كتَّاب الأدب الشعبي
(١) من سنة ١٩١٨ إلى ما بعد مشروع السنوات الخمس
كانت مسألة إيجاد لون خاص من ألوان الثقافة للشعب، وابتداع ضرب خاص من الثقافة الشعبية للأدب الشعبي، من المسائل التي طرحت على بساط البحث منذ بدء قيام الحكومة الروسية الشيوعية، وسرعان ما أصبحت هذه المسألة من المشاكل العويصة التي أثارت حولها مناقشات عنيفة حادة وصرخات عالية مدوية واقترحت لها حلول مختلفة، وكثيرًا ما كان يصل اليأس بأولي الأمر فيضطرون إلى أن يقاوموا هذا المشروع وإهماله، وأحيانًا أخرى كان زعماء السوفييت السياسيون يوجهون إليه همتهم، ويضعون هذا المشروع موضع بحثهم ودراستهم، وكذلك فعل الأدباء وبعض مَن لهم صلة بالأدب، ومهما يكن من شيء فنستطيع أن نميِّز ثلاثة أدوار مرت بها هذه المشكلة حتى سنة ١٩٣٢، ويسير بجانب هذه الأدوار الثلاثة ثلاثُ خطوات أخرى تطور بها الأدب الشعبي، الذي سار موازيًا للخطة العامة لتطور الأدب الروسي الثوري. ففي الدور الأول والثاني قام تياران متضادان حاول كل منهما أن يكتسح الآخر ويسوده، فقامت لذلك مشادات عنيفة بين أصحاب كل رأي، ولكن استقر الحال بعض الشيء في الدور الثالث وهدأت المناقشات بعض الهدوء، ففي الدور الأول وهو الذي يُعرف في تاريخ الأدب الروسي السوفييتي بطور التحول، ظهرت الدعوة إلى ضرورة خلق ثقافة شعبية، وقامت هذه الدعوة مع الثورة سنة ١٩١٨، وكان زعيم هذه الدعوة هو الزعيم بوجدانوف.
وكان بوجدانوف أحد النظريين الماركسيين، وكان قبل الثورة الروسية قد ركَّز جهوده في الدعوة للثقافة الشعبية، حتى إذا قامت الثورة وكان أحد أبطالها أخذ في تدعيم دعوته، وكان الأساس الذي بنى عليه بوجدانوف نظريته إبان الثورة أن الطبقة العاملة في الاشتراكية يجب أن تقوم على دعائم ثلاث؛ الاقتصاد والسياسة والثقافة، والثورة إنما قامت للصراع الشعبي في المسائل الاقتصادية والسياسية، فيجب أن يصارع الشعب لثقافة الشعب، بل ذهب بوجدانوف إلى أبعد من ذلك، فأصرَّ على أن يكون الصراع للثقافة الشعبية بعيدًا كل البُعد عن السياسة والاقتصاد، وأن تعفى الثقافة الشعبية من رقابة السياسيين من رجال الحزب الشيوعي، ومن هنا وجد نظام للثقافة الشعبية مستقل له خصائصه وطرائقه.
وفي سنة من سني الثورة ازداد النشاط نحو الثقافة الشعبية وأصبح هذا النشاط ملموسًا، ولكنه كان أشبه شيء بارتفاع حرارة المحموم، فقد أنشأت مجلة خاصة باسم الثقافة الشعبية وأسست مراكز يتعلم فيها العمال الفنون والأدب على أيدي أساتذة أخصائيين في الفنون والآداب، فكان العمال يلقنون كيف ينشدون الشعر وكيف يكتبون القصص، ويمرنون على ذلك، ونجحت هذه المؤسسات وجذبت إليها عددًا كبيرًا من العمال والفلاحين، فكان نتيجة حركة الثقافة الشعبية هذه أن ظهر أول فوج من كتَّاب الأدب الشعبي، وهم الذين أطلقوا على أنفسهم اسم «كزنتسيا» أي «مصنع الحدادة».
