كتَّاب الحياة اليومية
(١) مؤرخو الثورة
يمتاز الأدب الروسي الحديث بظهور عدد كبير من الأدباء الذين استطاعوا أن يجذبوا انتباه الناس لما يكتبونه عن الحياة اليومية في روسيا السوفييتية، حتى سمَّاهم بعض النقَّاد «بمؤرخي الثورة»، وهؤلاء الكتاب لا ينتمون إلى مدرسة أدبية متمايزة، ولا ينظرون إلى الحياة في المجتمع السوفييتي بمنظار واحد، فهم مختلفون في كل شيء، ومن العجيب حقًّا أن يجمعوا معًا تحت عنوان واحد، ولكن ليس لمؤرخ الأدب السوفييتي إلا أن يقبل الواقع، فقد اضطر بعض الكتَّاب أمثال رومانوف، فالديمير ليدين، ميخائيل زوتشينكو، فالنتين كاتييف، ليديا سييفولينا، بوريس ليفين وغيرهم إلى أن يكونوا من كتَّاب الحياة اليومية، وأن يكونوا من مؤرخي الثورة!
حقيقة يغلب على هؤلاء الكتَّاب جميعًا اشتراكهم في تاريخ الحياة الروسية ووصفها من جوانبها المتعددة إبان الثورة، وخاصة في عهدها الثاني عهد البناء وتجديد ما دمرته الثورة في عهدها الأول، فالعهد الثاني يمتاز بأنه عهد النظر للحياة نظرة واقعية، بينما العهد الذي سبقه كان عهد النظر للحياة نظرة خيالية، والعهد الأول وصفه بلنياك وإيفانوف ونيكيتين وغيرهم من الكتَّاب، وأطالوا الحديث عن وصف الحياة فيه، أما في العهد الثاني للثورة فنرى كتاب الحياة اليومية قد اختاروا صورًا تمثل عصرهم وحالاته المختلفة، وأخرجوها في قصص غنية خصبة، أو في أقاصيص تهكمية كتلك التي نراها في كتابات زوتشينكو، والتي لا تزيد أحيانًا عن الصفحة الواحدة أو الصفحتين، أو في روايات طويلة كتلك التي كتبها ليدين ورومانوف وكاتييف، وبالرغم من ذلك كله فمن الصعب أن نقول: إن هؤلاء الكتَّاب قد ساهموا بنصيب يذكر في إحياء القصة التي تقوم على التحليلات النفسية والنظريات الاجتماعية، بل كان جلُّ اهتمامهم موجهًا إلى موضوع القصة، وهو في الغالب الحياة اليومية في روسيا السوفييتية، ووصف جمهور الناس من رجال الثورة الروسية، ولذلك أجمع النقَّاد على أن هؤلاء الكتَّاب كانوا يمثلون المذهب الواقعي فقط، بينما رأينا بعض الكتَّاب أمثال فدين وكافرين وليونوف، وهم من الذين ساهموا في إحياء الرواية الروسية، كانوا يمثلون المذهب الواقعي الممزوج بالخيال، فحوادث العهد الأول من الثورة أسبغت على الكتَّاب لونًا من الخيال الذي أوحته الثورة، بينما نحا فنانو الحياة اليومية نحو المذهب الواقعي الخالص، ومالوا إلى البساطة في كل شيء، وبعدوا عن الزينة اللفظية والأساليب الحماسية، فقد أخذوا إلهامهم ووحيهم من الحياة اليومية وسجلوا هذه الحياة تسجيلًا صادقًا من غير محاباة، وشجعهم على ذلك أنهم بعدوا بعض الشيء عن النفوس الثائرة الجامحة التي كانت إبان اشتعال الثورة في عهدها الأول.
