كاتبان خياليان
(١) بابل
بعد أن هدأت الحرب الأهلية في روسيا، وقبل ظهور الكتَّاب الذين حاولوا إعادة مجد الرواية الواقعية النفسية، ظهر كاتب عُدَّ في سنة ١٩٢٤ من أشهر كتَّاب الشباب السوفييتي، ومن أكثرهم موهبة طبيعية في الأدب، نشأ في أسرة يهودية ثرية محافظة على التقاليد اليهودية محافظة شديدة، ودرس في إحدى المدارس الثانوية بأوديسا، وفي الخامسة عشرة من عمره وجد في نفسه ميلًا قويًّا للتعمق في دراسة اللغة الفرنسية والآداب الفرنسية، فعكف على قراءة أدباء فرنسا حتى اعتبرهم أساتذته الأولين في الأدب، وكان لذلك أثر قويٌّ في شخصيته الأدبية، حتى إن قصصه الأولى التي كتبها في شبابه كانت باللغة الفرنسية، وهكذا كان هذا الأديب نتيجة للمزج بين تقاليد أسرته اليهودية التي شب مستمسكًا بها، وبما درسه من اللغة العبرية واللاتينية ودراسة التلمود، وبين سلامة لغته الفرنسية وتذوقه للآداب الفرنسية، وبين الأثر العميق الذي كان للثورة الروسية بما فيها من عناصر خيالية، وما كان فيها من مآسٍ مفجعة، هذا المزج أثر في هذا الأديب تأثيرًا قويًّا جدًّا، وربما كانت هذه العوامل مجتمعة هي السبب الذي من أجله أصبح الأديب بابل مليئًا بالمفارقات والمتناقضات.
ويعد بابل أول أديب في الأدب السوفييتي حاول إحياء الأدب القوي الذي يمثل عصره، فهو من ناحية قصصه القصيرة يشبه موباسان الكاتب الفرنسي إلى حدٍّ بعيد — وبابل نفسه يذكر موباسان وفلوبير وجوجول وجوركي بأنهم أساتذته في الأدب — فقصصه بما فيها من وضوح الفكرة وتنوع بنائها، وبما فيها من أسلوب مركز، ظهرت كأنها لونٌ جديد في الأدب السوفييتي، بعد الذي ظهر من كتابات هي أشبه بما تنتجه المحركات الكهربائية، ولذلك عُرف الأدباء الذين كتبوا هذا اللون من الأدب بالأدباء الآليين، ومع ذلك فبابل نفسه لم يخل من نقص من سبقه، فكان في بعض كتاباته صفات الكتَّاب الآليين، واختلف بابل كما اختلف الكتَّاب الآليون عن القصصيين الذين يمثلون المذهب الواقعي والنفسي، الذين كانوا على وشك الظهور، فكأن بابل كانت عنده بعض عيوب الكتَّاب السابقين الذين كانوا يصنعون الكتابة صناعة، ويفرطون في الزينة اللفظية والموضوعات الثورية، ويبغضون أشد البغض المذاهب النفسية، ولكن كانت عند بابل فكرة عن الناحية الشكلية تختلف عما كانت عند غيره من الكتَّاب الآليين، ولذلك لم يردد الموضوعات التي اعتاد الناس قراءتها، ولم ينهج سنن غيره من الكتاب، بل كانت عنده موهبة الربط بين عناصر الأدب أو المقارنة بين الموضوعات المختلفة، وكثيرًا ما كانت تبرز عناصر الأسلوب الرصين في كتاباته، ففي قصصه «الثورة» و«الحرب الأهلية» و«قصص يهودية» يظهر أسلوبه المتمايز الذي لولاه لفقدت هذه القصص أهم مميزاتها.
