كتَّاب الروايات
(١) إخوان سرابيون
في سنة ١٩٢١، سنة ١٩٢٢ تطلعت الأنظار في روسيا وخارجها إلى جماعة من أدباء الشباب أطلقوا على أنفسهم اسم «إخوان سرابيون»، وهو اسم أحد شخصيات الكاتب الألماني إ. ت. أ. هوفمان، لم يجمع هؤلاء الكتاب مدرسة أدبية متمايزة لها نظمها في التفكير أو وحدتها في الأسلوب أو في طريقة معالجة القصص، ولكنهم جماعة من الأصدقاء شعراء وكتَّاب جمعتهم صداقتهم، أو بمعنى آخر جمعتهم مواظبتهم على استماع محاضرات الكاتب القصصي زامياتين، وجذبهم ما كان يجري في روسيا إذ ذاك، وشعروا بميْلٍ لوصف وتسجيل ما كان يدور في روسيا دون تميُّز وأقنعوا أنفسهم بأنهم أحرار يستطيعون كتابة وتدوين ما يرون دون خشية السلطات، ولكنهم في تصويرهم لمشاهداتهم صوروا الحوادث من ظواهرها الخارجية، ولم يستطيعوا التغلغل في بواطن الأمور، فهم ليسوا من فحول الكتاب، ولذا كانوا يتبعون في كتابتهم ذلك التيار الجارف الذي سلط على كتاب الوصف، والذين يطلق عليهم الكتَّاب الآليون، فنجد بين إخوان سرابيون من يتبع الكتَّاب الآليين أمثال فزيفولود إيفانوف، نيكولاي نيكيتين، فهما ممن خضعوا لنظم الكتابة الآلية، ومع ذلك نجد بين إخوان سرابيون بعض المبرزين في الأدب الروسي اليوم أمثال زوتشينكو، فدين، كافرين. تشعبت حياة إخوان سرابيون الأدبية، واتخذ كل منهم منهجًا يسلكه، ولكن اثنين منهم على الأقل وهما فدين وكافرين لعبَا دورًا هامًّا في إحياء الرواية الروسية إبان النهضة التي بدأت سنة ١٩٢٤، والتي أدت إلى تقدم الأدب الروسي السوفييتي بعد أن نكبته الثورة الروسية.
(٢) فدين
ولد كونستانتين فدين سنة ١٨٩٢، وهو أكبر إخوان سرابيون سنًّا، وبدأ حياته الأدبية بكتابة قصص قصيرة نلمح فيها تأثير بونين وتشيكوف، وإن كان في جوهر قصصه يختلف عن أستاذيه، نرى له دراما هادئة في أول قصة ناجحة له، وهي قصة «البستان» التي نشرت سنة ١٩٢٠، وموضوعها من حوادث الثورة، ومن الموضوعات التي أحبها فدين، وهو موضوع الصراع بين القديم والجديد، وبطل القصة البستاني العجوز سيلانتي الذي اكتسحت الثورة سيده، واتخذ قصره ملجأ للأطفال ومسرحًا لأغاني الثورة وأناشيدها يرددها الأطفال بنغمات متنافرة، وأهمل البستان الذي كان يتعهده سيلانتي، ولم يأبه به أحد، ويحزن سيلانتي لما أصاب سيده وقصره العتيق وبستانه فيغضب ويثور ويشعل النار في البستان والقصر.
ردد فدين بعض نقط هذه المأساة في قصة أخرى سمَّاها «البقاء» ونشرت سنة ١٩٢٤، وتحدث فيها عن أوقات قضاها رجل عجوز محترم جردته الثورة من ماله، فأمضى وقته يسلي نفسه، ففي هذه القصة تتمثل الحياة الواقعية الهادئة التي لم يشأ الكاتب أن يقحم بها حوادث عنيفة حتى لا يبعدها عن الواقع المحسوس، ولكن الكاتب أضعف هذه القصة بمنظر فكاهي حشره حشرًا في المعركة التي قامت بين هذا السيد الوقور وبين خب مخادع من أجل سيدة مسنة، كان قد أحبها في يوم من الأيام وخدعها!
ولعل القصة التي تنتهي بشيء من السرور هي «قصة الفلاحين» التي نشرت سنة ١٩٢٦، والتي تصف بعض حوادث هامة في حياة راعٍ وابنته، فهذه القصة بالرغم من نهايتها المفرحة، لا تخلو من صور قاتمة للقسوة، والنظرات السوداء لحياة الفلاحين ونفسياتهم، حتى إن من يقرأ هذه القصة يتذكر الكاتب بونين وصيحاته القاسية اليائسة في وصف الفلاحين البائسين.
وكتب قصة جديدة أصيلة في بعض موضوعاتها، وهي قصة «الترنسفال»، وهي رواية طويلة فيها شخصية غريبة وهو البطل «سواكار» وهو من البوير، ووفد على روسيا وأقام في إحدى القرى، وصُوِّر على أنه مثال مجسم للمكر والخبث والخشونة وقسوة القلب، وهو في الوقت نفسه مقدام جسور شديد الأثرة، استطاع هذا الرجل أن يفرض نفسه على كل الفلاحين في القرية التي استقر بها، بل في القُرى التي تحيط بهذه القرية، واستطاع أن يفرض دكتاتورية مالية على كل الفلاحين، وتوصل بذلك إلى أن يتزوج من ابنة رجلٍ محترم مهاب في القرية، وبذلك استطاع أن يسود القرية ومن فيها وكل من له صلة بالقرية، عندما نشرت هذه القصة لأول مرة قابلها نقَّاد السوفييت بمناقشات عنيفة في الصحف، وذهب أكثر النقَّاد إلى أن فيدين خالف في روايته مبادئ الثورة، وهذا عجيب؛ لأن فيدين صور سواكار بصورة دكتاتور خبيث ماكر، ولم تشفع له هذه الصورة، بل اتهم بأنه ظهر مخالفًا للثورة!
ووضع فيدين عدة قصص لم يتحدث فيها عن الثورة إطلاقًا مثل قصة آنا تيموفيفنا، وهي قصة طويلة تتحدث عما صادفته إحدى السيدات من متاعب الحياة، وعن تضحية النفس، وفيها وصف ممتع دقيق للشقاء والبؤس والخمول الذي يحيط حياة القرى الريفية، وهذه القصة تذكرنا بقصص جوجول وبزيمسكي من كتاب ما قبل الثورة، وبكتابات ريمزوف وزامياتين من الكتَّاب المحدثين.