(٢) سييفولينا
أول من نذكر من كتَّاب المذهب الواقعي الخالص ومن كتَّاب الحياة اليومية هي ليديا سييفولينا؛ لأنها من أقدمهم من الناحية التاريخية، ونذكرها بين هؤلاء الكتَّاب، وإن كانت قد عرفت أحيانًا بأنها من كتَّاب الأدب الشعبي، هي أكبر كتَّاب السوفييت المحدثين سنًّا، فقد ولدت سنة ١٨٧٩ في أسرة ريفية من التتار، واشتغلت بالتدريس في إحدى المدارس الريفية، وبدأت حياتها الأدبية متأخرة، وأول قصصها نشرت في الصحف المحلية بسيبريا؛ حيث كانت تقيم وتمتهن التدريس، فظهر في هذه القصص الأولى طابع خاص هو طابع الإقليم الذي كانت تعيش فيه، ولم يظهر في هذه القصص ذلك اللون من الفن الذي يلفت إليه جمهور الناس، اللهم إلا هؤلاء الذين يقيمون في البيئة التي تتحدث عنها في قصصها، وأكثر هذه القصص كان مسرحها القرى، وقد شبَّت فيها نيران الثورة، فوصفت ليديا الخلافات الاجتماعية في القرى، وتحدثت عن الفلَّاحين وكيف قابلوا الثورة … إلخ، وأول قصة لها لفتت الأنظار هي «محطمو القوانين»، وبطلها غلام صغير لا مأوى له شأنه في ذلك شأن عدد غفير من الغلمان المشردين الذين كانوا يتجولون في أنحاء روسيا إذ ذاك، وقصتها الثانية «السباخ»، وهي من أحسن ما أنتجته، وقد جعلت مسرحها في قرية اعتنق سكانها الثورة منذ فجر اندلاعها، وبطلها سوفرون فلَّاح لا يصلح لشيء، قد غيرت الثورة أخلاقه وأفسدت عليه نفسه، وترينا الكاتبة كيف تغير كل شيء في القرية حتى الثقافة والتعليم، وذلك كله بسبب الثورة، وهذه القصة تكاد تكون أكثر قصصها مطابقة لفن القصة من حيث صورتها وطريقة معالجتها، وإن كانت في حاجة إلى الصقل، وكذلك ينقصها بعض الحواشي التي تراها في كتابات فزيفولود إيفانوف — وهو الكاتب الذي تقارن به ليد — كما ينقصها بعض التحليلات النفسية التي في قصص ليونوف وفدين، ومن ناحية أخرى نرى أن موضوع القصة واتجاه الكاتبة إلى المذهب الواقعي وبساطة أسلوبها تجعل قصص ليديا أقرب إلى الأدب الشعبي الذي ظهر قبيل نشوب الثورة الروسية، وقد مثلت هذه القصة السابقة على المسرح وكذلك قصتها «فيرينيا» التي تصف سيدة من الفلاحات اللائي ساهمن في الثورة. أخذت ليديا تكثر من الكناية، وقد فسدت علاقتها مع النقَّاد الشيوعيين؛ لأنهم اتهموها بميولها إلى طبقة الأغنياء، وأنها لا تتحدث إلا عن أقذر وأحط ألوان الحياة الريفية، ومن قصصها «تانيا» نشرت سنة ١٩٣٤، وتصف فيها صورة غريبة لغلام شيوعي أصيب بارتباك في عقله من جراء الصور المضطربة المتناقضة والتيارات المختلفة التي يراها كل يوم، كما تتحدث القصة عن الصراع بين الآباء والأبناء في الحزب الشيوعي.
(٣) رومانوف
بانتيليمون رومانوف كاتب اختلف في أمره؛ قال بعض النقَّاد إنه من تلاميذ المذهب الواقعي القديم، وذهب أكثر النقَّاد إلى أنه من الأدباء المحدثين، ولد هذا الكاتب سنة ١٨٨٤، وبدأ يكتب وينشر قصصه قبل الثورة الشيوعية، وهو من الكتَّاب الذين يحسنون اختيار موضوعات قصصهم، ومن أوسع الكتَّاب أفقًا في التفكير، وكتاباته تصور نواحي عديدة مختلفة من نواحي الحياة الروسية، ولعل أطول رواية له هي «روسيا»، وتعد ملحمة طويلة في تصوير المجتمع الروسي منذ بدأت الحرب العالمية الأولى، واتبع في كتابتها طريقة ترجنيف وجوجول من ناحية الأسلوب والحوار والتحليل.
وله قصتان هامتان «من غير زهر الكرز»، «ثلاثة جوارب حريرية»، وهما في الحديث عن مشاكل الشباب في روسيا السوفييتية، وصف الكاتب فيهما أخلاق الشباب وغرامياته، وتحدَّث عن الزواج وعن التوفيق بين عواطف النفس الوجدانية والأخلاق الواقعية الحديثة وبين المثل الشيوعية التي تطالب بجيل جديد من الناس يخضع للنظم الاشتراكية الشيوعية، هذه الموضوعات هي التي كلف بها رومانوف فالاتجاهات الحديثة للحب، والتيارات الجديدة للعاطفة، والنظم الجديد للزواج، والمشاكل الجنسية على وجه العموم هي الموضوعات التي وجَّه رومانوف إليها عنايته وطَرَقَهَا في كتاباته، ففي إحدى مجموعات قصصه يحدثنا عن شباب الجيل الحديث في روسيا الشيوعية. وغالبيتهم من طلاب المدارس والجامعات، وكيف طرحوا كل عاطفة وجدانية، ولا يعترفون بشيء اسمه الحب، وقد صرَّح بطل قصة «من غير زهر الكرز» بقوله: «ليس عندنا حب، ولكن هناك علاقات جنسية؛ لأننا قد أبعدنا الحب من قلوبنا وقذفناه باحتقار إلى مملكة علماء النفس، والذي يستحق أن يوجد حقًّا هو علم وظائف الأعضاء!» وفي قصة أخرى يتحدث رجل إلى فتاة قابلها مصادفة في قطار: «إذا أردتِ أن تكوني من فتيات الجيل الجديد عليك أن تواجهي الحياة كما تمليها عليك طبيعتك، قابلي الحياة بازدراء وعدم اكتراث، وخذي الحياة باندفاع، عليك أن تجري وراء طبيعة الحياة الواقعية، عندئذٍ فقط تتذوقين الحياة وتعرفين معناها!» ويتحدث البطل إلى خطيبته بقوله: لا يوجد شيء اسمه الحب أو الغرام العفيف، بل يوجد عمل فسيولوجي.
