حافظ نجيب … المسرحي
إذا كان حافظ نجيب، عُرف عنه نظمه للشعر، وتأليفه للروايات وترجمتها، وتعريبه لبعض الكتب الاجتماعية أو الفلسفية، فإن تفاصيل نشاطه المسرحي مجهولة عن الجميع في وقتنا الحاضر، ولم يُكتب عن هذا الجانب المسرحي إلا من خلال إشارتين لشخصي الضعيف، كتبتُهما قبل عرْض مسلسل «فارس بلا جواد» بعدة أشهر! أي قبل أن تحدث الضجة التي صاحبت عرض المسلسل.
ومن الجدير بالذكر أن الإشارة الأولى، تمَّ نشْرها قبل عرض المسلسل بشهرين، في مقدمتي لكتاب «المسرح المصري»، الموسم المسرحي ١٩٢١، الذي أَصْدَرَهُ المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية عام ٢٠٠٢. أما الإشارة الأخرى، فتم نشرها بعد ظهور المسلسل بشهرين أيضًا، في كتابي الأخير «مسيرة المسرح في مصر: ١٩٠٠–١٩٣٥»، الجزء الأول: فرق المسرح الغنائي. الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام ٢٠٠٣. وفي هاتين الإشارتين، تحدَّثْتُ بكلمات موجزة، عن نشاط حافظ نجيب المسرحي، من خلال عمله كممثل في فرقة أولاد عكاشة عام ١٩١٥، ثم تكوينه لفرقة مسرحية خاصة به، كانت تحمل اسمه منذ عام ١٩١٩.
«لم يَبْقَ في مصر عالم أو جاهل، قارئ أو أُمِّيٌّ، صغيرًا أو كبيرًا، رجل أو امرأة، إلا وقد سمع باسم «حافظ نجيب»، وملأتْ أُذُنَيْه نوادِرُه إن صادقةً وإن كاذبةً. وود لو أن رأى ذلك الرجل، الذي تضارَبَتْ فيه الآراء واختلفت العقول، وهو أثناء ذلك كله، إما قابع في داره مشتغل بالتأليف والتعريف، وإما بين جدران السجون، يقضي ما حَكَمَ عليه به القضاء. ولقد شاء الله أن يُحَلَّ ذلك اللغز، ويظهر ذلك المستخفي، ليعرف الناس حقيقته ناصعة، بعد أن شَوَّهَهَا خيال المتحرين. ففي الساعة التاسعة من مساء يوم السبت ٦ فبراير، يُمَثِّل جوق عبد الله عكاشة رواية «بائعة الخبز» بدار التمثيل العربي، ويلقي حافظ نجيب محاضرة في التربية. وهناك يعرف الناس مَنْ هو حافظ نجيب. وتطلب تذاكر تلك الليلة من مكتبة المعارف بشارع الفجالة، وإدارة جريدة الشعب، وإدارة هذه الجريدة، وأجزاخانة المنسي بالسيدة زينب، ومن دار التمثيل العربى. ولا نظن أنا بحاجة إلى حثِّ الجمهور على شهود تلك الليلة الزاهرة.»
لم تَكْتَفِ فرقة أولاد عكاشة باستغلال حافظ نجيب، في إلقاء الخطب قبل التمثيل، بل أقنعَتْه بعد شهرين فقط من الانضمام إليها كممثل ضمن أفراد فرقتها! بل ووصلت معه في الإقناع إلى درجة قيامه بتحويل روايته «الحب والحيلة» إلى مسرحية بالعنوان نفسه، وأن يقوم بتمثيل دوره الحقيقي فيها على خشبة المسرح! وعن هذا الأمر قالت جريدة «الأفكار» في ٩ / ٤ / ١٩١٥:
ومن الجدير بالذكر، أن مسرحية «الحب والحيلة» — كما جاءت في المخطوطة، وكما هي منشورة في هذا الكتاب — تُعْتَبَر فنيًّا أقلَّ من رواية «الحب والحيلة» الأصلية. فعند تحويل الرواية إلى مسرحية، لم يَلْتَزِمْ حافظ نجيب بالأسس الفنية لكتابة المسرحية! فعلى سبيل المثال، لم يهتم بالإرشادات المسرحية، فكان الحوار ينتقل من شخص إلى آخر، بصورة فجائية دون وصْف للموقف، أو شرح للمكان، أو تحليل للظروف النفسية والاجتماعية للشخصيات، وقْت إلقاء الحوار. لدرجة أن جميع الإرشادات المسرحية الموجودة في النص المنشور — في هذا الكتاب — وضَعْتُها بنفسي، بناء على قراءة الرواية الأصلية.