وله قصة أخرى بعنوان «صباح» نشرها سنة ١٩٢١، وهي قصة ريفية أيضًا تمثل الريف قبل الثورة، وتصف بعض نواحيه الاقتصادية، وبطل هذه القصة خناق كان قبل أن يستخدم لشنق المجرمين مجرمًا سفاكًا، وقد أسندت إليه وظيفة الشنق ورحَّب هو بها؛ لغريزة سفك الدماء في نفسه وتطبعه بالإجرام، وقد صوره الكاتب أنه في غير أوقات عمله الرسمي يتردد دائمًا على كنيسة، وأنه رجل عاطفي يحب الطيور ويشفق عليها، وهنا تظهر مهارة الكاتب في الجمع بين غريزة الإجرام وغريزة الشفقة، وتظهر مقدرته مرة أخرى في وصفه الدقيق لشنق أحد السفَّاحين وصور كل الأشخاص الذين حضروا الشنق، فقد وفق فدين في قصته هذه، ولا سيما في سبك موضوع القصة وتسلسل حوادثها …
ولعل أول رواية طويلة كتبها هي «مدن وسنوات» التي نشرها سنة ١٩٢٤، ونستطيع أن نقول: إنها أول محاولة في الأدب السوفييتي لتصوير الثورة الروسية بصورتها الواقعية التي لا محاباة فيها، وهي لا تثير الشعور بالشفقة من ناحية الحياة التي وصفها فحسب، كما هو الأمر في كتابات بلنياك وفزيفولود إيفانوف وغيرهما من الكتَّاب الآليين، إنما هي مثيرة لما فيها من تحقيقات عميقة وتحليلات نفسية، حتى يخيل إلينا أنه إنما أراد بكتابة هذه القصة ووصف ما وصفه من حوادثها أن يشير إلى محركي الثورة ويرشدنا إليهم لنقتصَّ منهم؛ ولذلك قابل نقَّاد السوفييت المعتدلون هذه القصة بتوجيه اللوم إلى الكاتب؛ لأنه في نظرهم أظهر الثورة من جانب واحد، وأنه أطال الحديث عن هذه الناحية، وأنه أحدث ضجة كبرى حول بطل القصة، وأخيرًا ذهبوا إلى أن الرواية ضعيفة في موضوعها، ضعيفة في خيالها وفي بنائها.
موضوع هذه الرواية مأساة من مآسي الخيال الروسي التي ارتبطت بالثورة، وتبدأ حوادثها قبل الحرب الكبرى الماضية وتستمر مدة طويلة حتى سنة ١٩٢٢، وبطلها «أندريه ستارتسوف» كان طالبًا حدثًا بألمانيا، ثم شبَّت الحرب الكبرى الماضية، فقبض عليه أسيرًا مدنيًّا، ولكنَّه عاد إلى روسيا بعد هدنة «برست ليتوفسك»، وانضم إلى القوات الثائرة، ولكن هذا الشاب كان يشقى بحب نفسه، وبالتفكير فيما يعود على نفسه أكثر من تفكيره في أسباب اشتراكه في الثورة، ولذلك لم يستطع أن يتبوأ مكانة تناسبه بين الثائرين، وصور أيضًا على أنه شديد العاطفة.
كان لهذا الشاب صديق ألماني هو: «كورت فاهن». وهو فنان موهوب، كان قبل اندلاع الحرب صديقًا حميمًا لأندريه في ألمانيا، وفي اللحظة التي أعلنت فيها الحرب استيقظت الحمية الوطنية في نفس «كورت»، وقطع صلته بصديقه أندريه الروسي، وانضم للجيش الألماني، ولكنَّه أخذ أسيرًا في الجبهة الروسية، وظلَّ بروسيا إلى أن التقى بصديقه القديم أندريه في موسكو سنة ١٩١٨؛ وكان كل شيء قد تغير من أساسه، فالشاب الألماني كورت أصبح الآن شديد التعصُّب للثورة الألمانية التي اندلعت في نهاية الحرب الماضية، واستطاع أن يكون عضوًا مرهوب الجانب في مجلس مفوضي الجند الألمان، وأرسل إلى سيميدول (وهي مدينة صغيرة تحيط بها قرًى يسكنها المردافيون) رسولًا ليشرف على عودة الأسرى الألمان، فقابل صديقه أندريه في طريقه إلى سيميدول، وقصَّ عليه مهمته فطلب منه أندريه أن يصحبه، وهنا تأتي إحدى حوادث الرواية الهامة، ذلك أن جماعة من الأسرى الألمان استطاعوا أن يؤثروا على أنصار العزلة الوطنية، من المردافيين والروس، وأن يكونوا منهم فِرقة حربية تقاوم البلاشفة، وقاد هذه الحركة ضابط ألماني هو موهلن شناو — وقد لعب شناو دورًا لا بأس به في القسم الأول من الرواية حيث كان مسرحها في ألمانيا — واتصل شناو بأندريه وكورت وكان كورت يكرهه لأسباب خاصة، أما أندريه فكان دائمًا يثني عليه ويتقرب منه، وفي أثناء هذه الثورة القصيرة كان أندريه يعيش في شبه نوبة من التعصُّب ضدَّ السوفييت، وكان يشعر بأنه أحد الثائرين على النُّظم السوفييتية، ولكن حدث أن انهزم هؤلاء الثوار أمام السوفييت، وسرعان ما اختفى شعور أندريه ضدهم فقد كبح جماح نفسه، بل أخذ يخادع نفسه ومَن حوله ويشيد بالشيوعية والسوفييت، ولأسباب شخصية يساعد شناو على الهرب، ويزوده بأوراق سرقها من مكتب صديقه كورت، وقبل أن يماط اللثام عن فعلته أرسل إلى بتروغراد ليساهم في الدفاع عنها ضد هجمات يودنيش؛ وكان قد اتصل بفتاة في سيميدول، وأظهر لها هيامه وحبه، فصدقته الفتاة وأخلصت له، فتبعته إلى بتروغراد، وهناك جاءت فتاة أخرى كان قد اتصل بها في ألمانيا وأحبته، فلما عرفت أن حبيبها الذي ظلَّت تنتظره مدة طويلة وتحملت في سبيله المشاق، وركبت في الوصول إليه كل صعب، لما علمت أن ذلك الشاب قد غدر بحبها واتخذ فتاة أخرى حبيبة له اضطرت إلى أن تهجره وهي باكية حزينة القلب، فكان أندريه يحبها حقًّا، ولذلك أصيب بصدمة أليمة لما هجرته غضْبَى، وكاد يجن فأخذ يتجول حول بتروغراد واعتزل الناس، وعاش وحيدًا حتى عثر عليه صديقه كورت الذي لم يغفر له السرقة من مكتبه لإنقاذ شناو، فلم يتردد في قتله انتقامًا منه.