ويمكننا أن نميِّز خصائص الأدب الشعبي عند عدد من الشعراء الذين هم في الواقع من العمال أمثال جاستيف، جيرازيموف، كيريلوف، كازين، ألكسندر وفسكي وغيرهم. على أن بعضهم كان قد بدأ في قرض الشعر قبيل نشوب الثورة، وإذا أردنا أن نتعرف خصائص أدبهم الشعبي فمن ناحية عنصر الموضوع، فأهم موضوعاتهم هو موضوع الثورة، وإذا تركنا جانبًا رسالة الثورة في أشعارهم لا يبقى إلا شيء بسيط جدًّا، بحيث لا نستطيع أن نقول: إن أدبهم يتميز بشيء له قيمة تذكر، أما من ناحية الشكل والفن فطريقتهم مأخوذة من المذهب الرمزي، وإن كانوا قد استعاروا شيئًا بسيطًا من فنِّ مذهب أصحاب المستقبل ومن المذهب الخيالي، وأما رسالة أشعارهم فمن الطبيعي أن تكون رسالة ثورية، ولكنها ظهرت محافظة إلى حدٍّ ما على الآراء العامة التي كانت تسود ذلك الوقت، فصبغوا العناصر الثورية بصبغة شديدة للبطولة الخيالية وأبعدوها كل البعد عن الحقائق الواقعية، حتى إن بعض هؤلاء الشعراء حلَّقوا بخيالهم فأوجدوا نوعًا جديدًا من «الكون» الثوري، وغيروا الاصطلاحات الثورية والآراء الثورية والمصطلحات الصناعية وجعلوا بدلها «أفلاك الكواكب» وهالة الشمس والقمر … إلخ، وهكذا ذهب بهم الغلو والمبالغات إلى أبعد مذهب كما أكثروا من بهرج الكلام والإطناب، فأجرموا بذلك إذ استعملوا أسوأ أنواع الرمزيات، ثم إنهم مزجوا بعض عناصر الثورة بالرمزيات القديمة وحاولوا إخفاء هذه الرمزيات القديمة وراء المصطلحات العلمية الثورية، ومع ذلك كله فهذه الحركة لم تفتح ميادين جديدة في تقدم الأدب الشعبي، وانتهى هذا الدور سنة ١٩٢٣.
ونلاحظ أن حركة الثقافة الشعبية لم تنجح في إبداع أدب شعبي يستحق أن يسمى بهذا الاسم، وأن آراء بوجدانوف في الدعوة للأدب الشعبي — المستقل عن النظم السياسية والاقتصادية وعن سلطان الحزب الشيوعي — بالتدريب والتعليم في الفنون والآداب، هذه الدعوة قوبلت بالرفض من زعماء السوفييت المسئولين، حتى إن لينين وتروتسكي لعنا ما سمي بمذهب بوجدانوف، ومن الطريف أن الشيوعيين الآن يشيدون بفضل آراء بوجدانوف، ودعوته في سبيل الثقافة الشعبية وفي إدخال العمال والفلاحين في محيط الحياة الثقافية والفنية، ولكنَّهم مع ذلك كله يقررون في الوقت نفسه أن تجربة بوجدانوف قد فشلت. وفي سنة ١٩٢٣ كان رأي بوجدانوف القائل بالحاجة الماسة في هذه الأوقات المناسبة لوجود نوع من الثقافة الشعبية، كان هذا الرأي مجال مناقشات وجدال وعرض للبحث من جديد، واستقر الرأي على رفض هذه الآراء، وكان الشيوعيون هم الذين رفضوا آراء بوجدانوف، ولم يوافقوا على تأسيس مراكز خاصة للثقافة الشعبية.
ولعل أقسى ما وجه لهذه الفكرة وأشد الأقوال طعنًا فيها ما ورد في مقالات تروتسكي التي جمعت في كتاب بعنوان «الأدب والثورة»، ففي أحد المقالات بعنوان «العلاقات بين طبقة الأثرياء والثقافة الشعبية» قال تروتسكي: «ليس في استطاعتنا أن نثير مسألة خلق ثقافة جديدة، أما هذه الآراء التي بنيت على أساس تاريخي واسع إبان حكم الدكتاتورية القيصرية، وإعادة تنظيم ثقافة سيعيد الحال إلى دكتاتوريةٍ ذات مخالب حديدية لم يوجد لها مثيل في التاريخ، يجب أن تختفي هذه الآراء وألا تظهر، وعلى ذلك فيخيل إليَّ أننا سنضطر في النهاية إلى أن نقول: إنه ليس هناك ما يدعو إلى ثقافة شعبية، بل يجب ألا تكون هناك ثقافة شعبية. فمثل هذه الكلمات «الثقافة الشعبية»، «الأدب الشعبي» وأضرابها خطرة؛ لأن أصحابها المتشدقين بها يحاولون خطأ أن يضغطوا ثقافة المستقبل، وأن يضيقوا عليه الخناق بحدود أيامنا الضيقة! وهم في الوقت نفسه يزيِّفون فنون المناظرات ويشوِّهون مقاييس الكمال الأدبي، ويخالفون النِّسب المقررة في الفنون، ثم هم يزرعون العجرفة والكبرياء في نفوس الطبقات البسيطة من العمال والفلاحين، وهذه الطبقات هي التي لها خطرها، بل لها خطرها الشديد.»
هذا ما جاء في مقال تروتسكي في الطعن على آراء بوجدانوف، والحق يقال: إن نظرية بوجدانوف في الثقافة الشعبية المستقلة عن النظم الاقتصادية والسياسية نظرية مبهمة غامضة إلى حدٍّ ما، ولا سيما في مسلكها نحو الفنون القديمة والآداب القديمة، بالرغم من أن هذه النظرية لم تقل بطرح الفنون القديمة، بل كانت تدعو فناني الشعب إلى أن يكونوا تلاميذ للفنانين القدماء، وأن يستفيدوا من أعمال أساتذتهم في توجيه الحياة الشعبية، وفي رقي الشعب حتى يصلح أن تكون منه الطبقة الحاكمة، حتى ذهب لونا شارسكي — وهو أول قوميسير سوفييتي للتعليم والذي لعب دورًا هامًّا في المرحلة الأولى للثقافة الشعبية — إلى أن يكون حريصًا جدًّا بل كان يلحُّ في أن يأخذ أدباء الشعب عن الطبقة المثقفة من الأثرياء القدماء وأن يتعلموا عنهم الآداب والفنون.
