لسنوات طويلة! فعلى سبيل المثال، نشرت مجلة
«مصر
الحديثة المصورة» في ١٥ / ٨ / ١٩٢٨، مسرحية من فصل واحد — دون ذكر اسم مؤلفها — بعنوان
«إعدام
مائتَي جريدة». وهي مسرحية تدور أحداثها في القاهرة بإدارة قلم المطبوعات بوزارة الداخلية،
على
أثر صدور قرار وزاري يقضي بإلغاء جميع الجرائد اليومية التي لا تصدر بانتظام. ومن الطريف
أن حافظ
نجيب كان أحد أشخاصها، وقد ظهر في حوار قصير، كالتالي:
حافظ نجيب
(داخلًا)
:
استغفر الله العلي العظيم … بسم الله الرحمن الرحيم … إيه الراجل ده؟
جورج طنوس
(داخلًا)
:
إيه؟ جرى إيه يا خواجة إلياس؟ صحتك بالدنيا … تعالي نروح نشرب لنا كاس ويلعن أبو
الجرايد.
إلياس زيادة
:
الحقُّ معك يا ابني … الفية عرق بستين ألف جرنال من ها الجرنالات الملعونة …
حافظ نجيب
:
إيه رأيك يا جورج يا طنوس؟ أنا رايح أدوَّر لي على دير من ديورة الأقباط أرجع أعمل فيه
قمَّص زي زمان. دي الحكومة بتحرضنا على إننا نغيَّر طريقنا وما نمشيش في السبيل السوي
(تحدث ضجة في الخارج. ويدخل إسكندر مكاريوس صاحب اللطائف المصورة ومعه
فؤاد مغبغب المحرِّر بها والدكتور خوري مديرها).٥٨
وما يُستفاد من هذا الحوار القصير، أن قصة تنكُّر حافظ في شخصية الراهب، واختفاءه
في الأديرة
القبطية، كانت من القصص المعروفة عند الجميع. هذا بالإضافة إلى أنها قصة لا يعلم حقائقها
وخفاياها
إلا اثنين فقط، حافظ نجيب وجورج طنوس، بدليل أن الحوار في هذا الأمر، كان بينهما فقط
في هذه
المسرحية!
وإذا كان جورج طنوس هو صاحب شهرة حافظ نجيب بين الناس، في أوائل القرن العشرين، بما
كتبه عنه
في كتابَيْه «نابغة المحتالين»، و«الراهب المسلم»، فإن أحمد حسين الطماوي هو صاحب شهرة
حافظ نجيب،
في أوائل القرن الحادي والعشرين، عندما كتب عنه مقالته الشهيرة «حافظ نجيب الفيلسوف المحتال»،
في
مجلة «الهلال، أغسطس ١٩٩٤»! فهذه المقالة، كانت السببَ في قيام — وباعتراف — ممدوح الشيخ
بنشر
«اعترافات حافظ نجيب»، تلك الاعترافات التي نتج عنها مسلسل فارس بلا جواد، ذلك المسلسل
الذي أثار
الضجة العالمية السياسية، تلك الضجة التي جعلت الكثيرين، ينهلون وينهبون مقالة الطماوي،
سواء
أشاروا إليه إشارة غامضة، أو صرحوا باسمه على سبيل الذكر — لا العرفان — أو أنكَروه وأنكَروا
جهده!