هذه الرواية عجيبة في تركيبها؛ فقد بدأها فيدين بآخرها؛ أي بحوادث سنة ١٩٢٢، ثم أعاد تسلسل الحوادث إلى سنة ١٩١٩ أي إلى وصول أندريه إلى بتروغراد، وزيارة فون شناو له متنكرًا وهو في عودته إلى ألمانيا، كما نرى حوادثَ عديدة غامضة، ويخيل إلينا أنه أسدل عليها هذا الستار من الغموض طول القصة عمدًا، ولا يرفع هذا الستر إلا في نهاية هذه الرواية، ففي الفصل الثالث فقط أخذ الكاتب يستعرض الحوادث في ترتيبها الطبيعي فأرانا ألمانيا قبل الحرب الماضية، وصداقة أندريه وكورت واهن وحياتهما معًا في نورمبرج، ثم نشوب الحرب الماضية، وحياة أندريه وهو في معتقله المدني في مدينة صغيرة من مدن ساكسون ومحاولته الفاشلة للهرب، ثم يأتي حديث طويل يخرج عن موضوع الرواية وهو الحديث الذي يصف ماري أورباخ بطلة القصة في طفولتها وفي شبابها، ثم علاقتها الغرامية بفون شناو إلى أن التقت بأندريه فأحبته، ثم يعود الكاتب في سرد حوادث القصة في ترتيب زمني مرة أخرى، فيتحدث عن الثورة في ألمانيا وعودة الأسرى بما فيهم أندريه، ومقابلته مصادفة وجهًا لوجه لصديقه كورت فاهن في موسكو، ثم وصف حياتهما في سيميدول ومرة أخرى تحشر بعض حوادث في القصة حتى إن بعض هذه الحوادث التي صورت ببراعة تعد مستقلة قائمة بذاتها، ونستطيع أن نفصلها عن القصة دون أن يظهر في الرواية تصدع، ومثال ذلك حادثة الجندي فيدور الذي نشأ في قرية قرب سيميدول، وأخذه الألمان أسيرًا واعتقل في نفس البلد الذي اعتقل فيه أندريه، وينتهي أمره في أثناء حوادث ثورة سيميدول أن شنقه ثوار فون شناو على شجرة، فهذه قصة مستقلة يصح أن تفصل عن إطار الرواية، كما أن هذه الرواية تنتهي بحادثة وقعت سنة ١٩٢٠ في بتروغراد، وكان الأولى أن توضع بين الفصل الأول والثاني.
هناك تصدُّع في بناء هذه الرواية، وقد يكون بعض هذا التصدع تعمده الكاتب، ومع ذلك فهذه الرواية في جملتها لها قيمة أدبية عظيمة، ونستطيع أن نقول: إنها رواية أصيلة، فهي أول رواية سوفييتية تضم بعض مشاكل الثورة الروسية مع بعض عناصر خارجية، كما أن الكاتب قد صور في فصل يستحق التنويه به الآلام العامة التي قاساها الناس إبان الثورة، كتلك الصورة التي وصف فيها إرغام الناس على حفر الخنادق حول بتروغراد عندما اقترب جيش الجنرال يودينيش.
وتأتي بعد ذلك ثاني رواية طويلة كتبها فدين «الأشقاء» التي نشرها سنة ١٩٢٨، وهي تختلف عن الرواية السابقة، ففي الفصول الأولى من هذه الرواية الثانية استطاع فدين بما له من مهارة وحذق في فن الدراما — فقد مرَّن نفسه على كتابة هذا اللون من القصص وأبدع في مسرحيته باكونين — أن يُسدل على أشخاص الرواية جوًّا مشبعًا بالحياة، وأن يغدق عليهم شيئًا من الإفراط النفسي — إن صحَّ هذا التعبير — فنلمس أن كل عقد الرواية كأنها قد حلَّت بنفسها، يمكننا أن نصف موضوع هذه الرواية بأنه محنة النبوغ والذكاء إبان الثورة السوفييتية، فبطل الرواية نيكتيا كاريف مؤلف موسيقي، اضطر اضطرارًا تحت تأثير ظروف خاصة لا يملك لها دفعًا إلى أن يكون عازف موسيقى، وهو من أسرة قوزاقية موطنها أوراليسك، أخذه الألمان أسيرًا في الحرب العالمية الأولى، وبعد الثورة الشيوعية عاد إلى وطنه فوجد أباه وأخاه الأصغر روستسلاف في معسكرين متعاديين، فالأب كاريف العجوز لم يقبل الاشتراك مع رجال الثورة، بل كان ضدهم، بينما أصبح ابنه الأصغر روستسلاف قوميسيرًا سوفييتيًّا، وجاء على رأس فِرقة من جنود الجيش الأحمر لمحاربة الذين لم يدينوا بمبدأ الثورة من قوزاق أورال، وقد قتل هذا القوميسير أمام دار أبويه، وهناك شقيقه الآخر ماتفي وهو طبيب معروف في بتروغراد، ظلَّ مدة طويلة لم يتدخل في الأمور السياسية، فلم يناصر السوفييت ولم يظهر مناوأته لهم، وكذلك فعل أخوه نيكتيا الموسيقي بعد عودته من الأسر، ولكنَّه صدم بمشكلة التوفيق بين ما تتطلبه الثورة من فنٍّ، وبين وحيه وإلهامه الخاص كفنان عبقري، ولكن يظهر أن وحيه كان يأتيه من انهماكه في الغراميات، ولذلك لم يستطع أن يوفق بين الفنِّ الذي توحيه الثورة؛ إذ لم يجد في الموسيقى التعبيرات والأنغام التي توافقها، ولم يستطع أن يرضي فنَّه الذي توحيه عواطفه الغرامية؛ لأن هذا اللون من الموسيقى قد حرمته الثورة، ففقد شخصيته الفنية وفقَد كل النساء اللاتي أحببنه وأحبهن، ليس برواية الأشقاء هذا التفكك في البناء الذي لاحظه النقَّاد في رواية المدن والسنوات، وليس بها هذه القطع الغنائية التي لا تمتُّ إلى موضوع الرواية بصلة، كما أن موضوع الأشقاء ليس بالمركب المربك، ولكنها أشبه شيء برواية مخاطرات، ويظهر فيها كذلك مكائد الحب مشخَّصةً في فارنكاشر ستوبتوفا التي استطاعت في وقت واحد أن تخدع عددًا من أشخاص الرواية، وأوهمتهم جميعًا بحبها لهم، ولكنها كانت تحب الموسيقيَّ نيكتيا كاريف، ومع ذلك تزوجت صديق طفولتها الرفيق روديون شوريوف، ثم سرعان ما تمل زوجها فتهجره لتعود إلى أحضان نيكتيا، ولا شكَّ أن أطرف شخصية في الرواية هو نيكتيا وقد وفق فدين في رسمه، ووصف الصراع الباطني الذي شقي به هذا الموسيقي وما لاقاه من مشاكل ذكرنا بعضها، وفي هذه الرواية بعض عناصر من أثر الثورة، فهناك شخصيات ثورية تمثل تقاليد الثورة الشيوعية، وأشهر هذه الشخصيات الثورية القومسيير الشيوعي شيرنج رئيس الرفيق روديون شوربوف وصديقه العجوز الذي توفي في سياق الرواية وشخصية روديون الذي وصف على أنه شيوعي مثالي من طراز عجيب، فهو يمتاز بالبساطة ومعاني الرجولة، وأنه ليس كغيره من رجال الثورة الذين تشوبهم بعض الشوائب، ولكنَّه خشن فظ، وهنا نلاحظ أن أكثر كتَّاب السوفييت لم ينجحوا في تصوير أبطال الثورة الشيوعية أو في رسم صور دقيقة لرجال الثورة، وإن كانوا قد وفقوا إلى حدٍّ بعيد في رسم ضحايا الثورة من هؤلاء المساكين الذين قاسوا من رجال الثورة ما قاسوه، حتى إنهم دهسوا بالأقدام، أو هؤلاء الذين ترددوا في الانضمام إلى الثورة أو شك رجال الثورة في نواياهم.