ولما عادت الحياة الأدبية التي امتاز بها دورها بعد الحرب الأهلية. وصل النِّقاش بين أنصار الثقافة الشعبية وخصومها إلى مرحلة دقيقة جدًّا، ذلك أن أكثر الأدباء إنتاجًا في هذا الدور لم يكونوا من أنصار الثقافة الشعبية ولم يكونوا في حقيقة الأمر من الكتَّاب الشيوعيين، بل هم قبلوا الثورة — لسبب أو لغير سبب — على أنها حقيقة واقعة لا مفرَّ منها، هؤلاء الكتَّاب الذين عبر عنهم تروتسكي بأصدقاء السفر، وهو اللقب الذي التصق بهم عدَّة سنوات وأصبح لقبًا شائعًا في المحيط الأدبي السوفييتي بالرغم مما في هذا اللقب من غموض.
وقد وصف تروتسكي هؤلاء الكتاب «بأنهم فشلوا في اعتناق مبادئ الثورة إبان شدتها، حتى إن نتائجها الشيوعية الأخيرة كانت غريبة عنهم»، هؤلاء الكتَّاب ومنهم قادة القلم أمثال فدين، ليونوف، زوتشينكو وغيرهم كان لهم منذ أول الأمر مجلة أدبية خاصة هي مجلة «كراسنايانوف»، وهي أول مجلة أدبية شهرية كبيرة أُنشئت سنة ١٩٢١، وكان رئيس تحريرها رجلًا يدعى فورونشكي، وهو ناقد أدبي له مكانته الممتازة ورأيه الصائب، ولكنه رجل مخادع ماكر يغرر بمن يتصل به ويحرضه على أن يفعل ما يريد، صادق هذا الرجل جماعة «أصدقاء السفر»، وما زال يغذي حركتهم الأدبية حتى أصبح رئيسًا لهذه الجماعة وزعيمها في الأدب السوفييتي، ولكنَّ فورونسكي ومجلته وأصدقاءه سرعان ما وجدوا أمامهم خصمًا عنيدًا قويًّا أخذ في معارضتهم، وذلك أن جماعة من الأدباء ألفوا جمعية باسم «أكتوبر» وضمت إليها جماعة من الكتَّاب الشيوعيين الذين يعضدون الثقافة الشعبية ويعاونون الأدب الشعبي، ومنذ سنة ١٩٢٣ أخذوا في إصدار مجلة خاصة بهم تعرف باسم «نابوستا» واتخذوا لأنفسهم منهجًا لا يتفق مع الكتَّاب الذين عرفوا بأصدقاء السفر، بل ذهب جماعة أكتوبر إلى أبعد من ذلك، فقالوا: إن جماعة أصدقاء السفر ليسوا من أدباء الثورة ولا مِن مؤرخيها، بل هم الذين شوهوا الثورة وقبحوها وفضحوها.
وفي هذا الوقت نفسه كان فرونسكي وغيره من نقاد السوفييت يذهبون إلى أن جماعة أصدقاء السفر هم الأدباء الذين وصفوا الثورة وأرَّخوها، وكثيرًا ما ذهب جماعة أكتوبر إلى الطعن في أدب جماعة أصدقاء السفر بقولهم: إن إنتاجهم الأدبي ما هو إلا عمل آلي فاسد لا روح له ولا فنَّ فيه، وإنهم يحاولون أن يقيموا صلة بين الماضي البغيض والحاضر، فجماعة أكتوبر على هذا النحو ذهبوا إلى التطرف والغلو في آرائهم حتى نادوا بأنه من الواجب الضروري أن نبدع في الحال فنًّا شعبيًّا جديدًا لا يمتُّ إلى الماضي بصلة، وإن إبداع مثل هذا اللون من الفن والأدب من السهولة واليسر بمكان، وذهب بهم خيالهم ووهمهم إلى الإلحاح في خلق الأدب الشعبي، وأعلنوا أن كل شكٍّ سياسي غير مسلم به، ومعنى هذا أنهم نادوا بإخضاع الأدب الشعبي للسياسة، وفي ذلك يقول رئيس تحرير مجلتهم: «إن سياسة حازمة شديدة تضع سياسة أدبية وفنية واضحة توافق السياسة الشيوعية، وتسير تحت إشرافها ستكون منهجنا ومبدأنا في هذه المجلة.»