هذا بالإضافة إلى افتعال بعض المواقف، أو إلغائها لصعوبة تنفيذها على خشبة المسرح، فجاءت الأحداث ضعيفة بعض الشيء في بعض الفصول بمقارنتها بالأحداث نفسها، كما جاءت في الرواية الأصلية، والسبب في ذلك راجع إلى أن حافظ نجيب ليس من كُتاب المسرح في هذا الوقت، وكان دخوله في مجال المسرح، دخولًا متعجلًا بسبب استغلال شهرته.
ترك حافظ نجيب المسرح، واهتم بمغامراته النسائية، وأساليبه في النصب والاحتيال، حتى قُبض عليه وأُودِعَ السجن عدة مرات. وفي عام ١٩١٩، وبعد خروجه من السجن في إحدى قضاياه الكثيرة، نشر مجموعة من الإعلانات، قال فيها إنه سيظهر من جديد على خشبة المسرح. وانتهزت هذه الفرصةَ جريدةُ «الإكسبريس»، وقالت في ١٤ / ١٢ / ١٩١٩:
«حافظ نجيب العيار الشهير، رجل مُولَع بالشهرة. خرج من السجن أخيرًا، ورأى أن الناس منصرفون عنه بما هو أهم … فما كان من صاحبنا إلا أنه ملأ البلد إعلانات طويلة عريضة، قال فيها إنه سيظهر على أحد المراسح ليلتين متواليتين. لا ندري ماذا يفعل على المرسح. وكل ما نرجوه أن لا تكون أحبولة لصيد جديد. فإن الرجل لا يهدأ باله إلا بالنط على الشناكل، ولو أدَّاه عمله إلى المشنقة. مصيبة حافظ نجيب في فنه، أو مصيبتنا فيه، أنه كاتب وأديب، ويأبى إلا أن يتعب الناس ويشقوا ويقدموا له المال، وهو راقد على سريره، وإلا سلبهم ما يملكونه بطرق لا يعرفها إلا هو وإبليس.»
ومهما يكن من أَمْرِ رأي الجريدة في حافظ نجيب، إلا أن هذا الرأي يعكس لنا مدى شهرة حافظ نجيب في مغامراته وحيله في النصب والاحتيال. لدرجة أن الجريدة تَعْتَبِر عودته إلى المسرح لعبة جديدة من ألاعيبه في النصب على الآخرين! ولكن يشاء القدر أن يكون حافظ نجيب صادقًا هذه المرة، حيث إننا وجدناه يكوِّن فرقة مسرحية تحمل اسم «الفرقة المصرية» مرة، وتحمل اسمه مرة أخرى. وظلت هذه الفرقة في تمثيلٍ مستمر منذ عام ١٩١٩، وحتى عام ١٩٢١. وقد قامت هذه الفرقة بتمثيل مجموعة من المسرحيات، كتبها حافظ نجيب أو أَلَّفَها، مستغلًّا حوادث حياته وشهرته في أحداثها الفنية. أو بمعنًى آخر، كتب حافظ قصة حياته في مجموعة من المسرحيات، قام بتمثيلها بنفسه، كما سنرى.
وقد قالت جريدة «الإكسبريس» في ٢٥ / ١ / ١٩٢٠، عن هذه المسرحية: «بين الإعلانات التي تَوَزَّعَتْ في المدينة، إعلان وَزَّعَه حافظ نجيب المشهور، وأعلن فيه أنه سيمثل رواية «قوة الحيلة». وقد مَثَّلَها في العاصمة، بعد أن أجهد نفسه، وأفرغ جعبة «حِيَلِه» في الإعلان عنها. وخَرَجَ المشاهدون بعد التمثيل يسألون بعضهم ماذا رأينا؟ وماذا شاهدنا؟ وأين ما وَعَدَتْنا به الإعلانات؟ فلم يجدوا غير جواب واحد، وهو أن صاحب الحفلة، والمُعلِن عنها، هو حافظ نجيب وكفى. وإذا سألت حافظًا عن موضوع روايته، يقول لك: إنها رواية تُمَثِّل حيلتي، وكيف اختفيتُ عن عين البوليس، وتخلَّصْتُ منه كلما طارَدَنِي. وكثيرون من المجرمين المحكوم عليهم، مثَّلُوا مع البوليس روايات مختلفة، وهربوا بأساليب غريبة، فلم يتمكن من القبض عليهم إلا بعد عناء. فإذا كان كل منهم يَتَّجِر بمثل هذه الحيل، وتنخدع العامة بإعلاناتهم المنمقة، وعباراتهم المزوقة، فيربح من جيوبهم مائة جنيه أو مائتين، لعاشوا سعداء، وتمنى كل فقير معدم، أن يرتكب جرمه ويمثل دوره مع رجال البوليس ليسجن، ثم يفارق سجنه، ليمثل دوره ويربح منه الربح الجزيل.»