لا شكَّ أن فدين في هذه الرواية عاد إلى حالة الروائي الواقعي الاجتماعي والنفسي، فهو واسع الأفق واسع الخيال، بالرغم من أنه يعود أحيانًا إلى التحسينات والبدع القياسية التي امتاز بها عصر المذهب الرمزي، فكأن فدين قد أخذ من كل مذهب بطرف، مثله في ذلك مثل المسافر بالقطار يصادق كل من يجاوره مدة السفر فقط، ولا ينفرد فدين بهذه الميزة «صديق السفر» بين أدباء السوفييت، بل سنرى غيره ينطبق عليهم هذا الوصف، حتى عرفوا في تاريخ الأدب السوفييتي «بأصدقاء السفر»، ولكن فدين يمتاز عن أصدقاء السفر بأنه أقربهم إلى روح وتقاليد الرواية الروسية، وأنه يمثل مزيجًا من التقاليد الروسية وتقاليد غرب أوروبا، فهو أحد كتاب السوفييت الذين حاولوا ما استطاعوا أن يكونوا على صلة قريبة بالحياة الثقافية في أوروبا، وهو نفسه مثل أبطال رواياته، أندريه ستارتسوف ونيكتيا كاريف قد أمضى سني الحرب الماضية في ألمانيا معتقلًا، ثم قضى وقتًا طويلًا في دافوس مستشفيًا ثم رحل إلى بعض بلدان أوروبا، فهيأ له ذلك أن يكتب رواية يجعل حوادثها تقع في خارج روسيا في النرويج وألمانيا وهولندا وغيرها من الأقطار: تلك هي رواية «اغتصاب أوروبا»، وقد كتب هذه الرواية لمشروع الخمس سنوات الأدبي، والغرض منها إظهار فساد الطبقة الرأسمالية والطبقات الأورستقراطية كما يراها رحالة روسي هو الصحفي الناقد روجوف الذي يشبه إلى حدٍّ كبير أندريه ستارتسوف ونيكتيا كاريف، وقد يكون هؤلاء الثلاثة (أندريه – نيكتيا – روجوف) يمثلون فدين نفسه، اختار فدين شخصية فيليب فان روسوم لتمثيل الطبقة الأورستقراطية وصوره على أنه أرستقراطي هولندي يمثل تقاليد بيئته ويحافظ عليها محافظة شديدة، أضف إلى ذلك ثقافته الواسعة التي يعتز بها.
واختار السير جوستس الدرلنج جيزر ليمثل الرأسمالية ووصفه بأنه رجل من المجددين ولكنه رأسمالي خطر. في هذه الرواية قِطعٌ وصفية رائعة وتأملات فكرية، وأكثر هذه القِطع الوصفية إنما تتحدث عن المدن والأراضي البور والمناظر الطبيعية، ففي أمثال هذه القطع يتجلى فن فدين ودقة وصفه، ولا سيما في تلك النظرات التي عبر بها عن برخن وأمستردام، ففيها الوصف الهادئ الرزين الذي لا يعكر صفوه حركةُ الروايات القصصية، ولذلك عاب النقَّاد على فدين أنه ينقصه حرارة الحركة، ولكنهم أخطئوا في فهم فنِّ فدين.
وفدين يعتبر أستاذًا في فنِّ خلق الشخصيات الروائية، وسيظل أشخاص رواياته خالدة في الأدب الروسي على الإطلاق.
(٣) ليونوف
وهكذا كان أسلوب ليونوف في قصصه الأولى التي كتبها قبل سنة ١٩٢٤ مزيجًا من فنون الكتَّاب الآخرين، ولم يستطع في أول أمره أن يتخذ لنفسه فنًّا واحدًا أو أسلوبًا متمايزًا، وفي سنة ١٩٢٤ نشر قصة طويلة بعنوان: «نهاية رجل بائس.» وبالرغم من أن هذه القصة أخذت من فنِّ دوستوفسكي، واعتبر ليونوف مقلدًا له من بعض النواحي، فقد نجحت هذه القصة نجاحًا عظيمًا حتى عدَّها بعض النقَّاد أنها نقطة تحوُّل في كتابات ليونوف؛ لأن بها بعض عناصر تبشر بأن الكاتب في طريقه إلى النضوج الفني الذي ظهر واضحًا بعد ذلك في قصصه الأخيرة.
بطل هذه القصة رجلٌ مسنٌّ قذفت به الثورة إلى سطح سفينة أراد أن يهرب بها من الثورة، ولم يكن له مكان يقصده ولا معين له في وسط هذه الحياة الصاخبة الثائرة، ذلك هو العالِم ليخاريف الذي شهد له العالم أجمع بنبوغه وتفوُّقه في عِلم المتحجرات، وكان هذا العالِم على وشك الانتهاء من وضع نظرية جديدة له يقلب بها الآراء العلمية التي كانت تسود العالَم ويقول بها جميع العلماء، وقد صور ليخاريف على أنه مثال العالِم الباحث المدقق الذي أثر شدة حرصه على البحث والدرس في منظره، فبدا كأنه مشرد اللب ضعيف البصر، وأنه غير قادر على أن يحيط بما يجري حوله؛ لانعكافه على العلم والدرس فقط، وتدور الحوادث في أسوأ سني الحرب الأهلية الشيوعية؛ حيث يشعر الناس بالجوع والبؤس، وتظهر مدينة بتروغراد وقد أصابتها هذه المحنة، وكأنه كابوس جثم على سكانها، نظر العالِم ليخاريف حوله فلم يجد معينًا ولا عاصمًا من محنته، ففكر في أن يذهب إلى أخته العانس المهدمة التي تسرع إلى خدمته وقضاء لوازمه اليومية، ولكنَّه يسقط صريع مرض عضال ويصبح رقيد الفراش وتتسلط عليه الأوهام والتخيلات، فأخذ يهذي متوهمًا أن طيفه يأتيه كل ليلة ليتحدث إليه ويسخر منه، وهنا تظهر مهارة الكاتب وقوة فنه في الجمع بين وصف الجنون وتخيلات وهذيان المرضى، وما ينتابهم من تصور المناظر المخيفة.