وفي قصة «محاكمة الرائد» يُحاكم رائدٌ شابٌ؛ لأنه أدخل في علاقاته الغرامية شيئًا من العاطفة والخيال. وبالجملة فقصص رومانوف تصوِّر لونًا خاصًّا من ألوان اتجاه الحياة في روسيا السوفييتية في العهد الثاني من الثورة، وتعدُّ قصصه وثائق اجتماعية لميول واتجاهات المجتمع الروسي أكثر مما تعد عملًا فنيًّا، فقصصه في أسلوب بسيط جدًّا يقوم على الحوار في أكثرها، بينما في قصصه التي تتحدث عن المسائل الجنسية يلتجئ الكاتب إلى صيغة الرسائل.
(٤) ليدين
ولد فالديمير ليدين سنة ١٨٩٤ وبدأ يكتب قبل الثورة عددًا من القصص القصيرة، متخذًا تشيكوف أستاذًا له في منهجه الأدبي، ليدين فنان موهوب أخذ بحظ وافر من الثقافة، وله نصيب عظيم من كريم الخلق وسمو النفس، وقد تكون هذه الشمائل سببًا في أن يتجه ليدين إلى وسط الموظفين السوفييت ليتحدث عنهم في مجموعات قصصه. ويتخذ منهم أشخاص رواياته فهذه الطبقة — طبقة الموظفين — في روسيا هم الذين يكونون طبقة الأثرياء قديمًا وحديثًا، وهم الذين يطلق عليهم اليوم رجال السياسة الاقتصادية الجديدة، اتخذ ليدين طبقة الموظفين وسيلة لوصف لون من ألوان الحياة السوفييتية، وهو قصصي أكثر منه روائيًّا، وفنه قريب إلى فنِّ تشيكوف وموباسان، وفي إحدى رواياته الأولى «تقلع السفينة» لا نستطيع أن نعتبرها رواية، بل هي سلسلة من قصص قصيرة يربطها رباط مهلهل، أو قُلْ: إنه لا رابطة بينها، فهو يمرُّ بموسكو ويطوف بإيطاليا وألمانيا ومنطقة القطب الشمالي، وأهم أجزاء هذه الرواية التي لا تماسك بين أجزائها قصتان؛ قصة إيفان كوستروف وهو شيوعي شديد التعصب لرأيه مخلص في عقيدته ضحَّى بصحته وهنائه في سبيل الثورة، ولكنه توفي مصابًا بذات الرئة في مصحة على شواطئ إيطاليا، وقبل وفاته أحب فتاة إيطالية من عامة الشعب، هي ابنة صاحب فندق صغير، ونسي بصحبتها كل ماضيه وكل جهاده وكل ما قام به للثورة. والقصة الثانية قصة جلونوف، وهو صراف بمصنع من المصانع الكبرى أوقف نفسه بعد انتهاء الحرب الأهلية لخدمة هذا المصنع، ولكن سرعان ما انحدرت أخلاقه وأخذ يسقط تدريجيًّا نحو الهاوية، فقد اختلس مما في عهدته من أموال المصنع، وأخذ يراهن ويقامر في أندية السباق في موسكو، ثم يستمر في الاختلاس حتى تضخَّم مبلغ ما سرقه وخشي افتضاح أمره، ولكن فتاة صغيرة تأتيه وتستطيع أن تنقذه من الموت، وتلقي عليه دروسًا وعظات في السير نحو الطريق المستقيم والاقتداء بالخُلق الروحي الكريم، هذه القصة صوَّرت ناحية من الحياة الثورية في موسكو، ما كنا ننتظر أن نقرأ عنها، تلك هي حياة أندية سباق الخيل وحياة المطاعم … إلخ.