لبابل مسلك خاص في حياته، فهو يتبع الشهوانيات والزخرف، ويجذبه كل بريق خلَّاب، وكل ما في الحياة من مظاهر غير عادية، ففي «قصص يهودية» أظهر أكثر خصائص الحياة النبيلة، وما كان من يهود أوديسا من شرف ونبل، ولكنه خلط بها أشياء غير عادية، فنراه يتحدث عن عصابات يهودية شريرة وذلك لإثارة الشعور. وفي قصته «الثورة» اتجه بابل لوصف بعض الاتجاهات الخيالية الغريبة، وإلى بعض النواحي غير المألوفة، وكل قصصه عن حياة «الفرسان الحُمر» قد ملئت بهذه الألوان الخيالية. وبابل الذي عُرف عنه رقة الإحساس وبُعد النظر اتضح أنه شديد الكلف بالإيلام وشديد الإفراط في الناحية الفسيولوجية وما فيها من ظواهر الحياة النفسية، فهو يُكثر من الحديث عن النواحي البهيمية من جانبها الفسيولوجي في «الحرب الأهلية»، وكيف انبسطت أساريره على مرأى المخربين والسفاكين والناهبين والذين لا عاطفة لهم، وصور حبه لرؤية الدماء المراقة وغيرها من الغرائز الحيوانية الهدَّامة، ولذلك عندما ظهرت قصة «الفرسان الحمر» علتْ صيحة احتجاج من بودنيش نفسه، وأعلن أنها صورة مشوهة كُتبت من جانب واحد، والحقُّ أن هذه القصة ليست صورًا تدلُّ على حقيقة ما وقع في الحياة اليومية، بل ملئت بالغلو والإطناب والمبالغة الخيالية لبعض الأهواء الإنسانية الخاصة، حتى إن غزله قد أسرف فيه وأطال تطويلًا مثيرًا بالرغم من أن الغزل طبيعي، ولكنه كان قوي الأثر في بابل؛ لأن بابل يحب التفصيلات الفسيولوجية التي يجب ألَّا يعرض لها كاتب، ولكن بابل كان يفصلها مجردة.
ويمتاز بابل أيضًا بالمقارنات، وتكاد كل قصصه تقوم على أساس المقارنات النفسية، ففي «الفرسان الحمر» مقارنة بين القسوة والاندفاع الأعمى في اللذات الشهوانية، وكيف يشعر بها يهودي مثقف قصير النظر ضعيف من الناحية الفسيولوجية لا تتفق نفسه مع الجو المحيط به، وهو مع ذلك كله مثقل بالشكِّ الذي يكاد يكون إلحادًا.
وخيال بابل بالرغم من أنه يرضي العاطفة بما فيه من حنان، فقد سمم — إن صحَّ هذا التعبير — بالتهكم المعروف عن اليهود. لا شكَّ أن بابل كان من أقدر الكتَّاب وصفًا لما في الحياة اليومية، ولكنَّه لم يكن من الكتَّاب الذين يعتمدون على معرفة النفس، وعنده كل الحياة اليومية زخرفة خيالية، وتكاد شخصيات قصصه تعبر عن إلهام خياله أكثر مما تصف الواقع، شأنها في ذلك شأن الشخصيات التي نراها على المسرح بحوادثها الفجائية، ولكني أعود فأقول: إن بابل قبل كل شيء من أصحاب الأسلوب، ومهما كانت الموضوعات التي يعرض لها فهو يخضع موضوعه لأسلوبه، ويجعل الموضوع ثانويًّا بعد فنه في الكتابة، فهو من هذه الناحية قريب من فن فلوبير، ولكنه في مذكراته التي أودعها قصتيه «برج حمامي» و«أول حبي» تغيرت طريقة بابل، فهو أقل تلاعبًا باللفظ، وأسهل في الأسلوب؛ ويظهر ميلًا للتحليل النفسي الذي لا نجد له أثرًا في قصصه الأولى؛ لأن شخصياته كانت ضعيفة هزلية وأودعها قوة ببراعة أسلوبه.
استطاع بابل بسرعة أن يشقَّ طريقه الأدبي، وأن يجمع لنفسه جمهورًا من القرَّاء، وأصبحت له شهرة ذائعة، ولكنَّ ذلك كله قد ضعف إبان مشروع الخمس سنوات الأدبي، فقد ثبت أن تهكمه الخيالي وانفراديته لا مكان لهما، ومن ذلك الوقت لم ينشر بابل شيئًا له قيمة، ولا ندري ما الذي سيتطور إليه أدبه.