الحق أن هذه الآراء التي نادى بها جماعة «أكتوبر» ودافعوا عنها تتفق اتفاقًا كبيرًا مع نظرية بوجدانوف في الفنِّ الشعبي، ولكن اختلفوا عن بوجدانوف في الوسيلة لتحقيق هذه الآراء، فبينما أراد بوجدانوف أن يبعد كل الثقافة عن أداة الحكومة الرسمية وعن الحزب الشيوعي بصفة خاصة نرى جماعة أكتوبر على العكس من ذلك، يريدون أن يخضعوا الثقافة الشعبية إلى الحزب الشيوعي، وأن يستفيدوا من سيطرة الحزب على الحياة السياسية والاقتصادية بأن يحتضن الفن الشعبي أيضًا، وبذلك يستطيعون أن يستأصلوا بقسوة في السر أو في العلانية كلَّ الميول الأدبية التي لا تخضع للنظم الثورية، وقد أعلن أحد النقَّاد الشيوعيين «فيتشلاف بولونسكي» أن جماعة أكتوبر كانوا على وشك النجاح في سياستهم هذه لا لسمو فنهم ورقيه، بل لنظمهم وطرقهم التي أقرها الحزب الشيوعي صاحب السلطان، وقد قال هذا الناقد الشيوعي أيضًا: إن جماعة أكتوبر لم يزيدوا فتح أبواب الأدب بمفاتيحها العادية، بل استعملوا المفاتيح العامة التي يصلح كل مفتاح منها لفتح جميع الأبواب، كتلك التي يستعملها اللصوص وخدم الفنادق! ومن نظريات جماعة أكتوبر أيضًا أن الأدب الاجتماعي إنما يخدم أغراض طبقة معينة من الناس، وعلى هذا فلا بدَّ من أن ننكر جميع قوى الأدب الشعبي وغير الشعبي، وذهبوا مرة أخرى إلى القول بأن المقياس الأساسي لتقدير التيارات الأدبية أو الحقائق الأدبية هو بما يكون في مغزاها الاجتماعي، فالأدب يجب ألا يكون له إلا فائدة اجتماعية فقط، ولا سيما في هذه الأيام التي تدرس فيها شعور القارئ ونواحيه النفسية المختلفة، ولا سيما القارئ الشعبي، وهذه الدراسة النفسية هي التي توجه الأديب الشعبي إلى واجباته الأخيرة كواحد من منظمي المجتمع بما يؤديه في كتاباته الشعبية ومنتجاته الأدبية، فكيف إذن نشجع الآداب الأخرى التي يكثر فيها تخيلات الأثرياء وأشباه المترفين!
هذا القول وأشباهه هو في الواقع موجه لأدباء أصدقاء السفر، بل لكل الطبقة القديمة من الأدباء ومَن شايعهم. قام جدل عنيف بين صفوف الحزب الشيوعي نفسه وبين أدباء السوفييت حول هذه الآراء، وقد صرَّح أحد النقَّاد السوفييت بأن الأدب الروسي منذ فجر تاريخه لم يشهد مثل هذه المعركة الحامية من النقاش، وكان الجمهور في موقف الحائر أمام هذه الاتهامات الخطيرة التي وجهها كل جماعة إلى خصومهم. وبطبيعة الحال لم تؤد هذه الاتهامات إلى المحاكم القضائية؛ لأن المناقشات الأدبية مسموح فيها أن تكال التهم من غير رادع من القانون، فكان كل جماعة من الأدباء ينظرون إلى الجماعات الأخرى نظرة عداء ومقت شديدين، وكان على كل أديب أن يتخذ موقفًا محدودًا، إما مع جماعة أكتوبر أو مع الفريق الذي يعاديهم «جماعة المستسلمين» كما سماهم الأكتوبريون.
وكان أظهر الأدباء في هذا الصراع الأدبي وأشدهم غلوًّا هم النقَّاد «ليفيتش، جورباتشيف، إفرباخ» ومن النقَّاد الماركسيين القدماء: كوجان، فريتش، أولمينسكي. وكان معهم بعض أنصار حركة الثقافة الشعبية أمثال: ليبيديف، بوليانسكي وبليتينيف، فهؤلاء جميعًا كانوا يمثلون معسكر جماعة أكتوبر ويناضلون عن سياستهم في الثقافة الشعبية والأدب الشعبي، أما المعسكر الذي استطاع أن يقف في وجههم ويناضلهم نضالًا عنيفًا حادًّا فهم جماعة «كزنتسيا» أي مصنع الحدادة الذين أشرنا إليهم، وعلى رأسهم تروتسكي، فورونسكي، لوناخارسكي، بوخارين، راديك وغيرهم، فقد وقف هؤلاء في صف جماعة أصدقاء السفر ودافعوا عنهم، وكانت الموقعة الحاسمة بين المعسكرَين في مناظرة خاصة نظمها قسم النشر بالحزب الشيوعي في مايو سنة ١٩٢٤، وفي هذه المناظرة انهزم أنصار جماعة أكتوبر، ولكن لم تعلن نتيجة هذه المناظرة إلا بعد أن وافق عليها رجال الإدارة السياسية للحزب الشيوعي في سنة ١٩٢٥، وقد وضعت هذه الإدارة في قرارها المبادئ الأساسية للسياسة الأدبية للحكومة السوفييتية، وسنتحدث عنها في الجزء الثاني من هذا الكتاب، ويكفي أن نقول هنا: إن الإدارة السياسية للحزب الشيوعي رفضت أن تعترف بأن للأدب الشعبي قيمة تذكر، وعادت فأقرت سياستها نحو أصدقاء السفر، بل اعترفت بأدبهم وأبعدت الداعين إلى الثقافة الشعبية.