وكتب ليدين بعد ذلك روايتين؛ «مارينا فينييفتسوفا» و«الكافر»، والرواية الثانية تعدُّ من أقوم رواياته، فهي من أكثرها تماسكًا في وحدتها، وبها كل الخصائص الفنية الروائية، وتتحدث هذه الرواية عن مشاكل شباب الجيل الجديد في روسيا، واتجه فيها إلى الموضوع الذي عالجه رومانوف؛ أي المسائل الخلقية والاجتماعية الهامة، وجعل مسرحها في محيط الطلبة والشباب المثقف، ولذلك فهذه الرواية لا تصور الحياة اليومية فحسب، بل تصوِّر ما هو أبعد من الحياة اليومية، وبطل هذه الرواية شاب حدث هو كيريل بزسونوف، أصيب بعِدَّة محن خلقية، ثم ارتكب جريمة قتل وخشي العقاب ففكر هو وصديق له في أن يهربا من روسيا بمساعدة بعض المهربين في موانئ البحر الأسود، وبينما هما على وشك الهرب من روسيا ينتاب كيريل شعور بالندم على كل مآثمه، ويغير رأيه في الهرب، ويعزم على العودة إلى موسكو ليسلم نفسه للقضاء، وإذ هو في هذه الثورة النفسية العنيفة وقد استقر رأيه على ما استقر عليه يشعر بأن الحياة السعيدة قد عادت إليه، وأن السعادة قد خيَّمت على منزله، فينظر إلى مياه البحر ويطيل فيها النظر، ويفكر بضمير مطمئن ونفس راضية في عالمه الذي كان يعيش فيه، ويحدِّث نفسه عن قيم الحياة وعن العواطف الإنسانية، ولا سيما عاطفة الحب، ويفكر في الحياة الجدية ولذة الكدح والاجتهاد في الحياة.
(٥) كاتييف
يعد فالنتين كاتييف من أصغر كتَّاب روسيا السوفييتية سنًّا، فقد ولد سنة ١٨٩٧، ولما شبَّت الحرب العالمية الأولى كان لا يزال طالبًا فترك دراسته وتطوع في الجيش، وكانت له مغامراته إبان الحرب الأهلية في منطقة أوكرانيا، وفي سنة ١٩١٨ قابل بونين في أوديسا، ومكث معه مدة طويلة، ولذلك نرى كثيرًا من قصص كاتييف الأولى متأثرة إلى حدٍّ بعيد بفن بونين، مع ما امتاز به كاتييف نفسه بالفكاهات النادرة والتهكم اللاذع والسخرية القاسية، مما لا نجد لها مثيلًا في كتابات أستاذه، فأكثر قصص كاتييف ومسرحياته تحمل طابعه الخاص وما امتاز به من تهكم وسخرية كالتي نراها في قصة «المختلسون» التي نشرها سنة ١٩٢٧، «جزيرة إهرندوف» وغيرهما، وبجانب هذه القصص التي تحمل خصائص فنِّ كاتييف نرى قصصًا تخلو من تهكماته وسخريته، ففي مجموعة قصصه القصيرة «الأب»، وفي القصة التي تحمل عنوان المجموعة نرى قصة رجل عجوز من المحافظين كان يعيش هادئًا مطمئنًّا في إحدى الموانئ الجنوبية بروسيا، وكان يعيش بما يلقيه على بعض الطلبة من دروس، وكان هذا الرجل قد وضع كل آماله في ولد له وهو ضابط سابق، وقد سيق هذا الابن إلى السجن بتهمة معارضته لمبادئ الثورة ومكث في السجن مدة طويلة، ثم أفرج عنه فعاد إلى أبيه فإذا به يجد نفسه قد فقد عطف أبيه، ولم تصبح له في نفس الأب تلك المكانة التي كانت له من قبل، فيترك أباه ويركن إلى مكان بعيد هادئ يعيش فيه بمعزل عن أصدقائه الذين تنكروا له. ويفقد الأب منصبه الذي كان يعيش عليه ويصبح فقيرًا معدمًا، ويعيش مدة من الزمان بائسًا وتدور حوادث القصة، فالابن يرحل إلى موسكو حيث يولى على عمل مُكسب، ولم يشأ أن يدرك أباه في أيامه الأخيرة، ولا أن يُعِينَ أباه الفقير البائس، فيموت الأب وليس بقربه أحد. القصة على هذا النحو دراسة تحليلية لجيلين مختلفين من الناس، وبها صور جميلة جدًّا للحياة الخاملة في إحدى مُدن السوفييت، وفي نفس هذه المجموعة قصة أخرى بعنوان «النيران»، وهي مأساة عن مصرع زوجة صغيرة لرجل شيوعي قتلها زوجها، ثم ما تبع ذلك مما قام في نفس الزوج من تأنيب ضميره وعذاب الروح وما قام في نفسه من شك، فالقصة دراسة نفسية لهذا الرجل في موقفه هذا.
