مقدمة
هذا كتاب نعرض فيه بعض آراءٍ كُتبتْ بالإنجليزية عن الأدب السوفييتي؛ أي الأدب الذي ظهر في روسيا منذ نشوب الثورة الشيوعية سنة ١٩١٧، وليس معنى ذلك أننا سنتحدث عن الأدب الذي ظهر في جميع أجزاء الاتحاد السوفييتي؛ لأن كل إقليم من أقاليم الاتحاد السوفييتي له أدبه الخاص به، وقد شجعت روسيا الحديثة هذه الآداب الإقليمية — إن صح هذا التعبير — ولكن هذه الآداب الإقليمية تختلف في لغتها ولم تُكتب باللغة الروسية، بينما سيكون حديثنا في هذا الكتاب عن الآداب التي ظهرت في روسيا السوفييتية وكُتبتْ باللغة الروسية.
من الطبيعي أن الأدب السوفييتي هو استمرار تيار الأدب الروسي الذي كان قبل الحرب العالمية الماضية، وقبل الثورة الشيوعية، ولكنَّ هناك حقيقة لا نستطيع أن نغفلها، تلك أن الثورة الروسية قامت بتجديد كل مظاهر الحياة الروسية، من اجتماعية وسياسية واقتصادية، وكذلك كان لهذه الثورة أثرها في الثقافة والأدب، ولذلك نستطيع أن نقول: إن تاريخ الأدب السوفييتي إنما هو تاريخ المحاولات التي بذلتها الحكومة الشيوعية لخلق لون من الأدب يتفق مع أغراضها وبرامجها، ومن هنا اختلفت هذه المحاولات باختلاف أغراض الشيوعيين وبرامجهم، فحينًا نرى الشيوعيين يسيطرون على الشئون الأدبية سيطرة تامة ويفرضون على الأدب رقابة شديدة لا تكاد تعرفها أشدُّ الأمم إمعانًا في الدكتاتورية، وحينًا آخر نراهم يضطرون إلى إلغاء هذه الرقابة ويتركون للأدب شيئًا من حريته، فلكي نستطيع أن نعطي صورة صحيحة أو قريبة إلى الصحيحة للأدب السوفييتي يجب ألا نغفل الحديث عن سياسة الحكومة نحو المسائل الأدبية، فمن سنة ١٩١٧ حتى سنة ١٩٢١، وهي الفترة التي تعرف بفترة الحرب الشيوعية، يمكننا أن نختصر القولَ بأنْ نَصفها بأنها عهد تحلل في التقاليد الأدبية الروسية، وعهد اضطراب في المناقشات التي جرت بين المذاهب الأدبية، ولكن هذه الظاهرة بدأت في الواقع قبل الثورة الشيوعية، بل قبل الحرب الكبرى الماضية؛ ذلك أنه عندما بدأ القرن العشرون كان في الأدب الروسي مذهبان أساسيان: المذهب الواقعي والمذهب الرمزي، فالمذهب الأول كان البقية الباقية من العصر الذهبي للرواية الروسية التي تقوم على التحليل النفسي والواقع الملموس، ولكن هذا المذهب الواقعي قد تطور بعض الشيء، ويتمثل تطوره في فنِّ تشيكوف، هذا الفن الذي اقتدى به كل كتَّاب المذهب الواقعي منذ بدأ القرن العشرون.
استغل السوفييت في السنوات الأولى من حكمهم «أدباءَ المستقبل»، ولكنهم سرعان ما فكروا في خلق طبقة خاصة من الأدباء والفنانين تكون في خدمة دكتاتوريتهم الشعبية بدلًا من أدباء المستقبل، فأوجدوا ما يُعرف بحركة «الثقافة الشعبية»، وأنشئوا معاهد لتدريب العمال ذوي الميول الأدبية على قرض الشعر وكتابة القصص والروايات على أيدي أساتذة أخصائيين في هذه الفنون، ولكن هذه التجربة باءت بالفشل كغيرها من تجارب الحزب الشيوعي الروسي في كل مرافق الحياة، ثم فكر أولو الأمر في وضع نظم جديدة لخلق أدب يناسب نظم المجتمع الروسي الجديد، وسنرى في هذا الكتاب كيف تطورت هذه النُّظم.