وإذا نظرنا إلى مسرحية «محور السياسة»، سنجدها تتحدث عن فترتين من فترات حياة حافظ نجيب، الأولى عندما كان مدرسًا، والأخرى عندما أَوْهَمَ البوليس بموته، حتى يتخلص من شخصيته الحقيقية، ويعيش بشخصية البارون، كي يتزوج من سيجريس، كما مر بنا. وعلى الرغم من عدم الربط بين الفترتين، إلا أن حافظ نجيب جمعهما في عمل مسرحي واحد! فجعل الفترة الأولى مقدمة للمسرحية، والفترة الثانية فصول المسرحية بكاملها!
وعن هذه الدروس الخصوصية، كتب حافظ مقدمة المسرحية، والتي تحكي عن قيامه بإعطاء الدروس الخصوصية لإحسان، التي تقع في حبه، ولكنها تكتشف علاقاته النسائية، وأنه يوقع بالحسناوات من أجل إشباع شهواته؛ لذلك تُصَمِّم إحسان على علاج حافظ من نزواته، بأن تجعله يحبها لشخصها، لا لجسدها. وهذه الأحداث صاغها حافظ مرة أخرى على شكل قصة قصيرة، نشرها مرتين في مجلتَي «العالمين» و«الحاوي» عامَيْ ١٩٢٤ و١٩٢٥، بعنوان «لحْد الفضيلة»، كما مر بنا.
وإذا كانت مسرحية «الحب والحيلة» جاءت ضعيفة بعض الشيء، عندما صاغها حافظ في الأسلوب المسرحي، بعد أن كانت قوية في أسلوبها الروائي، فإننا نجده يعكس الأمر — بعد أن تَمَرَّسَ في الكتابة المسرحية — حيث كانت مسرحية «محور السياسة» أفضل وأقوى من حيث البناء والحوار، من قصته «لحد الفضيلة»!
بعد ذلك ترك حافظ نجيب المسرح، وتفرَّغ إلى عمله الصحفي في عام ١٩٢٣، كما مر بنا، ولكنه ارتبط بالمسرح في هذه الفترة، من خلال كتاباته النقدية. ففي مجلة «العالمين» بتاريخ ٣١ / ١٢ / ١٩٢٣، وتحت عنوان «مسارح التمثيل»، قال حافظ: «طلب إلينا الكثيرون من قُرَّاء «العالمين» الكتابة عن مسارح التمثيل في مصر، وقد امتنعنا عن طَرْق هذا الباب لأن مسارحنا لم تبلغ الكمال الذي نتمناه لها، ولم يَبْلُغ أصحابها حدَّ احتمال النقد النزيه، وكلها في حاجة إلى النقد إذا كانت تطمع بالارتقاء وبلوغ حد الكمال الذي وصلت إليه المسارح الكبرى في الغرب. امتنعنا عن الكتابة في التمثيل حتى ضَجَّ مِنْ سكوتنا الكثيرون واتهمونا بالتقصير في تأدية الواجب، وساقنا أحدهم بالإكراه لمشاهَدة رواية «المهراجا» … كنا مخطئين حين ظننا أن الكتابة في التمثيل ستكون قاصرة على النقد الجارح. أخطأنا حقيقة وكانت رواية «المهراجا» أوضح دليل على خطأ من يسيء الظن بالشيء قبل رؤيته ووزنه.»
ثم وجدناه يُحلل مسرحية «المهراجا» لفرقة رمسيس، تحليلًا نقديًّا واعيًا، ومتفهمًا لمهمة النقد والناقد، رغم مبالغته بعضَ الشيء في مَدْح العمل بأكمله! ومن الملاحَظ أن قدرة حافظ نجيب النقدية في هذه المسرحية، جاءت بسبب أن المسرحية تتحدث عن نفسية الرجل والمرأة في الحب والحياة، وما يتعلق بهذه الأمور من الناحية الاجتماعية. وهذه الأمور الفلسفية والاجتماعية هي من صميم تخصُّص حافظ نجيب ككاتب وأديب، وأبلغُ دليل على ذلك كتبه الاجتماعية، التي تحدَّثْنا عنها سابقًا. وقد عاد حافظ مرة أخرى إلى الكتابة النقدية المسرحية، من خلال مقالته في باب «أبحاث اجتماعية»، عن منيرة المهدية، التي نُشرت في مجلة «الحاوي» في ٩ / ٢ / ١٩٢٦.