في كتابات كاتييف أسلوب جميل ينفرد به عن غيره من كتَّاب الحياة اليومية، ويكاد أسلوبه يصل إلى أن يكون شعرًا غنائيًّا، وهذه الظاهرة نراها واضحة في قصته، «الصلبان الصفراء»، وبطلة هذه القصة امرأة قذفت بها الثورة إلى إحدى السفن، وكانت هذه المرأة بائسة حقًّا، نظرت حولها فلم تجد شيئًا تنتظره من الحياة، ففكرت في الانتحار، ولكنها تجد عن طريق المصادفة خطابًا قديمًا ملقًى بالسفينة، ووجدت بالخطاب بعض زهرات ذابلة من زهر الليلاك الصفراء، فأعاد منظر الزهر إلى ذاكرتها ذكريات قديمة عزيزة عليها، فقد ذكرت حُبها لزوجها وموت طفلها وشنق أخيها، ثم ما قاسته من جوع وآلام منذ قيام الثورة، تذكرت كل حياتها الماضية بما فيها من سعادة وشقاء، ثم أخذت تفكر في شئون الحياة وما فيها من مفارقات، تصورت السعادة والشقاء، وما في الحياة مما يدهش وما فيها مما لا يحتمل ولا يطاق، وتحققت أن كل ما في الحياة من حب وموت وسعادة وشقاء كلها لون واحد وشيء واحد، وأن الحياة ليس لها ما تخيله الناس من تحليقات في الأجواء العليا ولا هبوط إلى أسفل سافلين، بل هي الحياة! فلا حاجة لها إذن في الانتحار.
و«المختلسون» قصة تنفرد عن غيرها من الأدب الذي يتحدث عن الحياة اليومية، وإن كان موضوعها الحياة اليومية وخاصة الحياة عند طبقة الموظفين الذين يعملون في بنك بموسكو، تتحدث القصة عن بعض الموظفين، وقد اختلسوا من البنك مبلغًا من المال وهربوا من موسكو، وأخذوا يتنقلون في أنحاء روسيا، ففي هذه القصة نرى سخرية كاتييف وتهكمه بهؤلاء المختلسين، ولا سيما في وصفه وهم يهربون ويتنقلون، وفي حديثه عن علاقاتهم بطبقة الدهماء والسذَّج من الشعب.
وقد أدى «كاتييف» ضريبة مشروع السنوات الخمس الأدبي فأخرج رواية «تقدم أيها الزمن»، وسنتحدث عنها في الفصل الخاص بمشروع الخمس سنوات.
(٦) زوتشينكو
للكاتب القصصي ميخائيل زوتشينكو المولود سنة ١٨٩٥ مكانةً خاصة بين أدباء روسيا الحديثة لا بين كتاب الحياة اليومية فحسب، فربما كان هذا الكاتب أحب الأدباء إلى الجمهور، ويقبِل الناس على قراءة كتبه إقبالًا لا يجده كاتب آخر من الكتاب المعاصرين. وليس السوفييت فقط هم الذين يحبون قراءته ويتهافتون على اقتناء مؤلفاته، بل نرى الروسيين الذين تركوا روسيا وآثروا الهجرة إلى أنحاء أوروبا المختلفة يتلقفون ما يكتبه هذا الأديب، ويشغفون بقراءة مؤلفاته ويجدون في كتاباته لذة عقلية لا تعدلها لذة؛ فقد استطاع هذا الكاتب أن يبدع لنفسه أسلوبًا خاصًّا يميزه عن غيره من كتاب السوفييت، وأن يجد لنفسه طريقة تخالف ما اعتاده الناس عند غيره من كتَّاب السوفييت، وبجانب ذلك كله يمتاز زوتشينكو بروح الفكاهة الساخرة وبالتهكم الشديد اللاذع، بحيث نستطيع أن نقول: إنه الآن أقدر كاتب تهكمي في الأدب السوفييتي، ويقول النقَّاد: إن زوتشينكو لم يصل إلى مكانته الرفيعة في عالم الأدب دفعة واحدة، بل تطورت كتابته حتى بلغت ما بلغته الآن، وانفرد بأسلوبه الخاص وتهكمه اللاذع الذي لا يضارعه أحد في هذا الفن.