(٢) فزيفولود إيفانوف
وهذا كاتب آخر من الكتَّاب الخياليين، ومن كتَّاب الثورة، يتفق مع بابل في بعض خِلال، ولكنه يختلف عنه في أكثرها، فهو يختلف عن بابل في أصله الروسي الصريح، فقد وفَدَ من سيبريا حيث ولد سنة ١٨٩٥، وفزيفولود إيفانوف كغيره من كتَّاب الثورة كانت له عدة مخاطرات، وعمل في عدة أعمال؛ منها مُهرِّج في سيرك، ومؤلف موسيقى! وهو يشبه بابل في أنه بدأ في كتابة أول قصة له سنة ١٩١٦ وأرسلها إلى جوركي الذي نصحه بأن يقرأ كثيرًا ويحفظ أكثرَ قدرٍ ممكن قبل أن يبدأ الكتابة. وإبان الثورة ساهم في الحرب الأهلية، ولا سيما في المواقع التي جرت بسيبريا وآسيا الوسطى، ثم قرض الشعر.
وأول مجموعة قصص نشرها سنة ١٩٢١ وهي تتحدث عن الحرب الأهلية، وظهر فيها أنه أحد الذين يمثلون الكتَّاب الآليين في الأدب الروسي، واتضح أنه كان ينتمي إلى جماعة إخوان سيرابيون، فإن إحدى قصصه نشرت في تقويمهم، ولعل أجود ما كتبه في بدء حياته الأدبية قصة «القطار المسلح رقم «١٤–٦٩»»، وهي من قصص الحرب، وقد اقتبست أخيرًا للمسرح ولعبت على مسرح الفن بموسكو، وكتب «الرياح الملونة» و«رمال السماء الزرقاء»، وهما على هيئة الروايات، ولكن من الصعب أن نعتبرهما روايتين؛ لعدم وجود الوحدة في كل منهما، ولغموض محوريهما، فهما من القصص الآلية على نمط أكثر قصص هذا العهد، ملأها الكاتب بالزخرفة والتلوين، وأشهر ما يمتاز به إيفانوف مقطوعاته الغنائية في فَناء الإنسان وحبه للطبيعة، مما يجعله قريبًا من الصوفية. وهو في حياته قريب من الصوفية؛ لأنه يحب أن يقيم في أجواء خارجة عن وعيه، وفي حياة لا يعرف لها غرضًا، ويأتي بأفعال خلقية لا معنى لها حتى إنه لا يعرف الدافع المحرك لها، ووراء هذا كله نجد حزنًا أساسه التشاؤم يسير مع ملاذ الكاتب في الحياة، فهو مثل بابل سبقت لهما مآسٍ لم تكن متوقعة انعكست عليهما بصور وجدانية خيالية، والحياة عند إيفانوف قاسية عديمة الشعور، والإنسان في نظره ما هو إلا دمية في أيدي الظلمات والأهواء العمياء «نفس الرجل مثل نفس الدب لا تستطيع أن تجد طريقها»، هذا ما قاله إيفانوف عن سلوك الإنسانية الذي لا غرض منه.
وفي سنة ١٩٢٣ نشر رواية قصيرة بعنوان: «عودة بوذا» كتبها بأسلوب جديد، ونمط لا نعهده في كتاباته، فهو لم يسرف فيها في التصنع اللفظي، وكان أُفُق تفكيره أوسع مما في غيرها. حاول إيفانوف بعد ذلك أن يمرن نفسه على كتابة رواية سياسية عامَّة، ولكنه فشل؛ وفي سنة ١٩٢٧ نشر كتابه «سر الأسرار»، وهي قصص ريفية يتمشى فيها مع تطور الأدب السوفييتي، إذ تقدم إيفانوف نحو الحقيقة الواقعة؛ أي إلى المذهب الواقعي مع دراسة نفسية، وأخذ أسلوبه يلين ويستقيم، ففي هذه القصة يرينا حياة الريف من وراء ستار التيارات النفسية لشخصيات القصة، وفي الوقت نفسه يرينا الحياة الإنسانية التي تسير دون قصد، ومن غير شعور، فكل أبطال القصة يحويهم ظلام حالك وأهواء عنيفة تسيطر على أعمالهم، حتى اضطروا إلى أن يستسلموا نهائيًّا.