وقد قالت مجلة «الفنون» في ٣١ / ١٠ / ١٩٢٦، تحت عنوان «حافظ نجيب في رواية بم بم على مسرح برنتانيا»: «انتقى حافظ نجيب كل الظروف ووَضَعَها في رواية بم بم، الفصل الأول محاورات جميلة، فكاهات بديعة، وأَبْدَعُ ما فَعَلَ أنه ظَهَرَ على المسرح يمثل الرجل الأبله، فما رأى المتفرجون حافظًا في ثوب، حتى كادت تنشق قلوبهم من الضحك. وأنا واحد من الناس خِفْت أن يغمى عليَّ من السرور، فتركْتُ القاعة وهَرَبْتُ. وأما الفصل الثاني، فإني أؤكد للقراء أنه ليس في مقدور إنسان، أن يستمر على مشاهدته للآخر، فإنه ألعن من الأول. لكن حافظ الأبله كان شوية نبيه. وأما في الفصل الثالث، فيجب على محبي حافظ أن يمسكوا أنفسهم ويتشجعوا، حتى يروا آخر الرواية. الرواية حلوة، وحافظ جميل جمال خاص به، فهو جميل من حيث إن وجهه لا يشبه وجوه بني آدم، لا في فمه ولا في عينيه ولا في أنفه ولا في حاجة أبدًا. حافظ لا شبيه له من الحيوانات، ولا من النباتات، ولا من الأحجار. حافظ يشبه حاجة واحدة فقط، حاجة غير محسوسة. وحافظ هو السرور في جسم، في جسم خاص بحافظ، فلا يَرَى حافظًا غاضبٌ إلا ويرضى، ولا حزين إلا ويفرح. وكان حافظٌ وجوقُه وروايته على المسرح السرورَ مجسَّمًا. وقد أقبل عليه الهواة إقبالًا عظيمًا. فاذهبوا وانظروا حافظًا ثم احكموا فيما ذكرْتُه فيه.»
وقد أعادت الفرقة تمثيل هذه المسرحية يوم ١٢ / ١١ / ١٩٢٦، على مسرح برنتانيا أيضًا، وقد أعلنتْ عن ذلك مجلة «الفنون» يوم ٧ نوفمبر، بعد أن كتبت ملحوظة في نهاية الإعلان، قالت فيها: «كل من يحمل محفظة نقود، يسلمها قبل الدخول لشباك التياترو. وكل سيدة لها حُلِي تُودِعه في محل الأمانات بالتياترو»! وهذا طبعًا من باب الفكاهة، بسبب شهرة حافظ نجيب في النصب والاحتيال، تلك الشهرة التي لازمته طوال حياته.
وفي يوم التمثيل الموافق ١٢ / ١١ / ١٩٢٦، أَصْدَرَ حافظ نجيب العدد قبل الأخير من مجلته «الحاوي»، وهو عبارة عن نشرة إعلانية مكوَّنة من أربع صفحات، كانت تُوَزَّع مجانًا على الجمهور، كدعاية لمسرحية «بم بم». وفيها من المعلومات أن فرقة حافظ نجيب تُقَدِّم حفلتين مسرحيتين كل شهر. وأن مسرحية «بم بم» «أقوى فودفيل ظهرت على المسارح … ليس بها حركات بهلوانية، ولا نكات حشاشين. إنما قوتها المضحكة في سوء التفاهم المستمر، والمفاجآت المتعددة، والمواقف التي أوجدها الكاتب المحتال «حافظ نجيب»، ليضحك الجمهور أو يضحك عليه»، هذا بالإضافة إلى أن محلات بلاتشي وحاييم للموبليا، هي التي تقدم الديكورات والأثاث والإكسسوارات الخاصة بمسرحيات فرقة حافظ نجيب.