عندما شبت الحرب الأوروبية الأولى كان زوتشينكو طالبًا في كلية الحقوق ببتروجراد فترك الجامعة ليتطوع في تلك الحرب سنة ١٩١٥، وفي سنة ١٩١٨ انضم إلى صفوف الجيش الأحمر، ولذلك كانت قصصه الأولى في الحديث عن الحرب الأوروبية الأولى والحرب الأهلية الروسية، وقد نشر هذه القصص في تقويم جماعة إخوان سرابيون، وفي هذه القصص الأولى نرى النواة التي أثمرت بعد ذلك خصائص كتابة زوتشينكو، وإن كانت كتابته إذ ذاك تشبه إلى حدٍّ كبير كتابة بعض الكتَّاب الذين عرفوا بالكتَّاب الآليين. جعل الكاتب قصصه الأولى على لسان ضابط من ضباط الجيش الأحمر، ويتضح من حديث هذا الضابط أنه لم يأخذ من الثقافة العالية إلا بقدر بسيط، فلهجته وألفاظه مزيج من اللغة الأدبية ولغة الشعب، ثم تطور أسلوب زوتشينكو بعد ذلك في قصص قصيرة أخرى ظهرت بعد الأولى، فنرى فيها فكاهة زوتشينكو وسخريته، وأما أسلوبه فقد اعتدل بعض الشيء، ثم كتب قصصًا فكاهية أخرى بلغة هي أقرب إلى لغة الصحافة منها إلى لغة الأدب الرفيع، وكان موضوعها وصفًا تهكميًّا بفروع الإدارة السوفييتية وبسوء النظم الشيوعية، ثم تطورت كتابته بعد ذلك حتى أخذت هذا الأسلوب الفريد الذي يعرف به الآن.
وكذلك انفرد زوتشينكو بطريقة خاصة في خلق أشخاص قصصه، حتى إنه قد أفاض على بعض شخصياته القوية من نفسه وروحه ما يجعلها تعبر عن شخصيته هو.
وقال النقَّاد: إن بعض شخصيات قصصه ما هي إلا صور زوتشينكو نفسه فيما عرف به من لهجة حديثة؛ إذ هو يتحدث برطانة رجل لم ينل من العلم إلَّا حظًّا بسيطًا، فهو قريب الشبه ببعض الصحافيين السوفييت الذين اندفعوا في استعمال لهجة تبعد عن اللغة الروسية السليمة، وتقرب من لهجة الشعب، ومن ناحية أخرى فإن حياة زوتشينكو تثير الضحك والشفقة، فهو يأتي ببعض أمور لا ينتظر أن تصدر من كاتب فذٍّ له مكانته في عالم الأدب السوفييتي. مع ذلك كله فزوتشينكو أحق كتَّاب السوفييت بأن يلقب «بكاتب الحياة اليومية»؛ لأنه يصور في كتاباته أصدق الصور للحياة وللأيام السوفييتية، يرسم الحياة كما هي من غير أن يتدخل في رسمه الخيال، ويجرد صوره من مبالغات الكتاب الذين اعتادوا أن يسبغوا البطولة على شخصياتهم مدعين أن الأيام السوفييتية هي خير من السابقة، فزوتشينكو كان واقعيًّا في كل ما كتب، ولم يحاول أن يخدع نفسه أو يخدع جمهوره بإضافة ما ليس في الحياة اليومية من وقائع، ولهذا حار بعض المعتدلين من نقَّاد السوفييت في أمر هذا الكاتب؛ إذ لم يستطيعوا أن يتبينوا في أول الأمر موقفه من السوفييت، أهو معهم أم هو يهاجمهم بقلمه وبطريقته التهكمية اللاذعة سواء بأسلوبه أم باختياره الموضوعات التي تحدث عنها، ولكن هؤلاء النقَّاد عادوا أخيرًا إلى الإشادة به والإطناب في مدحه؛ لأنه تهكم مرة بسخرية قاسية بحياة طبقة الأغنياء!
ويعد زوتشينكو من أكثر كتَّاب روسيا السوفييتية إنتاجًا، فله الآن عدد كبير من مجموعات قصص قصيرة، ويذكرنا فنه في هذه القصص بالكاتبين جوجول وتشيكوف، وأكثر حديثه إنما عن الطبقات الدنيا من الشعب، تلك الطبقات التي تتجسم فيها ألوان الذل والحقارة والحياة الدنيئة إلى غير ذلك من ضروب الحياة النفسية، ففي قصته «العقل» يشعر القارئ بما في الحياة من مآسٍ، وبالرغم من تهكمات زوتشينكو وفكاهاته في تلك القصة فقد وصف حياة الذلة التي يحياها بعض الطبقات، وإذا عرفنا أن فكاهات زوتشينكو وتهكمه إنما هي نتيجة عقدة نفسية؛ لأنه في قرارة نفسه حزين مكتئب وقانط متشائم، فظهرت هذه العقدة الباطنية الحزينة بما يضادها من تهكم وسخرية، إذا عرفنا ذلك كان من الصعب أن يتذوق الإنسان فكاهات زوتشينكو وتهكماته إلا إذا كان يشعر بشيء من الحزن يماثل حزن الكاتب، بل ذهب بعض النقَّاد إلى أن غير الروسيين لا يستطيعون أن يتذوقوا كتابات زوتشينكو، ومن الصعب جدًّا أن ينقل أدبه إلى لغة أجنبية أخرى.