ولعل أروع منظر لهذا التحليل الدقيق الموفق الذي يؤثر في النفس حقًّا، هو هذا الوصف الذي وصف به مستشفى الدكتور إلكوث، فهذه القطعة الوصفية تعدُّ تحفة فنية رائعة. يشفى ليخاريف بعض الشيء ويغادر المستشفى إلى المنزل فوجد أخته قد توفيت، وأن المنزل ليس به خبز ولا طعام، ويدرك أن البلاد قد حلَّت بها الآلام ونزل بها الشقاء، فيشعر بشعور غريب هو شعور الرجل المطمئن إلى نهايته المحتومة، وتشرق نفسه بضياء سلام لم يشعر به من قبل، ويبتسم للموت، ويظهر استعداده لِلُقْيَاهُ بنفسٍ راضية مطمئنة، ولكنه قبل أن ينتحر رأى أن تكون تضحيةُ حياته تضحيةً تامَّة شاملة، فعليه إذن أن يمحو نظرياته العلمية الأخيرة من الوجود، وعاوده هذيانه مرة أخرى فتصور أن طيفه يخاطبه بقوله: … ويجب أن تحرق مخطوطات نظرياتك فلعل شيئًا ينبت من رمادها. وتخيل أنه يسمع طيفه يقول: الآن سترتفع روسيا عاليًا جدًّا، وتستطيع روسيا أن تغطي السماء بطبقة من الأسمنت المسلح، وستشق عربات الترام طريقها بين السحب، وسيصنع الخبز من الهواء، ويرتدي الناس السراويل من المخمل. وبمثل هذه الكلمات الساخرة يفقد ليخاريف وعيه، وتنتهي حياة هذا البائس الذي قذفت به الثورة من معمله وأبحاثه العلمية.
أما شقيقه سيمين وهو بطل القصة، فهو على جانب من لين الطباع وحسن الخلق، ينزع إلى الخيال في تفكيره، واستطاع أن يأخذ بحظٍّ وافر من حياة المدينة التي لم يكن يعرفها في القرية، وأن يتطبع بطباع أهل المدن، وإن كان في نفسه يحنُّ إلى القرية ويفخر بأنه من الفلَّاحين، وسيطرت فكرة أنه من الفلَّاحين في نفسه فأصبح من الصعب أن ينتزعها، حتى نراه في القسم الثاني من الرواية قد عاد إلى القرية، ونرى الفلَّاحين يقومون بثورة ضد السوفييت، وعلى رأس هذه الثورة البطل سيمين، أما سبب هذه الثورة فهو سبب خاص هو النزاع على الأطيان وسخط الفلاحين على ضريبة الأكل التي فرضت عليهم، ولكن هذه الأسباب لم تكن قوية، ولم تكن لدى الفلاحين روح الثورة الدموية، فسرعان ما أخمدت هذه الثورة واستسلم الفلاحون إلا سيمين الذي وقف ومعه عددٌ قليل جدًّا يدافعون عن القرية ضد قوى المدينة، ثم اضطر أخيرًا إلى الخضوع؛ لأن أعوانه خانوه وهجروه، ويبدأ المنظر الختامي للرواية بأن يظهر سيمين وهو راجع من الغابات حيث كان هو وأعوانه — وقد أطلقوا على أنفسهم اسم الباجر — يحفرون الخنادق حولهم ليتحصنوا بها، وهناك في الغابات لقي أخاه باشكا، الذي سمى نفسه الرفيق أنطون، والذي كان على رأس القوة التي جاءت لتأديب الفلَّاحين الثائرين، ويأخذ الشقيقان يتحدثان طويلًا، وفي ختام الرواية يعود سيمين من الغابات مستسلمًا خاضعًا، ويقابل أخاه ولكنهما لم ينطقا بكلمة واحدة، وتسدل الستار على هذه المقابلة الأخيرة الصامتة بين الشقيقين، دون أن يحل موضوع القصة، وهو الصراع بين المدينة والقرية.
وفي سنة ١٩٢٧ نشر ليونوف قصة «اللص»، وهي قصة طويلة لم تظهر فيها أثر الثورة الشيوعية ظهورًا قويًّا، وإن ظهر أن حوادثها وقعت إِبان حركة السياسة الاقتصادية الجديدة، فالبطل ميتكافكيشين — الذي صور بأنه من الشخصيات القصصية العجيبة التي تشبه إلى حدٍّ بعيد شخصية رو كامبول — من رجال الثورة إذ كان منذ فجر انبعاثها قوميسيرًا في الجيش الأحمر، ثم تطور به الحال فأصبح إبان حركة السياسة الاقتصادية الجديدة رئيس عصابة من اللصوص الذين لهم خطرهم في جميع أرجاء روسيا، ويتناقل الناس أمرهم في جميع أنحاء العالم.
ونرى في هذه القصة وصف عدة شخصيات مختلفة، فمن عصابات موسكو وفتَّاكِها، إلى وصف المترفين الأغنياء، إلى وصف صغار موظفي الحكومة السوفييتية، فهذه أمثلة من هذه الشخصيات الغريبة التي اجتمعت في هذه القصة دون أن نعرف مدى العلاقة التي تجمع بين هذه الطبقات المتباينة، وفي هذه القصة نرى مرة أخرى أثر دوستوفسكي في فن ليونوف، فكل الشخصيات التي وصفها ليونوف في هذه القصة لها ما يشابهها في قصص دوستوفسكي، فمثلًا شخصية ماشا دولومانوفا عند ليونوف أخذت من وصف دوستوفسكي للنساء الجهنميات أمثال ناستاسيافيليوفنا وغيرها، فكأن ليونوف مقلد أيضًا في هذه القصة، كشأنه في قصصه الأخرى، ومع ذلك فنحن لا نبخس حقَّه في خلق بعض شخصيات جديدة مثل شخصية بوخوف وبوجيل.