وبعد تمثيل مسرحية «بم بم»، كتب ناقد مجلة «الفنون» مقالة عنها في ٢١ / ١١ / ١٩٢٦، قال فيها: «حضرنا تمثيل هذه الرواية في يوم الجمعة الماضية في تياترو برنتانيا، فكان التمثيل بديعًا، والموضوع يدل حقيقةً على عبقرية مؤلفها، الأستاذ حافظ نجيب النابغة في كل أعماله. ألَّفَ الرواية حافظ نجيب، وعلَّم فرقته تمثيلها، وظهر على خشبة المسرح، فكان نعم الكاتب ونعم الممثل. ظهر محاميًا وطالبًا للزواج، فأضاع لباقة المحامي بحياء موقفه الجديد، ثم أخذ ينتقل في التمثيل من فصل إلى آخر، فكان يُدْهِش النظارة بمفاجآته ونكاته، ويُرَوِّح عنهم هموم اليوم بسرعة خاطره. أما العروس التي جاء يخطبها، فقد أظهرَتْ في التمثيل كل النجاح … وقابلها الجمهور عقب كل موقف بالتصفيق الحاد والتهليل، وتمنى كلُّ من أسعده حظه برؤية هذه الفرقة أن تستمر في عملها الجديد. أما والد العروس فكان مع كبر سنه خفيفَ الظلِّ رشيق الحركات، وهذا أيضًا من حُسن اختيار حافظ نجيب النابغة الأصلي. وكان الخادم الذي اشتغل في الفندق ثم اشتغل بعدئذ في خدمة العروس «زوج المحامي»، طلق اللسان جريئًا، كثير التوريات. ومع كل هذه المفارقات فالإعجاب به كان عظيمًا والتصفيق حادًّا. وقد خرج المتفرجون مسرورين، يغبطون النابغة حافظ نجيب على فرقته، ويتمنَّوْن له استمراره في العمل لخدمة هذا الفن، وأن يكون جديدًا لا بليدًا في إخراج الروايات، حتى لا يقل عن يوسف وهبي أو الريحاني، اللذين يجهدان نفسهما لجذب الجمهور لمسرحهما. فاللهم وفِّق كل ظريف كحافظ نجيب.»
وهذا القول يُضيف إلينا معلومات جديدة، منها: إن حافظ نجيب لم يكن مؤلِّف المسرحية وممثلها فقط، بل كان مُخرجها أيضًا. فقد كان حافظ فيما مضى يعتمد في إخراج مسرحياته، على الفنان حسن الباردوي «المدير الفني للفرقة». ولكن في هذه المسرحية كان حافظ نجيب «مُعلمها» أي مُخْرجها. وأيضًا علمنا من هذه المقالة، أن حافظ نجيب نجح كممثل كوميدي، مثلما نجح كممثل تراجيدي في مسرحياته السابقة! هذا بالإضافة إلى أن المقالة، تعكس لنا الإقبال الجماهيري الكبير على مسرح حافظ نجيب، ذلك الإقبال الذي فاق إقبال الجمهور على مسرحَيْ يوسف وهبي ونجيب الريحاني في هذا الوقت! وأخيرًا نجد كاتب المقال، يُكرر كلمة «النابغة»، ويُقْرِنها باسم حافظ نجيب، وهذا يدل على أن تأثير كتاب «نابغة المحتالين» على القراء، ما زال مستمرًّا حتى هذا الوقت. ولا ننسى أيضًا كلمة «ظريف» في نهاية المقالة، التي تُشير إلى حافظ نجيب، تشبهًا بأرسين لوبين «اللص الظريف»!
وفي يوم العرض الأول لمسرحية الهوسة، ذهب الناقد الفني لمجلة «الفنون»، بدعوة شخصية من حافظ نجيب، كي يشاهد المسرحية ويكتب عنها! وبالفعل ذهب الناقد بناءً على دعوة صاحب الفرقة ومؤلف ومُخرج وممثل المسرحية «حافظ نجيب»، وكتب مقالة قصيرة جدًّا، نشرها في عدد المجلة بتاريخ ٣ / ٤ / ١٩٢٧، قال فيها: «حافظ نجيب محاط بالعجائب والغرائب دائمًا، وأَعْجَب ما شهدناه أننا دُعينا منه لحضور رواية «الهوسة»، التي سيمثلها على مسرح سميراميس. ولكن ما كان أعظم دهشتنا، إذ ذهبنا في الموعد المحدد، فإذا بالتياترو موصد الأبواب! فسألنا، فقال أحدهم: إنه يستريح الليلة ليستعدَّ لتمثيل رواية «بم بم»! وقال آخر: إنه لم يجد إقبالًا عليه فعطَّلَ التمثيل! وقال ثالث: إنه أراد أن يَضْحَكَ من الناس ويهزأ بهم! وعلى أية حال فقد ذهبنا فلم نجد لا حافظ نجيب، ولا فرقة حافظ نجيب، والسلام!»