وكان لهذا الوضع الجديد أثر قويٌّ في نفوس الكتَّاب جميعًا، ولا سيما في جماعة الاتحاد السوفييتي للكتَّاب الشعبيين؛ فقد انقسم هؤلاء الأدباء وانسلخ عنهم جماعة بزعامة إفرباخ الناقد والكاتب الروائي الناشئ ليبدينسكي وأسسوا لأنفسهم مجلة خاصة بهم باسم نابوستا الأدبية تمييزًا لها عن مجلة نابوستا التي هي لسان جماعة أكتوبر، وكان من نتائج هذه القرارات التي صدرت سنة ١٩٢٥ أن أعطت العناصر غير الشعبية وغير الشيوعية مجالًا وقوة للإبداع الفني، وأعادت إلى الكتَّاب ثقتهم بأنفسهم وبأدبهم، وسار الأمر على هذا النحو حتى كانت سنة ١٩٢٩، وظهر مشروع السنوات الخمس، فانتهز إفرباخ وشيعته هذه الفرصة وأعلنوا حربًا أخرى على الأدباء، وعزموا على أن يضعوا حدًّا للحالة الأدبية والقضاء على «الأدب الرفيع المترف»، وألحَّ بعض النقَّاد الشيوعيين أن يساهم الفنُّ والأدب في مشروع السنوات الخمس، وقالوا: «يجب على الأدب أن يساعد مشروع السنوات الخمس.» وأصبحت هذه الجملة كلمة السر في معسكر هؤلاء النقَّاد، ووجدت هذه الجملة بطبيعة الحال آذانًا صاغية من المسئولين الرسميين فأيدوها وسرعان ما وجدت هذه الجماعة أنفسهم سادة الحياة الأدبية، ووضعوا أيديهم على كل ما له علاقة بالأدب، فسيطروا على هيئات تحرير الصحف والمجلات في الأدب والنشرات الدورية، وأعلنوا أنفسهم أنهم «الاتحاد السوفييتي للكتَّاب الشعبيين»، وكان قائدهم الأعلى هو الناقد إفرباخ، وقد جاء في إحدى مقالات إفرباخ: «إن الأدب يسير متثاقلًا ويأتي على مهل في مؤخرة الصفوف، ولم يساهم في جهود الأمة وحركاتها، بينما يجب على الأدب أن يكون في الطليعة وأن يشارك في كل الحركات العامة.» وقال مرة أخرى: «إن تصوير مشروع السنوات الخمس هو وحده مشكلة الأدب السوفييتي، وعلى الكتَّاب ألا يظلوا واقفين جامدين في مكانهم بمعزلٍ عن باقي طبقات الشعب، بل يجب أن يجند الكتَّاب والأدباء في الجبهة الأدبية.»
وهذا الرأي جاء في تقرير الاتحاد السوفييتي للكتَّاب الشعبيين سنة ١٩٣٠. ومن هنا يبدأ الدور الثالث من أدوار حركة الثقافة الشعبية، وهو دور محاولة صبغ الأدب السوفييتي بالصبغة الشعبية بالقوة، ولتدعيم هذه المحاولة قامت حملة شعواء برياسة إفرباخ وفرضوا رقابة شديدة لا حدَّ لها على كل الإنتاج الأدبي، وهاجموا بعنف وقسوة كل الكتَّاب الذين يكتبون في موضوعات لا يوافقون عليها، واتهموا كل كاتب يخالفهم بأنه خارج على تقاليد الثورة والشيوعية، وكان لهذا الاضطهاد وتلك الرقابة الأليمة أثرها؛ ذلك أن جميع الكتَّاب حتى جماعة أصدقاء السفر اضطروا إلى الخضوع والاستسلام، بل أخذوا يكتبون روايات لمشروع السنوات الخمس، أما المعتدلون من نقَّاد السوفييت أمثال فرونسكي وبولونسكي وغيرهما من الكتَّاب والنقَّاد، والذين كانوا يدافعون عن جماعة أصدقاء السفر، فقد طرد بعضهم من رحمة الاتحاد السوفييتي ونفي البعض الآخر.
وكذلك طلب إلى الكتَّاب أن يؤدوا بعض أعمال مفيدة لهم، ذلك أنهم أمروا بزيارة المراكز الصناعية والمزارع الاشتراكية، وطلب إليهم أن يصفوا مشاهداتهم في قصصهم ورواياتهم، وبذلك ظهرت بعض الصور الوصفية في أدب مشروع السنوات الخمس.
- (١)
كتَّاب المذهب الواقعي القديم الذي كان يمثله الكاتبان زناني وجوركي.