وفي كل قصة من هذه المجموعة شعور بحزن أليم كأنها مأساة، ومن هذا التشاؤم — إن صحَّ أن نسميه كذلك — ومن إسراف الكاتب في الخضوع للقدر، رأى النقَّاد الشيوعيون أن هذا مظهر من مظاهر انحراف إيفانوف عن مبادئ الثورة!
ومن قِصص إيفانوف التي كتبها بعد سنة ١٩٢٥ قصة تختلف عن أكثر ما كتبه من ناحية أسلوبها البسيط السهل، وعدم ظهور التكلف والصنعة في تراكيبه، ثم محاولة الاتجاه إلى الرمزيات، كما أن هذه القصة تظهر فيها روح الفكاهة والسخرية أكثر مما في قصصه الأخرى، تلك هي قصة «قطن فرغانة» التي يصف الكاتب فيها العداء المستحكم بين ممثلي مدنيتين: مدنية روسيا الشيوعية ومدنية إمبراطورية رأسمالية، وقد اتخذ ممثلها أحد الإنجليز رمزًا لكل المستعمرات والحكومات غير الشيوعية، ثم يرينا الكاتب في هذه القصة كيف كان الروسي والإنجليزي يعيشان مرهقين فاترين في بلدٍ صغير في آسيا الوسطى، وكيف كان الروسي الشيوعي يجدُّ في شراء قطن لحكومته السوفييتية، وكذلك الإنجليزي كان يريد شراء القطن للشركات الإنجليزية، وكيف كان الإنجليزي يعمل جاهدًا لإحباط كل صفقات الروسي، ويتخذ لذلك سُبلًا ووسائل خفية، حتى تبرَّم به الروسي وقابل مكرَ الإنجليزي بمكر، وقابل الخديعة بالخديعة، حتى تعب كل منهما من صاحبه، وفكر كلٌّ منهما في التخلص من حياة الآخر، ولكن كانت هناك بواعث خفية وإحساسات داخلية، جعلت كل منهما يبقي على حياة الآخر، وينتهي هذا الصراع بأن أصبح الاثنان صديقين حميمين. الظاهر من هذه القصة أن الكاتب أراد أن يوضح نظرية لها قيمتها هي أن الميول الإنسانية ترقى فوق كل سياسة وتسمو على كل الاشتراكية وغير الاشتراكية من المذاهب التي أدت إلى اختلاف الناس.
وفي قصة أخرى يتحدث عن طباع الناس، ولكن من ناحيتها المحزنة تلك هي قصة «الإله ماتفي» التي تعدُّ من قصص الحرب الأهلية، وأشخاص القصة هم: «دينزيوك» وهو قومسير بالجيش السوفييتي، وهو رجلٌ طيب القلب، اعتنق الشيوعية وآمن بمبادئها، فهو لا يأبه بشيء إلا بقتال أعداء الشيوعية، وهناك شخصية «ماتفي» ذلك الفلاح الذي سمى نفسه «إلهًا»، والذي أخذ يدعو زعماء الحرب الأهلية للسلم وعدم قتل الإخوان والوطنيين في حرب أهلية لا ضرورة لها، وكان يصرِّح بأنه معصوم من كل سوء، ومصان من كل مكروه، فكان يمشي بين خطوط القتال وتحت المقذوفات النارية يبشر الناس بدعوته إلى السلام والوفاق ونبذ الحروب، ولكن أخذه الشيوعيون، وأحضروه بين يدي دينزيوك الذي باشر التحقيق معه، فأمر بامتحانه فيما نسبه إلى نفسه من العصمة، فأمر بأن يركب ماتفي حصانًا أمام خطوط الجيش الأحمر، وأن تطلق عليه النيران، فلما تم ذلك خر الحصان الأبيض صريعًا، أما ماتفي فقد جرح فقط، ثم يرينا الكاتب كيف ذهب إليه دينزيوك وكيف سخر ماتفي منه وتهكم به، ولكن دينزيوك اضطر إلى أن يصوب إليه غدارته، فأرداه قتيلًا بين سخط بعض جنوده وسخرية الآخرين.
وبالجملة فالأديب إيفانوف كان يعمل على أن يكون كاتبًا من كتَّاب المذهب الواقعي، ويقال إنه يكتب مذكراته من خمسة أجزاء بعنوان مخاطرات متصوف.