والكاتب يصف بوخوف بأنه فيلسوف بفطرته مع شدة تمسكه بأهداب الدين، وأنه شديد العطف على بطل القصة ميتكا فكشين، حتى إنه عندما أراد ميتكا أن يخرج مرة في إحدى سطواته الإجرامية قال له هذا الفيلسوف وهو يعظه: «… خير لك أن تسرق نفسك! بأن تعودها الآلام.» أما بوجيل فقد صور على أنه يعمل في سيرك وأنه رقيق الشعور طيب القلب. ليس بهذه القصة أي لون من ألوان العواطف السياسية، وليس لها رسالة اجتماعية، حقيقةً تنتهي القصة بانتصار الخُلق القويم؛ إذ يترك ميتكا حياة الإجرام ويقلع عن السرقة ويعتزل الناس، فيقيم في مكان ما ويصبح شخصية أخرى تختلف عن شخصيته الأولى، ولكن الكاتب أهمل وصف شخصية ميتكا الجديدة بعد أن تاب عن حياته الأولى.
يعد ليونوف من كتَّاب المذهب الواقعي، فهو يأخذ من الحياة بجميع فنونها وألوانها وتعقداتها، حتى الحياة التي تترفع عن طاعة الأمر، والتي تحاول أن تخضع كل شيء لها، فقد جاء على لسان أحد شخصياته: بعد كل شيء فنحن — الكتَّابَ — نعرف الحياة أكثر مما يعرفها غيرنا، فالحياة كالطعام المستساغ يأكله الإنسان ويموت دون أن يتذوقه تمامًا. ومرة أخرى قال على لسان شخصية الأديب فيرسوف وكأنه يتحدث عن نفسه: فيرسوف يحب الحياة حبًّا جمًّا! يحب الحياة بما فيها من رائحة كريهة، ومذاقٍ مرٍّ كالعلقم. وهكذا كانت نظرة ليونوف للحياة، ولفلسفة الحياة هذه وضع ليونوف شخصية عجيبة هي شخصية تشكيليف، وهو موظف سوفييتي من صغار الموظفين، فهو مفتش ضرائب، ووصف بأنه رجل دنيء حقير لا قيمة له في الحياة، بلغت به ضعته أنه يحاول التعرف على شئون الناس وأسرارهم، حتى بلغ به كلفه بالتجسس أن أخذ يدعو برأيه في أن المجتمع إذا تم تكوينه يجب أن يخضع للون من الجاسوسية العقلية، وتخيل دولة جديدة تخضع لهذا النظام ووصف دولته بقوله: في الدولة الجديدة التي ستأتي بعد ألف عام لن توجد أسرار، فسيصبح لكل شخص الحق في أن يأتي إلى شخص آخر ويراقب حركاته وسكناته في كل دقيقة بالليل أو بالنهار، حتى لو اضطر إلى أن يستعين بمنظار مكبر! لأنه لو فرض أن إنسانًا فكَّر في مؤامرة لتدمير العالم الإنساني بواسطة المخترعات العلمية الحديثة مثل أشعة الموت أو الغازات الخانقة أو غيرها من المخترعات التي تستطيع أن تهلك العالم كله في وقت وجيز، أفلا يكون من الواجب أن يراقب الناس مراقبة دقيقة حتى لا تتم مثل هذه المؤامرة! الناس لا يستطيعون أن يعيشوا بغير رقابة دقيقة! لا نريد أسرارًا أيها الناس، اخرجوا إلى الشوارع ونظفوا صدوركم مما تخفونه فيها وتحافظون عليها حتى لا تفشى، نظفوا أنفسكم من الأسرار وعندئذٍ سيكون كل فردٍ منكم أمينًا سواء رضي أم لم يرض، بل سيرغم على أن يكون أمينًا، إذا كنت حاكمًا في هذه الدنيا لأمرتُ أن يضع كل شخص على رأسه نوعًا من الآلات على نسق آلة التليفون تسجل أفكاره وما يدور بخلده، وفي كل صباح يأتي إليه موظف خاص يقرأ الأفكار التي سجلتها الآلة، وينهي إلَيَّ بها، وبالمثل يستطيع كل فرد أن يقرأ بنفس هذه الطريقة العلمية ما يدور بعقل هذا الموظف ويعرف أفكاره وبذلك فقط تنتهي آلامنا، ويفيق كل فرد إلى نفسه فلا يفكر إلا في الصالح العام، فالكاتب ليونوف اتخذ من شخصية تشكيليف هذه فرصةً للتهكم السياسي المر والسخرية القاسية اللاذعة بالأوضاع السياسية، مع أن ليونوف مقلد أيضًا في هذه الشخصية، فهناك اتفاق عجيب في الآراء بينه وبين شخصية شيجاليف في رواية العفاريت لدوستوفسكي، ولعل تشابه الاسم في الشخصيتين يؤيد ما ذهبنا إليه من أن ليونوف مقلد لدوستوفسكي، ومع ذلك فحب ليونوف للحياة أعطى قصصه الحياة وأسبغ عليها القوة بحيث إذا قرأت قصصه تشعر بأنك مضطر إلى أن تعيش في الحياة التي وصفها، وأن تلمس الحقائق التي تحدث عنها، وأن تشارك أشخاص قصصه، فالحق؛ قد خلع الكاتب على قصصه كل مواهبه الفنية، ونقل إليها كل عواطفه ووجدانه، ولهذا استطاع ليونوف أن يجد له مكانة بجانب دوستوفسكي وتولستوي، ونستطيع أن نقول: إن قصة اللص قصةٌ روسية بكل ما في هذه الكلمة من معانٍ، وإن كان بها بعض المبالغات في الفن القصصي.
(٤) كافرين
يعدُّ بنيامين كافرين من أصغر أعضاء إخوان سرابيون سنًّا، فقد ولد سنة ١٩٠٢، وله نصيب يذكر في إحياء الرواية في الأدب السوفييتي، وإن كانت قصته الأولى التي نُشرت في مجموعة إخوان سرابيون تدلُّ على أنه يتجه في فنه اتجاهًا يختلف عما اعتاده الناس عند كتَّاب روسيا؛ لأن كافرين كان ينهج في فنه نهج أدب غرب أوروبا، وكان متأثرًا بالأخصِّ بفنِّ هوفمان وبو، وكان يختار الموضوعات التي لم يطرقها كتاب روسيا إلا بقدر، وتظهر عبقرية كافرين وكفايته الفنية في عرض هذه الموضوعات الجديدة على الناس وعلى الكتَّاب أيضًا، ولا سيما هؤلاء الكتَّاب الذين جعلوا عمادهم الأسلوب والتلاعب بالألفاظ ووضعوا الموضوع في المرتبة الثانية، هذا المنهج الذي سار عليه كافرين ظهر واضحًا في أول رواية طويلة كتبها، وهي «نهاية خازا»، والتي يتحدث فيها عن حياة سفلة الناس في بتروغراد وعن حياة اللصوص والعصابات الشريرة، وما في أعمالهم من مغامرات، فقد صوَّر كافرين هذه الطبقة وحلَّل نفسياتهم تحليلًا دقيقًا، حتى إن بعض نقَّاد السوفييت اتهم كافرين في هذه الرواية بأنه يمجِّد سطوات اللصوص، ويثني على مغامرات العصابات، وأنه يتخذ هذه الطبقة من الناس مثلًا أعلى للحياة!