ومن أحسن قصصه «إعادة الشباب» نشرها سنة ١٩٣٣، وهي قصة عالِم روسي من علماء الفلك، لم يظهر عاطفته نحو الاشتراكية، بل كان يبغض النظم الشيوعية القائمة بالبلاد دون أن يدري سببًا لذلك، كان هذا العالم يرنو إلى شبابه ويريد أن يستعيد نشاطه في سنِّ الشباب، وأن يستردَّ صحته وحيويته في الشباب، وأخيرًا وفق إلى ذلك كله بفضل قوة إرادته، فلما شعر بدم الشباب يعود إلى عروقه مرة أخرى هجر زوجته العجوز، وتزوج من فتاة صغيرة من أسرة وضيعة أخذت عن ذويها كل السيئات، فالبرغم من أنها لا تزال في التاسعة عشرة من عمرها استطاعت أن تتزوج خمس مرات، وأن تعرض نفسها للإجهاض سبع أو ثمان مرات، ولك أن تتصور بعد ذلك خلق ومعاملة هذه الفتاة التي اتخذها هذا العالِم حليلة له، ورحل معها إلى بلاد القرم، ولكن سرعان ما تمله هذه الفتاة، وراحت تعبث مع بعض الشبان، وعاد الأستاذ العالِم ذات يوم إلى منزله فوجد زوجه بين ذراعي أحد هؤلاء الشبان، فكاد يصعق من هول ما رأى وأغمي عليه، وعندما أفيق كان الشلل قد أصاب أحد جنبيه، وأخيرًا شفي من مرضه هذا واستطاع بقوة إرادته أيضًا أن يحافظ على ما استرده من شباب، فيعود إلى زوجته الأولى وإلى أسرته، ولكن قلبه لا يزال داميًا من جرحه العميق من جراء ما فعلته الفتاة الخائنة.
في هذه القصة صور مختلفة لبعض نواحي الحياة اليومية في روسيا السوفييتية صورها زوتشينكو بصور مثيرة للضحك، فهو يسخر بالعلم والعلماء وبالطب والأطباء، بل يسخر أيضًا بقارئ القصة، ففي مقدمته لهذه القصة يقول: ليس بقصتنا هذه المرة إلا شبه بسيط لما تعود الناس أن يقرأوه في الكتب الأدبية، كما أنها لا تشبه قصصي السابقة إلا بعض الشبه، وها هو كتابي هذا أقدمه إليك، ففيه كل ما تنتظره من كتاب تأخذه لتطالعه ليلًا؛ لتفرج به عن نفسك متاعب يومك، ثم تقذف بنفسك في خضم حياة الناس الآخرين، فتخوض في عواطفهم وأفكارهم، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فكتابنا هذا شيء آخر ولون جديد! أأقول: إنه لون من ألوان الموضوعات العلمية كُتب بلغة الحياة اليومية — وهي لغة ليس بها تماسك وأسلوبها غير مصقول — جرت على ألسنة بعض أشخاص لهم أثر شديد في مختلف طبقات الهيئة الاجتماعية، ولا سيما هؤلاء الذين لهم شيء من الدراية العلمية والذين تنقصهم الرغبة بل الشجاعة لمعرفة ما يجري في الحياة! سيعرض هذا الكتاب لبعض موضوعات معقدة بعيدة كل البعد عما تعود الناس أن يقرءوه في الكتب الأدبية الخالصة، وغير مألوف لدينا أن يتحدث كاتب عن مثل هذه الموضوعات! فمن هذه المسائل مثلًا مسألة البحث عن إعادة الشباب وتجديد النشاط والحيوية واسترداد الصحة … إلخ، وسنتحدث أيضًا عن معضلات إعادة تنظيم حياتنا، وما يحتمل أن يكون عليه أمر إعادة هذا التنظيم من اشتراكية أو رأسمالية، مما قد يخلقه تصورنا، وسنلمس بجانب هذا كله بعض المسائل الحيوية التي لها مدلولاتها على ضوء ما يجري في أيامنا هذه!