- (٢)
ما يسمى بالأدب الشائع.
- (٣)
جماعة صغيرة من كتَّاب ما قبل الثورة الذين كتبوا في الأدب الشعبي.
- (٤)
جماعة من صغار الكتَّاب انضموا إلى جماعة الثقافة الشعبية بعد الثورة، وأخضعوا أنفسهم لنظم الكتابة الروسية الحديثة.
أما جماعة زناني وجوركي من الكتَّاب فأشدهم تأثيرًا في الأدب الشعبي هما جوركي وسيرافيموفيتش، وإن كان جوركي لا يُعدُّ من الكتَّاب الشعبيين ولا يمتُّ إليهم بصلة، ولكن تأثيره في الأدب الشعبي كان تأثيرًا شخصيًّا إن صح هذا التعبير، وكذلك نقول عن سيرافيموفيتش قبل الثورة الروسية، ولكنه بعد الثورة أظهر في كتاباته، ولا سيما في روايته «التيار الحديدي» — وهي الرواية التي وصف فيها الحرب الأهلية في جنوب روسيا وروح الشيوعيين المعتدلين — أنه أهل لأنْ يكون من الكتَّاب الشعبيين، وإن كان أثره في كتَّاب الأدب الشعبي ضعيفًا أيضًا.
(٢) جلادكوف
وينتمي لهذه الجماعة أيضًا فيدور جلادكوف المولود سنة ١٨٨٣، واسمه الآن يتردد بين جمهور القرَّاء الروس حتى من كان منهم خارج روسيا. بدأ جلادكوف حياته الأدبية قبل الثورة ولكن ما أنتجه إذ ذاك كان تافهًا لا يقام له وزن، بحيث لم يبلغ مستوى قصص المجلات الشعبية إن لم ينخفض عنه، ومن أقدم ما كتبه بعد الثورة رواية: «المطهم الشرس» ظهرت سنة ١٩٢٦، وهي رواية بها مزيج من آراء الثورة بتقليد رخيص سيئ لفن دوستوفسكي، ولا سيما في محاولة معالجة سيكولوجية الحب المريض، وقد تسلط عليه هذا الموضوع فلم يستطع أن يقلع عن الحديث عن هذه العاطفة في كتاباته الأخيرة، وترجع شهرة جلادكوف إلى سنة ١٩٣٤ عندما نشر قصته «أسمنت»، فقد كان لظهورها دوي شديد وكأنها حدث جديد في تاريخ الأدب الشعبي، والحق أن مستواها يوازي مستوى فن ليونوف وفدين، وهذه القصة تدلُّ على تطور الأدب الشعبي الذي كان يغلب عليه الإنشاء والوصف إلى أدبٍ له منهجه وموضوعه، وأصبح له مدلولات نفسية واجتماعية حتى إن نقَّاد السوفييت في تقريظهم لهذه الرواية وضعوها فوق كل القصص، وترجمت القصة إلى عدة لغات أجنبية ولقيت نجاحًا كبيرًا خارج روسيا، حتى إن ما بيع منها بلغ رقمًا خياليًّا؛ إذ بلغ نصف مليون نسخة، وطبع على غلافها عناوين تذكرنا بما كان في العصر السابق حينما كانت بعض الكتب تحمل إقرار وزارة المعارف أو كلمة لأحد الشخصيات البارزة في المجتمع؛ لاعتماد هذا الكتاب وتقريره بمكتبات المدارس، فكذلك على غلاف رواية «أسمنت» تزكية الإدارة العليا للتعليم السياسي، وتصريح المجمع الرسمي للعلماء بتقريره في المدارس … إلخ.
تتحدث الرواية عن تطور الشيوعية منذ الحرب الأهلية، فالشيوعية أولًا لم تكن منظمة تنظيمًا دقيقًا، ولذلك فكانت ثورتها سببًا في أن تشتت الحياة في البلاد، ثم بعد أن نظمت عاد إلى روسيا عصر سلام وتجديد ما دمرته الثورة وعودة الحياة إلى مجاريها، وبالأخص عودة العمل في معمل كبير للأسمنت من السهل جدًّا أن ندرك أن مسرح الرواية في مدينة نوفوروسك المعروفة «بالأسمنت»، ثم يتحدث الكاتب عن تشتت الحياة القديمة وانحلال العلاقات العائلية وانبعاث خلق وطباع جديدة، بل وجود حياة جديدة، وكل الرواية ملئت حماسة لهذا البناء الجديد في الدولة، ولكن لا يستطيع كل فرد أن يجاري جلادكوف في النظر إلى هذه الحياة الجديدة بمثل منظاره الوردي!