وكانت هذه الكلمات، آخر كلمات نُشِرَتْ عن حافظ نجيب كمسرحيٍّ! فلم نسمع عنه كمسرحي بعد ذلك، ولم نجد أية إشارة تدل على تمثيل مسرحية «الهوسة»، ولم نجد أي خبر عن فرقته! وهكذا يُسدَل الستار على نشاط حافظ نجيب المسرحي، ذلك النشاط الذي كان مجهولًا للجميع، قبل صدور هذا الكتاب، الذي نتوجه — في الصفحات التالية — بنشر مخطوطتين لمسرحيتَيْ «الحب والحيلة» و«محور السياسة»، وهما من الآثار الأدبية النفيسة للأديب حافظ نجيب! حيث إنهما من تآليفه النادرة، التي لم تُنْشَرْ منذ عام ١٩١٥!
أما الانطلاقة الفنية الكبرى لفرقة عكاشة، فجاءت عندما ساندها بالمال مجموعة من رجال الاقتصاد والسياسة في ذلك الوقت، ومنهم: عبد الخالق مدكور باشا، وطلعت حرب بك، وفؤاد سلطان، ويوسف قطاوي باشا، حيث خصصوا للفرقة مقرًّا ثابتًا هو مسرح حديقة الأزبكية، الذي افتتحته الفرقة يوم ٣٠ / ١٢ / ١٩٢٠. وظلت الفرقة تمثل عليه طوال ثلاثة مواسم متتالية دون توقُّف. وظل النجاح الباهر ملازمًا للفرقة حتى عام ١٩٢٦، عندما دَبَّ الشقاق بين الأخوين زكي عكاشة وعبد الله عكاشة، حيث خرج الأخير من الفرقة، وكوَّن مع زوجته فكتوريا موسى فرقة باسمها. وبدأت نهاية فرقة عكاشة تُكْتَب بيد أبنائها، عندما لجَئُوا إلى القضاء لِفَضِّ النزاع بينهم، وتحوَّلَ مسرح حديقة الأزبكية إلى دار للسينما، وإلى بوفيه لقضاء وقْت الفراغ، وتقديم المشروبات والمرطبات للزبائن.
كل هذا في عام ١٩٢١! وبعد عودته أَشْهَرَ إسلامه وتزوَّجَ من فاطمة رشدي، وأَطْلَقَ على نفسه اسم «محمد المهدى»، ثم انضم هو وزوجته إلى فرقة رمسيس منذ نشأتها عام ١٩٢٣، وظل معها حتى عام ١٩٢٧، عندما انفصل عنها بمصاحبة زوجته، التي افتتحت فرقة خاصة بها، كان عزيز مخرجها وممثلها الأول حتى عام ١٩٣٣، حيث تم الطلاق بينهما. وانضم عزيز إلى فرقة رمسيس مرة أخرى عام ١٩٣٤، ثم تركها وكوَّن فرقته الثامنة عام ١٩٣٥، التي لم تستمر، فانضم إلى الفرقة القومية المصرية منذ افتتاحها عام ١٩٣٥، وحتى عام ١٩٣٨، وتركها على أثر خلاف بينه وبين مدير الفرقة خليل مطران، فكوَّن عزيز فرقته التاسعة عام ١٩٣٩، التي توقفت سريعًا، فانضم مرة أخرى لفرقة فاطمة رشدي، التي كانت تقدم أعمالها في الكازينوهات، ثم انضم إلى صالة ببا عز الدين، وظل بها فترة من الوقت، حتى أُصِيبَ بالمرض وتُوُفِّيَ يوم ١١ / ٨ / ١٩٤٣. وقد تَرَكَ لنا مجموعة ضخمة من المسرحيات التي أَلَّفَها أو ترجمها أو اقتبسها، منها: «مباغتات الطلاق»، «الإرث المغتصب»، «الطلاق»، «حنجل بوبو»، «لوكاندة الأنس»، «سيرانو دي برجراك»، «ملك الشعراء»، «الذئاب»، «لزقة إنجليزي»، «الشرف»، «الرئيسة»، «الحقد»، «كن الزيزفون»، «قضية السموم»، «المائدة الخضراء»، «أما ليلة»، «القرية الحمراء».