وبعد أن انتهت الحرب الأهلية ووضع نظام السياسة الاقتصادية الجديدة، هبَّ الأدب من رقدته وكوِّنت جمعيات النشر، ونفقت تجارة الكتب وأُطلقت الحرية الفنية والأدبية من قيودها، عاد عدد كبير من أدباء الشباب إلى الحياة السلمية الهادئة بعد أن قضوا أيام الثورة في صفوف الجيش الأحمر، وبعد أن زودتهم الحرب الأهلية بمادة غزيرة واسعة تصلح أن تكون موضوعات أدبية وفنية قيمة، ولذلك نستطيع أن نطلق على الفترة من سنة ١٩٢١ إلى سنة ١٩٢٤ «عصر أدب الثورة»، بل نستطيع أن نقول: إن الثورة أصبحت الموضوع الأساسي في الأدب الروسي منذ ذلك الوقت؛ لأنَّ كل الكتابة الفنية التي ظهرت إذ ذاك إنما هي في وصف الثورة وفي الإشادة بأغراضها، فكأنها سجلٌّ ووثائق تاريخية كُتبت للأجيال القادمة، فنرى في كتاباتهم وصف الثورة وتمجيد أبطالها وحرب العصابات على حدود روسيا ومجاعة سنة ١٩٢١ والتشرُّد في أرجاء روسيا الفسيحة، وغيرها من الموضوعات الهامة التي هي في الحقيقة الموضوعات الرئيسية عند كل الكتَّاب. ونرى من الناحية الفنية أن هؤلاء الكتَّاب لم يأبهوا بصياغة كتاباتهم فقد أرادوا تسجيل ما شاهدوه أو ما سمعوه، فكانت السرعة رائدهم، فأهملوا النواحي النفسية والتحليلات التفصيلية في قصصهم، وإن كان بعضهم قد تلاعب باللفظ وأكثرَ من الزينة اللفظية في كتاباته، أما في الروايات الطويلة كالتي نراها في روايات بلينياك ونيكيتين وماليشكين وغيرهم فلا نجد فيها وحدة الموضوع، ولا ترتيب سياق الحوادث، بل قد لا نرى وحدة في الحوادث نفسها، فقد كانت المحنة القاسية التي مرَّت بهؤلاء الأدباء الشبَّان أثناء الحرب الأهلية سببًا في أن يتعودوا كيف يواجهون المناظر المخيفة المؤلمة بدون خوف، ويستخفون بكل شيء فظهر أثر ذلك في كتاباتهم.
وبعد سنة ١٩٢٤ ظهر أدب جديد له مميزاته وخصائصه، وعاد إلى الرواية شيء من مكانتها الأولى الرفيعة، فكادت تصبح أهم عنصر في الأدب السوفييتي، ونشط الكتَّاب الأدباء نشاطًا ملموسًا، وكثر إنتاجهم الأدبي كثرة بحيث يصعب استقصاؤه أو الحديث عنه بأكمله.
- (1) Cross, Samuel: Notes no Soviet Literary criticism.
- (2) Grierson, Philip: Books on Soviet Russia.
- (3) Life & Literature in The Soviet Union by Montagu and others.
- (4) Mirsky, D. S.: Contemporary Russian Literature.
- (5) Pares Bernard: Russia.
ونستطيع أن نقول: إنه المنبع الذي استقيتُ منه أكثر ما في هذا الكتاب.
أضف إلى ذلك ما ورد في بعض المجلات الأدبية الروسية التي بمكتبة صَدِيق من الروس البِيض، أبى عليَّ أن أذكر اسمه في هذا الكتاب بالرغم مما أدَّاه لي من مساعدة قيِّمة، فقد قرأ معي أكثر ما ورد في هذه المجلات الأدبية، وأطلعني على أهم ما في هذه المقالات، ولا سيما آراء نقاد السوفييت. فله مني النصيب الأوفر من الشكر.