أبطال الرواية العامل جليب شومالوف وزوجته داشا، وقد أمضى شومالوف تقريبًا كل أيام الحرب الأهلية في الجبهة، وأنعم عليه بأمر العلم الأحمر، ولما انقضت أيام الثورة نيط به العمل على إعادة العمل في معمل الأسمنت، وقد وُصِف هذا الرجل بأنه شيوعي طيب، وأنه لم يستطع أن يتغلَّب على بعض غرائزه الخلقية، ولذلك فالصراع دائم بين نفسه وخلقه وبين آرائه السياسية، وهذا الصراع أحد النقط النفسية الهامة التي تدور عليها الرواية، أما زوجته داشا فهي تمثل جيلًا جديدًا للمرأة التي حررت من قيودها واستطاعت أن توفق بين آرائها السياسية وبين نظرياتها الاجتماعية والخلقية، ولذلك نراها في الرواية أقل اقتناعًا وأقل استحسانًا وأكثر شراسة، شأنها في ذلك شأن كل الشخصيات الروائية التي تتخذ مثلًا للمبادئ، وفي هذه الرواية أيضًا عدة شخصيات ثانوية صُورت تصويرًا جيِّدًا تمثل طبقة العمال الشيوعيين البسطاء الذين لم يُدَنَّسُوا بَعْدُ، والذين بعد أن انتهت أيام الحرب اعتقدوا أن البلاد سيقذف بها للكلاب بسبب الآثام التي أدخلتها حركة السياسة الاقتصادية الجديدة.
لم يستطع المؤلف أن يبلغ الكمال في وصف بطلي الرواية؛ ففي وصفه لهما مبالغات ومغالطات وبعض الصفات التي لا نستطيع أن نقول: إنها طبيعية، وكذلك نقول عن الحوار، وكذلك لم يوفق جلادكوف في أن يجعل محور القصة وهو عودة العمل في مصنع الأسمنت مغريًا إغراءً كافيًا، ومع ذلك فالرواية وثيقة تصور الحياة والحالات السائدة في الحزب الشيوعي في وقت خاص من تاريخ الشيوعية؛ فلذلك فقط نقول: إن للرواية قيمتها. ولعل أضعف ما في هذه الرواية هو أسلوبها، فهو خليط عجيب من المذهب الواقعي القديم مع تجديد مريض غير مستساغ، وجلادكوف الذي يعتبر من تلاميذ جوركي وأدباء الأدب الشائع قد تأثر بالطرق الفنية للكتابة الروسية الحديثة، ولكنه لا يشبه الكتَّاب المحدثين تمامًا؛ لأنه أراد أن يبزهم ويبهرهم، فظهر اضطرابه وعجزه. إنما كيف نجحت هذه القصة؟ فنقول: إنه نجاح ليس بطبيعي، وإنما يرجع إلى التزكيات الرسمية أولًا، ثم إلى أنها أول قصة شعبية حديثة كتبت بتطويل وفيها بعض المحاولات للتحليل النفسي، ثم فيها اعتدال في الناحية السياسية والتصويرية، فجاءت كما أرادها جماعة أكتوبر فاستغلوها ومجدوها على أنها برهان لوجود الأدب الشعبي.
أما قصة جلادكوف الثانية «قوة» فهي عن مشروع السنوات الخمس.
(٣) فادييف
ولد ألكسندر فادييف سنة ١٩٠١، وكان أبوه ممرضًا في مستشفى جراح في الشرق الأقصى، وهو من الكتَّاب الذين وجهوا عناية خاصة للنواحي السيكولوجية في كتاباته، ولا سيما في قصته «تسعة عشر»، كما أنه من أعلام الأدب الشعبي وأحد واضعي النظريات الحديثة في الأدب الشعبي، فقد كتب عدة مقالات في موضوعات أدبية نشرت في الدوريات السوفييتية، كما كان طرفًا في مناقشات عديدة أدبية جرت أخيرًا في روسيا السوفييتية.
نشر قصصه الأولى «الفيضان» سنة ١٩٢٣، ثم أتبعها في سنة ١٩٢٥ بمجموعته «ضد التيار»، ففي مجموعة «الفيضان» ظهر عجزه وضعفه وظهر أنه لم ينضج بعد نضوجًا أدبيًّا كافيًا لأن يعدَّ من الأدباء، وسقطت هذه القصص ولا سيما من ناحية بنائها، أما في مجموعته الثانية فقد وفق بعض الشيء، فقد أحكم سبكها وصياغتها، ومحور هذه القصص كما هو الشأن في معظم القصص السوفييتية الصراع بين القديم والجديد، ثم نشر رواية «الطريق» سنة ١٩٢٧، وكانت سببًا في أن يُعدَّ فادييف من قادة الروائيين السوفييت، وإن كان موضوعها قد عولج من قبل، كتب عنه فزيفولود إيفانوف، سيفولينا وغيرهما، وهو حرب العصابات في الشرق الأقصى، فقد عالجه هؤلاء الكتَّاب واصفين أو متخذين أسلوبًا عاطفيًّا، ولكن فادييف عالجه من الناحية النفسية على طريقة تولستوي، فهو يحلل نفسية بعض أفراد هذه العصابات ومثابرتهم وما يدور في عقلهم الباطن متأثرًا في ذلك بتولستوي، فقد حلا له أن يقلِّد عظماء كتَّاب الرواية الروسية في الأسلوب وطرق التأليف. ومهما يكن من شيء فقد ظهر أخيرًا في الأدب الشعبي تيار قوي للأخذ عن الرواية الروسية القديمة وتقليدها، وهو التيار الذي شجعه جوركي من قبل، وكثيرًا ما كان جلادكوف يقول: إن الكتَّاب الشعبيين في حاجة ماسة إلى الأخذ عن أساتذة الأدب الأقدمين، ولا سيما من كان روسيًّا، فاختار فادييف تولستوي أستاذًا له، وقد ذهب بعض غلاة نقَّاد السوفييت إلى وضع فادييف في مستوى تولستوي وقالوا: إن فادييف قد سيطر على فنِّ تولستوي وأضاف عليه شيئًا من عنده، بأن خلع عليه الصبغة الشعبية. بينما رفض بعض النقَّاد المتحرصين أن يعترفوا بفادييف إلا أنه تلميذ موهوب مقلد من تلاميذ تولستوي.