وفي روايته الثانية «تسعة أعشار الحظ» نَصَّبَ كافرين نفسه عالمًا من علماء النفس؛ لأنه حاول أن يرجع كل نقطة إلى علم النفس التحليلي، وعالج في هذه الرواية نفس الموضوع الذي عالجه فدين من قبل؛ أي موضوع العبقرية والنبوغ إبان الثورة، ولكن كافرين لم يبلغ من الناحية الفنية ما بلغه فدين، أو ما بلغه هو نفسه في روايته «نهاية خازا»، وربما يرجع إخفاقه إلى صِغَر سنه وعدم نضوجه النضوج الفني الكافي لمعالجة مثل هذه الموضوعات، بدليل أنه عاد مرة أخرى فكتب عن نفس هذا الموضوع ووفق في محاولته الثانية أكثر من توفيقه في الأولى، وذلك في رواية «ليالي جزيرة فاسيلي» التي نشرها سنة ١٩٢٨، والتي تتحدث عن العبقرية والخلاف الروحي والنفسي بين العباقرة وبين الثوار، وكيف طغت مشاكل الحياة اليومية على كل نبوغ وذكاء، ولا سيما في أيام الثورة المظلمة، كما ظهر في هذه الرواية لون من الآراء الفردية تناوئ مبادئ الثورة، ففيها احتجاج صريح ضد كل الرقابات التي تحدُّ من حرية الفكر، وتشل الإنتاج الأدبي الحر، وهذا الرأي هو الذي دان به كافرين لا في هذه الرواية فحسب، بل صرَّح بهذا الرأي أيضًا في المناقشات الأدبية العديدة التي جرت في المدة بين سنة ١٩٢٩ وسنة ١٩٣١، وكان محور هذه المناقشات «الحرية الفكرية» أو ما سمي بالأمر بالشيوعي، ومكانة الكاتب وأدبه في دائرة الحزب الشيوعي، فكان كافرين بطل حرية الفنون ورسول حرية الأدب.
وتعد روايته «الفنان المجهول الاسم» من الروايات الخالدة الأصيلة نشرها سنة ١٩٣١، متأثرًا بآرائه عن حرية الفكر وحرية الإبداع والخلق في الفنون، وكان شجاعًا جريئًا في دفاعه عن المذهب الخيالي، ففي هذه الرواية عالج عدة مشاكل لها خطرها، ففيها تفضيل المذهب الانفرادي على المذهب الاجتماعي، والخيالي على الواقعي، ويفضل الأدب على الأعمال الآلية، وهذه موضوعات يكفي كل واحد منها أن يكون موضوعًا لعدة مجلدات، ولكن كافرين تحدَّث عنها كلها في روايته هذه. اتخذ لبطولة هذه الرواية شخصيتين تناقض إحداهما الأخرى، الأولى شخصية أرخيمدوف وهو فنان موهوب، ولكن بعقله لوثة يميل إلى الخيال ويعيش على الخيال شأن كثير من العباقرة والفنانين، أما الشخصية الثانية هو شبكتروف وهو رجل ممن يدين بالواقع ولا يقنع إلا بالحقيقة الملموسة، فلا يحاول أن يخدع نفسه، ولذلك وضع نفسه وفنه تحت تصرف الاتحاد السوفييتي، ويدين بمشروع السنوات الخمس، ويدور أكثر حوار أرخيمدوف حول المثل الخلقية في روسيا الحديثة وكيف اختفت وراء ستار الفن، وكثيرًا ما صرَّح بأن الهيبة الشخصية يجب أن تكون عنصرًا أساسيًّا من عناصر الاشتراكية، أما زميله شبكتروف فيقول: «الغرب في نظر روسيا السوفييتية أشبه شيء بصندوق مملوء بالآلات والعِدد التي بدونها لا يستطيع الإنسان أن يبني مظلة خشبية، فهم لا يتحدثون عن اشتراكية أو غيرها.»
فيجيبه أرخيميدوف: «هذا الصندوق المملوء بالآلات والعِدد لا يكفي لأن يبني عهدًا جديدًا.» ويعارض كل المذاهب الأدبية منذ العصور الوسطى، وينعي على الأخلاق في هذه الأيام ويقول: إنها أيام فوضى خُلقية، لا تعرف معنى للأمانة. ويقول: في القرن الخامس عشر كان من المتبع أن الصانع لا يقبل تلميذًا في الصناعة إلا بعد أن يقسم التلميذ أنه سيؤدي عمله بأمانة وإتقان حسب قوانين المهنة وقوانين الدولة، فالناسج الذي يغش في حياكة الأقمشة كانت تصادر أقمشته وتحرق على مرأى من الناس ليكون ذلك رادعًا لغيره من الحائكين، وهؤلاء الذين كانوا يقدمون مكاييل نبيذ غير قانونية كان يقذف بهم من أعلى أسطح المباني إلى البالوعات، ثم جاء عصر هو عصر الحكومات التنفيذية، فأخذت الحكومة تشرِّع القوانين لتأديب العمال الذين يعبثون بصناعاتهم. أما في عصرنا الحالي فلا يوجد لدينا عدد من البالوعات يكفي كل الغشاشين! وأخذ أرخيميدوف يدافع عن الوجدانيات الشريفة وعما فيها من خيال، ويحارب اضمحلال الشعور بالمثل الخلقية والشرف، ويتعصب ضد النفاق والسخافات والنذالة إلى غير ذلك من الخصال الذميمة التي يراها في معاصريه، أما زميله تشبكتروف فكان يتجه بعقله إلى اتجاه آخر فقد قال: الأخلاق! ليس عندي من الوقت ما يسمح لي بأن أفكر في مدلول هذه الكلمة، إني منصرف عن ذلك كله؛ لأن عندي عملًا أقوم به! إني أقيم اشتراكية! ولكن إذا اضطررت إلى أن أُخيَّر بين الأخلاق وبين سروال فإني لا أتردد في اختيار السروال، إن الأخلاق عندنا هي التفكير في خلق عالَم جديد يدين بالاشتراكية. وفي هذه الرواية منظرٌ يستحق أن ننوه به؛ إذ نجد شرطة ليننجراد يحاولون القبض على عددٍ من الشحاذين الذين لا مأوى لهم، إنما اتخذوا من المجاري التي بأسفل الأرض مكانًا يعيشون فيه، ويشاهد أرخيميدوف الشرطة وهم يطاردون هؤلاء المساكين، فيأتي في زي أنيق فقد ارتدى سترته الموشَّاة وصديريته القطنية المزركشة التي ترتفع أزرارها إلى رقبته، ويتدخل بهدوء ووقار في أمر الشحاذين وينتصر لهم، فيقبض رجال الشرطة عليه؛ لأنه ينتصر للبؤساء ويخالف الأوامر الرسمية.