حسن إذا كان هذا الكتاب ليس بكتاب علمي، أو إذا اتفق المجمع العلمي أو إدارة الأبحاث العلمية مع اتحاد المؤلفين والمجمع الأدبي على أنه ليس بهذا الكتاب أي أثر من العلم، أو وجدوا هذا الأثر العلمي ولكنهم نظروا إلى المؤلف فوجدوه لم يدرس الآراء الماركسية اللينينية دراسة تامة! في هذه الحالة نستطيع أن نسمي هذا الكتاب باسم وسط لا ضرر منه؛ إذ هو لا يغشى العين ولا يؤذي أذن الناس أو النظم القائمة. فلنطلق على هذا الكتاب اسم «فيلم تعليمي» فيكون شأنه شأن هذه الأفلام القصيرة التي تسمى بالأفلام التعليمية، والتي نراها على الشاشة البيضاء، والتي يحمل بعضها اسم «لماذا تمطر السماء»، أو «كيف تصنع الجوارب الحريرية»، أو «ما الفرق بين الإنسان وكلب البحر»، هذه أمثلة بعض الأفلام التي لها موضوعات علمية وصناعية هامة جدًّا تستحق أن تدرس وتعرض على الناس، وعلى هذا النحو ستكون لنا في هذا الكتاب بعض مناقشات علمية في عدة أسطر وستوضح كل التعليقات الأمر على حقيقته، وبعد ذلك كله سيأتي القارئ ويتعب نفسه من آراء الناس!
ومما جاء في تلك القصة في وصف علاج الأستاذ، وكيف تم له الشفاء من مرضه. مكث ستة أشهر تحت مراقبة الأطباء الشديدة وعنايتهم الفائقة، وهم يعالجونه بمختلف أنواع العلاج، فقد وصفوا «بروميد» و«ستركتين» و«كاكوديلات» و«فيتين»، وعالجوه بالحمامات والحقن، ولف في ملاحف مبللة، وسلطوا عليه الأشعة الكهربائية، وكانوا دائمًا يسألونه عن ألمه، وإذا كان قد مرض قبل ذلك مرضًا خطرًا أو إذا كان يدمن المكيفات والمخدرات، أو إذا كان مفرطًا في شهواته البهيمية، وحدثوه عن مضاعفات الأمراض العصبية، وسلطوا على رأسه ضوءًا أزرق ليدفئوه، وذهبوا إلى أكثر من ذلك فقد حاولوا تنويمه تنويمًا مغنطيسيًّا حتى يستطيعوا أن يوحوا إليه ببعض الآراء التي تبعث في النفس الثقة والصحة، حدث هذا كله، ومع ذلك لم يحدثه واحد منهم بألفاظ قليلة مفهومة كيف نشأ مرضه، ولم يخاطبه واحد منهم بلغة سهلة يسيرة كيف يستطيع أن يقاوم هذا المرض مقاومة لا تدخل فيها الجرعات والحبوب الطبية.
وفي إحدى قصصه سخرية قاسية وتهكم لاذع بزواج سوفييتي، فالزوجان شيوعيان متطرفان، ويعمل كل منهما بحكم شيوعيته في عمل بعيد عن عمل الآخر، ولذلك فالزوجان يعيشان متباعدين ولا يتقابلان إلا كل خمسة أيام مرة واحدة، يقول زوتشينكو في إحدى فقراته: «ليدا تشعر بشيء من الأسى يحزُّ قلبها، ولكنها في الوقت نفسه تعجب كيف تزوجها بمثل هذه السرعة، وكيف انتظر قليلًا حتى استطاع العثور على مسكن ونقل إليه الأثاث، إن هذا كله مع مشاكله الأخرى يؤثر في مجرى عمله، إنه يمتدحها لعقلها الراجح ولآرائها السياسية الناضجة، وكثيرًا ما صرَّح أنه تيقن تمامًا أنه لم يخطئ باختيارها زوجة له، فما كان في استطاعته في الوقت الحاضر أن يجد زوجة خيرًا منها، وتبسم ليدا لمدائحه وتنظر إليه بعينين ملأهما الحب والإعجاب، وتقول: «إنها أيضًا لا تجد في هذا الوقت زوجًا خيرًا منه. فكانا سعيدين على طريقتهما الخاصة التي لا يعكِّر صفوها العناق والقبلات».»
ومن الطريف حقًّا أن نجد الصحف السوفييتية تتحدث عن القصة الأولى «إعادة الشباب» بأنها محاولة جديدة لإدخال العلم في الأدب، وعرض العلم والأدب معًا، ثم قامت مناقشات عديدة حول هذا الموضوع اشترك فيها عدد كبير من أكبر علماء السوفييت أمثال الأستاذ يوفي وغيره، وناقشوا موضوع مزج العلم بالأدب، ولم يلاحظ واحد منهم أن زوتشينكو لم يفكر في مزج العلم بالأدب حقًّا، إنما أراد بقصته أن يتهكم بالعلماء والأطباء قبل كل شيء.