ومن أواخر قصصه رواية «آخر قبيلة اليوديجان» وقد بدأ نشرها سنة ١٩٢٨، وهي دراسة اجتماعية نفسية واسعة المجال تقع حوادثها في الشرق الأقصى من روسيا بين قبيلة صغيرة هي قبيلة اليوديجان، وأظهر الكاتب فيها دراسة دقيقة تامَّة لكل النواحي النفسية والاجتماعية لهذه القبيلة.
(٤) شولوخوف
ولد ميخائيل شولوخوف سنة ١٩٠٠، وهو من القوزاق ويعدُّ من الكتَّاب الشعبيين ومن تلاميذ تولستوي في الأدب الشعبي، وقصته التي ترجمت إلى الإنجليزية بعنوان «بهدوء جرى الدون»، هي ملحمة لحياة القوزاقيين قبل وأثناء الحرب الماضية وإبان الثورة الروسية، وقد تبع طريقة تولستوي في الكتابة، ولا سيما في حديثه عن الحرب، وهذه القصة من أول ما كَتب شولوخوف، وعندما ظهرت قرَّظها عددٌ كبير من الكتَّاب ومنهم جوركي، واعتبروا أنها عمل أدبي رائع، والحق أنها لكذلك، فقد ملأها شولوخوف بالحياة سواء في حديثه عن حرب القوزاق أو سِلمهم أم وصفهم إبان الثورة. وشولوخوف يتقن الحديث ويجيد حقًّا إذا وصف القوزاق وحياتهم، وأسلوبه مملوء بالخيال الأصيل، ولكن شولوخوف يضعف إذا بعد عن محيط القوزاق.
ثم كتب رواية تاريخية «الحرب والسلام»، ملأها بشخصيات قصصية وشخصيات تاريخية مثل الجنرال كورنيلوف والجنرال ألكسيوف والجنرال كالدين والبولشفي بود تيلكوف وغيرهم من الذين كان لهم نصيب كبير في الثورة الأهلية، وقد استخدم في هذه القصة بعض الوثائق التي تتعلق بالحرب أو بالثورة، وشولوخوف ذاتي في عرضه التاريخي صادق في تصويره، فلم يضف إلى الجيش الأحمر كل بطولة وكمال ولم يَسِم الجيش الأبيض بكل سوء كما فعل غيره من الكتَّاب، ومن أشخاصه المثالية في هذه القصة شخصية يونشوك الذي صوره على أنه شيوعي مشاغب يجيد إثارة الفتن، ثم يصبح قائد فِرقة المدافع السريعة (المتراليوز)، ويصيبه القوزاقيون الذين كانوا ضد السوفييت، فالكاتب صوره حتى في أواخر حياته بأنه رجل يتصف بالصفات الإنسانية الضعيفة، وليست به صفة من الصفات المثالية ولا محاسن الشيوعية، وكذلك لم يستطع الكاتب أن ينكر بطولة أعداء البلاشفة، وكذلك نقول عن شخصية القوزاقي أتامان كاليدين الذي اتخذ موقفه في صفوف الجيش الأبيض فقد صوره شولوخوف دون أن يظهر هذا العداء التقليدي لكل مَن حارب الشيوعيين، وكذلك نقول عن وصفه لبطل القصة جريجوري ميخلوف الذي أسبغ عليه الكاتب شعورًا خاصًّا وجعله ينتقل بين صفوف المتحاربين، فهو أحيانًا بين صفوف الجيش الأحمر يحارب معهم وأحيانًا بين صفوف الجيش الأبيض يناضل دونهم، وفي الجزء الثالث من القصة يرينا أن هذا البطل قد استقر بين صفوف الجيش الأبيض ويستميت في حرب البلاشفة.
وبالجملة فنستطيع أن نقول: إن تروتسكي كان على حق فيما ذهب إليه من أن الحكومة السوفييتية تعجز كل العجز عن خلق لون خاص للأدب الشعبي، فكل كتَّاب الثقافة الشعبية يميلون شيئًا فشيئًا نحو الانتظام في سلك الأدب السوفييتي العام.