ومهما يكن من شيء فشخصية أرخيميدوف شخصية جذابة جديرة بالشفقة والرثاء، ومناقشاته مع شبكتروف تشغل أكبر حيِّز في الرواية، وإن كانت هذه المناقشات قد أفسدها الحديث عن بعض العلاقات الشخصية التي لأبطال الرواية، فزوجة أرخيميدوف «إستير» لها علاقة غرامية مع شبكتروف، وطفلها الذي يعتقد أرخيميدوف أنه من صلبه هو في الحقيقة ابن شبكتروف، ومع ذلك فعندما طلب من إستير أن تختار بين حبها لعشيقها شبكتروف وبين إعجابها وإشفاقها على أرخيميدوف فضَّلت الانتحار بأن قذفت بنفسها من الشباك، ويتخاصم البطلان أرخيميدوف وشبكتروف فيُهزم أرخيميدوف ويضطر إلى أن يسلم لخصمه كل شيء ويعطيه الولد الذي توهم أنه ابنه، ولكن في ختام الرواية يدرك أنه لم يخسر شيئًا. يصور الكاتب في آخر هذه الرواية انتحار إستير ورثاء الفنان لها وتجوله على غير هدًى في المدينة، وذلك كله في وصف مؤثر حقًّا لذلك الفنان المجهول الاسم وهو أرخيميدوف نفسه. فهذه الرواية قطعة أصيلة من أعمق وأحسن ما كتبه كافرين إن لم يكن أعمق وأحسن ما كتب.
وفي سنة ١٩٣٤ نشر كافرين قصة بعنوان «إتمام الرغبات»، ظهرت في إحدى المجلات السوفييتية وكان ظهورها حدثًا بين الأوساط الأدبية في تلك السنة، وإذن نستطيع أن نقول: إن كافرين أحد الشخصيات الأدبية التي لها قيمتها الكبرى ومنزلتها الرفيعة في الأدب الروسي الحديث.
(٥) سلونيمسكي
ولد ميخائيل سلونيمسكي سنة ١٨٩٧ في أسرة يهودية عرفت بالنبوغ والذكاء، وبرز عددٌ كبير من أفرادها في ميادين مختلفة من ميادين الحياة، ويعد عضوًا في جماعة إخوان سرابيون، وقد بدأ حياته الأدبية بكتابة قصص قصيرة نشرت في مجموعات إخوان سرابيون، وأكثر هذه القصص تمثل العصر أصدقَ تمثيل، ومعظمها يدور حول الحرب الأهلية، مثل قصة فرقة الفرسان السادسة التي نشرها سنة ١٩٢٢، فهي صورة للحياة في روسيا في هذه السنة، وأول محاولة له لكتابة رواية طويلة هي «آل لافروف» يصف فيها تشتت أسرة عرف أفرادها بالنبوغ وشدة الذكاء، وجعل حوادثها تبدأ قبل الحرب الماضية وتستمر إلى السنوات الأولى للثورة الأهلية، فمسرحها إذن الحرب الماضية والثورة الروسية، ومحورها مشكلة مكانة الفرد في المجتمع، وتدور الرواية حول نفسية بطلها «بوريس لافروف» الذي وصفه بعض النقَّاد بقوله: «إن شخصية لافروف لون جديد للرجل الذي لا يحتاج إليه الشيوعيون.» بالرغم من أن سلونيمسكي صور هذا البطل تصويرًا جعله محببًا للنفس، وجعله يقرب من الشخصيات التي ملأت الأدب الروسي الذي كان قبل الثورة منذ عهد ترجنيف إلى تشيكوف، حتى نرى شبيهًا له عند بعض كتاب الثورة أمثال فدين.
ساهم سلونيمسكي في الثورة الأهلية وأيدها بكل قواه، ولكنه لم يستطع أن يستمر مع الثائرين ولا أن يجد له مكانًا بينهم، رأى أن الحوادث تمر سريعًا أمام عينيه ولا يستطيع لها فهمًا، وكلما أمعن في التفكير فيما يدور حوله وعن مكانته في هذا البحر الثائر لا يخرج بنتيجة ترضي عقله، فقد خُيِّل إليه أنه إذا اشترك مع الثائرين فقد يحصل على حريته الكاملة، وأن يتحرر الشعب كله مما كان يئن تحته من نير الدكتاتورية القيصرية، ولكنه استطاع أخيرًا جدًّا أن يدرك أنه ليس هناك حرية، لا في روسيا وحدها، بل في كل بقاع العالم، وأن ما طمحت إليه نفسه من حرية تامَّة كان خيالًا لا يحقق في أي ركن من أركان المعمورة، ولذلك فعليه أن يختار من القيود التي تحدُّ من حريته ما يتفق مع ميوله ورغباته وأعماله، فأصبح ينظر إلى كل الحوادث حوله نظرة رجلٍ غريب عنها. وهو في روايته «آل لافروف» يظهر آراءه وما كان يدور بخلده عن الحريات التي أهدرت، وأن الحرية وما يماثلها من ألفاظ إنما هي أقرب إلى الخيال، بل هي خيالية لا وجود لها في الحياة، اتخذ من بطله لافروف متنفسًا ليعارض به شخصية أخرى في الرواية هي شخصية قوما كلشتيف الذي وصف بأنه من البلاشفة المتطرفين، وأنه جمُّ النشاط شاردُ اللب. فهذه الرواية من الروايات القليلة التي تمثل المذهب الواقعي النفسي في الأدب السوفييتي، وإن كان مؤلفها يعد في قرارة نفسه من الثائرين على كل القائمين بالثورة، وعلى ما يجري في الحياة، ولكنه مرة أخرى وقد هدأت ثورته النفسية واستقرت أحواله عاد فكتب روايته الثانية «سردني بروسبكت»، وقد أخذه هذا الاسم من اسم شارع في بتروجراد، وفي هذه الرواية تحليلات نفسية أعمق وأكثر تركيزًا مما في الرواية السابقة، وتتحدث عن وجه آخر من أوجه الثورة لا يمت لأعمال البطولة في الثورة بصلة، بل هي تصور هذه الطبقة من الناس الذين أُثْرُوا عن طريق غير شرعي، فشخصية ميشيل تشيجلوف وصف على أنه كان قوميسيرًا شيوعيًّا ثم أصبح مهربًا خطرًا حتى جمع ثروة ضخمة، فتغيرت أحواله تغيرًا تامًّا.